الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتبة : غادة الزواري
صحفية وباحثة حائزة على ماجستير في الصحافة الاستقصائية
عندما خيّرت القيام بتدريب ختم الدروس الجامعية ببنك تونس العربي الدولي BIAT، لم يخطر ببالي لحظة واحدة أنّ هذا التدريب سيكون منطلقا لتجربة مهنيّة مريرة أدخلتني في وضع نفسي معقّد.
بشيء من الحسرة ونبرة حانقة، تروي سوار (اسم مستعار) حكايتها وإحدى شركات المناولة التي قامت بإغرائها بوجود وظيفة شاغرة لها في ذات البنك الذي سبق وأن قامت فيه بتدريب مهني في إطار دراسي بحت.
تقول سوار إنّ الأمر بدأ بعد ثلاثة أشهر من تدريبها، أين تفاجأت باتّصال من شركة تحت مُسمّى آديكو Adecco تعرّف نفسها على أنّها متخصّصة في الموارد البشرية.
أبلت سوار البلاء الحسن خلال فترة التدريب بالبنك المذكور، ما جعلها تعتقد أنّ البنك هو من رغب في انتدابها لما قدّمته من حسن سيرة وانضباط مهني.
هذا الظنّ الأوّل الذي ذهبت اليه سوار سرعان ما تلاشى بعد أن تمّ الزّج بها في مسار مهني لا يوفّر لها أدنى مقوّمات العيش الكريم لفترة دامت أربع سنوات كاملة قبل أن يتم إنهاء التعاقد معها دون تقديم أي مبرّر لذلك.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتبة : غادة الزواري
صحفية وباحثة حائزة على ماجستير في الصحافة الاستقصائية
عندما خيّرت القيام بتدريب ختم الدروس الجامعية ببنك تونس العربي الدولي BIAT، لم يخطر ببالي لحظة واحدة أنّ هذا التدريب سيكون منطلقا لتجربة مهنيّة مريرة أدخلتني في وضع نفسي معقّد.
بشيء من الحسرة ونبرة حانقة، تروي سوار (اسم مستعار) حكايتها وإحدى شركات المناولة التي قامت بإغرائها بوجود وظيفة شاغرة لها في ذات البنك الذي سبق وأن قامت فيه بتدريب مهني في إطار دراسي بحت.
تقول سوار إنّ الأمر بدأ بعد ثلاثة أشهر من تدريبها، أين تفاجأت باتّصال من شركة تحت مُسمّى آديكو Adecco تعرّف نفسها على أنّها متخصّصة في الموارد البشرية.
أبلت سوار البلاء الحسن خلال فترة التدريب بالبنك المذكور، ما جعلها تعتقد أنّ البنك هو من رغب في انتدابها لما قدّمته من حسن سيرة وانضباط مهني.
هذا الظنّ الأوّل الذي ذهبت اليه سوار سرعان ما تلاشى بعد أن تمّ الزّج بها في مسار مهني لا يوفّر لها أدنى مقوّمات العيش الكريم لفترة دامت أربع سنوات كاملة قبل أن يتم إنهاء التعاقد معها دون تقديم أي مبرّر لذلك.
بهكذا أسلوب، تختار عدّة مؤسسات اقتصادية في تونس تشغيل يد عاملة ذات كفاءة في إطار قانوني هشّ مستعينة في ذلك بشركات وسيطة متخصّصة في الموارد البشرية تحترف التلاعب بعقود العمل.
يتغذّى هذا الوضع من الصمت المريب الذي تنتهجه الأجهزة الحكومية التونسية والتي لا تحرّك ساكنا أمام ما يتعرّض له آلاف التونسيين.ـات من استغلال فاحش جرّاء هذه الشركات.
فمن هي هذه الشركات المتخصّصة في الموارد البشرية؟ وكيف هي العلاقة التي تجمعها بالمؤسسات الاقتصادية التونسية؟ ماذا تقول القوانين التونسية في خصوص عقود العمل الهشة؟ وهل الوساطة في انتداب الموظفين.ـات تقود بالضرورة إلى هضم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية؟
في هذا المقال نسعى الى الإجابة على جملة هذه الأسئلة استنادا إلى عدد من الشهادات الحيّة التي وثّقها موقع الكتيبة والتي واجه بها مسؤولين بوزارة الشؤون الاجتماعية وعدد من مديري شركات المناولة.
أرباح طائلة للبنوك تخفي أوضاعا مهنية مزرية
في إطار العمل على ضبط موازنتها المالية والحفاظ على نسبة هامة من الأرباح القطاعيّة، تقوم البنوك بانتهاج سياسة تفضي إلى تخفيض كتلة الأجور وذلك عبر التصريح بأقلّ عدد ممكن من الموظفين العاملين بها.
للوصول إلى الهدف المرجوّ، تتعاقد أغلب البنوك التونسية مع شركات متخصّصة في الموارد البشرية في إطار عقد إسداء خدمات يلزم هذه الشركات بتوفير الخدمات التي تطلبها البنوك، وهذا ما يعفي هذه الأخيرة من أية التزامات مع أي موظف باعتباره مسدي خدمات متعاقد مع شركة أخرى.
يقبل عادة كل الذين تعاقدوا مع شركات مناولة في إطار عقود إسداء خدمات إلى البنوك بالأوضاع الهشة التي توفرها لهم تلك العقود، على أمل أنّ يقع انتدابهم بشكل رسمي في البنوك التي عملوا فيها والتمتع بما يتمتع به موظفوها.
هذا الاعتقاد أو الأمل الذي يعيش به أغلب من تمّ توظيفه عن طريق شركات مناولة، ينتهي في أغلب الأحيان بمآسي وبشكل غير إنساني.
يتّضح ذلك من خلال الشهادات الحيّة التي وثّقها موقع الكتيبة مع عدد من الذين يتمّ استغلالهم/هنّ لسنوات في إطار عقود عمل هشّة وطردهم/هن بالرغم من أنهم/هن لم يدّخروا أي جهد في الالتزام بالمهام المنوطة بعهدتهم/هن والمنصوص عليها بالعقود، حتى أنهم/هن يبذلون جهدا إضافيا على أمل انتدابهم/هن بشكل رسمي.
من بين هؤلاء محدّثتنا سوار (اسم مستعار) التي روت لموقع الكتيبة بشكل مفصّل كيف تعاملت شركة “آديكو” معها ومع زملائها.
تقول سوار إنّ البداية كانت من خلال تلقّيها اتصالا من رقم غير مسجّل على هاتفها، وبعد إلقاء التحية تفاجأت أنّ محدّثتها عبر الهاتف تعرف اسمها ولقبها العائلي وحتى سنة التخرّج الجامعي.
” لم أكن أبحث عن عمل ولم أقم بمراسلة أي جهة ما للبحث عن العمل، عندما ذكرتني المتحدّثة عبر الهاتف بالاسم واللقب ذهب ظنّي إلى أن البنك الذي قمت فيه بالتدريب يرغب في ضمّي إلى فريقه لأنّني وببساطة لم أسمع بالمرّة عن شركة آديكو واعتقدت أنها تتبع البنك”.
سوار
ظنّت سوار بأنّ البنك هو من رغب في انتدابها تعزّز بمكالمة هاتفية تلقّتها منه في نفس اليوم الذي اتصلت فيه شركة “آديكو” بها. لكنّ الأمر لم يكن كذلك بالمرّة.
وفق ما اطلعنا عليه من وثائق رسمية، ظلّت سوار في وضعية المتدرّبة لمدّة سنة كاملة دون أن تتحصّل على ما يفيد التعاقد بينها وبين شركة آديكو ولا ما يفيد أنها تعمل بشكل رسمي بإحدى فروع البنك.
اللافت للانتباه في المسار المهني لسوار داخل الفرع البنكي أنّها كانت تعمل دون عقد قانوني ولفترة محدّدة تتراوح بين الشهر والثلاثة الأشهر وما بين فترة وأخرى يتم تسريحها لمدّة أسبوع أو عشرة أيّام ولا تتلقّى نظير ذلك سوى شهادة في التدرّب مع أجر يقدّر بـ 400 دينار يمنح لها بصفتها متدرّبة موسمية.
طمعا في أن يقع انتدابها بشكل رسمي، تحلّت سوار بالصبر رغم الوضع الضبابي الذي كان يحف بعلاقتها مع البنك والشركة في ذات الوقت.
بعد مرور سنة كاملة، قدّمت شركة “آديكو” أخيرا عقدا رسميا لفائدة الشابة المتخرّجة حديثا، لكنّه كان يحمل في طياته صدمات أخرى لسوار الحالمة بفرصة عمل قارّ تحفظ لها كرامتها وتتماشى ومؤهلاتها العلمية.
ينصّ العقد على تشغيل سوار الحاملة للإجازة في علوم المحاسبة كعون استقبال (Hotesse d’accueil) تتولّى تنظيم الصفوف وإرشاد الحرفاء.
العقود التي ظلّت سوار تمضيها لمدّة ثلاث سنوات كانت هي الأخرى لا تتجاوز مدّتها الثلاثة أشهر وما بين فترة وأخرى كان يتمّ تسريحها لمدّة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيّام ومن ثم يقع الاتّصال بها مجدّدا للعمل بذات الفرع لكن بمهمّة أخرى.
حرصا منها على تعزيز فرصتها في إمكانية توظيفها رسميا بالبنك العربي الدولي بتونس، واصلت سوار دراستها الجامعية بالتزامن مع عملها بالبنك في ظلّ تلك الظروف غير القانونية وغير الإنسانيّة وتحصّلت فعلا على شهادة الماجستير.
رغم كل ما كابدته من عناء ومشقة للظفر بوظيفة داخل البنك وهو ما كانت تحلم به فعلا، أنهت شركة “آديكو” العلاقة التعاقدية مع الشابة التي كانت في عقدها الثالث لتدخلها في حالة نفسية متأزّمة خاصة مع رفض البنك الذي عملت فيه لمدّة أربع سنوات متتالية منحها فرصة في الانتداب.
تقول سوار في ختام عرض شهادتها لموقع الكتيبة:
بعد 4 سنوات من العمل، أنهى البنك مهامي دون انتدابي ودون عذر يسمح بطردي. حاول زملائي بالفرع البنكي وحتى المدير نفسه التدخل لفائدتي لدى قسم الموارد البشرية بالمقر الرئيسي وإقناعهم بحسن انضباطي وأحقّيتي في فرصة الانتداب إلا أنّ مساعيهم باءت بالفشل.
لا يتعلّق الأمر بشركة “آديكو” وبنك تونس العربي الدولي فقط، فأغلب البنوك التونسية بما في ذلك تلك التي تساهم الدولة في رأسمالها تتعامل جميعها مع شركات متخصّصة في الموارد البشرية لتوظيف إطارات وعمّال مؤقتين بها في إطار عقود إسداء خدمات.
شهادة أخرى كان قد تحصّل عليها موقع الكتيبة لشابّ تونسي يدعى ” فؤاد” يعمل كعون شباك بأحد فروع البنك العربي لتونس. يقول فؤاد إنّه متعاقد منذ ثلاث سنوات مع مؤسسة “مان باور” وهي من أشهر المؤسّسات المتخصّصة في الموارد البشرية والمناولة في تونس.
وفق ما عاينه موقع الكتيبة من وثائق وعقود وشهائد عمل تحصّل عليها الشابّ الثلاثيني، يتّضح أنّ العام الأوّل من عمله داخل الفرع البنكي كان هو كذلك خارج أيّ إطار قانوني بفترات عمل متقطعة يتحصّل في ختام كلّ فترة على شهادة في التدريب المهني يُسندها إليه البنك.
الاختلاف الوحيد بين وضعيّة فؤاد وسوار أنّ الشابّ الثلاثيني تمكّن بعد سنتين من العمل من التمتّع بامتيازات ومنح وأجور قريبة من تلك المُسندة إلى المنتدبين من البنك مباشرة.
يُفسّر فؤاد هذا الفرق في التعامل بين وضعيّته ووضعيّة سوار بأنّه كان “محظوظا بوجود نقابة أساسية قوّية” داخل البنك العربي لتونس التي فرضت على شركة “مان باور” والبنك نفسه تطبيق بنود الاتفاقية القطاعية للبنوك التي تتضمّن فصولا تجبر المؤسّستين على منح الموظفين عن طريق شركات المناولة نفس امتيازات الموظفين القارّين بالبنك.
ينتظر فؤاد إتمام سنته الرابعة لانتدابه بشكل رسمي من طرف البنك معوّلا في ذلك على النقابة التي ينتمي إليها والتي كانت قد هدّدت بالدخول في إضراب عامّ عن العمل ما لم يلتزم البنك بالاتفاقية القطاعية المُشتركة التي تنصّ على ضرورة انتداب كل الحالات الشبيهة بفؤاد وتمتيع حديثي التعاقد بحقوقهم كاملة.
أعوان الحراسة وعاملات النظافة: تمثّلات بارزة للقهر الاجتماعي
ما يتعرّض له آلاف التونسيين.ـات حديثو التخرّج الجامعي من معاملة سيّئة في أغلب البنوك التونسية وباقي المؤسسات الاقتصادية، يبدو هيّنا نوعا ما أمام ما يتعرّض له عمّال وعاملات الساعد من عاملات نظافة وأعوان حراسة وتقنيين، عشرات الآلاف منهم يقبعون تحت ظروف اجتماعية مُزرية عمّقت المعاملة السيّئة والأوضاع المهنية الهشة معاناتهم.
ولئن كانت أوضاع هؤلاء معلومة لدى الجميع، إلاّ أنّ موقع الكتيبة اختار سرد بعض الأمثلة الحيّة للوقوف على الحيف الذي يتعرّض له كثير من التونسيين.ـات جرّاء السّكوت المريب من أجهزة الدولة تُجاه ما تقترفه بعض مؤسّسات التشغيل بالمناولة والمؤسسات المتعاقدة معها من أفعال يجرمها القانون.
معز (اسم مستعار)، رجل ستّيني يتقن أكثر من لغة حيّة أبرزها الفرنسية ولمدّة تزيد عن ثلاثين عاما ظلّ يشتغل عون حراسة لدى أكثر من مؤسسة أجنبية موجودة في تونس. بالرغم من مراكمة التجربة والخبرة يتقاضى وهو على مشارف التقاعد 640 دينارا (200 دولار) شهريّا.
يقول معزّ في معرض شهادته لموقع الكتيبة انّ بداياته كانت مع إحدى الشركات الأجنبية المتخصّصة في مجال الحراسة والأمن أين تلقّى تدريبا مكثّفا حول تقنيات الحراسة والأمن. الملاحظ من خلال شهادة الرجل الستيني أنّه تجنّب الحديث بشكل مفصّل عن أوضاعه الاقتصادية وما يتقاضاه من أجر متدنّ مقارنة بساعات العمل التي يقضّيها في مركزه، مظهرا عزّة نفس وأنفة.
ما يؤلمني حقّا أكثر من الوضع الاقتصادي الهش، جهل الناس بمفهوم عون الحراسة حيث يعتبرونني بوّابا أو كما نقول في لهجتنا التونسية “عسّاسّ” وهو ما يدلّ على النظرة الدونية التي ينظر بها أغلب الناس تجاه أعوان الحراسة.
معزّ عون حراسة بمؤسسة أجنبية
لمدّة ثلاثين عاما، تجوّل الرجل الستيني بين أكثر من مؤسسة أجنبية، وكان قد اشتغل قبلها سنوات طويلة عونَ حراسة في مؤسسات خارج تونس عندما كان مهاجرا. هذه التجربة المتنوعة مكّنته من القيام بالمقارنة بين ظروف العمل في تونس وخارجها.
وبما أنّه كان متابعا وناشطا في الحراك الاجتماعي المُطالب بوقف معاناة المتعاقدين بالمناولة في تونس قدّم معزّ لموقع الكتيبة تفاصيل كثيرة حول طبيعة نشاط المؤسسات التونسية المتخصّصة في مجال الحراسة والخدمات.
يقول معز إنّ أغلب الشركات التونسية المتخصصة في المجال على رأسها قيادات أمنية وعسكرية متقاعدة لهم من النفوذ الشيء الكبير للسيطرة على المجال وفرض شروطهم وطرق عملهم.
عندما تمّ انتدابي من طرف الشركة التي أعمل بها حاليّا وهي فرع عن مؤسسة فرنسية كانت الأخيرة تريد أن تُضفي على معاملاتها وعقودها التي تقدّمها لأعوانها حدّا أدنى من ظروف العمل اللائق كما تفرضه القوانين الفرنسية، لكن البيئة التونسية لا تسمح بذلك.
معزّ عون حراسة بمؤسسة أجنبية
بالرغم من أنه يعمل ساعات إضافية لا يتمّ احتسابها وبأجر شهري متدنّ، يتمتع معزّ بتغطية إجتماعية وهو ما يجعله محظوظا مقارنة بآلاف من زملائه الذين يعملون لحساب شركات تونسية الذين لا يتمتعون بتغطية اجتماعية واستقرار وظيفي فضلا عن مرتب لا يتعدّى الأجر الأدنى المضمون المقدّر بـ 430 دينار.
هذه الظروف غير الطبيعية تتعمّق أكثر بمجرّد إلقاء نظرة على عاملات النظافة اللواتي يتمّ استغلالهن بشكل فاحش من طرف الأشخاص والمؤسسات التي توظفهنّ.
منذ سنة تقريبا، توفيت “جنّات” عاملة نظافة بإحدى الشركات المتخصصة في الخدمات والمتعاقدة مع إحدى شركات النقل العمومي، بعد إصابتها بجرثومة خطيرة تلقفتها حسب تقرير الأطباء من مكان متّسخ، قضت عليها في غضون 4 أشهر فقط.
تقول شيماء ابنة الفقيدة إنّ والدتها كانت تنهض مع فجر كلّ يوم لتتجوّل في أكثر من محطّة نقل مركزية للقيام بواجباتها المهنية المتمثلة في التنظيف، ولا تعود إلى المنزل إلا بعد الساعة الرابعة بعد الزوال.
كلّ هذا الجهد كان مقابل أجر شهري مقدّر بـ 480 دينار.
شيماء ابنة عاملة نظافة
بالرغم من أنّ زوجها في وضعية بطالة وبالرغم من أنّها كانت تتمتع بتغطية اجتماعية ولها ثلاث بنات لم يتجاوزن بعد الـ 18 عاما، انقطعت جراية عاملة التنظيف جنات بمجرّد وفاتها.
من هي شركات التوظيف وكيف تعمل؟
بالنظر إلى مختلف هذه الأمثلة الموزّعة بين إطارات بنكية وأعوان حراسة وعاملات نظافة وغيرهم، يتّضح أنّ النقطة المُشتركة بين كل هؤلاء تكمن في الأجور المتدنية والمتقاربة وهو ما يوضّح التوجّه الاستغلالي لمختلف هذه الشركات المتخصّصة في إسداء الخدمات سواء كانت كبرى أو برأس مال محترم أو شركات صغرى وهو ما يقود ضرورة إلى التمعّن في الإطار التشريعي والمؤسساتي المنظم لنشاط هذه الشركات.
بصرف النظر عن الحالة التونسية، فإنّ قطاع توظيف العمالة ينتشر في سائر دول العالم حيث يبلغ معدّل تشغيل هذه الشركات في فرنسا مثلا 30% من إجمالي العمالة النشيطة، لكنها في ذات الوقت تعمل وفق قوانين صارمة تمنع على هذه الشركات الاستغلال الفاحش لليد العاملة.
في لقائها بموقع الكتيبة توضح المحامية المتخصصة في القوانين الشغلية إيمان دالي، أنّ هناك نقطة يجب التوقف عندها تتعلّق بالفرق بين المناولة باليد العاملة وبين المقاولة في النشاط الأصلي، مشيرة الى أنّ المناولة باليد العاملة مجرّمة قانونا وتخالف ما صادقت عليه تونس من اتفاقيات دولية تمنع هذا، أفي حين إنّ مقاولة النشاط الأصلي وغير الأصلي، وفق شرحها، شروطها معلومة وتقتصر على عقد اسداء خدمات بين شركة مقاولة يُفترض أن يكون لديها عمّال قارّون في الاختصاص الذي تنشط فيه المؤسسة الراغبة في التمتع بالخدمة.
في تونس، برز مفهوم المناولة أوّلا في القطاع العام، قبل أن يسلك طريقه نحو القطاع الخاص، وذلك بُعيد صدور الأمر 49 المؤرخ في 16 جانفي 1996 والمتعلّق بضبط محتوى مخططات تأهيل الإدارة وطريقة إعدادها وإنجازها ومتابعتها، الذي فسح المجال أمام الإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية للتخلي عن بعض المهام التي لا تدخل ضمن أنشطتها الأصلية لفائدة شركات خاصة، وبوّب هذه المهام ضمن 4 اختصاصات يمكن المناولة فيها وهي الحراسة والتنظيف والتكوين والرسكلة وكل نشاط آخر وهو المصطلح الذي فتح المجال أمام تزايد عدد الشركات المتخصصة في المناولة باليد العاملة بشكل كبير.
أدّت الآليات المنبثقة عن هذا الأمر والمتّصلة بطرق انتداب عمال الحضائر وأعوان الحراسة وعاملات التنظيف إلى وضع اجتماعي حارق انفجر بُعيد ثورة جانفي 2011، ما دفع الحكومة الانتقالية في ذات العام برئاسة الباجي قائد السبسي إلى إبرام اتفاق مع كل من الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة يقضي بتسوية وضعية أكثر من 31 ألف عامل وعاملة.
هذا الاتفاق ولئن طُبّق بشكل نهائي على مستوى الإدارات العمومية، إلا أنّ إشكاليات طرأت في تطبيقه على مستوى بعض المنشآت العمومية وتعطل تطبيقه في مستوى المؤسسات الاقتصادية الخاصة، بما زاد في تعقيد الوضع بعد تزايد أعداد الشركات المتخصّصة في خدمات النظافة والحراسة واختصاصات أخرى على غرار الخدمات المالية والبنكية، وهو ما رفع في أعداد العمالة الهشّة بشكل غير طبيعي.
ولئن وضعت الدولة التونسية إجراءات صارمة في خصوص العلاقة التعاقدية التي تتولّى الإدارات والمنشآت العمومية إبرامها مع شركات خاصّة ومتخصّصة بالمناولة في اليد العاملة إلا أنّ الأمور ومنذ بداياتها كانت منفلتة.
يتّضح هذا في مذكّرة صادرة في عام 2002 عن الوزير الأوّل آنذاك التي دعا فيها منظوريه من وزراء ورؤساء إدارات ومنشآت عمومية الى ضرورة التثبت في استجابة الشركات الخاصة للشروط المنصوص عليها والمتمثلة أساسا في تأمين العمَلة وتسوية وضعياتهم مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
من هنا، بدأت قصّة المناولة في تونس وفاقمت أوضاعا غير طبيعية يتوجّب على الدولة وأجهزتها وبرلمانها التدخّل عبر إجراءات تشريعية حقيقية لوقف هذا النزيف.
خلقت هذه الوضعية الضبابية بيئة عمل يمكن وصفها بـ “المسمومة” لا يمكن لأيّ كان أن يشعر فيها بالاستقرار الوظيفي والاجتماعي.
اليوم أضحت شركات المناولة في تونس تقريبا مكاتب تشغيل تلعب ذات الدور في انتداب وتوظيف اليد العاملة بالرغم من أنّ القانون يمنع عنها ذلك.
تفتح هذه الشركات صفحاتها الرسمية ومواقع إلكترونية مثل Tanitjobs، LinkedIn، Jobs، وKeejob لنشر عروض العمل والانتدابات في مختلف القطاعات والاختصاصات، خاصة في المؤسسات المالية والبنكية العامة والخاصة. كما تستخدم مختلف الوسائط مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وتفتح مكاتب داخل تونس وخارجها وفي العديد من الولايات التونسية، بالإضافة إلى أنها تقوم بتوظيف العمالة في الخارج.
تقوم هذه الشركات بتدريب المنتدبين من خلال دورات تدريبية مجانية في مراكز تدريب تابعة لها. في حين إنّ المتدرّبين لا يدفعون أي رسوم، تتقاضى الشركات مقابل هذه الخدمة من المؤسسات البنكية المشغلة، مثل البنك الذي سيقوم بانتداب هؤلاء الإطارات.
علاوة على ذلك، تقوم هذه الشركات ببرامج إذاعية مخصصة للدعاية والحديث عن قصص نجاحها مع أبرز المؤسسات الداعمة لها. كما تنظّم حملات إشهارية في الجامعات الخاصّة والعامة لاستقطاب فئات مختلفة من العاطلين عن العمل وأصحاب الشهادات العليا.
تعليقا منها على الإطار المنظّم لعمل هذه الشركات، تقول الأستاذة المحامية إيمان داي دالي إنّ شركات المناولة تنتشر بشكل غريب ويتمّ بعثها وتنشط فعلا دون رقيب أو حسيب مستغربة صمت الأجهزة الحكومية عن هذا الوضع القانوني غير الطبيعي الذي يتفاقم يوما بعد يوم.
تنشط في مجال مناولة اليد العاملة آلاف الشركات التي يتم إحداثها بإجراءات مبسطة ودون تعقيدات إدارية، بما أفضى في النهاية إلى وجود صعوبة في جرد أعدادها ومراقبتها بالشكل الذي يجب أن يكون عليه ووفق ما تنص عليه التشريعات في ضرورة احترام الإلتزامات تُجاه صندوق التضامن الأجتماعي لتأمين العملة.
جوابا منه على سؤال يتعلّق بعدد هذه الشركات وأصنافها أفاد المدير العام للضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الإجتماعية نادر العجّابي، في مقابلة مع موقع الكتيبة، بأنّه:
هناك أرقام حصرية لا يمكن حاليًا الكشف عنها إلى حين إتمام اللجنتين المعنيتين التحقيق في عدد المشتغلين بمناولة اليد العاملة ومناولة الخدمات أعمالها.
نادر العجابي، المدير العام للضمان الاجتماعي
وتُشير بعض المعطيات غير الرسمية إلى أنّ القطاع العام يشغّل نحو50 ألفا بين عمال وموظفين في أشكال مختلفة من مناولة اليد العاملة، فيما يلوح الرقم أكبر بكثير في القطاع الخاص، وفق مصادر نقابية.
عدد من شركات التوظيف تتفاعل
شيرين العايش، وكيلة شركة “مان باور”، وعضو في منظمة “كوناكت”، أوضحت في لقاء جمعنا بها طرق التوظيف التي تتبعها الشركة.
تقول وكيلة الشركة لموقع الكتيبة: “مان باور هي شركة عالمية تعمل على توظيف عدد كبير من الموظفين في العديد من القطاعات، بما في ذلك التجارية والصناعية والغذائية. من بين هذه القطاعات، تقوم الشركة أيضًا بالتوظيف في المؤسسات البنكية، حيث نوفر توظيفًا للنشاط الأصلي والنشاط غير الأصلي حسب الطلب. يتمّ تحديد الأجور بناءً على نوع النشاط. وعلى سبيل المثال موظفو البنك أجورهم تسدّد وفق الاتفاقيات المشتركة في هذا القطاع، ويتمّ إبرام عقود مناولة مؤقتة مع مان باور، بينما يمكن ترسيم الموظفين عبر عقد عمل CDI ليصبحوا موظفين قارّين مع مان باور، ولكنّهم يعملون مع بنك أو شركة تحتاج إلى موظفين بشكل مؤقت”.
وتضيف “نحن نقوم بدفع الأجور وتوفير كافة المستلزمات للموظف بدلًا من البنك، ونحقق أرباحنا عن طريق اقتطاع نسبة من أجور الموظفين شهريًا، وفقًا لاتفاق مع البنك. كما نقدّم دورات تدريبية لموظفي البنك بمقابل يسدده البنك.”
في نفس السياق، كان لموقع الكتيبة لقاء آخر مع وكيل شركة Artus، مهتدي مباركي، الذي اعتقد في البداية أننا سنقوم بحملة دعائية لهذه الشركة.
يقول محدّثنا إنّ “Artus” هي شركة عالمية فرنسية تعمل في مجال التوظيف المؤقت في تونس وستصبح قريبًا شركة توظيف بالخارج رسميًا بوزارة التشغيل.
تقوم Artus بتوظيف اليد العاملة وتوفير التشغيل الوقتي والدائم من خلال عقود عمل مؤقتة تبرمها مع الشركات، ولا تستطيع ترسيم الموظفين، ويمكن للشركات المستفيدة توظيفهم وترسيمهم بعد مرور 4 سنوات وفقًا للاتفاقيات القطاعية المشتركة. وتقوم بدفع الأجور وفقًا للاتفاقيات القطاعية المشتركة، وتحصل على عمولة -لم يفصح عن نسبتها المائوية- من كل أجر يتم سداده لها من الشركات المستفيدة، وفق قوله.
وبمجرّد أن قام فريق الكتيبة بطرح أسئلة حول نشاط الشركة وما إذا كانت طريقة إبرام العقود مع شركة المناولة في النشاط الأصلي أو غير الأصلي قانونية، خاصّة عند توظيف العمال في مؤسسات مخالفة، أنهى مهدي مباركي المقابلة معنا معتبرا اننا لسنا متفقدي شغل.
موقع الكتيبة كان قد حاول الاتصال بكل الوسائل الممكنة بكل من شركة “آديكو” و”كريت” لكنهما رفضتا التفاعل مع طلبات واتصالات الموقع.
يذكر أنّ مسؤول مجموعة “أديكو” في تونس مهدي العيادي كان قد هدّد ضمنيا بمقاضاة فريق الكتيبة في حال نشر أي محتوى متعلّق بشركة المناولة التي يمثلها، معتبرا أنّه ليس من حقّ الصحفيين مساءلته حول مدى قانونية نشاط “أديكو” التي يقدمّها في اطلالاته الاعلامية في بعض الإذاعات التجارية على أنّها شركة رائدة في حلول الموارد البشريّة.
النقابات في قفص الإتهام
في جواب تكرّر على لسان أكثر من ضحيّة حول دور النقابات في الدفاع عن مصالحهم، يقول محدّثو موقع الكتيبة من ضحايا المناولة إنّ “النقابات تعمل وفق الولاءات وفي أغلب الأحيان تسبّق مصالح أعضائها على مصالح العمال والموظفين”.
تعليقا منه على الانطباع العام لدى هؤلاء، قال سامي الصالحي الكاتب العام المساعد بالجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية -الإطار الجامع لكافة النقابات الأساسية في قطاع البنوك والمؤسسات المالية- في لقاء جمعه مع موقع الكتيبة إنّ “هناك مساع كبيرة تبذلها الجامعة لتسوية أوضاع المئات ممن يشتغلون عن طريق المناولة في قطاع البنوك”، مشددا على أنّ “الأمر ليس بالهيّن”.
ويُضيف الصالحي أنّ المناولة في النشاط الأصلي تخالف الاتّفاقية الدولية لمنظمة العمل الدولي التي صادقت عليها تونس، مشددا على ضرورة تحقيق المساواة بين جميع الموظفين.
لا توجد مساواة في الأجور بين المنتدبين عن طريق شركات المناولة والعاملين بالبنك. يتمّ تنفيذ نفس النشاط والوظيفة، ولكن يختلف الأجر. كما يوجد تفاوت في وصولات الأكل بين الموظفين الذين يعملون في نفس المكتب، حيث يختلف سعر وصل الأكل لكل منهما، وهذا غير مقبول أخلاقياً ويمثل ممارسات غير عادلة بين الموظفين.
سامي الصالحي
وأوضح نفس المصدر أن بنك BIAT على سبيل المثال يقوم بالتشغيل عن طريق المناولة في النشاط الأصلي لما يقارب 500 موظف، ويجني أرباحاً بعشرات المليارات بعقود صورية، مشيرا إلى وجود استغلال فاحش في توظيف العاملين عن طريق شركات المناولة، حيث يتم استنزاف قدراتهم العلمية والمهنية والبدنية.
ويشدّد الصالحي بالقول إنّ الانتدابات في البنوك في النشاط الأصلي، أي الإطارات البنكية، تتمّ عن طريق المناظرة مع ترسيم الموظفين بعد فترة تربص وتدريب داخل البنك. وعند نجاح الموظّف في المناظرة حسب الصالحي، يتم تحديد الأجور ونسبة الزيادة فيها، وتمنح جميع الترقيات والامتيازات وفقاً لما تنص عليه الاتفاقيات القطاعية المشتركة التي تنظم القطاع البنكي والمالي.
قمنا بمحضر اتفاق في القطاع البنكي وشركات التأمين والجامعة العامة للمؤسسات المالية بتاريخ 2021 مع الجمعية المهنية للبنوك للقطع مع المناولة في النشاط الأصلي.. ومع ذلك، لم تلتزم BIAT حتى الآن بتعهداتها أمام الجمعية.”
سامي الصالحي
ويضيف الصالحي أنّ البنك التونسي الكويتي على سبيل المثال يقوم بالتشغيل عن طريق المناولة لكن بتوظيف اطارات باختصاصات أكاديمية وعلمية لا علاقة لها بالقطاع البنكي على غرار البنك التونسي الليبي المتعاقد مع شركة المناولة “كريت CRIT “.
يؤكد الكاتب العام المساعد بالجامعة العامة للبنوك أنّ التوجّه المعتمد من أغلب البنوك التي لا تُساهم الدولة في رأس مالها في التعاقد مع شركات مناولة يُعدّ منافسة غير عادلة مع البنوك العمومية على غرار بنك الإسكان والبنك الوطني الفلاحي الملتزمة بتطبيق الاتفاقيات القطاعية المشتركة في توظيف الإطارات ضمن نشاطها الرئيسي دون اللجوء إلى المناولة، ونفس الشيء فيما يهم صرف الرواتب.
وضرب الصالحي مثالا عن الوضعية التي عاينتها النقابة في مستوى البنك العربي الدولي بتونس مشيرا إلى أنّ موظفي البنك المُشار إليه والمتعاقدين مع شركة ” آديكو Adecco” كانوا قد نفّذوا إضرابا تلته وقفة احتجاجية وفق ما يضبطه القانون من ضرورة الإعلام المسبق بالإضراب، إلا أنّ البنك كان قد قام بهرسلتهم عن طريق إرساليات قصيرة وتهديدهم بفسخ عقودهم وفق قوله.
” التشغيل عن طريق المناولة يُعدّ استنزافًا لموارد الدولة، حيث انّ تسديد الأجور وفقًا لما تنص عليه الاتفاقية القطاعية المشتركة يسمح للبنك باستخلاص المساهمات المستحقة للصناديق الاجتماعية، بينما في حال التشغيل خارج نطاق هذه الاتفاقيات، يتم دفع مساهمات أقل.”
سامي الصالحي
وعن سبل حلحلة هذا الملف الشائك شدد أحمد الجزيري كاتب عام الجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية، بصفته المخاطب الرئيس مع سلطة الإشراف وجمعية البنوك والمؤسسات المالية على حصول اتفاق مع الجمعية المهنية للبنوك (CBF) لإنهاء التعامل مع المناولة في النشاط الخاص لها، وتم توقيع هذه الاتفاقية في 26 جويلية 2021، وذلك بعد إضراب نفذته النقابات لمدّة يومين بكافة المؤسسات.
“اتفقنا على أن البنوك ستنهي التعامل مع المناولة في النشاط الأصلي بحلول سبتمبر 2023. كما تلتزم البنوك بتقديم تقارير يومية بخصوص ترسيم الإطارات مع البنك مباشرة.”
أحمد الجزيري
وبيّنت وثيقة رسميّة تحصّل عليها موقع الكتيبة لمحضر اتفاق تكوين لجنة فنية مشتركة بين جمعية المهنية التونسية للبنوك و المؤسسات المالية والجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية لمراجعة الاتفاقية القطاعية على ان تختم أعمالها في 31 ديسمبر 2021.
وتهدف أعمال اللجنتين إلى إعداد مشروع اتفاقية تقضي بالتخلي عن الانتداب بواسطة شركات المناولة في النشاط الأصلي للبنوك والمؤسسات المالية وتسوية وضعية العاملين حاليا بالمناولة في النشاط الأصلي في البنوك والمؤسسات المالية عبر انتدابهم على مراحل وفي أجل أقصاه 31 ديسمبر 2023 وذلك بالنسبة الى المؤسسات المالية أو المؤسسات التي تشغل عدد كبير من الموظفين بهذه الآلية.
قام موقع الكتيبة بمراسلة رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية، ناجي الغندري، عدّة مرّات، بالإضافة إلى الاتصال بالكتابة الخاصة به لتحديد موعد للاستفسار وأخذ تصريح بشأن ما تم ذكره سابقًا، لكن لم نتلقّ أي استجابة.
بالرغم من تسقيف أعمال اللجان والاتفاقات المبرمة بين كافة الأطراف على ضرورة إنهاء معاناة موظفي وعمال المناولة في مؤسسات القطاع المالي إلا أنّ الوضع ظلّ على حاله.
أي دور لأجهزة الدولة لوقف النزيف؟
في مقابلة مع المدير العام لتفقدية الشغل في وزارة الشؤون الاجتماعية، نور الدين التريكي، أكّد أنهم أطلقوا حملة جرد لشركات المناولة وحالات التشغيل الهش في تونس، وذلك استنادًا إلى قرار من رئيس الجمهورية.
وأوضح التريكي خلال حديثه لموقع الكتيبة أنّ عملية البحث المتعلّقة بهذه المؤسسات لم تسفر عن العثور على بنك كافٍ من المعلومات، وبالتالي تمّ تشكيل لجنة أولى على مستوى رئاسة الحكومة للتفرغ للقطاع العام والمؤسسات العمومية، بالإضافة إلى لجنة ثانية برئاسة وزارة الشؤون الاجتماعية لجرد مؤسسات القطاع الخاص.
وفي هذا السياق، اعتبر محدثنا أنّ نشاط شركات المناولة اليوم ظاهرة واقعية في تونس، حيث تقوم هذه الشركات بتوظيف اليد العاملة والسمسرة بها، واستغلال هشاشة العمال ما يتعارض مع الفصول 28، 29، و30 من مجلة الشغل التي تنظم قطاع المناولة في البلاد، حيث تنص هذه الفصول على مناولة العمل لا اليد العاملة.
وأوضح التريكي أنّه يُمنع ممارسة نشاط مكاتب التشغيل في تونس من قبل شركات المناولة في انتداب وتوظيف أصحاب الشهائد العليا، موضحا أنّ شركات التوظيف بالخارج والوكالة التونسية للتشغيل هما الجهتان المرخص لهما قانونيًا والمكلفتان بالتوظيف في القطاع العمومي فقط. و يجب أن تتم الانتدابات مباشرة مع المؤسسة وليس مع شركة المناولة على غرار التجاوزات التي تمّ رصدها في عدة قطاعات.
يُضيف نفس المتحدّث أنه لا توجد إحصائيات لحصر عدد شركات المناولة وقيمة المداخيل التي يمكن أن تكون بمثابة خسائر للدولة بسبب غياب تقاطعات مع الوزارات الأخرى مثل وزارة المالية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والسجل الوطني للمؤسسات.
وفق التريكي جاءت هذه القرارات نتيجة لما رصدته التفقدية من عديد التجاوزات وتعدد النزاعات الشغلية التجاوزات التي وصلت أرقاما كبيرة، معتبرًا أنها ظاهرة لا يمكن إنكارها.
وأكد التريكي أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية “ليست على علم بهذه الاتفاقيات التي يتم إبرامها بين عدد من النقابات الأساسية ببعض البنوك ومؤسسات خاصة”، مشيرًا إلى أنّ “اتفاقيات بمثل هذا الحجم كان لابد أن تكون مدمجة في الاتفاقية القطاعية وبأطر قانونية، ليتم تتبعها من طرف الوزارة”، وفق قوله.
كل هذه التحرّكات على مستوى وزارة الشؤون الإجتماعية جاءت تبعا لتصريحات رئيس الدولة قيس سعيّد التي تطرّق فيها إلى عمال وعاملات المناولة المتعاقدين مع شركة الإتصالية للخدمات وهي شركة عمومية تُسدي خدمات لفائدة المؤسسات والإدارات العمومية في مختلف الإختصاصات.
قُبيل إقالته بأسبوعين، كان لموقع الكتيبة حوار مطوّل مع وزير الشؤون الاجتماعية السابق مالك الزاهي قال فيه إنّه “تبعا لتعليمات الرئيس سعيّد عكفت الوزارة على إعداد جملة من مشاريع القوانين وهي اليوم جاهزة للقطع من منظومة العمل الهش”، مشددا على أنّ “الرئيس سعيّد هو من سيتولّى الإعلان عن جملة هذه الإجراءات في إطار تحقيق وعوده التي قطعها على نفسه في أكثر من مرّة”.
إلى غاية اليوم لم تتعدّ تحرّكات الأجهزة الرسمية في تونس لحلحلة ملف المناولة مستوى التصريحات الخطابية وبعض التعليمات التي يسديها الرئيس سعيّد لحلحلة ملف مجموعة من العمال والعاملات هنا وهناك دون وجود أي تعاط جدّي ومعمق لحسم الملف.
يُعد توظيف العمال عبر شركات المناولة في تونس قضية حساسة تستدعي انتباهًا جادًا، خاصة عندما يتحول الأمر إلى انتهاك لكرامة العامل وأحيانًا إلى شكل من أشكال الاتجار بالبشر.
ورغم وجود اتفاقيات دولية ودستور تونسي يحمي حقوق الموظف وكرامته ، إلا أنّ الثغرات القانونية واستغلال هذه الشركات للأوضاع الراهنة يعكسان حاجة ملحّة إلى تشريعات أكثر صرامة ورقابة أشد لضمان احترام حقوق الإنسان. يجب أن تكون كرامة العامل وحقوقه الأساسية أولوية قصوى، ويجب على السلطات والجهات المعنية العمل على سد الثغرات وضمان تنفيذ القوانين لحماية جميع العمال.
يمثل هذا المقال جزءا من سلسلة مقالات تعنى بالقضايا الاجتماعية الحارقة والحقوق الشغلية المنتهكة في تونس.
يمثل هذا المقال جزءا من سلسلة مقالات تعنى بالقضايا الاجتماعية الحارقة والحقوق الشغلية المنتهكة في تونس.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : غادة الزواري
صحفية وباحثة حائزة على ماجستير في الصحافة الاستقصائية
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : غادة الزواري
صحفية وباحثة حائزة على ماجستير في الصحافة الاستقصائية