الكاتب : غفران حسايني
صحفي وباحث دكتوراه في الحضارة والإسلاميات، مدرب في مجالات القيادة وصناعة الرأي وبناء الخطاب البديل في مجابهة التطرف.
في صائفة 2019 ، وتحديدا في شهر جويلية/يوليو نشر المعهد الوطني للرصد الجوي تحذيرا يدعو فيه التونسيين إلى تجنّب السباحة في شواطئ الشمال الغربي والجنوب الشرقي لوجود رياح تصل سرعتها إلى 50 كلم في الساعة.
قد يبدو الخبر عاديا، إلا أنّ التفاعل معه في وسائل التواصل الاجتماعي كان غير عادي بالمرّة وأقرب إلى السخرية والتهكّم منه إلى التصديق، حيث اعتبر كثير من التونسيين ذلك شكلا من أشكال الدعابة التي هي أقرب إلى خبر زائف ، فالعديد منهم لا يعلمون في حقيقة الأمر بوجود ساحل بحري في الشمال الغربي للبلاد و في جنوبها الشرقي.
يفكك هذا المقال سرديات متداولة لطالما تم التسويق لها بشكل جعل خريطة البلاد و مجالها الترابي أشبه بعجينة صلصال تستعمل في تشكيل رسوم متحولة ومتغيرة . هذه السرديات التي يتناولها المقال بالتحقيق والتفكيك والنقد خلقت في المجال التونسي جغرافيا مزيفة مصطنعة حينا ومتخيلة حينا آخر عن غير وعي.
الكاتب : غفران حسايني
صحفي وباحث دكتوراه في الحضارة والإسلاميات، مدرب في مجالات القيادة وصناعة الرأي وبناء الخطاب البديل في مجابهة التطرف.
في صائفة 2019 ، وتحديدا في شهر جويلية/يوليو نشر المعهد الوطني للرصد الجوي تحذيرا يدعو فيه التونسيين إلى تجنّب السباحة في شواطئ الشمال الغربي والجنوب الشرقي لوجود رياح تصل سرعتها إلى 50 كلم في الساعة.
قد يبدو الخبر عاديا، إلا أنّ التفاعل معه في وسائل التواصل الاجتماعي كان غير عادي بالمرّة وأقرب إلى السخرية والتهكّم منه إلى التصديق، حيث اعتبر كثير من التونسيين ذلك شكلا من أشكال الدعابة التي هي أقرب إلى خبر زائف ، فالعديد منهم لا يعلمون في حقيقة الأمر بوجود ساحل بحري في الشمال الغربي للبلاد و في جنوبها الشرقي.
يفكك هذا المقال سرديات متداولة لطالما تم التسويق لها بشكل جعل خريطة البلاد و مجالها الترابي أشبه بعجينة صلصال تستعمل في تشكيل رسوم متحولة ومتغيرة . هذه السرديات التي يتناولها المقال بالتحقيق والتفكيك والنقد خلقت في المجال التونسي جغرافيا مزيفة مصطنعة حينا ومتخيلة حينا آخر عن غير وعي.
الواقع أصدق من الخرائط
ربّما لم يخطر ببال تلميذ في الشمال الغربي أن يجد نفسه مجبرا على استيعاب مفارقة في مناهج التعليم الرسمية حين يتناقض الدرس مع الواقع الذي يراه بالعين المجردة في حين تتضمّن دروس الجغرافيا أنّ الجهة التي ينتمي إليها تعتبر ولاية داخلية أي أنها لا تمتلك ساحلا بحريا، بينما على الواقع المعيش قد يقضّي هذا التلميذ نفسه الصيف سباحة في الشواطئ الممتدّة على أكثر من 51 كلم رمالا وجبالا وساحلا مرجانيا من مدينة نفزة إلى مدينة طبرقة.
ثمّ يكبر هذا التلميذ ويجد في نصوص التاريخ أنّ طبرقة أو طبراقا (Thabraca)كانت بدورها منذ القديم مصرفا تجاريا ساحليا للقرطاجيّين الذين قاموا بتأسيسها قبل 2800 سنة وأنّ سواحل الشمال الغربي كانت نقطة ارتكاز للقوات الفرنسية لاحتلال البلاد التونسيّة بعد القيام بإنزال بحري ضخم في 26 أفريل / أبريل 1881 اثر قصفها بالمدفعيّة وإحراق مساكن قبائل خمير المقاومة طيلة أيام من أثر القصف البحري.
هذه المفارقة العجيبة بين درس الجغرافيا وواقع الأرض وحقيقة التاريخ، لا تختلف كثيرا عن مضمون ما تبثّه وسائل الإعلام الرسميّة عن خارطة البلاد، فنشرة الأرصاد الجويّة التي تقدّمها التلفزة التونسية منذ عقود ويُعدّها المعهد الوطني للرصد الجوي، تبدأ فيها نشرة الملاحة البحريّة التي لا تتجاوز 25 ثانيّة في أغلب الأحيان من خليج تونس وتنتهي في خليج قابس وليس من سواحل طبرقة إلى سواحل مدنين.
و حتّى من يريد التعرّف على خارطة البلاد عبر موسوعة الويكيبيديا لا يجد معلومات كافية تذكر شواطئ البلاد بدقّة. فالساحل الشمالي، على سبيل المثال، في هذه الموسوعة المتاحة للعموم على الأنترنات، يتميز بأنه صخري مرتفع تجاوره أعماق بحرية وخلجان واسعة كخليج تونس ورؤوس كرأس الطيب، يلي ذلك سهول ساحلية ضيقة لاقتراب الجبال من البحر. أما الساحل الشرقي فهو ساحل رملي منخفض قليل التعاريج فيه خلجان واسعة كخليج الحمامات وخليج قابس وجزيرتي جربة وقرقنة. ولا يذكر هذا التعريف ولو بالإشارة سواحل الشمال الغربي ولا سواحل مدنين.
تونس بلد صغير جغرافيا في محيطه المغاربي على الأقل، ويمسح 164 ألف كلم مربع مقسّمة إداريا إلى 24 ولاية، ومن المفترض أن تكون خريطته الداخلية واضحة المعالم في أذهان المواطنين، ، إذ ليس من الصعب أن يحفظ المرء خريطة وطنه، ففي بلد يفاخر بنظامه التعليمي منذ الاستقلال لن يعجز بأي حال على تعليم أبنائه خريطة بلادهم في المدارس والمعاهد والجامعات، ولن يجد التونسيون أنفسهم مع الزمن يختلفون: أين تقع قبلي في الوسط أو في الجنوب؟ أو أين تنتهي سواحل البلاد في بنزرت شمالا أم في جندوبة غربا على حدود الجزائر؟ و أين تبدأ الصحراء وأين تنتهي على مشارف الحدود الليبية أو في مكان آخر؟
كلّ هذه الفرضيات الأقرب إلى المنطق تنتهي إلى هباء منثور في الواقع، فوجود خريطة لا مرئية في تونس هي أصدق من الخرائط على الأرض، وأقرب إلى عقول التونسيين وسلوكاتهم وعلاقاتهم بالجغرافيا، وفي ذلك أمثلة حيّة في ملفوظ كلام التونسيين وأقوالهم وأمثلتهم الشعبيّة، بما يجعل للبلاد شكلا آخر غير ذلك الرسم الذي نراه في الوثائق، فالتونسيون يقولون مجازا “تونس من بنزرت إلى بن قردان” وهذا ما يجعل أكبر ولاية في البلاد تختفي من الخريطة نهائيا وهي ولاية تطاوين.
ويقول التونسيون أيضا عن الشمال الغربي اختصارا أنّه منطقة ” الكا جي بي ” وهو اختزال للحرف الأوّل باللغة الفرنسية من أسماء ثلاث ولايات وهي الكاف وجندوبة وباجة، وهذا ما يحذف ولاية سليانة نهائيا من الخريطة الغربيّة للبلاد فلا هي تتبع الوسط ولا هي تتبع الشمال.
التونسي اليوم إذا ما سألته أين تقع القصرين وسيدي بوزيد سيقول لك في الجنوب بينما تقع الولايتان في الوسط. يرى أيضا التونسي أنّ قبلي وتوزر هي ولايات بعيدة قرب الحدود مع ليبيا ربّما فحتى بعض الجامعيين أثاروا استغراب التونسيين عندما جعلوا قبلي على رأس ليبيا.
هكذا فإن الخريطة التي هي في أذهان التونسيين تُدفع نزولا بالولاية حسب ابتعادها عن المركز في العاصمة أو عن كبرى المدن الأخرى، إلى درجة أنّ التونسي يحفظ في مخيلته خريطة غير خريطة بلاده الأصليّة، حيث تبدأ فيها سواحل تونس اللامرئيّة جنوبا من خليج قابس وليس من ولاية مدنين وتنتهي شمالا في بنزرت وليس في ولاية جندوبة في طبرقة على حدود الجزائر.
كما تبدأ صحراء تونس في مخيلتنا من القصرين وتنتهي الحياة البشرية في تطاوين أين لا يوجد في أذهان التونسيين غير الصحراء والإبل وآبار النفط، ثمّ أن البلاد تمتد طولا من بنزرت وتنتهي ضرورة في بن قردان. حتى في أهازيج مشجعي كرة القدم أو ضيوف البرامج التلفزية الاجتماعيّة الذين يقولون “كلّ الشعب التونسي يشاهدني من بنزرت إلى بن قردان”.
الجغرافيا المزيفة .. إرث استعماري
يقال إنّ أحد أهم مفاتيح المعرفة التاريخية والاجتماعية والسياسية في أي بلاد هي الخرائط، إذ لا يمكن أن تكون قادرًا على إنتاج موقف سليم من أي شيء دون أن تكون عارفًا بالجغرافيا على الأرض وحضورها في الذهن الذي تصنعه مؤثرات أخرى ثقافية أو دينية أو سياسيّة لذلك يعتبر الأكاديمي المختص في علم الإجتماع والمفكر عبد الوهاب بوحديبة في احدى كتاباته :
مدينة القيروان تمثل بالنسبة إلى الكثيرين، اللا معنى جغرافيا مرفوقا في أغلب الأحيان بلا معنى سياسي باستثناء فترات محدودة، ويرجع سبب ذلك إلى أن القيروان مثل مكة مركزة في واد دون خضرة، وقد نص القرآن جيدا على (واد غير ذي زرع).فهاتان العاصمتان الإسلاميتان المزروعتان في أرض جدباء، لا يمكن لهما إلا الازدهار ثقافيا أو الموت.
نقلا عن أشواق عوي ،الابداع الثقافي في بيئة مستعمرة القيروان والكاف نموذجا (1881-1956)،منشورات بيت الحكمة، تونس 2019.
إن جغرافيا المدن وفق هذه القراءة تحضر وتغيب ليس لمجرّد موقعها فقط بل لأسباب متعددة ثقافية وسياسية ودينية وينحسر حضورها إذا تقلص تأثيرها السياسي والاقتصادي والثقافي، والحالة التونسيّة في علاقتها بالجغرافيا تعدّ فريدة من نوعها على الرغم من أنّ المجتمع التونسي يعرف تجانسا بين مجموعاته في اللغة والدين والأعراف والتقاليد، إلا أنّ هذا التجانس العام يكاد يختفي في تفاصيل البلاد الجغرافية لتبرز جغرافيا أخرى لا مرئية أو متخيّلة.
ويؤكد الباحث في علم الإناسة محمّد الحاج سالم في نفس المضمار أن التاريخ هو الذي يصنع الجغرافيا ويؤثّر في النظام الاجتماعي والاقتصادي ويشكّله بتأثّره بحركة الإنسان وسياسات الدول والأحداث التي تعيشها.
من هذا المنطلق يمكن اعتبار أنّ ما عاشته تونس منذ القديم من نشوء دول وممالك وعائلات ومراكز نفوذ سياسي أو إقتصادي أو رمزي سيكون له أثر في صناعة الخريطة اللامرئيّة في أذهان التونسيين ووعيهم.
إن حركة الهجرة الداخلية منذ القديم على سبيل المثال كانت من الجنوب إلى الشمال في اتجاه المركز الاقتصادي في تونس العاصمة(الحاضرة) التي أصبحت منذ العهد الحفصي المركز السياسي والثقافي والديني بما جعلها قبلة لحركة الهجرة ونهاية خط القوافل الصاعد من الجنوب قادمًا من إفريقيا جنوب الصحراء، فضلا عن رحلات البحث عن المرعى التي كانت دائما في اتجاه واحد من الجنوب إلى الشمال. هذه الحركة كرّست مفارقة عجيبة وهي أنّ سكّان الدواخل والأطراف كانوا أكثر معرفة بجغرافيا المركز في الشمال منه من معرفة سكّان المركز بجغرافيا الدواخل إلا أخبارا عبر ما يتلقونه من منقول شفوي أو ثقافي أو إعلامي.
يضيف محمّد الحاج سالم قائلا في السياق ذاته :
إنّ الجغرافيا على الأرض ليست هي نفسها الجغرافيا التي يتمثّلها الإنسان في ذهنه بما يفتح لنا الحديث عن ” الجغرافيا المتخيلّة”التي تصنعها عدّة معطيات واقعية وثقافية وسياسيّة واقتصادية
التونسيون على سبيل المثال لا يعرفون جبل الشعانبي إلا وفق محددين أساسيين أوّلهما بوصفه أعلى نقطة جبليّة في تونس(1544 كلم) وثانيا بوصفه مركزا لجملة من الأحداث المرتبطة بالإرهاب، بينما جبل الشعانبي له تاريخ كبير ورمزيّة قديمة إذ توجد فيه آثار معابد قبل الإسلام ومغاور للنسّاك والمتصوّفة. علاوة عن كونه كان ملاذا للفلاقة أي المقاومين الأشاوس خلال معركة الكفاح المسلح و كان أيضا وجهة سياحية وترفيهية ودراسية للتلاميذ وللكشافة التونسيين.
إذا أردنا أن نفهم الجغرافيا اللامرئيّة المزيّفة في تونس آنيّا، فعلينا أن نعود إلى الخيارات السياسية التي انتهجتها السلطة في تونس التي لم تقطع مع منظومة الاستعمار الفرنسي الذي قام بتفكيك الأساس المادّي للمجتمع التونسي التاريخي عبر السيطرة على الأسواق والأراضي التي أصبح فيها المالك خمّاسا في أرضه. أدى هذا الخيار إلى بروز حركات هجرة نحو مراكز المدن ليزداد ثقلها الديمغرافي والسياسي والثقافي في الوقت الذي همشّت فيه دواخل البلاد التاريخية مع ظهور مراكز جديدة يحتاجها نظام الاستعمار الفرنسي اقتصاديا-يضيف محمد الحاج سالم- بما خلق مدنا كأم العرايس حول منجم الفسفاط الذي مثلت سنة 1904 تاريخا لبداية استغلاله كما هو الحال بالنسبة لمدينة الجريصة التي تأسست حول منجم الحديد سنة 1907، وخلق مدنا في الشمال كمنزل بورقيبة التي كانت تسمى على اسم السياسي الفرنسي جول فيري الذي كان من منظري السياسة الاستعمارية لفرنسا في عهد الجمهورية الثالثة في أواخر القرن 19.
دولة الاستقلال اتخذت منهجا سياسيا واقتصاديا ساهم إلى حدّ كبير في صناعة الجغرافيا المتخيلة في الأذهان والتي هي نتيجة التاريخ وحركة الإنسان نعم، ولكنها أيضا حصيلة خيارات اقتصادية وثقافية وسياسية للدولة قامت منذ سنواتها الأولى بتكثيف الحضور المعنوي والسياسي والاقتصادي لمدن بعينها، وسلبت حضور مدن أخرى حتّى في مجال نشاطها الاقتصادي، حتّى أصبحت مدن الدواخل سرابا بلا معنى ودون حضور فاعل، يختلف التونسيون حتى في موقعها الجغرافي ويتركون للخيال فرصة رسم خرائطه.
الباحث الصغيّر صالحي له كتاب على غاية من الأهمية في تفكيك سياسات الدولة الجهوية ومنطقها الداخلي ونتائج ذلك على التفاوت بين المناطق والولايات بطريقة غير متكافئة فيما أسماه ” الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة أو منظومة التهميش في تونس”.
ولفهم مركزة السلطة في البلاد وأثرها على الجغرافيا اللامرئية نجده يستعرض على سبيل المثال تركّز المقرّات الاجتماعية للشركات العمومية في العاصمة وتهميش باقي الجهات مستشهدا بأمثلة حبلى بالتناقضات والدلالات:
مقرّ شركة فسفاط قفصة ظلّ لعقود في العاصمة بينما يوجد الفسفاط ويستخرج من الحوض المنجمي، وينسحب الأمر كذلك على شركات النفط التي لا نعلم بوجود مقرّ اجتماعي للشركات العاملة في قطاع النفط في ولاية تطاوين أو مدنين أين يوجد النفط، والغريب أيضا أنّ مقرّ شركة مياه الشمال توجد في الضواحي الجنوبية للعاصمة ويوجد المقر الرئيسي للمجمع الكيمياوي بالعاصمة وليس في قابس أو بنزرت.
هذه السياسة حذت حذوها الشركات الخاصّة والأجنبيّة في عمومها مما زاد من تهميش جغرافيا الدواخل وخنق تواصلها مع المركز، حتّى أنّه تمّ إلحاق تمثيليات الشركات العموميّة والمياه والسكك الحديدية والبنوك العموميّة المنتصبة بالجهات الغربيّة ّإداريا بمدن الواجهة البحريّة التي تركّز فيها منجز الشركة العقارية التونسية التي تأسست 1979 ومقرّها المركزي في العاصمة ولها ثلاث فروع في بنزرت وسوسة وصفاقس وانجزت 230 ألف مسكن إلى حدود 2010 جلّها في الواجهة البحريّة. مما خلق مركزة للسلطة السياسية والديمغرافية والرمزية في جهات على حساب أخرى وفاقمها مركزة الاقتصاد والصناعة والسياحة والثقافة والتنمية الجهوية في جهات دون أخرى.
الدولة الوطنية..خيارات قاصرة
يمكن اعتبار أن بروز مفارقات الجغرافيا المزيفة في تونس هو من علامات فشل الدولة الوطنية وقصورها السياسي والتنموي. أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية صلاح الدين البرهومي يرى في هذا الشأن أن الدولة الوطنية بالمعنى الحقيقي للعبارة يفترض أنه لا يمكن فيها إثارة موضوع الجغرافيا المزيفة، موضحا أن الأسباب التاريخية لهذا الاشكال تختلف من الشمال إلى الجنوب.
ويؤكد البرهومي في هذا الإطار :
صحيح أن هناك جغرافيا غير واضحة لدى عديد التونسيين ولكن عدم الوضوح تحكمه عديد الأسباب التاريخية والاقتصادية وحتى السياسيّة.
ففي النماذج التنمويّة التي تظهر في السياسة المتبعة للدولة، هناك محاولة لتعبئة موارد المناطق الداخلية لصالح المركز في تونس العاصمة والمناطق الساحلية وخاصة منها إقليم الساحل.
وفي التجربة الاشتراكية بعد الاستقلال، خلال عهد الوزير الأول أحمد بن صالح، أو في تجربة الانفتاح الاقتصادي خلال عهد الوزير الأول الهادي نويرة، جلّ موارد المناطق الداخلية كمياه الشمال الغربي وحبوبه ومناجم الجنوب الغربي تحوّلت إلى العاصمة أو إلى موانئ المناطق الشرقية الساحلية.
يفسر الباحث صلاح الدين البرهومي هذا التزييف التي اتسمت به سرديات ما بعد الاستقلال في الخطاب الرسمي على وجه الخصوص بتأثيرات المنظومة السياسية والثقافية والتعليمية السائدة.
لقد كانت سياسة الدولة في توزيع الموارد غير متكافئة منذ الاستقلال إلى الآن، إذ أنها تستثمر الكثير من الأموال في قطاعات السياحة مثلا وفي الصناعة أيضا وهي قطاعات متطوّرة على الشريط الساحلي وتقريبا لا تكاد تكون موجودة إلا بصفة طفيفة في المناطق الداخلية أين قسوة الطبيعة والجغرافيا في الآن ذاته.يضيف البرهومي في ذات السياق:
في كتب التاريخ والجغرافيا منذ سنوات الابتدائي إلى الباكالوريا، هناك فوارق في ذكر أسماء المناطق وفي ذكر أسماء المدن وفي ذكر أسماء الزعماء وفي هذا اختلاف كبير مما يدعّم فكرة عدم التوازن بين الجهات
وفي هذا الإطار يدعو محدثنا إلى التمعن في كتب التاريخ التي تدرس للتلاميذ لاسيما في المراحل الثانوية والابتدائية حيث تركز كثيرا الزعامة حول شخصية الحبيب بورقيبة مثلا كزعيم منتصر وزعيم مؤسس. في حين أن بعض الزعماء الآخرين الذين لا يقلون أهمية على بورقيبة لا يذكرون إلا لماما وقد ذكروا كزعماء فشلوا في تحقيق برامجهم وتحقيق انتصارات أساسيّة. ثم إذا نظرنا إلى هذه الكتب وتفحصنا وبحثنا عن ماهية المدن الأكثر ذكرا في التاريخ سواء في تاريخ الحركة الوطنية أو غيرها سنجد أنها المدن الساحلية فضلا عن العاصمة تونس مع غياب تام لذكر المدن الداخليّة إلا ما وافق فترات الثورات أو فترات الأزمات، ووهي كثيرا ما تذكر بسلبية كبيرة كموت العربان والثوار أو موت المتمرّدين، وفق تعبيره.
إن اختلال التوازن التنموي بين الجهات والفئات في تونس هو وجه بارز من أوجه الجغرافيا المزيفة في ذهنية العديد من التونسيين الذين هم في أمس الحاجة لإعادة اكتشاف مجالهم الترابي . هذا المجال الترابي الذي هو نتاج لسيرورة تاريخية ضاربة في القدم ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل الهوية الوطنية وفق أطروحة المؤرخة فاطمة بن سليمان في كتابها المعنون بـ”الأرض والهوية: نشوء الدولة الترابية في تونس 1574-1881″ أو ما يسميه الدكتور منصف وناس الباحث في علم الاجتماع بالشخصية القاعدية التونسية التي لا شك في أنها تحتاج إلى عملية بناء جديد على أسس متينة.
حين لا يتحرّج تونسي قادم من دواخل البلاد إلى مركزها الثقافي والسياسي والاقتصادي في العاصمة أو إلى أحد الولايات المركزيّة في البلاد أن يتكلّم بلهجته دون أن ينعت بأنّه (برّاني أو من وراء البلايك) وحين لا تتحوّل شخصية التونسي القادم من الريف إلى المدينة إلى مشروع ثقافي في المسلسلات لإضحاك المشاهدين بالسخريّة والمبالغة في رسم صورة ركيكة عن سكّان بعض المناطق بأنّهم سذّج و غير متحضرين ولا يتقنون فنّ العيش في المدن الكبيرة وانّهم يعيشون في المدن بطباع سكّان الأرياف التي تعطى جرعات من السذاجة والسخافة والغباء إذا حاولوا التأقلم مع حياة المدن، وقتها سيكون التونسيون متصالحين مع جغرافيا بلادهم الحقيقيّة ومع وطنهم بالأساس.
الخلل يكمن أيضا في النظام التعليمي التونسي، الذي لا يعطي أي قيمة للرحلات المدرسية، التي من المفروض أن تكون مادة أساسية أو على الأقل أن يكون فيها الجزء التطبيقي لمادتي التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ميدانيا وقائما على القرب والاكتشاف والتواصل وبناء جسور المعنى والانتماء لكل جغرافيا البلاد، وما على وزارة التربية إلا أن تحوّل الرحلات المدرسية الى مادة أساسية بضارب مهم في نظام الامتحانات لتوسيع اهتمام الطالب والتلميذ بالجغرافيا والتاريخ الوطني.كما أن وزارة الشباب عليها أن تعيد نشاط المصائف ودعم جهود الكشافة التونسيّة وليرى الشاب التونسي طبيعة الاختلاف الثقافي الثري في التركيبة الاجتماعية في البلاد ويستوعب جغرافيتها.
بعد عشر سنوات من الثورة في تونس هناك العديد من العبارات الممجوجة التي تحطمت وأصبحت محل تندّر في الفوارق والتمييز بين جغرافيا البلاد. وأصبح هناك استهجان واسع لكل أشكال وأنواع الوصم والتقسيم والتصنيف العنصري أو الجهوي أو الثقافي لكن مازال الكثير للقيام به على المستوى الوطني لمصالحة حقيقيّة بين التونسي وخارطة بلاده وتاريخه أيضا من أجل التأسيس لتنمية عادلة تكرس الانصاف عوضا عن الاجحاف.
كلمة الكتيبة:
ينطوي هذا المقال على مقاربة صحفية تتجاوز جدلية الجغرافيا والتاريخ في علاقة بالاشكالية المطروحة لتشمل أبعادا أعمق يتداخل فيها الأنتروبولوجي بالسوسيو-ثقافي و الاقتصادي.ولا مراء في أنه على الرغم من أهميّة الاستخلاصات القيّمة التي تم التوصل اليها من قبل كاتب المقال فإنّ هذا العمل يمكن اعتباره منطلقا للحث على التفكير في قضيّة سرديات الجغرافيا المزيفة في تونس بعيدا عن أي اعتبارات جهوية أو سياسية أو أيديولوجية ضيّقة.
شارك في الانتاج:
تدقيق: وليد الماجري
فيديو: حمزة فزّاني
رسوم:مهدي الهمامي
تأطير: محمد اليوسفي
غرافيك:منال بن رجب
تطوير تقني: أيوب حيدوسي