الكاتب: يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

كان الشابّ الأربعيني ذو اللحية الكثّة والشعر الأسود الطّويل والبرنص (الجلّابة) المغربي الأصيل يتجوّلُ في شتّى أركان ساحة الفناء السياحية، في قلب مرّاكش، يُلقي التحيّة على هؤلاء الباعة ويمازح أولئك الشبّان قبل شروعهم في تقديم عرضهم المعتاد في فنّ الشارع، ويُعرّجُ على بعض النسوة الحرفيّات اللّواتي يتّخذن من خيمة صغيرة مقرّا رسميا لهنّ لممارسة نشاطهنّ اليومي المتمثّل في نقش الحنّاء على أكفّ السّائحات وزنودهنّ.

”شوّهتي لها صدرها الزّوِينْ (الجميل) .. أ لطيف منّك“، يقول الشابّ مُمَازحا يمينة النقَّافة (حرفيّة الحنّاء باللهجة المغربية) داعيا ايّاها إلى الكفّ عن الاحتيال على ”التّوريست“ مذكّرا ايّاها بكلّ حزم ”راهْ كاينْ اللّه أ المْرَا“.

الكاتب: يسرى بلالي

صحفية، صانعة محتوى، باحثة دكتوراه في الفلسفة الاجتماعية.

كان الشابّ الأربعيني ذو اللحية الكثّة والشعر الأسود الطّويل والبرنص (الجلّابة) المغربي الأصيل يتجوّلُ في شتّى أركان ساحة الفناء السياحية، في قلب مرّاكش، يُلقي التحيّة على هؤلاء الباعة ويمازح أولئك الشبّان قبل شروعهم في تقديم عرضهم المعتاد في فنّ الشارع، ويُعرّجُ على بعض النسوة الحرفيّات اللّواتي يتّخذن من خيمة صغيرة مقرّا رسميا لهنّ لممارسة نشاطهنّ اليومي المتمثّل في نقش الحنّاء على أكفّ السّائحات وزنودهنّ.

”شوّهتي لها صدرها الزّوِينْ (الجميل) .. أ لطيف منّك“، يقول الشابّ مُمَازحا يمينة النقَّافة (حرفيّة الحنّاء باللهجة المغربية) داعيا ايّاها إلى الكفّ عن الاحتيال على ”التّوريست“ مذكّرا ايّاها بكلّ حزم ”راهْ كاينْ اللّه أ المْرَا“.

فريد، ذلك الشابّ الأربعيني الملتحي ذو الخطاب المتّقد موعظة ليس شيخا من شيوخ المغرب ولا أحد أئمّة مساجده ذات الطابع الموريسكي. هو ببساطة ”قوّاد“ يمتهن نشاط الوساطة بين طالبي اللذّة الجنسية وبين من يعرض جسده/ها للبيع لقاء حفنة من الدّراهم أو ما يعادلها من العملة الصعبة.
يمينة، هي الأخرى، ليست مجرّد ”نقّافة“، ولا يمثّل نقش الحنّاء موردَ رزقها الأساسي، بل هو مجرّد غطاء لنشاطها الأصلي المتمثّل في عرض الفتيات بائعات الجنس والأطفال القصّر من كلا الجنسين على طالبي اللذّة الجنسية من مختلف الجنسيات العربية والغربية وفي مقدّمتهم الأسبان والهولنديّون وما تيسّر من السيّاح الخليجيّين.

تشرف يمينة بمعيّة فريد، كلّ يوم على ”بيع“ العشرات من الأجساد الطفولية إلى من يطلبها. يتمّ الاتّفاق عادة في ساحة الفناء حيثُ يتمّ اصطياد السوّاح الباحثين عن ممارسة الجنس مع الأطفال القصّر. يدفع السائح أو السائحة مبلغا لا يقلّ عن 100 أورو (1000 درهم مغربي) ثمّ يمضي الى سيّارته بجوار الساحة أو إلى غرفة الفندق لتصله ”بضاعته“ التي اقتناها : طفل أو طفلة يتراوح عمره/ها بين 10 سنوات و16 سنة. كلّما كان السنّ أقلّ كلّما كانت الشهوة أكبر والجزاء أوفر.

رحلة سارة بين القصور

الساعة تشير إلى الثالثة وخمس دقائق. كنّا على متن رحلة الدرجة الأولى في القطار السريع، في رحلة من مدينة فاس الواقعة شمال وسط المغرب باتجاه مدينة مراكش. ننظر إلى انعكاس وجه سارة في النافذة وهي تستحضر ذكريات طفولة مثخنة بالجراح والألم، تناثرت فصولها التراجيدية بين أجساد الأثرياء النهمة لممارسة الشهوات الجنسية. تعود بنا عجلة الزمن مع محدّثتنا إلى سنوات طفولتها حينما كانت في سنّ 14 من عمرها تاريخ بداياتها مع مهنة تجارة الجنس بمقابل مادي في ظروف عائلية صعبة قادتها نحو هذا المسلك المتشعّب.

أشعلت سارة سيجارة من النوع المحلي الرديء، نفثت دخانا كثيفا من نافذة القاطرة وغرقت في بحر من الذكرى: ”كنت في سنّ الرابعة عندما هرّبتني أمّي من زوجها الذي كان يعذّبنا في منطقة مهجورة بعيدة عن المدينة. زاولت تعليمي في المدرسة الفرنسية بفاس، وكنت سليلة عائلة مهووسة بالمال والموضة والأضواء البرّاقة. أفلست عائلتنا بعد وفاة جدي. وقرّرت جدتي، التي ما تزال جميلة ويافعة آنذاك، الاعتماد على مهنة سهلة ذات دخل وفير: إنّها مهنة الدّعارة.“

”حين بلغت 12 سنة واكتمل جسدي، شرعت في مشاهدة الشرائط البورنوغرافية حتى تنجح تجربتي الأولى مع محمد ذي الـ23 سنة. بعد أن افتضّ بكارتي عرض عليّ أن أشتغل معه كراقصة في كباريه لكنّ جدتي فضّلت بكلّ بساطة أن أمتهن الدّعارة. ثمّ ما فتئت أن ألقت بي في دوّامة سهرات ماجنة مع مغاربة وليبيين في بيتنا أو في منتجعات سياحية أو في نواد ليلية. كنّا نجني الكثير من المال فجسدي الطفولي كان وقتها صيدا ثمينا بالنسبة إلى جدّتي.“

تستيقظ سارة كلّ يوم عند الظهيرة مثقلة بتعب سهرة البارحة وذكرياتها المتلاطمة داخل رأسها. بعد احتساء قهوة وتدخين عدد من السجائر بنهم شديد، تشرع سارة في استعادة مزاجها والتخلّص شيئا فشيئا من ألم الرأس والضجيج الساكن فيه.
سارّة طفلة جميلة ذات قوام ممشوق وملامح مثيرة. عندما التحقتْ بعالم الدعارة لم تكن تعي أنّها ستتحوّل إلى وعاء للمتعة الجنسية يتمّ استهلاكه دون قيود ومن ثمّ الالقاء به جانبا كأيّ شيء آخر لا قيمة له. كلّ ما كانت ترنو إليه هو التقرّب إلى جدّتها والاستمتاع بعالم الليل إلى جوارها. ولكنّ الجدّة تلقّت الهديّة بشبق كبير ولم ترحم طفولتها البريئة:

”كانت جدّتي تنظر إليّ على أنّني مجرّد جسد جميل يدرّ الأموال عليها. باعتني عشرات المرّات لمن يدفع أكثر وأنا ما أزال طفلة صغيرة لا أفهم حقيقة ما يحدث حولي“

بعد أن ذاع صيتها في عالم اللّيل، أصبح لطفلة الرابعة عشرة الجميلة زبائن مهمّون، وأصبح ”القوّادة“ (الوسطاء) يتهافتون على الجدّة لحجز مواعيد للطفلة سارة لعدد من السيّاح والنافذين المغاربة الذين يبحثون عن الأجساد الطفولية. تنقّلت سارة بين الفيلّات الفاخرة وقصور مسؤولي الدولة والمنتجعات السياحية لأشهر طويلة حتّى أدركت في النهاية أنّ الأمر يتجاوز مستوى اللهو الطفولي وأنّها لا تملك أن تقول لا. فهي ملكٌ لمن يدفع، وما عليها الّا أن تلبّي رغباته مهما كانت مُوغلة في المجون والعنف والساديّة.

”كنت دائما في مقدّمة الفتيات اللاتي يتمّ اختيارهن. نذهب 30 أو 40 فتاة دفعة واحدة، يُغلق علينا في أحد القصور ولا يُسمح لنا باستعمال هواتفنا حتى تنتهي المدّة التي تتراوح بين 3 أيام وأسبوع. أذكر أنني عدت يوما بعدما قضّيت أسبوعا منعزلة عن العالم الخارجي. حدّثتُ والدتي عن سهرات المجون داخل القصر وعن الاذلال والإهانات. وفي سياق حديثي وصفت لها جمال القصر الذي قضّيت فيه تلك الفترة، والثريّا التي كانت معلّقة فوقي، فكانت اجابتها صادمة بالنسبة إليّ:

”حاولي أن تعملي أكثر، أعثري على زبائن أكثر ثراء واشتري لنا ثريّا مثل تلك التي شاهدتها في القصر“

لم أشعر بالخذلان من إجابة أمّي لأنّني كنت أعي جيّدا بأنّني لست، بالنسبة إليها، سوى جسد أو فلنقل بضاعة تباع وتشترى و تذهب عائداتها وأرباحها إلى خزينة العائلة. مع ذلك فإنّني شعرت بالأسى لأنّها لم تهتم بما مررت به من سجن لمدّة أسبوع وخوف من المجهول. هل يعقل أنّ تتحوّل طفلة إلى مجرّد بضاعة في عين أمّها التي ولدتها“. تتساءل سارّة متألّمة.
في قصور الأمراء والنافذين، ووراء أبوابها المصفّحة الموصدة، تحصل بشكل دوري ومتواصل حكايات مفزعة تدور أحداثها في فلك الاستغلال الجنسي الماجن لفتيات وفتيان قصّر يتمّ اشتراؤهم أو استعارتهم من حريف آخر ليكونوا/يكنّ وعاء للشهوات الجنسية لأصحاب الجاه والمال والسلطة وفق ما ستكشفه شهادة سارة.

”أذكر أنّني كنت برفقة صديقتي نجلاء في قصر أحد الأمراء. كنّا أكثر من 100 فتاة من مختلف الأعمار بعضنا راشد وبعضنا الآخر قاصر لم يتجاوز سنّ الخامسة عشر. تمّ استقدامنا عبر عدد من القوّادة المُنتقين بعناية من أجل تأثيث سهرة أقيمت على شرف كبار الضباط والوزراء والجنرالات. في مثل هذه السهرات لا حليف لك سوى الحظ، فإن كنت محظوظة فقد تنقضّين على حريف من خارج البلاط في أوّل السهرة، لأنّ ”الأمراء“ لا يخطفون الأجساد من بين أيادي المدعوين، ولكن إن جلست بمفردك فستكون ليلتك سوداء كَلَوْن ما سيصبح عليه جسدك من كرباج (سياط) الأمير“.

تواصل سارة متذكّرة أطوار إحدى الوقائع التي عاشتها رفقة صديقتها نجلاء خلال احدى السهرات التي احتضنها قصر أحد الأمراء:
”كانت المرّة الأولى التي تدخل فيها صديقتي نجلاء القصر، وبالتالي لم تكن تعرف ”التكتيك“ أمّا أنا فقد دخلته سابقا، وأعي جيّدا الخطوات الأولى التي عليّ إتّباعها. انقضضت على حريف عند دخولي ورافقته طيلة السهرة حتّى لا أكون جسدا مشاعا بين جميع الحاضرين، أمّا نجلاء فلم ترض بدرجة أقلّ من الأمير ظنّا منها أنّها بصَنيعها ذاك قد فازت فوزا كبيرا.. لمحها الأمير بمفردها، ونادى عليها آمرا: حيدي دابا حوايجك وشطحي عريانة (انزعي فورا ثيابك وأرقصي عارية)، لم تكن تعلم بما يجول في خاطره من سادية مفرطة، كان يحمل في يده كرباج يضربها به على مؤخّرتها كلّما همد جسدها من الرقص، لكنّها رغم الألم لم تستطع التوقّف وإلاّ ابرحها ضربا كقاطع طريق صحراوي فارّ من مصيره، وحين أصبح الكرباج غير مثير للذّة، أمرها بشمّ الكوكايين“.

”كان الأمير يضربها بالكرباج على مؤخّرتها بكثير من السادية. رأيتُ في عينيه حالة من الانتشاء كلّما تألّمت الطفلة تحت صفعات سوطه اللاذعة.“

”بعد السهرة وككلّ السهرات الفخمة -تضيف سارة- كنّا نحصل مقابل الخدمات التي قدّمناها على صكوك بنكية تحتوي على مبالغ متفاوتة، لكن عندما نذهب إلى البنك صباحا نجد الصكوك غير مفعّلة ولا يمكن سحبها. فمن رافقت واحدا من الحاضرين لا تذهب عليها الليلة هباء لأنّه يعطيها حقّها لكن من لم ترافق أحدا وطمعت في الحوت الكبير تعود بلا مال ولا جسد سليم ويكون مقابلها العصا والكرباج شأنها شأن نجلاء“.

”أمي كانت تعلم بكلّ هذا، حتى عندما حبلتُ يوما ما أرسلتني إلى صديقة لي بالقنيطرة للإجهاض، وكانت تعلم أنّ هذه العملية صعبة وخطيرة لأنّ الجنين قد جاوز عمره الـ 3 أشهر لكنّها فضّلت أن لا أكون بالبيت كي لا أعطّل سير السهرات المبرمجة“

على المستوى القانوني، فإنّ المملكة المغربية كانت قد صادقت على أكثر من سبع اتفاقيات وبروتوكولات تضمن حقوق الطفل وحمايته من الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر. غير أنّ هذه الوثائق تظلّ -وفق نشطاء محليين- مجرّد حبر على ورق على اعتبار أنّ ما يحصل على أرض الواقع من جرائم يومية تتمثّل في الاستغلال الجنسي ضدّ الأطفال القصّر بـ”مباركة“ من السلطة أو فلنقل تواطؤا منها بات أمرا يدعو للفزع وفق ما أفادنا به الحقوقي عمر أربيب.

وكانت دراسة صادرة عن الشبكة العالمية لحماية الطفولة حول ”البيدوفيليا“ قد خلصت إلى أنّ ”المغرب أصبح قبلة جذابة ونقطة ساخنة للسياحة الجنسية التي تشمل الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا“. وقد جاء في الدراسة أنّ “المغرب أصبح يمثّل وجهة مفضّلة للباحثين عن السياحة الجنسية التي تشمل الأطفال“.

”ارتفاع عدد السيّاح الوافدين إلى المغرب، خلق المزيد من الفرص، وأعطى لعدد منهم إمكانية ارتكاب انتهاكات جنسية في حق الأطفال.“

وتوضّح الشبكة، نقلا عن الدراسة الميدانية التي أنجزتها الجامعة الأميركية ”جونز هوبكينز“، أنّ المغرب سجّل خلال سنة 2009، ارتفاعا في عدد السيّاح قدّر بـ6 في المائة. وبحسب الدراسة ذاتها فإنّ هذا الارتفاع مردُّه إلى انتشار ظاهرة ”البيدوفيليا“ على اعتبار أنّ المغرب أصبح يمثّل ”نقطة ساخنة“ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفق وصف الدراسة.
ورغم شحّ الجانب التوثيقي حول ظاهرة الاستغلال الجنسي للأطفال القصّر في المغرب إلاّ أنّ دراسة جماعية قديمة كانت قد أنجزت تحت إشراف اليونيسيف سنة 2003 بعنوان ”الاستغلال الجنسي للأطفال: حالة مرّاكش“ تعتبر مرجعا لا غنى عنه لتفكيك الظاهرة بشكل كمّي.
شملت الدراسة 100 طفل وطفلة قاصر في مدينة مراكش السياحية. يعيش معظم القاصرين المعنيين بالمسح في منزل عائلي، يقع عمومًا في ضواحي مراكش. هذه المدينة التي باتت تصنّف أرضا خصبة للاستغلال الجنسي للأولاد أكثر من البنات.

ينحدر أغلب القُصّر الذين شملتهم الدراسة من عائلات فقيرة ومتوسّطة الدّخل. وينتمون في أغلب الأحيان إلى عائلات مكونة من ثلاثة إلى سبعة أطفال، حيث الأب والإخوة لديهم وظائف منخفضة الأجر في الصناعات الحرفية. وتلُوحُ العلاقة مع الأب عاملا محدّدا بالنسبة إلى الظروف التي تدفع بالأطفال القصّر من كلا الجنسين للارتماء في عالم الدعارة.

ومن الملفت للانتباه، وفق ما كشفته الدراسة، أنّ العائلات غالبًا ما تتفطّن إلى المستوى غير المعقول لإنفاق أبنائها ومواعيدهم غير العادية دون أن تقوم بطرح أيّ أسئلة. يروي صبي يبلغ من العمر 13 عامًا جزءا من يومياته مع أفراد عائلته:

”عندما أخبرتُ والدتي أنّ سائحًا أعطاني 200 درهما، قامت بأخذها منّي تاركة لي 10 دراهم، ثمّ باركت صنيعي وأرسلتني لأغتسل وأنام“

في المقابل، فإنّ أُسَر الفتيات تبدو أكثر وعيا بنشاط بناتها الذّي يرتقي إلى مستوى العلنية. تقول أسماء ذات الـ14 ربيعا أنّها كانت قد استمعت ذات ليلة عندما عادت إلى المنزل في ساعة متأخّرة، إلى والدها المقعد وهو يتجادل مع والدتها حول نشاط ابنتهما، لتتدخّل الأمّ قائلة حرفيّا “ما دخلك فيها يا رجل .. أنت مقعد ولا أحد ينفق علينا .. أتركها وشأنها، هل تريدنا أن نموت جوعا” مضيفة بنبرة حادّة ”ألم تكن شقيقتك تقوم بالشيء ذاته قبل أن تتزوّج.. لماذا لم يزعجك ذلك سابقا…“.

تقول أسماء معلّقة على هذه المحادثة:

”كنت أعود إلى المنزل في ساعات متأخّرة وفي داخلي خوف كبير من ردّة فعل عائلتي.. أمّا وقد سمعت ما سمعت، فقد شعرت بأنّني أمتلك حصانة وبتّ أحيانا أتّصل بأمّي وأخبرها أنّني سأبيت ليلتي عند صديقة ما فلا تمانع ولا تطرح أيّ سؤال.“

من ساحة المدرسة الى الاستغلال
الجنسي

سلّطت الدراسة الضوء على علاقة تناسبية عكسية بين مستوى التعليم وعمر القاصرين، حيث بدا من الواضح أنّه كلّما تقدّم الأطفال في السنّ تضاءلت فرصتهم في الالتحاق بالمدرسة. وتنطبق هذه المعادلة على الذكور أكثر من الإناث. وفقًا لشهادات القاصرين الذين تمكّنوا من الوصول إلى المدرسة، فإنّ ثلاثة أسباب رئيسية دفعتهم لتركها:

-لم يعد بإمكانهم تحمل نفقات المدرسة

– شعروا بالإرهاق الفكري ومحكوم عليهم بالفشل

-لم ينسجموا مع المعلمين واعتبروا عدوانيين

ويشير هؤلاء الأطفال إلى عدم اهتمام أوليائهم بدراستهم وعدم قيامهم بأيّ ردّ فعل تجاه تركهم المدرسة. ووفق الدراسة فإنّ أقلية صغيرة من الأولاد كانت تمارس الدعارة بالفعل عندما كانت في المدرسة، لكن الغالبية بدأوا بعد العطلة المدرسية أو بعد الانقطاع عن الدراسة حيث وجدوا أنفسهم لقمة سائغة للقوّادة والباحثين عن استهلاك أجساد الأطفال.

ويلتحق ما يقرب من 40٪ من القاصرين بالدعارة بتشجيع من الشباب الأكبر سنًا (أعضاء في شبكة أم لا) حيث ينبهر الأطفال بمظهرهم وبملابسهم الجميلة و”أموالهم السهلة“، ويسعون إلى التشبّه بهم وتقليدهم. في حين يمارس حوالي ثلث الأطفال القصّر الدعارة لإعالة أنفسهم أو أسرهم. ويلتحق حوالي 13٪ من الأطفال القصّر بهذا النشاط بعد تعرّضهم للاغتصاب.
ويحتاج الأطفال في البداية إلى ”قوّادين“ لتعريفهم بخبايا المهنة وربط الصلة بينهم وبين الزبائن، ثمّ بعد ذلك يختار عدد كبير من الأطفال الاشتغال للحساب الخاص بعد تكوين شبكة من الزبائن. وتشير الدراسة السابق ذكرها الى أنّ 45 بالمئة فقط من الأطفال يحدّدون السعر في حين يخضع البقية إلى ما يحدّده الزبون.

في أغلب الأحيان لا يتم ادّخار عائدات الدعارة بالنسبة إلى أطفال القصّر.إذ دأبوا عادة على استخدامها لشراء الملابس والسجائر وألعاب البلياردو وفي بعض الأحيان المخدرات، بالإضافة إلى توجيه جزء منها إلى الأسرة. ويتمّ توجيه جزء آخر أيضا لشراء ”الخدمات“ حيث يضطرّ القاصر لتقديم ما يناهز 50 درهما ​​لحرّاس الملاهي الليلية من أجل السماح لهم بالدخول لاصطياد زبائن.

من جانبهم، لا يفوّت ضبّاط الشرطة فرصة التهام جزء من الكعكة حيث أكّد عدد من الأطفال القصّر أنّهم يدفعون من 100 إلى 200 درهم لـ”تهدئة“ الشرطة عندما يتم القبض عليهم.

”غالبًا ما يتم إطلاق سراحنا بمجرد دفع الرشوة، أو بعد ثلاثة أيام على أقصى تقدير. ويمكن أيضًا وضعنا في المؤسسات الخيرية ولكنّ ظروف الإقامة في هذه المؤسسات تعتبر سيئة وينتهي بنا الأمر للهروب.“

خولة .. من الاغتصاب الى الدعارة

تقطن عائلة خولة رفقة عائلة الجار (المغتصب) في سكن جماعي رخيص الثمن يسمّى وكالة.

خولة تعرّضت إلى الاغتصاب وهي في سنّ الخامسة من عمرها. حطّمت واقعة الاغتصاب كلّ شي فيها حتّى أنّها غادرت مقاعد الدراسة في سنّ مبكّرة. وأصبحت تعاني مشاكل نفسية بسبب إقامتها في المنزل ذاته مع مغتصبها الذي يبلغ من العمر 66 سنة. لم تقل شيئا عن واقعة الاغتصاب آنذاك لأنّها كانت خائفة جرّاء التهديدات اليومية التي كانت تتلقّاها من مغتصبها من جهة، وخوفا من ردّة فعل والدها الذي سيقوم بقتل الجار ويدخل السجن من جهة أخرى، وفق قولها.

خولة بعد حادثة الاغتصاب لم تعُد خولة ذاتها قبل الاغتصاب. كلّ شي تغيّر بالكامل، وأصبحت تنظر إلى نفسها وإلى جسدها تدقيقا بكثير من الاحتقار. وتحت وطأة الظروف المادّية الصعبة، اضطرّت لاحقا إلى امتهان الدعارة وهي ما تزال طفلة قاصرا:

”الفقر والعوز جعلاني أرتمي في هذا العالم، فقد ثقلت المصاريف على أبي ولم أجد عملا، وفي سنّ 14 قلت بأنّني فقدت عذريتي عند الاغتصاب فلم لا أساعد العائلة على العيش خاصّة وأنّ مهنة الدعارة أصبحت عادية ومقبولة في محيطنا“

كانت خولة تتحدّث بكثير من الألم والحسرة وعلى وجهها تلُوحُ ملامح الأسف والذلّ والهوان: ”أنحدرُ من عائلة فقيرة تتألّف من خمسة أفراد، أمي وأبي ولي أختان. أنا الوحيدة التي تعمل. أختي الكبرى صُدمت لمّا علمت بامتهاني نشاطَ الدعارة لكنّها أبدت في النهاية تفهّما لأنّني أنفق على العائلة“.
أخبرت خولة عائلتها بأنّها تشتغل بمقهى، وكانت ترسل لهم كلّ ما تجنيه من عائدات نشاطها باستثناء نفقاتها اليومية ومعلوم الإيجار الذي يناهز 600 درهم أي ما يعادل 60 أورو شهريا. خولة ليست محظوظة مثل سارة، وزبائنُها ليسوا من روّاد القصور والجنرالات وذوي الجاه والمال.

”حرفائي مغاربة، حيث لم أتمكّن من التعرّف على شبكة تشغّلني. هنا في فاس لا يوجد أجانب مثل المناطق الساحلية، لذلك فيومي لا يتجاوز 100 درهم (10 أورو) على أقصى تقدير، وغالبا ما أمكث مع زبون واحد لعدّة أيّام أو أسابيع لأنّني لا أرغب في التنقّل من زبون لآخر“

خولة لم تُخفِ ضجرها من حياتها الراهنة. كثير من التضحية والذلّ والخوف لقاء قليل من المال. هذه الوضعية دفعت بها إلى التفكير جدّيا في الهجرة بمجرد انتهاء أزمة فيروس كورونا. ”وما أن تنتهي الكورونا سأذهب إلى دبي. لي صديق يعرف العائلات هناك ووجد لي عملا في كباريه، سأذهب وأترك فاس قبل أن يفتضح أمري. فاس صغيرة لا أستطيع أن أشتغل براحة خوفا من العائلة وخوفا من المجهول“.

الدولة شريك في الجريمة

خديجة زومي، النائبة المغربية عن حزب الاستقلال، صرخت في كلمة لها وسط مجلس المستشارين سنة 2014 طالبة من السلطة رفع يديها عن النساء والكفّ عن تعنيفهنّ واحتقارهنّ، مضيفة بأنّ أولئك النساء ومن بينهنّ ممتهنات الجنس، قد ساهمن بشكل كبير في النهوض بالاقتصاد المغربي لكن بالمقابل يتمّ تعنيفهنّ ومنعهنّ من الإقامة في النزل غير التابعة للمدينة التي يقمن فيها وفق قولها.
وبين سلك الدعارة والسلطة علاقة عدائية وحميمة في آن، فهي عدائية مع ”الزانية“ ومتسامحة مع ”الزاني“ خاصّة وإن كان أجنبيا.
عمر أربيب، أحد قيادات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (فرع مراكش)، يؤكّد لموقع ”الكتيبة“ أنّ:

”السلطة أثبتت في مرّات عديدة تورّطها مع الخليجيين وإفلاتهم من العقاب حتى وإن كانت بالشبكة قاصرات وقصّر فإنّه يتمّ الزجّ بهم في السجن وترك الخليجيين في حالة سراح“

ويعتبر موضوع ”السياحة الجنسية في المغرب“ وخاصّة الاستغلال الجنسي للقصّر من قبل الأجانب والخليجيين على وجه الخصوص، من المواضيع التي أثارت جدلا واسعا في السنوات الأخيرة خاصّة بعد تصريحات وزير التربية الفرنسي السابق لوك فيري حول تورّط وزير فرنسي في استغلال الأطفال جنسيا سنة 2011. وبحسب أربيب فإنّ السلطات المغربية لم تضع حدّا لهذه الظاهرة بل ساهمت من خلال لامبالاتها أو انحيازها للجلّاد الأجنبي على حساب الضحية المحليّة في انتشار ظاهرة الإفلات من العقاب.

أضحى المغرب الحديقة الخلفية لعدد كبير من الخليجيين الباحثين عن اللذة الجنسية السهلة وخاصّة أجساد الأطفال. انتقل هذا الغزو الخليجي منذ أواخر التسعينات من مصر إلى المغرب. وقد بدأت ملامحه في الظهور بشكل واضح بعيْد زلزال تسونامي سنة 2004 الذي حوّل بعضا من السياحة الجنسية من شرق آسيا إلى شمال إفريقيا وخاصّة منها سياحة ”البيدوفيليا“، إضافة إلى طموح المغرب مع بداية الألفية الثالثة إلى تطوير المجال السياحي وتحقيق عشرة ملايين سائح سنة 2010.
تروي سميرة، ”نقّافة“ تشتغل في مجال الوساطة في ميدان السياحة الجنسية ودعارة القصّر، أنّ أثرياء الخليج كانوا ينفقون ثروات في المغرب لقاء المتعة الجنسية غير المعهودة:

”كان أثرياء الخليج يشترون الفتاة القاصر العذراء مقابل 80 ألف أورو. كان الثمن مغرقا في الإغراء ولم يكن بمقدور العائلات الفقيرة المقاومة والصمود أمام هذا العرض“

وترجعُ محامية بهيئة الدار البيضاء ورئيسة جمعية حقوقية (حبّذت عدم كشف هويتها)، استفحال آفة استغلال الأطفال في السياحة إلى تساهل القضاء المغربي في معاقبة الجناة، مع ملاحظة أنّ حجم جريمة الاستغلال الجنسي في السياحة المغربية لم يبلغ حجم الظاهرة التي عليها بعض الدول منها تايلاند، وجزر الكاريبي، ومدغشقر، والفيتنام، والبرازيل، التي تعتبر ملاذات آمنة لكلّ أنواع التجارة الجنسية للسيّاح الأجانب حسب قولها.
تنتشر ظاهرة الاستغلال الجنسي للأطفال في المدن السياحية، ومع الطموح إلى جعل المغرب وجهة سياحية هامّة فقد تمّ صرف ميزانيات مهمّة لتأهيل الفنادق والمنتزهات السياحية لاستقطاب أعداد مهمة من السيّاح.

ومع التفاف العالم حول ثوراته بداية من 2011، تحوّل المغرب الهادئ نسبيا على المستوى الأمني والسياسي إلى قبلة محبّذة بالنسبة إلى الفئة البيدوفيلية الباحثة عن أجساد صغيرة غير منهمكة في همّ ”إسقاط النظام“. وتفاقم الاستغلال الجنسي للأطفال بداية من 2013، خاصّة بعد إصدار العاهل المغربي عفوا ملكيا على 48 إسبانيا من بينهم الإسباني ”دانيال كالفان“ الذي اغتصب 11 طفلا في القنيطرة والذي تحوم حوله شكوك تجنّده في المخابرات الإسبانية، وذلك بعد زيارة الملك الإسباني كارلوس للمملكة وطلب العفو من العاهل المغربي على بعض من المساجين الأسبان.

يباع الأطفال القصّر في المناطق السياحيّة بداية من 50 أورو وصولا إلى 200 أورو. وحسب نجية أديب، مسؤولة في جمعية ”ماتقيسش أولادي“، فإنّ القاصر كلّما صغر سنّا كلّما زادت قيمته في السوق، ويكون ”القوّاد“ هو الوسيط بين السيّاح والأطفال (خاصّة منهم الأطفال القاطنين بضواحي المدن السياحية) حيث نجد في كلّ حيّ أو منطقة معزولة قوّادا يعرف أطفال المنطقة ومدارسهم ويقوم باستقطابهم سواء بعلم عائلاتهم أو دون علمهم.

شبكة منظّمة داخل جمعية لرعاية
الأطفال

اهتزّ الشارع المغربي في شهر جويلية/يوليو 2019 على وقع اكتشاف استغلال جمعية اسبانية تدعى ”لا طفل بلا سقف“ للأطفال جنسيا تنشط بمدينة طنجة التي تقع أقصى شمال غرب المغرب، حيث كانت تقوم باستغلال الأطفال جنسيا والاتجار بهم مع مشاهير اسبان خاصّة وأنّ أحد المتّهمين يدعى فيليكس راموس يملك قناة تلفزيونية في مدينة ماربيلا الاسبانية.
وتمّ رفع الستار عن هذه القضية الشائكة بعد أن تقدّم شابّ يبلغ من العمر 19 سنة بشكاية ضدّ جمعية الإيواء متّهما ايّاها باستغلاله جنسيا رفقة أطفال آخرين منذ كان في سنّ الثالثة عشرة من عمره في فنادق كبرى بعد أن وعدتهم مسؤولة الجمعية رفقة فيليكس بتشغيلهم في قناته التلفزيونية.

ولا يمكن الحديث عن الاستغلال الجنسي للأطفال وعن ”البيدوفيليا“ دون العودة إلى صديق المغرب الوفي بيير بيرجي. كان لرجل الأعمال الفرنسي ”منتجع جنسي“ شهير بحدائق الماجوريل بمراكش. ويذكر بيرجي متغزّلا بالأجساد الصغيرة للأطفال المغاربة في رسائله إلى إيف سان لوران لطف هؤلاء الأطفال وعلاقاتهم بهم :

”كم كانوا لطفاء ووسيمين هؤلاء الأطفال المغاربة، لقد لعبوا جميعا كرة القدم، وكانت أجسادهم مفتولة، كانت لدينا معهم علاقات لا تقاس لا بالمال ولا بالابتذال.“

وفي كتابه ”أنا وسان لوران : قصّة حميمية“ يروي فابريس توماس، الحياة الجنسية لبيير بيرجي وشريكه ايف سان لوران في إقامتهما بحدائق الماجوريل بمراكش، ذلك المنتجع الذي قدّم العديد من الأطفال المغاربة لمشاهير العالم في صمت تامّ من قبل السلطات المغربية بداية من سنة 1985 وصولا إلى أواخر التسعينات والذي كان ورشة تصميم جنسية على الذوق الفرنسي لأجساد الأطفال.

”لقد كان ينزلق من نافذة غرفته ليذهب إلى الأرصفة والحدائق للعب بأزرار بعض المغاربة أو الجزائريين الذين لم يطلبوا شيئا أفضل من الحصول على بضعة فرنكات مقابل هذه الخدمة التي كان بإمكانهم تسديدها.“

رغم عدم حصر ظاهرة الاستغلال الجنسي للقصّر في السياحة الجنسية وعدم توفّر إحصائيات حديثة دقيقة، إلاّ أنّ هناك بعض الجمعيات المغربية التي تجنّدت للحفاظ على الأطفال الذين يتعرّضون إلى الاستغلال الجنسي على غرار جمعية بيتي التي ساهمت بدورها بالتكفّل بهؤلاء الأطفال والاعتناء بهم على المستوى النفسي والقانوني بالتعاون مع جمعيات عالمية ومحليّة.
تقوم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان من جانبها، برصد قضايا السياحة الجنسية خاصّة تلك المتعلّقة بالخليجيين الذين يفلتون من القضاء. وتعمل الجمعية على مساعدة ضحاياها من خلال تحويل قضاياهم إلى قضيّة رأي عام.
في هذه الأثناء، ما تزال خولة التي كانت قد تعرّضت للاغتصاب في الخامسة من عمرها، تتسائل اليوم عن الجدوى من إطلاق الحملات لتتبّع المغتصبين الأجانب في حين يقيم عدد كبير من الأطفال تحت سقف واحد وجها لوجه مع مغتصبيهم الذّين ينتمون عادة إلى العائلة ذاتها.

كلمة الكتيبة:

تمّ تغيير أسماء الأطفال والضحايا الذين قدّموا شهاداتهم خلال هذا التحقيق حفاظا على سلامتهم. تجدر الاشارة أيضا إلى أنّ عددا من النشطاء المغاربة رفضوا الادلاء بشهاداتهم أو حبّذوا اخفاء هوياتهم خوفا من انتقام السلطات المغربية منهم.

شارك في الانتاج:

alqatibaتدقيق: محمد اليوسفي

alqatibaميكساج:حمزة فزّاني

alqatibaرسوم:مهدي الهمامي

alqatibaاشراف فني: وليد الماجري

alqatibaغرافيك:منال بن رجب

alqatibaتطوير تقني:PRODEXO