الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

“مرحبا بكم في فضاء تدليك واسترخاء.. يضمن لكم جلسة تدليك بجودة عالية واحترافية”، هي بعض من العبارات التي ترافق صور فتيات جميلات، بعضهن وجوههن مكشوفة وأخريات تغطي ملامحهن أرقام هواتف للاتصال وحجز موعد، والتي تنتشر بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي في صفحات لمراكز تدعي أنها منتجعات صحّية تقدّم خدمة التدليك.

لكن جولة صغيرة في عدد من هذه المراكز، التي تنتشر بشكل خاص في المدن الساحلية التونسية، على غرار العاصمة تونس والحمامات (الشمال الشرقي لتونس) وسوسة (الوسط الشرقي للبلاد التونسية)، تكشف أن أصحاب بعض هذه الفضاءات يختبئون تحت عباءة منتجعات التدليك والاسترخاء لخلق شبكات تستغلّ فتيات ونساء جنسيّا، معتمدة في ذلك على ظروفهنّ الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وعلى “تواطؤ” بعض المسؤولين الأمنيين.

في هذا التحقيق ، نحاول تسليط الضوء على العالم الخفي لبعض مراكز التدليك التي تحوّلت إلى أوكار للاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر في ظلّ هيمنة ثقافة الاستهلاك واقتصاد “الجنس”.

الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

“مرحبا بكم في فضاء تدليك واسترخاء.. يضمن لكم جلسة تدليك بجودة عالية واحترافية”، هي بعض من العبارات التي ترافق صور فتيات جميلات، بعضهن وجوههن مكشوفة وأخريات تغطي ملامحهن أرقام هواتف للاتصال وحجز موعد، والتي تنتشر بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي في صفحات لمراكز تدعي أنها منتجعات صحّية تقدّم خدمة التدليك.

لكن جولة صغيرة في عدد من هذه المراكز، التي تنتشر بشكل خاص في المدن الساحلية التونسية، على غرار العاصمة تونس والحمامات (الشمال الشرقي لتونس) وسوسة (الوسط الشرقي للبلاد التونسية)، تكشف أن أصحاب بعض هذه الفضاءات يختبئون تحت عباءة منتجعات التدليك والاسترخاء لخلق شبكات تستغلّ فتيات ونساء جنسيّا، معتمدة في ذلك على ظروفهنّ الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وعلى “تواطؤ” بعض المسؤولين الأمنيين.

في هذا التحقيق ، نحاول تسليط الضوء على العالم الخفي لبعض مراكز التدليك التي تحوّلت إلى أوكار للاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر في ظلّ هيمنة ثقافة الاستهلاك واقتصاد “الجنس”.

استغلال جنسي تحت عباءة التدليك

فور دخول أحد صحفيي موقع الكتيبة إلى مركز “تدليك” في شارع رئيسي بالحمامات الجنوبية مؤد إلى الحمامات المدينة، رحّبت به موظفة الاستقبال وسألته عن الخدمة التي يريد الحصول عليها. وعندما أجابها الصحفي الذي ادعى أنه حريف عادي يريد جلسة تدليك، أعلمته بالتسعيرة وقدّمت له عددا من العاملات اللواتي ينتظرن لـ”يختار” إحداهن كي تقوم بتدليكه، قبل أن تصحبه واحدة منهن إلى حجرة صغيرة مخصّصة للغرض.

كانت الأجواء داخل غرفة التدليك حميميّة. موسيقى هادئة وشموع تشتعل بشكل خافت وروائح عطرة تفوح في المكان. الفتاة التي تقدم نفسها على أنها مدلكة والتي ليست حاصلة على أي شهادة في هذا الاختصاص طلبت من حريفها الذي هو في الحقيقة صحفي يعمل بموقع الكتيبة أن ينزع ثيابه ويبقى فقط باللباس الداخلي السفلي. حاولت أن تكون مغرية قدر الامكان في نبرة صوتها وخاصة خلال حركتها الأولى حينما تقدمت لفتح باب الغرفة.

الفتاة المشار إليها هي “رانية”(اسم مستعار)، أمّ عشرينية عزباء لطفلة لم تتجاوز السنتين، تعمل في أحد مراكز التدليك في مدينة الحمامات الجنوبية التابعة لولاية نابل (الشمال الشرقي للجمهورية التونسية)، بالشارع المؤدي إلى الحمامات المدينة، منذ ما يزيد عن الـ3 سنوات. غادرت رانية مقاعد الدراسة في سنّ الـ12 عاما وتزوّجت بعد ذلك بسنوات قصيرة قبل أن تقرّر ترك حياتها القديمة وتهرب من زوجها الذي يكبرها بعدّة سنوات.

“لا أستطيع إيجاد عمل آخر في مقهى أو مطعم يناسبني.. على الأقل في هذا المكان لديّ دخل قارّ كي أعيل ابنتي.. عائلتي محافظة جدّا وهي تقيم في ولاية القصرين(الوسط الغربي التونسي) ولا يمكن أن تعلم أن لي ابنة خارج إطار الزواج. لو كان بحوزتي 5 آلاف دينار تونسي لأخذت ابنتي و”حرقت” (هاجرت خلسة)”، بنبرة ساخرة تختزل سنوات من الخيبات والألم تحدّثت “رانية” عن عملها في أحد المراكز التي تدّعي أنها “منتجع صحّي” يقدّم خدمات التدليك والحمام والسونا.

تقطن رانية في منزل صغير على وجه الكراء بالحمامات مع ابنتها الرضيعة بأجرة تبلغ 350 دينار تونسي (حوالي 115 دولارا أمريكي) تتقاسمه مع صديقة لها. أما طفلتها فتتركها لدى إحدى جاراتها للاهتمام بها طوال اليوم مقابل مبلغ معيّن. تقول رانية إنها تخشى أن تخسر ابنتها إذا طالبت حبيبها الذي تركها بالاعتراف بابنته، وذلك باعتبار أن ظروفه المادية أفضل من ظروفها.

تحصل رانية من المركز الذي تعمل فيه على راتب قارّ تبلغ قيمته 600 دينار (198.55 دولارا)، وتتقاضى مقابل حصّة التدليك الواحدة – البالغة ثمنها 60 دينارا (19.85 دولارا) – 10 دنانير (3.31 دولارا). أما إذا طلب الحريف الحصول على خدمات جنسية فتحصل رانية في هذه الحالة على مبلغ يتراوح بين 50 و60 دينارا (16.55 و19.85 دولارا).

مقابل هذا الراتب الضئيل، تعمل رانية في مركز التدليك المذكور من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة العاشرة مساء. وتجد نفسها مضطرّة إلى تقديم خدمات جنسية للباحثين عن المتعة السريعة حتى تزيد من قيمة راتبها الشهري نظرا إلى أن العمولة في هذه الحالات ترتفع وتحصل على النسبة الكبيرة من المبلغ.

ردّا على سؤال حول ما إذا كانت تفكّر في تغيير عملها، تقول رانية إنها لا تستطيع العمل في مقهى أو مطعم لأنها لن تحصل على راتب يكفي لتأمين أدنى مقوّمات حياة كريمة لها ولابنتها، خاصّة وأن والد هذه الأخيرة لا يلتفت إليها ولا يهتمّ بالمساهمة في مصاريف العناية بها.

تقضي رانية وهي أمّ عزباء معظم أيامها ووقتها في المركز وتُمنع من مغادرته، فصاحبة هذا الفضاء تغضب إذا جاء حريف ولم يجد عاملة تلبّي رغباته، خاصة وأن مركز “التدليك” الذي تعمل فيه لا يضمّ إلا عاملتين اثنتين فقط بالإضافة إلى رانية التي تعتبرها صاحبة المحل الأجمل والأكثر إغراء للحرفاء، وفق قولها . وفي أوقات معيّنة، يأتي عدد كبير من الحرفاء وهو ما يتطلّب حضورها اليومي. وتخشى رانية أن يقع طردها إذا ما اضطرّت إلى التغيّب في أحد الأيام.

وفي أحيان أخرى، يخلو المركز من زبائنه. وتفسّر رانية قلّة عدد الحرفاء بامتلاك صاحبة هذا الفضاء إلى مركز تدليك ثان في شارع آخر من مدينة الحمامات، وهو المركز الذي عادة ما يكون أكثر اكتظاظا.

لا يعدّ هذا النوع من النشاط جديدا على المجتمع التونسي رغم أن العديد من المتابعين لمثل هذه الملفات يعتبرون أنه لا يرتقي إلى درجة الظاهرة، بل يمثّل جزءا ممّا تطلق عليه السلطات التونسية “البغاء السري” والذي يعاقب عليه القانون التونسي، إذ ينصّ الفصل 231 من المجلّة الجزائية على أن “النساء اللاتي في غير الصور المنصوص عليها بالتراتيب الجاري بها العمل يعرضن أنفسهن بالإشارة أو بالقول أو يتعاطين الخناء ولو صدفة، يعاقبن بالسجن من ستة أشهر إلى عامين وبخطية من عشرين دينارا إلى مائتي دينار”.

“أعمل من الساعة العاشرة صباحا إلى العاشرة مساء ولا يحق لي مغادرة مركز التدليك طيلة اليوم وإلاّ أتعرّض للطرد”

رانية

وبرز استغلال بعض مراكز التدليك للتجارة الجنسية على السطح خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة حيث أصبحت الصحف تتداول أخبارا حول مداهمة مراكز تحوّلت إلى “أوكار دعارة”. ويبدو أن هذا النوع من الاتجار بالأشخاص عرف ازدهارا خلال السنوات الأخيرة خصوصا في ظلّ ارتفاع نسب البطالة وتردّي الأوضاع الاقتصادية، لتصبح اليوم علنيّة يتمّ الترويج لها في مواقع التواصل الاجتماعي عبر صفحات لا تحاول إخفاء نوعيّة الخدمات التي تقدّمها من خلال صور لفتيات يرتدين ملابس مغرية لا علاقة لها بالزي الذي عادة ما يرتديه/ترتديه المدلّكون/ات المحترفون/ات. وغالبا ما تكون هذه الصور لفتيات ليس لهن أي علاقة بالمراكز التي تروّج صورهن.

يندرج الاستغلال الجنسي ضمن الاتجار بالأشخاص الذي يعرّفه بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال، المكمّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة على أنه ” تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال، كحد أدنى، استغلال دعارة الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي، أو السخرة أو الخدمة قسرا، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو الاستعباد أو نزع الأعضاء”.

وقد شهد المجال التشريعي التونسي ثورة عندما تمّت المصادقة على القانون المتعلّق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته في أوت/آب 2016. ونصّ القانون التونسي على أنه “يعدّ اتجارا بالأشخاص استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواءهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله. ويشمل الاستغلال استغلال بغاء الغير أو دعارته أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو التسول أو نزع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا أو الأمشاج أو الأجنة أو جزء منها أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى”.

وذهب المشرّع التونسي إلى تعريف الاستغلال الجنسي بـ”الحصول على منافع أيا كانت طبيعتها من خلال توريط شخص في أعمال دعارة أو بغاء أو في تقديم أي أنواع أخرى من الخدمات الجنسية بما في ذلك استغلاله في المشاهد الإباحية بإنتاج مشاهد ومواد إباحية أو مسكها أو ترويجها بأي وسيلة كانت”.

تذكّر، في هذا الصدد، رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي، بوجود خلط لدى الأفراد والمؤسسات على حدّ السواء، حول مفاهيم الاعتداء الجنسي والتحرّش الجنسي والاستغلال الجنسي، مشيرة إلى أن الاستغلال الجنسي يشمل الاعتداء والتحرّش، وهو يقع عندما يستغلّ إنسان امرأة أو طفلا(ة) أو رجلا، ولا يمارس بالضرورة الجنس مع تلك الأطراف ولكنه يضعهم(ن) على ذمّة أطراف أخرى ويعمل بهم(ن) سواء مقابل أموال أو وعود بترقيات أو بمناصب.

ويمكن أيضا أن يقع استغلال الضحايا مباشرة من خلال هذا الشخص أو يمكن أن يضعهم هذا الأخير على ذمة أطراف أخرى تستغلّهم(ن).

وعلى الرغم من أن هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص لم تتعهّد، منذ مباشرتها مهامها، إلا بحالة واحدة لفتاة كانت تعمل في أحد مراكز “التدليك”، لا تنفي العبيدي وجود مراكز تستغلّ الفتيات جنسيّا إلا أن الهيئة لا تعلم بها بسبب عدم ورود إشعارات إليها في هذا الخصوص.

يعود غياب الاشعارات، في هذا الشأن، بحسب روضة العبيدي، إلى عقليّة المجتمع التونسي المحافظة والتي تتجنّب التبليغ عن مثل هذه الحالات خوفا من أن تنكشف هويات المبلّغين/ات، فضلا عن صعوبة الرقابة على الأماكن المغلقة كمراكز التدليك، خاصة وأن المتفقدين لا يتمتعون بالصلاحيات الكافية التي تخوّل لهم/ن التدخل في هذه الحالات، إذ لا يمكنهم/ن الدخول إلى محلّ إلا إذا سمح لهم/ن أصحابه بذلك أو إذا كانوا مرفوقين/ات بأعوان شرطة.

“هيئة الاتجار بالبشر تلقت اشعارا وحيدا يخص مركزا للتدليك منذ انطلاق عملها “

روضة العبيدي

هذه النقائص في التشريعات التونسية تسهّل عمل هذه المراكز وانتشارها وتساهم، إلى حدّ ما، في ازدهار أنشطتها غير القانونية خاصة وأن إحداث منتجع صحّي “spa” أو مركز تجميل وتدليك لا يحتاج إلى رخصة أو كرّاس شروط. فاليوم يصعب تعداد عدد هذه المراكز التي تخفي عمليات استغلال جنسي واتجار بالبشر حيث لا تملك الدولة احصائيات دقيقة حولها رغم أنّها باتت تنتشر كالنار في الهشيم لاسيما في المدن الساحلية السياحية أين تستقطب الباحثين عن اللذّة الجنسية بما في ذلك السيّاح الأجانب سواء كانوا من جنسيات عربية كالجزائريين والليبيين أو الأوروبيين فضلا عن طالبي المتعة الجنسية من التونسيين.

يكفي أن يوفّر شخص ما جملة من الوثائق على غرار بطاقة تعريف وطنية وشهادة في التدليك أو التجميل وبقيّة الوثائق المتعلّقة وأن يحجز تسمية اجتماعية لمؤسسته وبقية الوثائق الضرورية لبعث شركة وتسجيلها، وأن يتوجّه إلى القباضة المالية أين يحصل على معرّف جبائي ويشرع في ممارسة نشاطه.

“فرهد العصفور”..مغامرة قد تنتهي بعملية تحيّل

لكلّ فضاء معجمه الخاص وكلمات عبور سريّة أو مشفرة. وفي مثل هذه المراكز هذه للحصول على خدمات جنسيّة من المهم أن تبادر بالاستفسار عن هذا الأمر. حينما سأل صحفي موقع الكتيبة في كلا المركزين السؤال الآتي باللهجة التونسية: فما امكانية اني نفرهد العصفور؟( أريد أن أدخل البهجة على عضوي التناسلي) . كانت دائما الاجابة سريعة وهي أن له الخيار في الحصول على خدمات جنسية شريطة دفع ماهو مطلوب من مقابل مادي.

لا تكتفي بعض المراكز التي تختبئ تحت راية التدليك باستغلال الفتيات جنسيّا، بل يلجأ بعضها إلى التحيّل على الحرفاء من أجل الحصول على أموالهم بتواطؤ رسمي.

توجّه صحفي موقع الكتيبة إلى مركز ثان للتدليك يقع بالقرب من الفضاء الأوّل الذي توجهنا إليه في الحمامات، أين وقع ضحيّة لعمليّة تحيّل.

بعد حصوله على جلسة تدليك، بدأ يتفاوض مع المدلّكة على تسعيرة الخدمات الجنسيّة بهدف استدراجها للحديث عن المبالغ التي يتلقونها مقابل تقديم هذه الخدمات. خلال النقاش، غادرت الفتاة حجرة التدليك وجاءت امرأة ثانية تولّت الحديث مع الصحفي وأخذت منه 100 دينار (33.09 دولار).

طلبت منه الفتاة إثر ذلك الانتظار قليلا وغادرت الغرفة، لتعود بعد دقائق وتدّعي أنها بحثت في محفظتها ووجدت أموالها منقوصة متهمة إياه بسرقة 20 دينارا (6.62 دولارا). بدأت الفتاة في الصراخ والتهديد مطالبة إياه بإرجاع أموالها.

وتدخّلت زميلاتها في المركز وطلبن منه إرجاع المبلغ إليها. إلا أن الشخص المعني رفض ذلك وطلب أن تقع العودة إلى الكاميرات التي تملأ الفضاء والموجودة حتى داخل غرف التدليك. كما طالب بأن يقع الاتصال بالشرطة وأن تتمّ العودة إلى تسجيلات كاميرات المراقبة وبأن تعيد إليه الفتاة الـ100 دينار التي كان قد دفعها.

إلا أن مطالبه بالاتصال بالشرطة لم تحدث أي ذعر أو خوف لدى العاملات في مركز “التدليك”، بل بادرت إحداهن إلى الاتصال بشخص قالت إنه مسؤول أمني وطلبت منه الحضور في محاولة منها للضغط على الحريف لإعادة المبلغ التي ادعت الفتاة أنه تمّت سرقته والذي ارتفع من 20 إلى 30 دينارا، وفق ادعاءاتها.

العاملات في مركز التدليك اتصلن كذلك بصاحبة الفضاء التي طالبت الرجل بإعادة المال وأعلمته أنها ستتّصل بعون أمن كي يتخذ الإجراءات اللازمة في حقّه. إلا أن الرجل رفض الرضوخ لمطالبهن وغادر المكان قبل أن يصل عون الأمن الذي اتّصلت به الفتاة بعد أن تيقن أنّ الأمر يتعلق بعملية تحيّل تقوم بها مثل هذه المراكز التي يحظى بعضها بحماية أمنية غير رسمية لا تكون إلا بمقابل مادي في شكل رشاوى وهدايا وامتيازات، وفق ما صرحت به احدى العاملات في المحل لاحقا. فضلا عن ذلك فإنّ قرار الانسحاب من هذا الفضاء كان أيضا مرده الحرص على عدم انكشاف أنّ الأمر يتعلق بتحقيق صحفي مازال قيد الانجاز.

“عالم قذر مليء بالوحشية”

“انقطعت عن الدراسة في سنة البكالوريا، وقمت بدورة تكوينية في مجال التجميل. وبعد حصولي على شهادة في هذا المجال، عملت في مركز حلاقة وتجميل في منطقة البحيرة، وكانت الصدمة لمّا طلبت مني ربّة العمل أن أدلّك حريفا وأن أقدّم له بعد ذلك خدمات جنسية لأنه يدفع مبالغ طائلة”، كانت تلك أوّل تجربة لـ”إيمان” – اسم مستعار-، مع محاولة استقطابها إلى عالم العمل بالجنس رغم أنها في ذلك الحين لم تتجاوز العشرين من العمر.

إيمان، ابنة الـ34 عاما، هي أمّ لطفلين ومطلّقة، غادرت مقاعد الدراسة عندما وصلت إلى مرحلة البكالوريا. تحصّلت بعد ذلك على شهادة في مجال التجميل بعد خوضها لدورة تدريبية في الغرض. ومثّلت الحادثة التي تعرّضت إليها في أولى تجاربها المهنية صدمة جعلتها تفرّ من المركز المذكور دون عودة بعد أن تعلّلت بإجراء مكالمة هاتفية.

بقيت إيمان تعمل لسنوات في مجال تخصّصها. ومؤخرا ، اقترحت عليها بعض صديقاتها أن تعمل معهن في مركز تدليك بمنطقة العوينة خاصة وأن المحلّ الذي كانت تعمل فيه كان يغلق أبوابه ليلا، فقبلت بذلك رغم أنها لا تملك أي تكوين في مجال التدليك.

تقول إيمان إنها عملت في مركز التدليك المذكور بمنطقة العوينة في العاصمة تونس لمدّة 10 أيام فقط. ورغم أنها رفضت إقامة أي علاقة جنسية مع الحرفاء الذين كانوا يتوافدون بالعشرات إلى الفضاء إلا أنها كانت تجني أحيانا في الليلة الواحدة بين 200 و300 دينار (66.12 و99.18 دولارا).

ربّة العمل في مركز التدليك بالعوينة كانت تحثّ إيمان على تقديم خدمات جنسية للحرفاء إلا أنها هذه الأخيرة تمسّكت بموقفها الرافض قائلة إنها تخشى أن يداهم الأمن المحلّ أو أن يأتي أحد معارفها أو أحد جيرانها خاصة وأنها أمّ لطفلين. وقد بقيت تكتفي بتدليك الزبائن إلى أن حاول أحدهم إجبارها على إقامة علاقة معه، ولدى رفضها عرض عليها التنقل إلى منزله مقابل أي مبلغ تريده. لكن إيمان أصرّت على الرفض وتوقّفت عن العمل في الفضاء المذكور خصوصا بعد أن عاتبتها صاحبة مركز التدليك على موقفها. تصف إيمان تجربتها في مجال “التدليك” بـ”العالم القذر المليء بالوحشية والاستغلال”.

قرّر موقع الكتيبة الاتصال بمركز التدليك الموجود في منطقة العوينة لحجز موعد للحصول على هذه الخدمة المزعومة. خلال الاتصال الهاتفي تعرض عليك السيدة التي تجيب على الهاتف أنواعا مختلفة من التدليك تتراوح أسعارها بين 60 و120 دينارا (19.88 و39.75 دولارا). وقد تعهدت كذلك باستقبالنا بحفاوة.

توجّه صحفي الكتيبة إلى مقرّ مركز التدليك الذي لم يكن بعيدا عن مفترق الكنيسة، ولم يكن العثور على هذا الفضاء بالمهمة السهلة خاصّة أنه لم تكن هناك أي إشارة تدلّ على وجود مركز تدليك سواء في المبنى أو أمام الشقة التي يتواجد بها، وذلك على الرغم من الجهد الذي يبذله القائمون على المركز للترويج له في الفيسبوك.

داخل مركز التدليك، استقبلت فتاتان تعملان هناك الزميل الصحفي الذي قدم نفسه على أنه حريف عادي وطلبتا منه “اختيار” إحداهما أو كلتيهما لتقوم بتدليكه (في هذه الحالة يتضاعف سعر حصّة التدليك) وقد توجّهت معه إحدى الفتاتين إلى غرفة التدليك.

لم تمانع “لينا” (اسم مستعار) الدردشة مع الصحفي خلال جلسة التدليك وتحدّثت بنوع من الحنق إزاء ربّة عملها التي تكسب يوميّا قرابة 1000 دينار (331.28 دولارا) وتمكّنت من امتلاك عقارات بفضل هذا النشاط في حين تحصل العاملات على فتات من هذه الأرباح، حسب قولها.

لينا، الفتاة ذات الملامح الغجرية والبالغة من العمر 28 عاما، تعمل في هذا المركز منذ 8 أشهر. تحصل على راتب شهري قيمته 800 دينار (265.03 دولارا) وهو مبلغ لا يكاد يكفي لتغطية مصاريف تنقّلها بين بيتها الكائن في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة ومقرّ عملها إلى جانب بعض المصاريف الشخصية، كما أنّها لا تتمتع بأي تغطية اجتماعية أو عقد عمل . وتقرّ لينا أنها تكسب المال من خلال الخدمات الجنسية التي تقدّمها للحرفاء بعد التدليك، علما أنه على الحريف الراغب في الحصول على خدمات جنسية أن يدفع 150 دينارا (49.69 دولارا) إضافية.

وعلى الرغم من أنها لا تحبّذ عملها هذا فهي لم تجد أمامها حلّا آخر خاصة وأنها لم تنه تعليمها وانقطعت عن الدراسة مبكرا ولا تملك شهادة أو تكوينا في أي مجال. ونظرا إلى أنها تعيل والديها المتقدّمين في السن وخصوصا والدها المصاب بمرض مزمن ويحتاج إلى العلاج والأدوية بشكل مستمرّ، تجد لينا نفسها مضطرّة إلى العمل بالجنس.

تؤكد لينا أنها لا تخشى أن تقع مداهمة المركز من قبل وحدات أمنية باعتبار أن أحد أقارب ربّة العمل “إطار أمني”، حسب قولها، إلا أنها في المقابل لا تعي المخاطر المحدقة بها عندما تقوم بممارسة الجنس دون حماية ودون أن تطلب من الحرفاء ارتداء واق ذكري، إذ تكتفي بتناول الحبوب المانعة للحمل دون أن تفكّر في إمكانية الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيّا.

لم تكن لينا الوحيدة التي لم تول أهمية لمسألة الوقاية أثناء ممارسة الجنس، فهذا الأمر كان شائعا في المراكز الثلاثة التي زارها صحفي موقع الكتيبة، وهو إن كان ينمّ عن غياب الوعي لدى هؤلاء الفتيات المنقطعات عن الدراسة في سنّ مبكرة، فهو يسلّط الضوء أيضا على كيفية تعامل القائمين/ات مع العاملات، فهم/ن لا يبدون/يبدين أي اهتمام بصحّتهن، حتى أنهم/ن لا يوفرون/ن لهنّ التغطية الاجتماعية ويكتفون/يكتفين بتقديم رواتب ضئيلة لا توفّر لهنّ أدنى مقوّمات الحياة الكريمة لإجبارهن على قبول ممارسة الجنس مع الحرفاء.

“في كافة الأسلاك هناك أشخاص يغضون أبصارهم عن هذه الممارسات مقابل تلقي مبالغ مالية”

روضة العبيدي

تمثّل الظروف المادية الصعبة أحد أهمّ الأسباب التي تدفع بالكثير من الفتيات إلى القبول بالمخاطرة والعمل في مجال الجنس. ويقول الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي إن هناك عوامل اقتصادية خاصة بالنسبة للمقيمات في المدن الكبرى فيجدن في هذا النوع من النشاط ربحا سريعا، باعتبار أن هناك زبائن يدفعون مبالغ طائلة.

ويمكن القول إن اقتصاد الجنس أصبح آلية من آليات الاندماج داخل المجتمع تحوّل فيه الجنس إلى سلعة تباع وتشترى في السوق والدولة متورطة فيه وتتغاضى عنه والحلقة الضعيفة فيه هي النساء، بحسب المتحدث ذاته الذي رجّح أن تتضاعف هذه الظاهرة خلال السنوات القادمة نظرا إلى خضوع تونس إلى سياسات صندوق النقد الدولي.

يعدّ البغاء “أقدم مهنة في التاريخ” في العالم ككلّ وتونس ليست استثناء، حتى أن تونس العاصمة في الفترة الحفصية كانت معروفة كـ”مركز كبير للفجور”. وكان المجتمع الحضري في تلك الفترة يعرف أشكالا من البغاء الأنثوي والذكوري. وقد قبلت الدولة الحفصية أن تدمج في نظامها الضريبي المداخيل المتأتية من هذه الأوساط وبالتالي فهي اعترفت بوجودها، بحسب دراسة بعنوان “البغاء: قطاع هامشي، منظم ومُقنن” لعبد الحميد الأرقش.

ويشير المؤرخ التونسي ابن أبي ضياف إلى أن تنظيم البغاء يعود إلى الفترة العثمانية. فضلا عن ذلك، يتحدّث كلّ من بول صباغ في كتاب له حول تونس في القرن 17 وسان جرفي في مذكراته عن أشكال التنظيم والتقنين، فـ”النساء العموميات كنّ يخضعن لمراقبة صارمة. كان ملازم أول بالشرطة يسمى مزوار يقوم بدور “بنات المتعة” اللواتي كنَّ يدفعن ضريبة على قدر جمالهن وسنهن، وكان يعاقب بشدة اللواتي كن يتاجرن بجمالهن دون الحصول على ترخيص بذلك”، وكانت تقع معاقبة وسجن من تمارس هذه المهنة دون ترخيص”.

تتفق أغلب المصادر التاريخية، وفق الدراسة ذاتها، على حضور “مزوار” في جميع المستويات المتعلّقة بمهنة البغاء الأمر الذي يحيل إلى الانطباع أن هذا القطاع تحتكره الدولة التي تحدّد أسعار البنات وتقسيمهن وتصنيفهن بكلّ أشكال الشطط والتجاوزات الممكن تخيّلها.

وتخلص الدراسة إلى أن الدولة فضّلت مراقبة هذه القطاعات وتنظيمها للاستفادة منها ماديا وسياسيا بدل قمعها طبقا لرغبات رجال الدين ودفعت الدولة منطق “الابتزاز الضريبي” إلى حدّ انتهى بإقامة نوع من “قوادة” الدولة.

وعلى الرغم من قدم ظاهرة البغاء، مازالت الدراسات التي تتناول هذه الظاهرة في تونس قليلة من بينها “دراسة استكشافية حول الاتجار بالبشر في تونس” أعدتها المنظمة الدولية للهجرة في جوان/ حزيران 2013. وتبرز الدراسة ارتفاع ظاهرة البغاء غير الرسمي خلال السنوات الأخيرة.

وذكرت الدراسة قضية 4 فتيات تتراوح أعمارهن بين 24 و26 عاما، تعود أطوارها إلى سنة 2011 اعترفن في البداية أنهن مارسن الجنس مقابل المال (10 دنانير تونسية) إلا أن معظم العائدات كانت تذهب إلى جيب مالك الشقة التي يشتغلن فيها بالجنس، ثمّ غيّرن أقوالهن وصرّحن أنهن تعرّضن للخداع إذ وقع انتدابهن للعمل في مركز حلاقة إلا أنهن وجدن أنفسهن مورّطات في شبكة “دعارة”.

وتعتبر الدراسة أنه لا يمكن دائما تأكيد وجود ضحايا اتجار بالأشخاص في مجال البغاء السرّي إلا أن ذلك لا يمنع أن تمثّل النسوة ضحايا محتملات للاتجار نظرا إلى درجة ضعفهن والظروف الصعبة التي يجدن أنفسهن فيها.

تواطؤ بعض الأمنيين

يشير عدم خوف العاملات بمركز التدليك الثاني الذي زرناه في الحمامات من أعوان الأمن، علاوة على مقولة إحداهن إنهن “يعملن مع الحاكم”(أي أجهزة الأمن) ، إلى وجود مصالح مشتركة وتواطؤ بين أصحاب/صاحبات هذه الفضاءات وعدد من المسؤولين الأمنيين.

وقد قامت إحدى العاملات في المركز بالاتصال بعون أمن من أجل الضغط على الصحفي المتخفي لإعادة أموال أُتهم زورا بسرقتها، وكان الأمني المعني قد أكد للفتاة أنه في طريقه إليها. بدورها، ربّة عمل هذه الأخيرة اتصلت بعون أمن ثان وقالت إنه في الطريق إلى المحلّ كذلك.

وفي الإطار ذاته، تؤكد لينا ، العاملة في مركز التدليك بالعوينة، أن أحد أقارب ربّة عملها إطار أمني وبالتالي فهن لا يخشين أن تقوم الوحدات الأمنية بمداهمة المكان وسجنهن وهنّ يشعرن بالأمان من هذه الناحية.

” الاقتصاد غير الرسمي استفاد من إغلاق المواخير المعترف بها من قبل الدولة التونسية”

فؤاد الغربالي

تواتر تأكيدات عدد من العاملات في مراكز التدليك التي زارها صحفي موقع الكتيبة الذي قدّم نفسه طيلة هذا التحقيق على أنّه حريف عادي حول وجود علاقات عائلية أو قائمة على مصالح مشتركة بين أصحاب هذه المراكز وبعض المسؤولين الأمنيين دليل على وجود نوع من التواطؤ لدى بعض الأعوان في السلك الأمني الذين يغضون الطرف على نشاط هذه المراكز ومخالفتها للقانون.

تقول، في هذا الصدد، رئيسة هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي، إنه في كافة الأسلاك هناك أشخاص يغضون أبصارهم عن هذه الممارسات مقابل تلقي مبالغ مالية، مستبعدة ، في الآن ذاته، وجود شبكات منظمة تعمل في الاتجار بالأشخاص في تونس ومشددة على أن الجرائم المسجّلة تتعلّق بأفراد تجمعهم علاقات قرابة أو صداقة أو علاقات جيرة أو مصلحة أو غيرها .

ما يمكن ملاحظته من خلال هذا التحقيق الاستقصائي، أنّ جلّ الشهادات التي قمنا بتجميعها تفيد بأنّه في أكثر من حالة صاحبات مثل هذه المحلات هنّ في الغالب من النساء. كما أنهنّ يملكن أكثر من محل في نفس الوقت أي أن عملهن يقوم على الشبكية في استغلال البنات جنسيا من أجل تكديس المال واغراء الحرفاء على القدوم للمحل للقيام بعمليات تدليك كثيرا ما تسبق إقامة علاقة جنسية سريعة.

في المقابل، يعتبر الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي أن “دولة كلّ يوم” (في إشارة إلى الشرطة) تتغاضى عمّا أسماه بـ”اقتصاد الجنس” أو “الاقتصاد الأسود” وتتحصّل مقابل ذلك على رشاوي حيث أن أعوان الأمن يتحصّلون على راتب شهري قد لا يكفي وهم يحتاجون إلى تدبّر أموال إضافية.

وينفي الغربالي وجود علاقة بين غلق المواخير الرسمية في تونس وانتشار تجارة الجنس في مراكز التدليك، مشيرا إلى وجود اقتصاد غير رسمي، وهو اقتصاد الجنس، لا في تونس فقط بل في العالم بأكمله والبلاد التونسية جزء من منظومة هذا الاقتصاد العالمي. وقد استفاد الاقتصاد غير الرسمي من إغلاق المواخير المعترف بها من قبل الدولة التونسية، وهو قرار تمّ اتخاذه لأسباب يقال إنها إيديولوجية ولكنّها في الواقع اقتصادية.

ويدرّ هذا الاقتصاد الكثير من الأموال كما يتخذ اقتصاد الجنس عدّة أشكال من بينها تلك التي تندثر بعباءة مراكز التدليك. ويعود ارتفاع ممارسة هذه الأنشطة إلى ارتفاع نسبة البطالة خاصة لدى النساء، إلى جانب تفشي ثقافة الربح السريع وانخراط فئات واسعة في مجتمع الاستهلاك إذ بات استهلاك الجنس شبيها باستهلاك فطور الصباح، بحسب الغربالي.

ويمثّل اقتصاد الجنس غير الرسمي، الذي وصفه الباحث في علم الاجتماع بـ”الاقتصاد الأسود”، جزءا من منظومة اقتصاد السوق الليبرالي، في الوقت الذي تتعامل فيه الدولة مع الاقتصاد غير الرسمي بسياسة “عين رات وعين ما راتش” باعتبار أنه يوفّر أرباحا لقطاع العقارات ويساهم في تحريك سوق السياحة الذي يعاني من أزمة حتى لو كان ذلك عبر ما يسمّى بـ”الدعارة”، وتكتفي بتنظيم حملات مداهمة لهذه المحلات بين حين وآخر لذرّ الرماد في أعين الطبقات المحافظة من المجتمع التونسي.

“هذا الموضوع ليس للاستهلاك الإعلامي “

رئيس مكتب الإعلام بوزارة الداخلية

في المقابل، بيّن مصدر من وزارة الداخلية، طلب عدم الإفصاح عن هويته، أن الوزارة تمتلك إحصائيات حول البغاء السرّي بشكل عام وأن الإحصائيات المتعلّقة بمراكز التدليك التي تحوّلت إلى أوكار للبغاء السري لدى وزارة العدل باعتبار أن التكييف القانوني للقضايا يقوم به القاضي وأن مثل هذه القضايا لا يقع فصلها من البداية بل يتمّ ذلك على مستوى القضاء.

وفيما يتعلّق بشهادات العاملات في مراكز التدليك بخصوص تواطؤ بعض الأمنيين مع أصحاب/صاحبات هذه المراكز، قال المصدر إنهن يكذبن مشيرا إلى أنه إذا تمّ التفطّن إلى أمني يتعامل مع مثل هذه الفضاءات أو ارتكب أي مخالفة ستقع معاقبته.

وتخضع مراكز التدليك المفتوحة للعموم لرقابة ترتيبية دورية من قبل الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية أو حتى المناطق والمراكز الأمنية الراجعة بالنظر وذلك بالتنسيق مع النيابة العمومية، بحسب المتحدّث ذاته.

المرأة ضحيّة في كلّ الحالات

في الوقت الذي تجد فيه العديد من الفتيات أنفسهن مجبرات على ممارسة العمل في الجنس لأسباب اقتصادية أو رضوخا لضغوط يتعرّضن إليها من أرباب العمل، فتختار أخريات ممارسة هذا النشاط طوعا ودون أي ضغوط من أي طرف كان.

وكثيرا ما تخلق هذه المسألة خلطا في المفاهيم بين العمل في الجنس والاستغلال الجنسي في حين أن البون بينهما شاسع، فالأول يكون عملا اختياريا وطوعيا تماما في حين أن الثاني يعتمد على الإكراه وممارسة ضغوط مختلفة.

وتؤكد رئيسة هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي أنه لا بدّ من التفريق بين العمل بالجنس الذي ينخرط فيه المرء بإرادته والاستغلال الجنسي حتى إذا كان الشخص المعني يمارس العمل في الجنس بنفسه/ا، فذلك لا يبرّر أن يقع استغلاله من قبل طرف أو أطراف أخرى.

مازالت هذه المسألة إلى اليوم تشق صفوف الحركات النسوية بين من يعتبر أن المرأة حرّة في جسدها ولها حرّية استغلاله وبيعه ومن يقول إن المرأة هي ضحيّة المجتمع لأنه في نهاية المطاف يقع استغلال جسدها من قبل الرجل الذي يتاجر بها والرجل الذي يدفع مالا مقابل الخدمة الجنسية.

“المرأة التي تبيع جسدها بمحض إرادتها هي نتاج مجتمع هيأها وأنشأها على فكرة أن جسدها قابل للبيع”

بشرى بالحاج حميدة

وتذكر، في هذا الصدد، الناشطة الحقوقية ورئيسة لجنة الحرّيات الفردية والمساواة بشرى بالحاج حميدة، أن الأهم في هذا السجال هو أن المرأة ضحية في كلّ الحالات وأنه لا يجب معاقبتها وأن الأطراف التي يتوجب عقابها هم الأشخاص الذين يشتغلون بها والرجل الذي يطلب جنسا مقابل المال.

وتبيّن بالحاج حميدة أن المرأة التي تبيع جسدها بمحض إرادتها هي نتاج مجتمع هيأها وأنشأها على فكرة أن جسدها قابل للبيع، مضيفة “بالنسبة لي حتى لو كانت المرأة حرّة في التصرّف في جسمها في نهاية الأمر لا يمكن اعتبار ذلك حرّية لأن المجتمع أنشأها على أن جسمها بضاعة وبالتالي هي ضحيّة نظرة المجتمع إلى جسد المرأة”.

تشير محدثتنا كذلك إلى القضاء والقانون التونسيين اللذين يعتبران أن المرأة هي الفاعلة الأصلية والرجل شريك وتكون العقوبة عادة للمرأة بالسجن أي أنها عقوبة سالبة للحرّية، أما بالنسبة للرجل يعتبرونه شريكا في القانون في حين أن العالم اليوم بصدد التغيّر والتطوّر، وأصبح هناك اقتناع بأنه إذا لم يكن هناك طلب لن يكون هناك عرض، إلا أن تونس لم تتطوّر ومازالت تعتبر المرأة الفاعلة الأصلية وبالتالي عقوبتها أشدّ.

وتختم بالقول “صحيح أن جسد المرأة هو ملكها ولكن عندما يبني المجتمع نظرة كاملة دونية ومتملّكة لجسدها فهي في نهاية الأمر ضحيّة”.

كلمة الكتيبة:

تشدّد هيئة تحرير موقع الكتيبة على أنّ الهدف من هذا التحقيق الاستقصائي الذي قمنا فيه باستعمال آلات توثيق سريّة ليس التشهير بالعاملات في مثل هذه المراكز ولا بأصحابها بقدر ما يهمنا تسليط الضوء على هذه الظاهرة ومعالجتها صحفيا من منظور قانوني وحقوقي دون السقوط في الأحكام الأخلاقويّة. كما نشير إلى أنّ هذا العمل الصحفي أنجز بصيغة حسّاسة للجندر. وهو يهدف إلى مكافحة ظاهرة الافلات من العقاب في علاقة بالمتاجرين بالبشر سواء من خارج مؤسسات الدولة أو داخلها.

كلمة الكتيبة:
تشدّد هيئة تحرير موقع الكتيبة على أنّ الهدف من هذا التحقيق الاستقصائي الذي قمنا فيه باستعمال آلات توثيق سريّة ليس التشهير بالعاملات في مثل هذه المراكز ولا بأصحابها بقدر ما يهمنا تسليط الضوء على هذه الظاهرة ومعالجتها صحفيا من منظور قانوني وحقوقي دون السقوط في الأحكام الأخلاقويّة. كما نشير إلى أنّ هذا العمل الصحفي أنجز بصيغة حسّاسة للجندر. وهو يهدف إلى مكافحة ظاهرة الافلات من العقاب في علاقة بالمتاجرين بالبشر سواء من خارج مؤسسات الدولة أو داخلها.

الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
بودكاست: حمزة الفزاني
رسوم: إسماعيل بن عامر
غرافيك: منال بن رجب
رسوم: إسماعيل بن عامر
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري

الكاتب : رحمة الباهي

صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.

rahma