الكاتب : محمد اليوسفي

خلافا لما يعتقد البعض من المتابعين للشأن العام في تونس ولاسيما من الفئات الشبابية، فإنّ الاستفتاء الذي سينظم يوم 25 جويلية/ تمّوز 2022، لن يكون الأوّل في تاريخ البلاد خلال الحقبة المعاصرة. فقد كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي سبّاقا في هذا المضمار قبل 20 سنة، عندما نظّم استفتاء شعبيا تمكّن من خلاله من إدخال تعديلات جمّة (شملت أكثر من نصف الفصول) على دستور غرة جوان/ حزيران 1959، ليمدّد بذلك في فترة حكمه التي تواصلت من تاريخ استيلائه على السلطة فجر يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 حيث أطاح حينذاك بحكم الرئيس الحبيب بورقيبة، إلى غاية 14 جانفي/كانون الثاني 2011 تاريخ الاطاحة به تحت وطأة الثورة الشعبية التي فتحت أبواب الانتقال الديمقراطي الذي أوصل الأستاذ الجامعي المتقاعد قيس سعيّد (64 سنة) إلى سدّة الحكم في سنة 2019.

الكاتب : محمد اليوسفي

خلافا لما يعتقد البعض من المتابعين للشأن العام في تونس ولاسيما من الفئات الشبابية، فإنّ الاستفتاء الذي سينظم يوم 25 جويلية/ تمّوز 2022، لن يكون الأوّل في تاريخ البلاد خلال الحقبة المعاصرة. فقد كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي سبّاقا في هذا المضمار قبل 20 سنة، عندما نظّم استفتاء شعبيا تمكّن من خلاله من إدخال تعديلات جمّة (شملت أكثر من نصف الفصول) على دستور غرة جوان/ حزيران 1959، ليمدّد بذلك في فترة حكمه التي تواصلت من تاريخ استيلائه على السلطة فجر يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 حيث أطاح حينذاك بحكم الرئيس الحبيب بورقيبة، إلى غاية 14 جانفي/كانون الثاني 2011 تاريخ الاطاحة به تحت وطأة الثورة الشعبية التي فتحت أبواب الانتقال الديمقراطي الذي أوصل الأستاذ الجامعي المتقاعد قيس سعيّد (64 سنة) إلى سدّة الحكم في سنة 2019.

بين هاتين المحطتين التاريخيتين، مياه كثيرة جرت من تحت جسور المشهد السياسي في تونس، لتمتزج فيها جراح الذاكرة باعتمالات التاريخ القريب والآني.

فما هي أوجه التشابه والاختلاف بين استفتاء الرئيس بن علي سنة 2002 واستفتاء الرئيس سعيّد سنة 2022؟ وهل تنزلق البلاد مجدّدا نحو الحكم الفردي الذي ينطلق بنظام رئاسي معدّل إلى نظام رئاسي معزّز يكون فيه رئيس الجمهورية المستفيد الأكبر بصلاحيات واسعة وحصانة قانونية/دستورية تجعله فوق المحاسبة على نقيض الأنظمة الديمقراطية العريقة ؟

خدعة الإصلاحات الدستوريّة

في خطاب توجّه به إلى الشعب التونسي عبر مؤسّسة مجلس النواب وذلك خلال جلسة عامة ممتازة عقدت بتاريخ 27 فيفري 2002، أعلن الرئيس السابق زين العابدين بن علي (1987-2011) عن قراره دعوة الناخبين إلى الاستفتاء الشعبي العام حول ما أسماه مشروع الإصلاح الدستوري قائلا:

“إرادة الشعب فوق كل إرادة وإنّ الشعب هو المرجع في تجسيم الطموحات الوطنية ورسم الخيارات الكبرى… إنّ هذا الإصلاح يؤسّس النقلة النوعية في النظام السياسي لتونس ويتنزّل في إطار الالتزام الثابت بالارتقاء بالحياة السياسيّة وتعزيز أركان الجمهورية ودعم بنيان دولة القانون والمؤسسات وحماية الحريات وحقوق الإنسان…”.

مقتطف من خطاب زين العابدين بن علي

بعد 3 أشهر فقط عن تاريخ هذا الخطاب، انتظم الاستفتاء الذي سُوّق له آنذاك إعلاميا ومن قبل دوائر نظام الحكم على أنّه أرقى أشكال الممارسة الديمقراطية الشعبيّة. لقد كان تاريخ 26 ماي/أيار 2002 موعدا جديدا فارقا في تاريخ الحياة السياسيّة التونسيّة حيث نجح بن علي في تمرير نصّ الإصلاح الدستوري المقدّم بنسبة فاقت 99 بالمائة حسب النتائج المعلنة من قبل وزارة الداخلية. وكانت المعارضة قد اعتبرت نتائج الاستفتاء، آنذاك، مزوّرة واصفة ايّاها بـ”المسخرة”.

يصف أستاذ التاريخ المعاصر والأنثروبولوجيا التاريخية بالجامعة التونسية عبد الواحد المكني الاستفتاء الذي نظّم في سنة 2002 بـ”الأضحوكة”، مضيفا أنّ بن علي كان قد انحرف بالدستور خلال فترة حكمه في “بورقيبيّة” جديدة قائمة على ثقافة حكم الفرد.

استفتاء 2002 كان أضحوكة لأنّ ماكينة حزب التجمع قامت بتنظيمه على النمط البلشفي وعلى نمط جمهوريات الموز.

عبد الواحد المكني

سبقت الاستفتاء الذي نظّمه بن علي في 2002، هالة إعلامية كبرى من قبل الصحافة الموالية للسلطة. فقد انتشر وزراء حاكم قرطاج، عندئذ، في كامل ربوع الجمهورية التونسية للتبشير بجمهورية الغد التي وعد بها بن علي التونسيات والتونسيين. كان ذلك في إطار فعاليات الحملات التفسيرية وهي عادة دأب عليها الرئيس بن علي بهدف تفسير خطاباته وقراراته لعموم الشعب عبر الاجتماعات الحزبية المباشرة التي يحضرها كوادر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي فضلا عن الوزراء والمستشارين. وقد كان الولاّة والمعتمدون يلعبون دورا مهمّا في الدعاية لتوجيهات الرئيس بن علي بناء على توظيف مقدرات الدولة.

على نقيض البروباغندا التجمعيّة آنذاك، كان للمعارضة الديمقراطية حضور مناهض لهذا الاستفتاء منذ الوهلة الأولى حينما عزم على ذلك الرئيس بن علي قبل أكثر من سنة من تاريخ إجراء الاستفتاء. كان البيان الذي وقّعته مجموعة من المثقفين.ـات والجامعيين.ـات والحقوقيين.ـات يتقدمهم/ن الوزير السابق للتربية (1989-1994) وأستاذ القانون بالجامعة التونسية محمد الشرفي من بين أهمّ النصوص التي تؤرّخ لتلك المرحلة.

هذا النص الذي كتبه الثلاثي الأكاديمي حمادي الرديسي وهشام قريبع ومحمد الشرفي في منزل هذا الأخير، وفق شهادة أرملته فوزية الرقيق لموقع الكتيبة، والذي تحصّلنا على نسخة منه كتبت باللغة الفرنسية، كان قد نُشر في صحيفة لوموند الفرنسية في ذكرى عيد الاستقلال بتاريخ 20 مارس/آذار 2001.

يقول الموقعون.ـات على هذا البيان الشهير في معرض شرح موقفهم/ن المعارض للرئيس بن علي:

دخلت تونس، في السنوات الأخيرة، في أزمة سياسية وأخلاقية خطيرة، تميّزت بسمتين أساسيتين: نفي السياسة وخصخصة الدولة… النظام الحالي يعرف انحرافا غير مسبوق، سلطة شخصية مطلقة مدفوعة إلى أقصى الحدود، شعبوية ديماغوجية تصطاد الناس ونُخبهم، تجريد المؤسسات الدستورية والسياسية والمهنية من كلّ محتواها إلى درجة أنها أصبحت جميعها أدوات طيّعة في أيدي سلطة واحدة وخنق للمجتمع المدني ينذر بكلّ الأخطار.

مقتطف من نص البيان

ويضيف الموقعون.ـات على نفس البيان، والذين بلغ عددهم قرابة 200 شخصية وطنية: ” اليوم، دولة اللاّحقوق بسطت سيطرتها على جميع المجالات. أدواتها، سواء كانت تلك التي تضمن الحفاظ على النظام -الإدارة والشرطة والقضاء- أو تلك التي تنقل دعايتها تحت غطاء “المعلومات”، يتمّ تجنيدها ومشاركتها على نطاق واسع في مشروع واسع النطاق للتملك الخاص، وخصخصة الدولة… تقف تونس التي تشهد آخر ولاية دستورية للرئيس الحالي -بن علي- على مفترق طرق. إذا استمرّ هذا العجز سنجد أنفسنا إزاء مدة رئاسية جديدة بطريقة مقنّعة والتي من شأنها أن تفتح الطريق أمام الرئاسة مدى الحياة التي عاشتها تونس والتي ستتمّ بالتأكيد في ظروف أكثر إيلاما ودراماتيكية.”

المحامي والناشط الحقوقي اليساري العياشي الهمّامي (كان من بين الموقعين على البيان) يستحضر تلك المحطة التاريخية المؤلمة في تاريخ تونس السياسي المعاصر المثخن بالاستبداد والتحايل على الدستور والقانون والشعب قائلا: “التاريخ يعيد نفسه بشكل من الأشكال. رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيّد يريد فرض رأيه وإرادته عن طريق ما يسميه استفتاء مثلما فعل ذلك بن علي في 2002.

قيس سعيّد يزعم أنّ في هذا الاستفتاء مصلحة للشعب ولكن في الحقيقة الهدف منه تكريس حكم استبدادي.

العيّاشي الهمامي

ويوضّح الهمامي في هذا السياق: “كان الإعلام بين 2001 و2002 يقوم بالدعاية لبن علي فضلا عن الوزراء من أجل تبرير الاستفتاء على تنقيح الدستور. كانوا يقولون إنّ الدستور ينطوي على نقائص. تمّ تغيير قرابة 40 فصلا فقط من أجل المخاتلة حول نقطة وحيدة وهي رفع السنّ الأقصى للترشح إلى 75 سنة، بالإضافة إلى عدد الدورات المسموح بها في عملية الترشح لرئاسة الجمهورية”.

“إزاء الآلة الإعلامية الدعائية لنظام بن علي -يضيف المحامي الهمّامي- نحن كجزء من المعارضة قمنا بالتصدي لهذه العملية من خلال إصدار النصوص وعبر تنظيم التظاهرات وتقديم المواقف المعلنة”.

لقد قمنا بحملة مضادة رغم اختلال موازين القوى وتمسّكنا برفضنا للاستفتاء وأكّدنا أنّه سيكون على مقاس الرئيس بن علي.

تصريح العياشي الهمامي

ويشدّد العياشي الهمامي في نفس الإطار على أنّ “النصّ الصادر بتاريخ 20 مارس/آذار 2001 تجمّعت حوله أسماء معارضة من مختلف الأطياف السياسية والفكرية. لقد كان خطوة من الخطوات النضالية الهامة من أجل إعلام الرأي العام الدولي أنّ الاستفتاء الذي يعتزم بن علي تنظيمه ليس سوى مطيّة من أجل التمديد لحكمه لا لإصلاح النظام السياسي والدستور كما كان يدعي.”

في الواقع، لم تكن الإصلاحات الدستوريّة التي تبجّح بها نظام الرئيس بن علي في استفتاء 2002 سوى خدعة تمكّن من خلالها في الظاهر من توسيع آليات الديمقراطية التشاركية الصورية عبر إحداث مجلس للمستشارين يقوم بتعيين ثلث أعضائه من الشخصيات والكفاءات الوطنية بالتوازي مع مجلس نواب الشعب الذي يكون منتخبا، وذلك وفق نصّ القانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المتعلق بتنقيح بعض الأحكام من الدستور.

في حين أنّ أهم نقطة تضمّنها هذا الاستفتاء والتي كانت بمثابة مربط الفرس هي تلك المتعلقة بالتوسيع في صلاحياته رغم طبيعة النظام الرئاسوي القائم آنذاك، فضلا عن السماح لنفسه بالترشح مجددا لمنصب رئيس الجمهورية بعد أن استوفى الدورات الثلاثة التي حدّدها بمفعول التنقيح الدستوري الذي قام به بعد وصوله إلى السلطة من خلال سنّ القانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988 المتعلق بتنقيح دستور 1959 والذي ينصّ في فصليه 39 و 40 على الآتي:
.

ينتخب رئيس الجمهورية لمدّة 5 أعوام… ويجوز له أن يجدّد ترشحه مرتين متتاليتين… يجب أن يكون المترشح لمنصب رئيس الجمهورية يوم تقديم ترشحه بالغا من العمر 40 سنة على الأقل و70 سنة على الأكثر.

الفصل 40 من القانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988

في سنة تنظيم الاستفتاء، كان وقتها الرئيس بن علي يبلغ من العمر 66 عاما. وبفضل ما أسماها الإصلاحات الدستورية، فتحت أمامه الأبواب للترشح للانتخابات الرئاسية التي انتظمت سنة 2004 ثمّ رئاسيات 2009 التي ستليها حملات مناشدة من أجل أن يُعيد الترشّح في انتخابات 2014. بيْد أنّ الثورة الشعبية التي انطلقت من محافظة سيدي بوزيد (وسط الجمهورية التونسية) في 17 ديسمبر/كانون الأوّل 2010 ليصل مداها إلى تونس العاصمة أمام مقر وزارة الداخلية -رمز القبضة البوليسيّة التي حكم بها طيلة 23 سنة- يوم 14 جانفي/كانون الثاني 2011 ستعجّل بفراره إلى المملكة العربية السعودية وبالتالي نهاية فترة حكمه الذي لم يشفع له الاستفتاء بالاستمرار أكثر من 8 سنوات فيه. فهل يمكن أن يعيد التاريخ نفسه؟

ما أشبه البارحة باليوم!

مثّل تاريخ 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 حدثا فاصلا في تاريخ تونس السياسي الرّاهن. لقد كان بمثابة المحطة الفاصلة التي وضعت حدّا لنتائج الاستفتاء الذي أجراه بن علي في سنة 2002. فقد تمّ خلال ذلك العام إنهاء العمل بالدستور وإجراء انتخابات أفرزت مجلسا وطنيّا تأسيسيّا حاز فيه الحزب الإسلامي حركة النهضة 89 مقعدا من إجمالي 217.

واستمرّ هذا المجلس في العمل إلى غاية إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موفى سنة 2014 التي فاز فيها حزب نداء تونس بـ86 مقعدا في حين تمكّن رئيسه الباجي قائد السبسي من حسم السباق الرئاسي في الدور الثاني والوصول إلى سدّة الحكم في قصر قرطاج.

وقبل ذلك، وبتاريخ 27 جانفي/ كانون الثاني 2014 تمت المصادقة على الدستور الجديد للجمهورية التونسية من قبل المجلس التأسيسي المنتخب بموافقة 200 نائب من جميع الحساسيات السياسية والفكرية التي كانت ممثلة تحت قبّة قصر باردو.

في سنة 2017 وإبان الأزمة السياسيّة الخانقة آنذاك في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي، صرّح أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد في حوار إذاعي بأنّ مشكلة الدساتير في دولنا العربية تتمثل في كونها توضع دائما على المقاس، بحسب تعبيره.

من وضعوا دستور 2014 في تونس يريدون تغييره لأنّه ليس على المقاس فهم يريدون إدخال رتق وتعديل حتّى يصبح على مقاس الحكّام.

تصريح قيس سعيّد قبل أن يصل الى الرئاسة

سعيّد الذي رفض وقتها الدعوات إلى تعديل الدستور استغرب من هذا الطّرح قائلا: “نحن نعيش في ظلّ نظام رئاسي. الدستور التونسي كالآلهة اليونانية ذات الوجهين. هناك في الظاهر سلطة تنفيذية مقسّمة بين قرطاج والقصبة ولكن في الواقع السلطة التنفيذية الحقيقية هي بقصر قرطاج. أين التعطيل الذي يتحدّثون عنه؟ كلّ مشاريع القوانين التي أرادوا تمريرها مرّت. هم يعتقدون أنّ هناك نوعا من التعطيل في مؤسسات الدولة وهذا غير صحيح. للأسف في تاريخ السلطة السياسيّة هناك دائما دائرة هي التي تسعى لأن تستأثر بالحكم وتحافظ على مصالحها في مركز واحد”.

لاحقا وبعد سنوات قليلة حينما أصبح سعيّد رئيسا للجمهورية، سرعان ما غيّر رأيه حيث صرّح قائلا:

لندخل في حوار جديّ، يكون مرحلة انتقالية لحوار يمهدّ إلى حوار آخر يتعلق بنظام سياسي جديد وبدستور حقيقي لأنّ هذا الدستور قائم على وضع أقفال في كلّ مكان ولا يمكن أن تسير مؤسسات الدولة بالأقفال.

تصريح قيس سعيّد بعد أن وصل إلى الرئاسة

ومنذ 25 جويلية/تموز 2021، استغلّ الرئيس قيس سعيّد الزخم الشعبي الذي رافق قراراته المتعلقة بالتدابير الاستثنائية عندما قام بتفعيل الفصل 80 من الدستور ضمن قراءة تعسفيّة/توسعيّة، ليقوم بحلّ البرلمان فيما بعد والذي كان يمكن أن يمثّل عائقا دستوريا إزاء مسعى إجراء استفتاء لوضع دستور جديد للبلاد لاسيما في ظلّ عدم وجود المحكمة الدستورية التي يمكن أن تلعب دور الحكم أو السلطة المضادة في مثل هذه الوضعيات.

يرى المؤرخ الجامعي والباحث في معهد تونس للتاريخ المعاصر محمد ضيف الله أنّ هناك العديد من نقاط التشابه بين استفتاء 2002 واستفتاء 2022. يقول في هذا المضمار: “هذان الاستفتاءان تناولا مسألة الدستور والحال أنّ الاستفتاءات يمكن أن تنظّم حول مسائل أخرى بخلاف مسألة تغيير الدستور. كما أنّهما يتشابهان في كونهما من صنع رجال القانون.

استفتاء بن علي كان وراءه عبد العزيز بن ضياء ومن لفّ لفّه من القانونيين واليوم استفتاء سعيّد وراءه الصادق بلعيد وأمين محفوظ ومحمد صالح بن عيسى.

محمد ضيف الله

وجه الشبه الثالث يكمن في أنّ استفتاء 2002 كان يهدف إلى دعم سلطات الرئيس رغم أنّ النظام كان رئاسيا آنذاك من خلال بعث مجلس للمستشارين يعيّن ثلث أعضائه بن علي للحدّ من سلطات البرلمان وهذه المرّة الدستور الجديد في 2022 يهدف إلى الحدّ من سلطات البرلمان في مقابل تضخيم سلطات الرئيس قيس سعيّد”.

في 25 ماي/ أيار 2022، أصدر الرئيس قيس سعيّد أمرا رئاسيا لدعوة الناخبين إلى الاستفتاء حول مشروع دستور جديد للجمهورية التونسية يوم 25 جويلية/تموز 2022 من خلال الإجابة عن السؤال التالي: “هل توافق على مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية؟”.

دعوة الناخبين للتصويت على مشروع الدستور الجديد الذي أعدّ في دوائر ضيّقة جدّا دون احترام لقواعد الشفافية والحقّ في المساءلة تمت دون أن يكون مشروع الدستور جاهزا حيث تمّ حصر مدّة الاطلاع على فحوى هذا النصّ الدستوري ومناقشته من قبل عموم التونسيات والتونسيين في مدّة وجيزة تقدّر بأقل من شهر واحد (25 يوما).

وكان الرئيس سعيّد قبل ذلك قد شكلّ ما أسماها بالهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة برئاسة رجل القانون الصادق بلعيد(83 سنة). وقد نصّ المرسوم عدد 30 لسنة 2022 في فصله الثاني على أنّ هذه الهيئة وبطلب من رئيس الجمهورية، تتولى تقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة ويقدم هذا المشروع إلى رئيس الجمهورية. وقد عيّن عميد المحامين إبراهيم بودربالة رئيسا للجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وتحترم الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة عند إعداد المشروع المذكور المبادئ والأهداف المنصوص عليها بالفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية ونتائج الاستشارة الوطنية، وفق نصّ ذات المرسوم.

في حقيقة الأمر، هذه الاستشارة الوطنية الالكترونية التي نظمها الرئيس قيس سعيّد بشكل أحادي والتي لم يشارك فيها سوى أقل من 5 بالمائة من إجمالي التونسيين المعنيين بالانتخاب، طالب فيها فقط 38 بالمائة من المشاركين بتغيير الدستور، بحسب النتائج الرسميّة التي نشرت على المنصة التي أعدت للغرض.

لقد واجهت الهيئة الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة صعوبات جمّة بعد أن رفض اتحاد الشغل المشاركة فيها، مشدّدا على أنّه “يرفض المشاركة في حوار نتائجه معدّة سلفا”، فضلا عن عمداء كليّات الحقوق والمعاهد القانونية الذين عبّروا عن “تمسكهم بحياد المؤسسات الجامعية وضرورة النأي بها عن الشأن السياسي.”

كما أنّ أبرز الأحزاب السياسيّة في الساحة التونسية على غرار الحزب الدستوري الحرّ بقيادة عبير موسي وحركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي رئيس البرلمان المنحلّ قد أعربت عن رفضها لهذا المسار رغم أنّها لم تُدعَ للمشاركة في الحوار الذي أقرّه الرئيس قيس سعيّد متّهمين ايّاه بانتهاج منهج إقصائي لمنافسيه السياسيين وفق قولهم.

غير أنه يستدرك قائلا:” في الحقيقة رغم نقاط التشابه هناك اختلاف. فمن المفارقات أنّ بن علي احترم تقريبا الطريقة الموجودة في دستور 1959 وتعديلاته العديدة احترمها حرفيا لإدخال تعديلات على الدستور. في حين أنّ الاستفتاء الحالي هو خارج الإطار الدستوري ورئيس الدولة الذي يقوم بعملية الاستفتاء ليس له تفويض لا من قبل الشعب ولا من قبل أي جهة كانت وبالتالي هذا اختلاف كبير.”

من جهة أخرى، يرى أستاذ القانون بجامعة تونس المنار ومدير معهد تونس للسياسة أحمد إدريس، أنّ أوجه التشابه بين الاستفتاءين تكمن في أنّ بن علي استفتى الشعب بطريقة تضمن له تعديل الدستور في الاتجاه الذي يريد والرئيس الحالي قيس سعيّد كذلك يسعى إلى الحصول على نتيجة في الاستفتاء ترضي ما يريده. وبالتالي هو يستعمل-في إشارة إلى سعيّد- عديد الآليات التي قد تضمن له هذه النتيجة من ناحية تغيير هيئة الانتخابات وتعديل القانون الانتخابي دون المس من العتبة المطلوبة في نتيجة الاستفتاء واستعمال الإدارة وتجنيد الولاة الذين يجنّدون بدورهم المعتمدين بغية إنجاح هذا الاستفتاء وكل هذا كأنه يضمن النتيجة قبل حصولها، وفق تقديره.

بن علي احترم القواعد الدستورية التي أتى بها دستور 59، في حين الرئيس سعيّد خالف كل الأطر الدستورية المُضمنة بدستور 2014.

مدير معهد تونس للسياسة أحمد إدريس

ويضيف إدريس قائلا بنبرة تشي بنوع من الحسرة والتخوّف على مستقبل البلاد: “هذه العملية قد تقود إلى تغيير منظومة الحكم بالطريقة التي يريدها رئيس الجمهورية قيس سعيّد وبالتالي قد يكون لنا نظام حكم آخر يختلف عن النظام الذي عرفناه تمهيدا لإضعاف المؤسسات الأخرى التي قد لا تكون سلطة وإنما وظائف. فالبرلمان قد يكون صاحب الوظيفة التشريعية وعلبة التسجيل فقط لما تطرحه عليه الحكومة أو على الأقل رئيس الجمهورية. القضاء هو الآخر سيكون وظيفة فالرئيس هو إذنْ من يحدّد محتوى هذه الوظيفة وبإمكانه معاقبة القضاة. المرْكزة قد تؤدي إلى إعادة النظر في اللامركزية التي عرفناها إلى حدّ الآن والحدّ من طموحات تحقيق اللامركزية بالصورة المطلوبة فكل هذا سيحدث عندما يمرّ الدستور الجديد. كل هذا يجعلني لا أراه دستورا يقوم على نفس توزيع الاختصاصات والتوازن بين السلطات كما هو مطلوب في أي دستور ديمقراطي”.

ويتوقع إدريس تأبيد الأزمة بسبب عملية الاستفتاء الأحادية التي يمضي فيها الرئيس قيس سعيّد باعتبار أنّ عدد معارضيه وعدد معارضي المسار ارتفع وهذا سوف يؤدي إلى تواصل الأزمة ومزيدا من عدم الاستقرار السياسي وبالتالي عدم فاعلية القائمين على الأمر في تحقيق ما سوف يغيّر من حياة الشعب التونسي، بحسب توصيفه. فهل ستقود عملية الاستفتاء إلى العودة مجدّدا إلى منزلقات الحكم الفردي المتدثر بعباءة النظام الرئاسي؟ وأي مآلات لمشروع البناء القاعدي الذي كان قد طرحه قيس سعيّد في برنامجه الانتخابي؟ وهل سينهي الاستفتاء الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة بمجرّد دخول دستور جديد حيّز التنفيذ؟

عود على بدء…النظام الرئاسي ومخاطر الحكم الفردي

يرجّح المؤرخ عبد الواحد المكني فرضية تمرير نص مشروع الدستور الجديد، معتبرا أنّ الإطاحة بالاستفتاء بالنسبة الى المعارضين له لا يمكن أن تكون بالمقاطعة أو بالتشكيك في هيئة الانتخابات.

يوم 25 جويلية/تموز 2022 سيكون الشعب التونسي على موعد جديد مع التاريخ. الاستفتاء سيحدّد بشكل من الأشكال مستقبل النظام السياسي وشكل الدولة ومصير الرئيس قيس سعيد.

ويؤكد المكني المتخصّص في الانتروبولوجيا التاريخية وتاريخ الذهنيات أنّ “النظام الرئاسي المعدّل يُعتبر النظام السياسي الأمثل لتونس على اعتبار أنّ التونسي العادي يميل الى الاستقرار والى الدولة القوية والى القرار الممركز والى الإدارة القويّة فضلا عن الظروف المعيشية الجيدة والتشغيل والاندماج التعليمي”.

في المقابل، يشدّد محدّثنا على ضرورة الاعتماد على نظام انتخابي يقوم على التمثيل النسبي في البرلمان عن طريق نظام القائمات مع وضع عتبة وذلك ضمانا لحق الأقليات الفكرية والسياسية في المشاركة الديمقراطية في صنع القرار. ويرى أنّ نظام الاقتراع على الأفراد في تونس لا يمكن أن ينجح نتيجة نسب الأميّة والفقر المرتفعة وفق قوله.

ويحذّر المؤرخ الجامعي عبد الواحد المكني من نظام البناء القاعدي الذي وصفه بأنه “تجريب آخر ستدخل فيه البلاد ولكنه سيكون تجريبا خاطئا”، وفق تقديره.

وقد تساءل المكني بأسلوب ساخر:” المفسّرون أنفسهم لا يعرفون ماذا يجب أن يفسّروا؟ أين نجح البناء القاعدي؟ الدول التي تقدّمت في الديمقراطية هي التي مزجت بين جميع أنواع الديمقراطية التمثيلية والتشاركية والمباشرة. في التاريخ لا يوجد أي نظام مكّن الشعب من السلطة. أين جرّب هذا النظام القاعدي الذي يتحدثون عنه؟ هل في السوفياتات حيث كان الأخ يكتب حول شقيقه الوشايات والتقارير؟ هل في ليبيا أين كانت اللجان الشعبية الثورية تقوم بعمليات خطف وقتل ولا يعلم أهل الضحية مصير ابنهم؟ هل المقصود بالنظام القاعدي الفظاعات التي أُرتكبت في كمبوديا أم مع نظام كابيلا في الكونغو؟”.

على نقيض موقف المكني، يرى المؤرخ محمد ضيف الله أنّ النظام الرئاسي فشل في تونس وقد أدّى إلى الثورة في 2011.

يقول محدثنا في هذا السياق:” التونسيون جرّبوا النظام الرئاسي الذي تحوّل بسرعة إلى نظام رئاسوي في عهد بورقيبة وفي حقبة بن علي. النظام الرئاسي جعلنا ننتمي إلى العالم الثالث المتخلف اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. منذ 2014، التونسيون لم يجربوا النظام البرلماني فالدستور الجديد لم يقع تطبيقه والدليل على ذلك أنه لم يتم إرساء المحكمة الدستورية واللامركزية. جل القوانين لم يتم تغييرها وفق الدستور”.

ولئن عارض ضيف الله فكرة أنّ التاريخ يعيد نفسه بنفس الظروف والأسباب والنتائج الّا أنّه استدرك بالقول إنّ هناك بصفة عامة شكلا من أشكال التكرار والتشابه باتجاه تركيز حكم الفرد، فالحدّ من السلطة التشريعية يتكرّر مرة أخرى مع نظام جديد يريد فرض نفسه في مسألة الانتخاب على الأفراد بمعنى لا تتكوّن كتل وازنة داخل البرلمان سواء كانت حزبية أو أيديولوجية وهذا سيضعف حتما المجلس النيابي، وفق تقديره.

ويضيف الباحث في معهد تونس للتاريخ المعاصر محمد ضيف الله قائلا:” قيس سعيّد يريد تحويل البرلمان من سلطة إلى وظيفة بما ينتج وضعا يكون فيه الرئيس بمثابة المدير العام للدولة الذي يُسيّر مجموعة من الموظفين في البرلمان والقضاء والإدارة والحكومة أي أن الحكم يصبح منحصرا لدى فرد واحد وهذا لا تجد مثيلا له حتى في الأنظمة الديكتاتورية التي توهم صوريا بأن السلطات موزعة”.

هذا الاستفتاء لن يؤدي إلى استقرار الوضع -وفق تقدير ضيف الله- الذي يرى أنّه بمجرد رحيل سعيّد عن سدّة الحكم أو ضعفه فإنّ كلّ البناء سيتداعى إلى السقوط لاسيّما وأنّ الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة لم تشارك في هذا المسار.

ويذكر محمد ضيف الله أنّ الرئيس بن علي لم يستقرّ له الوضع رغم نجاحه في استفتاء 2002، فقد عرفت البلاد التونسية تشكّل هيئة 18 أكتوبر المعارضة فضلا عن انتفاضة الحوض المنجمي في 2008. لقد كان الاستفتاء بداية لفترة من الاهتزازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقتها والتي تعززت بتأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 وانتهت برحيله في جانفي/كانون الثاني 2011.

وعبّر ضيف الله عن خشيته من أنّ ما يحصل في تونس اليوم لا يتمّ لفائدة قيس سعيّد بل هو عتبة في انتظارها آخرون لكي ينطلقوا من حيث وصل هو في علاقة بالنظام الرئاسي الذي يتحكّم فيه شخص واحد بجميع السلطات ومن خلاله يتم تمرير كل شيء. ويشير محدثنا في هذا المضمار إلى اشتراطات صندوق النقد الدولي التي قد تمرّر في ظلّ سلطة يستأثر بها شخص واحد بينما لو تتمّ عملية مناقشة رفع الدعم في برلمان تعدّدي فإن ذلك لن يمرّ.

ويشير ضيف الله إلى أنّ هذا بالفعل “ما كان يتم في عهد بن علي الذي قام بالتفويت في العديد من المؤسسات العمومية بجرّة قلم، كما أن الكثير من البرامج الاقتصادية تمّ تمريرها بفضل النظام الرئاسي في زمن بورقيبة كانت نتائجها وخيمة، وفق تعبيره.

ويرى المؤرخ الجامعي محمد ضيف الله أنّ الحرّية في الوقت الحالي هي “مفروضة فرضا” وأنّ مرور الدستور بهذه الطريقة “قد يفتح الباب للعودة إلى الوراء” في وضعية تشبه ما كانت عليه زمن بن علي وفق وصفه.

ويضيف في هذا الإطار:” المؤشرات بسيطة ولكنها هامة. أن تظهر هيئة وطنية للدفاع عن الحرّيات في الوقت الحاضر برئاسة العياشي الهمامي ففي هذا توقّع واستشراف للوضعية التي يمكن أن تصبح عليها البلاد.النخب تتوقع ذلك. الاتحاد العام التونسي للشغل موقفه كان مساندا واليوم أصبحت له احترازات”.

المنظمة الشغيلة هي محرار ولا يجب أن ننسى أن اتحاد الشغل تأسس قبل الدولة الوطنية المستقلة.

المؤرخ الجامعي محمد ضيف الله

قبل وصوله إلى كرسي رئاسة الجمهورية في قصر قرطاج، عبّر أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد في مداخلة شهيرة له عن إحدى الأمنيات التي أسرّ بها لطلبته قائلا: ” قلت في كثير من المناسبات للطلبة، أتمنى أن أعيش يوما واحدا أرى فيه استفتاء سلبيّا في احدى البلدان العربية. الشعب يقول لا. لماذا نرى الشعب يقول لا في هولندا وفرنسا وبريطانيا وفي سويسرا؟ إلا في بلداننا العربية بالرقم الذي كان معهودا 99 بالمائة والذي صار اليوم أقل بقليل ولكن في أكثر الحالات أكثر من 80 بالمائة. الاستفتاءات هي نوع من الانتخاب غير المعلن لرئيس الدولة. لا يتمّ الاستفتاء حول المشروع ولكنه يتمّ حول صاحب المشروع”.

فهل يمكن أن تتحقّق أمنية الأستاذ قيس سعيّد هذه المرة في تونس بعد أن أصبح رئيسا للدولة؟

كلمة الكتيبة:

يسعى موقع الكتيبة الى تقديم المعلومة الى الرأي العام من زوايا مختلفة بعيدا عن الانحياز الى زاوية أو أخرى، وذلك من أجل تمكين جمهورنا من أدواة سليمة للتحليل واستقراء الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبناء موقف سليم بعيدا عن تأثيرات البروباغندا والحملات الاتصالية أحادية الجانب.

كلمة الكتيبة:
يسعى موقع الكتيبة الى تقديم المعلومة الى الرأي العام من زوايا مختلفة بعيدا عن الانحياز الى زاوية أو أخرى، وذلك من أجل تمكين جمهورنا من أدواة سليمة للتحليل واستقراء الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبناء موقف سليم بعيدا عن تأثيرات البروباغندا والحملات الاتصالية أحادية الجانب.

الكاتب : محمد اليوسفي

تدقيق: وليد الماجري
بحث: رحمة الباهي
غرافيك: منال بن رجب
تصوير: رأفت عبدلي
مونتاج: حمزة الفزاني
تصوير: رأفت عبدلي
مونتاج: حمزة الفزاني
تدقيق: وليد الماجري
بحث: رحمة الباهي
غرافيك: منال بن رجب

الكاتب : محمد اليوسفي

Youssoufi