الكاتب: مالك الزغدودي
صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.
“أنت محلّ استشارة أمنية، لا يمكنك السفر ومغادرة التراب التونسي في الوقت الحالي عليك تغيير المهنة المكتوبة على جواز السفر (نائب بمجلس نواب الشعب) هذه تعليمات القيادة العليا “.
هكذا كانت اجابة أحد عناصر الشرطة بمطار تونس قرطاج الدّولي عندما استفسر النائب المعلق نشاطه زياد غنّاي عن سبب منعه من السفر ومرافقة زوجته وطفليه المتّجهين إلى فرنسا حيث يقيم وأين فاز بمقعد تمثيل التونسيين هناك تحت قبة البرلمان المجمد، عقب قرارات 25 جويلية. ليسمح له لاحقا وبعد قدوم عدد من المحامين والناشطين الحقوقيين وعدد من أصدقائه، بالمغادرة مقابل أن يقوم بتغيير مهنته في سفارة تونس بباريس.
غنّاي أكّد أنّها ليست المرة الأولى التي يتعّرض فيها للمساءلة داخل المطار بعد قرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد تعليق أعمال البرلمان، حيث تم إعلامه أنّه محل استشارة حدودية عند دخوله التراب التونسي. يضيف غنّاي أنّ عددا من النواب تعرّضوا الى الممارسات ذاتها بل انّ بعضهم/هنّ بدأ في اجراءات تغيير المهنة المكتوبة في جواز السفر لكنّهم/هنّ لم يحصلوا على جوازاتهم/هن منذ أكثر من شهرين وظلّوا عالقين قسرا داخل التراب التونسي حيث حرموا من وثائقهم/هن الشخصية وهذا مخالف لأبسط حقوق الإنسان وفق قوله.
الكاتب: مالك الزغدودي
صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.
“أنت محلّ استشارة أمنية، لا يمكنك السفر ومغادرة التراب التونسي في الوقت الحالي عليك تغيير المهنة المكتوبة على جواز السفر (نائب بمجلس نواب الشعب) هذه تعليمات القيادة العليا “.
هكذا كانت اجابة أحد عناصر الشرطة بمطار تونس قرطاج الدّولي عندما استفسر النائب المعلق نشاطه زياد غنّاي عن سبب منعه من السفر ومرافقة زوجته وطفليه المتّجهين إلى فرنسا حيث يقيم وأين فاز بمقعد تمثيل التونسيين هناك تحت قبة البرلمان المجمد، عقب قرارات 25 جويلية. ليسمح له لاحقا وبعد قدوم عدد من المحامين والناشطين الحقوقيين وعدد من أصدقائه، بالمغادرة مقابل أن يقوم بتغيير مهنته في سفارة تونس بباريس.
غنّاي أكّد أنّها ليست المرة الأولى التي يتعّرض فيها للمساءلة داخل المطار بعد قرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد تعليق أعمال البرلمان، حيث تم إعلامه أنّه محل استشارة حدودية عند دخوله التراب التونسي. يضيف غنّاي أنّ عددا من النواب تعرّضوا الى الممارسات ذاتها بل انّ بعضهم/هنّ بدأ في اجراءات تغيير المهنة المكتوبة في جواز السفر لكنّهم/هنّ لم يحصلوا على جوازاتهم/هن منذ أكثر من شهرين وظلّوا عالقين قسرا داخل التراب التونسي حيث حرموا من وثائقهم/هن الشخصية وهذا مخالف لأبسط حقوق الإنسان وفق قوله.
هذه الممارسات تندرج في سياق الضّغط من أجل التخلّي عن صفة نائب شعب بطريقة غير قانونية.
النائب زياد غنّاي
ما تعرّض له نائب الكتلة الديمقراطية المجمّدة عضويّته زياد غناي يُحيلُ الى سلسلة من الممارسات المسجّلة منذ تفعيل الرئيس التونسي قيس سعيد للفصل 80 من الدستور، وتعليق أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن النواب. يأتي ذلك على خلفية صدور تعليمات من رئاسة الجمهورية في مرحلة أولى ومن وزارة الداخلية في مرحلة ثانية بتحجير السفر على عدد من المسؤولين ورجال الأعمال، ووضع عدد آخر تحت الإقامة الجبرية.
أعادت التدابير الاستثنائية النقاش حول عدد من القوانين القديمة الموروثة عن فلسفة التشريع التي رزح بموجبها التونسيون والتونسيات تحت حكم الاستبداد سابقا، في عهديْ الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
في تونس، وبعد موجة من الأحداث الإرهابية، ما انفكّت وزارة الداخلية تضع عددا من المواطنين قيد إجراءات أمنية مشددة أهمّها ما بات يُعرف بالإجراء S17. جملة هذه الإجراءات كانت وما تزال محلّ خلافات سياسية ورفض من منظمات حقوقية محليّة ودولية.
من جانبه، لم يكن الشارع التونسي يعتقد يوما أن تشمل تلك الإجراءات الأمنية شخصيات معروفة في عالم السياسة أو عالم الأعمال، حيث أصبح الجميع مهدّدا في ما يمكن تسميته بـ”عدالة المعاناة” وضبابية المعايير والإجراءات.
تعسّف في استعمال الصلاحيات
أسالت جملة من القوانين الجدلية كثيرا من الحبر خاصّة تلك المتعلّقة بالحالات الاستثنائية وحالات الطوارئ على غرار الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ والذي يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة في فرض قيود على الحريات العامة والخاصة دون الرجوع للسلطة القضائية.
لدى تعيينه في 30 جويلية/تمّوز 2021، فرَض الوزير المكلّف بتسيير وزارة الداخلية رضا غرسلاوي الإقامة الجبرية على الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، ومن قبله وزير تكنولوجيا الاتصال السابق والقيادي بحركة النهضة أنور معروف، كذلك الأمر مع الوزير السابق رياض المُوَخّر حيث تولّى ثلاثتهم الطعن في قرارات وزير الداخلية لدى المحكمة الإدارية دون الحصول على ردّ ايجابي.
“طالت قرارات المنع من السفر والخضوع الوجوبي للاستشارة الأمنية قبل السفر نوابا وعائلات شخصيات سياسية”
وكانت قرارات إدارية أخرى تقضي بالوضع تحت الإقامة الجبرية قد طالت كلّا من القاضيين الطيّب راشد والبشير العكرمي على خلفية إحالتهما من مجلس القضاء العدلي على النيابة العمومية في جرائم عدّة نسبت إليهما ذات العلاقة بالفساد والإرهاب.
عرفت المدّة الأخيرة بعد تفعيل الفصل 80 من الدستور من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، جملة من القرارات الإدارية الأخرى الصادرة عن وزارة الداخلية شملت قضاة وسياسيين ورجال أعمال بمنعهم من السفر دون أن يتمّ تمكينهم من أسباب تلك القرارات أو ما يفيد بها كتابيا. لعلّ أبرز مثال على ذلك تعلّق بحادثة بشرى بالحاج حميدة العضو السابق بمجلس نواب الشعب عند محاولتها موفّى 2021 السفر إلى فرنسا لتصطدم بقرار منعها قبل أن يتمّ السماح لها بالسفر إثر الجدل الذي صاحب تدوينتها على موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك.
بيْد أنّ الأمر لم يتوقف هنا، حيث طالت قرارات المنع من السفر والخضوع الوجوبي للاستشارة الامنية قبل السفر، شخصيات أخرى أبرزها النّائب عن حزب التيار الديمقراطي أنور بالشاهد ونوابا آخرين وأبناء وعائلات شخصيات سياسية، بعضهم تمكّن من السفر في وقت لاحق بعد أن تقدّموا بمطالب في الغرض إلى كل من وزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية.
رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وفي إطار تفاعله مع مطالب رفع هذه الإجراءات التي وصفت بـالتعسفية من قبل سياسيين وحقوقيين، طالب بضرورة تفهّم الإجراءات الإستثنائية ومنحه بعض الوقت حتى تستقر الأوضاع، مشيرا في ذات الصدد إلى أنه لا يريد الانزلاق إلى مطبّ التفريق بين الفئات والأحزاب السياسية بالسماح للبعض بالسفر فيما يتم منع آخرين.
قانون الطوارئ حالة الاستثناء شبه الدائمة
منذ الانتفاضة الشعبية التي عصفت بحكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي مطلع سنة 2011، تعيش البلاد على وقع إجراءات استثنائية تمثّلت في فرض حالة الطوارئ بشكل متواصل تقريبا، فما أن تنتهي المدّة المقرّرة لهذا الوضع الاستثنائي حتى يقع تمديدها من جديد، ليصبح الوضع أشبه بحالة الاستثناء الدائم. ورغم تغيّر القوانين والنظام السياسي بوضع دستور جديد سنة 2014، إلا أنّ قانون الطوارئ بقي ساريا لم يطرأ عليه أي تغيير.
يرجع هذا القانون لسنة 1978 بعد إعلان الإتحاد العام التونسي للشغل، أكبر هيكل نقابي في تونس وحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 2015، إضرابا عاما وطنيا، لحقته مظاهرات واحتجاجات عارمة جابت كافة أنحاء البلاد بسبب تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ما أدّى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا بعد قمعهم من قبل القوات الأمنية والعسكرية، (في ما عرف لاحقا بـ”الخميس الأسود”)، فرض على إثره الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة حالة الطوارئ بإصداره الأمر الرئاسي عدد 50 المنظم لها.
منذ صدروه، أصبحت حالة الطوارئ حالة استثنائية ترافق جميع التحوّلات والإضطرابات السياسية التي عرفتها البلاد، حيث تمّ فرضها كذلك خلال انتفاضة الخبز سنة 1983 – 1984 وبُعيد انقلاب 7 نوفمبر 1987 وثورة ديسمبر 2010- وجانفي 2011 لتبقى سارية المفعول تقريبا إلى اليوم باستثناء أشهر قليلة بين 2014-2015، بقرار من الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي.
مع كل فترة شهدت فيها تونس تطبيق الأمر المنظم لحالة الطوارئ، إلا وكانت قرارات الإقامة الجبرية ومنع السفر حاضرة، آخرها جاءت تبعا لتفعيل الفصل 80 من طرف الرئيس قيس سعيّد وقبلها مع “حملة مكافحة الفساد” التي قادها سنة 2017 رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد بوضعه جملة من رجال الأعمال قيد الإقامة الجبرية قبل إحالتهم الى القضاء.
يمنح هذا الأمر الرئاسي صلاحيات واسعة وغير مقيدة لممثّلي السلطة التنفيذية وطنيا وجهويا، ما يثير عديد الوضعيات المتنافية مع جوهر دستور جانفي/يناير 2014، خاصة في باب الحقوق والحرّيات. وضعيات كانت قد نبّهت وحذّرت منها المنظمات الوطنية والدولية حيث ما انفكّت تطالب في أكثر من مناسبة بمراجعته وتغييره لعدم ملائمته مع أسس ومبادئ الديمقراطية وما يتطلع له التونسيون والتونسيات في بناء منظومة قانونية أكثر عدالة ومساواة.
يجيز القانون التونسي «إعلان حالة الطوارئ بكامل تراب الجمهورية أو ببعضه، إما في حالة خطر داهم ناتج عن نيل خطير من النظام العام وإما في (حال) حصول أحداث تكتسي بخطورتها صبغة كارثة عامة». ويعطي قانون الطوارئ وزير الداخلية التونسي، صلاحيات «وضع الأشخاص تحت الإقامة الجبرية، وتحجير الاجتماعات، وحظر التجول، وتفتيش المحلات ليلا ونهارا ومراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية، دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء». كما يعطي الوالي صلاحيات استثنائية واسعة مثل فرض حظر تجوال على الأشخاص والعربات ومنع الإضرابات العمالية.
“يمكن لوزير الداخلية أن يضع تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو ببلدة معينة أي شخص يقيم بإحدى المناطق المنصوص عليها بالفصل الثاني أعلاه يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن والنظام العامين بتلك المناطق”
الفصل الخامس من الأمر عدد 50 لسنة 1978
منذ سنوات، تتالت انتقادات المنظمات والشخصيات الحقوقية لهذه الإجراءات حيث تمسّكوا بالحقّ في المحاكمة العادلة لكافة المتهمين، منبّهين من خطر تحوّل هذا الإجراء إلى وسيلة عقاب وتصفية حسابات سياسية خارج الأحكام القضائية، خاصّة أنّ فرض الإقامة الجبرية وتطبيق حالة الطوارئ مثّلاَ في أغلب الفترات التاريخية والتحوّلات السياسية التي عرفتها البلاد بوابة لعودة الاستبداد.
الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، كان قد قدّم مبادرة تشريعية سنة 2018 لقانون أساسي ينظّم حالة الطوارئ في البلاد. لم تخلُ تلك المبادرة أيضا من نصوص تتعارض مع المبادئ الكونية لحقوق الإنسان والمبادئ العامة لدستور البلاد، ورغم النقاش العام حوله وتفاعل المنظمات الوطنية والدولية مع نص المشروع، إلا أنّ الأغلبية البرلمانية التي تقودها في تلك الفترة حركة النهضة ذات الخلفية الاسلامية، ارتأت إرجاء النظر في المشروع وإعادته الى جهة المبادرة ليتمّ في ما بعد قبره وقبر النقاش حول ضرورة سنّ قانون أساسي يحلّ محل الأمر الرئاسي المنظّم لحالة الطوارئ.
منظمات المجتمع المدني كانت قد تقدّمت، هي الأخرى، في أفريل/نيسان من سنة 2019، برسالة مفتوحة إلى مجلس نواب الشعب تطالب من خلالها بتعديل قانون حالة الطوارئ التونسي بما يحترم حقوق الإنسان.
ظلّت هذه القوانين، دائما، تحت وطأة الجدل الذي لا ينتهي بين ضرورة وجودها من أجل إنفاذ القانون وإحلال الأمن العام ومكافحة الفساد وعدم هروب المتورطين أو ذوي الشبهة وهي مثلا حجة تفعيل الإجراء الإداري المتعلق بالوضع تحت الإقامة الجبرية، وبين الخوف الدائم من إمكانية تحويل هذه الإجراءات لأداة للتصفية السياسية وتحويل حياة العديد من الأبرياء الى جحيم لا يطاق دون أيّ استجابة لشروط المحاكمة العادلة ولا حتى معرفة المدة الزمنية المحددة لهذه التدابير.
وكانت المحكمة الإدارية قد تلقت عددا من الطعون المقدمة من قبل عدد من المواطنين الموضوعين تحت الإقامة الجبرية لنقض هذا الإجراء. وقد أوضح عماد الغابري الناطق الرسمي بإسم المحكمة الإدارية في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، أنّ الرئيس الاوّل للمحكمة الإدارية قد أصدر في وقت سابق، بوصفه قاضي توقيف التنفيذ، قرارات برفض جميع مطالب الطعن المقدمة له منذ شهر أوت/أغسطس 2021 في القرارات الامنية الاحترازية بوضع أشخاص تحت الاقامة الجبرية الصادرة عن الوزير المكلف بتسيير وزارة الداخلية.
وفسّر الغابري أنّ الحكم بالرفض استند في جميع المطالب المذكورة، إلى أنّها مطالب لم تحرز إجتماع الشروط القانونيّة المستوجبة بأحكام الفصل 39 من قانون المحكمة الإدارية والمتمثّلة في المستندات الجديدة من جهة والنتائج التي يصعب تداركها من جهة أخرى وفق قوله.
وأضاف الغابري أنه تمّ التأكّد أيضا وتوافقا مع فقه قضاء سابق في مادة توقيف التنفيذ من أنّ هذه الاجراءات الاحترازية لم تنل من الضمانات الأساسية للخاضعين لهذه الإجراءات.
تتعدد التصنيفات والمعاناة واحدة
لا تقتصر الإجراءات الإدارية التي تتّخذها وزارة الداخلية فقط على وضعيات الإقامة الجبرية أو المنع من السفر المعروف بالإجراء S17، إنّما توجد تصنيفات أخرى لا تقل من حيث الأهمية عن الإجراءات السالف ذكرها وعددها 22 إجراء بالتمام والكمال.
22 تدبيرا أمنيا، يتعلّق أغلبها أساسا بالمواطنين المشتبه بهم في قضايا الإرهاب والعائدين من بؤر التوتر وقضايا المخدرات والدعارة والاتجار بالبشر وكل أشكال الجريمة المنظمة.
ولا تعتمد هذه التصنيفات على حكم قضائي بات ونهائي، بل تقدّرها وزارة الداخلية حسب معاييرها الخاصة التي تعتبرها أغلب المنظمات الحقوقية ملتبسة وعشوائية أو غير محددة بدقة في أفضل الحالات.
المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، اعتبرت في تقريرها حول “تدابير المراقبة الإدارية التابعة لوزارة الداخلية في إطار سياسة مكافحة الإرهاب” أنّ الكثير من الأشخاص الخاضعين لأحد تلك التصنيفات ضحايا شملتهم التدابير بطريقة غير شفافة لا تتوافق مع معايير حقوق الإنسان وتتخذ في عمقها فلسفة زجرية وليست وقائية.
الـ”S 17″، هو بمثابة الشجرة التي تخفي غابة التصنيفات الأخرى المناقضة بدورها لمنظومة حقوق الإنسان في كونيّتها. ورغم أنّ وزارة الداخلية تبرّر كل تلك التصنيفات بحجج مقاومة الإرهاب والحدّ من الجريمة المنظمة، إلا أنّ المعضلة تكمن في الإطار القانوني لتلك الإجراءات لغياب التنسيق الأمني القضائي في مثل هذه الوضعيات، وهو ما تدعو إليه جميع المنظمات الحقوقية المحلّية والدولية بضرورة وضع تلك الإجراءات في أطر قانونية واضحة وشفافة تخضع إلى إشراف السلطة القضائية.
المحامية والناشطة المدنية إيناس الجعايبي، اعتبرت في حوارها مع موقع الكتيبة، أنّ أغلب التصنيفات والإجراءات الأمنية تختزل عقلية الدولة التسلّطية وترسّخ عقلية المراقبة الأمنية للمواطنين كحلّ أوّل للمشاكل الاجتماعية، وتحرمهم من حقوق أساسية مكفولة دستوريا مثل حقّ التنقل (تدابير S 17 وS 11 وS 19) ومن وثائق رسمية على غرار حجز جواز السفر (إجراء S 13) أو (S15).
تدابير المراقبة الإدارية لا تعتمد على حكم قضائي بات بل تحددها وزارة الداخلية حسب معاييرها الخاصة.
تضيف الجعايبي أنّ عددا كبيرا من المواطنين والمواطنات كانوا قد وُضعوا ظلما تحت طائلة أحد تلك التصنيفات، مستشهدة بقرارات من المحكمة الإدارية قبلت طعن عدد من المواطنين والمواطنات الخاضعين لإجراء “S17” وأقرت رفعه عنهم، وبالتالي السماح لهم بالسفر وحرية التنقل وفق ما يكفله الدستور.
لكنّها شدّدت كذلك على ضرورة مجابهة الإرهاب وفق آليات مراقبة تحترم حقوق الإنسان وتجعل من التنمية المجتمعية لا المراقبة البوليسية الوسيلة الأنجع لمقاومة التطرّف العنيف.
الحرمان من جواز السفر عقاب آخر دون حكم قضائي
هذا الحرمان عابر للحدود الجغرافية على اعتبار أنّ عددا من التونسيين المقيمين في بعض دول المهجر محرومون من الحصول على جواز السفر. وتعود أسباب المنع أساسا لوقوع هؤلاء المواطنين/ات تحت طائلة أحد التصنيفات الأمنية القاضية بالحرمان من جواز السفر على غرار S13 وS18. وكلّ هذه الإجراءات تتمّ دون قرار قضائي وبتعليمات من وزارة الداخلية تبرّر دائما بـ”دوافع أمنية”.
آلاف المواطنين والمواطنات التونسيين والتونسيات محرومون من الحصول مع جواز السفر. معاناة وحرمان من حقوق يعتقد أغلب التونسيين أنها عادية ومتاحة لكل المواطنين، لكنّ الحقيقة على النقيض من ذلك تماما. حسب تقديرات منظمة العفو الدولية يتجاوز عدد المحرومين من الحق في الحصول على جواز السفر عتبة 1500 تونسي/ة.
وكان عدد من التونسيين المقيمين بفرنسا قد نفّذوا موفّى سنة 2020 حملة للمطالبة بتمكينهم من جوازات السفر تحت عنوان “سيّب الباسبور” (أفرجوا عن جواز السّفر) رفعوا خلالها شعارات تفيد بالحق في الحصول على جواز سفر مطالبين الدولة التونسية بالكفّ عن استعمال منهج الحرمان من الوثائق الرسمية دون أحكام قضائية.
منظمة العفو الدولية كانت قد رصدت عددا من الانتهاكات. ففي فيفري/شباط 2017، أصدرت المنظمة تقريرا بعنوان “نريد نهاية الخوف: انتهاكات حقوق الإنسان في تونس في سياق حالة الطوارئ“، سردت فيه تفاصيل تفسّر كيف أنّ قوّات الأمن التونسية ما تزال تعتمد على إجراءات أمنية قمعية بما في ذلك فرض قيود على السفر بالنسبة للمشتبه فيهم ومنعهم من الحصول على جوازات السفر.
هذا الجدل الدائر حول قضية الحرمان من جواز السفر وتقييد حركة المواطنين بشكل عام، هو نقاش قديم يعود كل مرة ليطفو على السطح من جديد. فبعد المطالبة بتغيير القانون القديم المتعلّق بجوازات السفر وهو القانون عدد 40 الصّادر في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر.
ويحتوي هذا القانون على عديد الإخلالات ربما أكثرها جدلا أنّه يعطي سلطة تقديرية لوزارة الداخلية تتيح لها عدم استصدار جوازات السفر ووثائق السّفر لمن هم تحت شبهة أمنية، ولم تحدد مدة زمنية لرفع هذه الشبهة، وهو ما نبّهت له عديد المنظمات الحقوقية والنواب سواء داخل لجنة الحقوق والحريات أو في عدد من الجلسات العامة.
منع الحصول على جواز السفر هو حرمان للمواطنين من حقوق أساسية مكفولة دستوريا.
المحامية والناشطة إيناس الجعايبي
واستحسن عدد من المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية مثل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية فرع تونس هذه الإجراءات واعتبروها خطوة مهمة نحو تغيير القوانين المنافية لدستور سنة 2014.
وفي تعليقها على الإجراءات المتعلقة بالحرمان من جواز السفر ووضع قيود على حرية التنقل، قالت المحامية إيناس الجعايبي إنّ أغلب التصنيفات والإجراءات الأمنية تختزل عقلية الدولة التسلطية وترسّخ عقلية المراقبة الأمنية للمواطنين كحلّ دائم.
الجعايبي أشارت، كذلك، إلى أنّ احترام حقوق المواطنين والمواطنات في الحصول على جوازات سفرهم لا يعني أبدا التساهل في قيام الأجهزة الأمنية بأدوارها الأمنية في كنف احترام منظومة حقوق الإنسان.
وتؤكد الجّعايبي أنّ منع الحصول على جواز السفر هو حرمان للمواطنين من حقوق أساسية مكفولة دستوريا خاصة حق التنقل (تدابير S 17 وS 11 وS 19) ومنع استصدار وثائق رسمية أو حجز جواز السفر (إجراء S 13) أو (S15).
وتشدد على ضرورة مراجعة قانون الطوارئ لأنّ تنقيح قانون جوازات السفر لم يف بالغرض حسب رأيها ولم يرفع المظلمة على عدد كبير من المواطنين.
وتنصّ التعديلات أيضا على أن يكون الحدّ الأقصى لمدة المنع من السفر هو 14 شهرا في جميع الظروف، وبعدها ينبغي إلغاء منع السفر.
في نهاية المطاف، تمّ القيام بعدد من التعديلات التشريعية الأساسية التي أقرّها البرلمان من أجل إلغاء القيود غير المتناسبة مع الدستور والمكرّسة للتمييز. وتتّضمن التعديلات على القانون الأساسي عدد 40 لسنة 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر، والتي أُقرت في 23 ماي/أيار 2017، بنودا جديدة تقتضي تعليل قرارات منع السفر أو سحب جوازات السفر، و إبلاغ الأشخاص الخاضعين لقرارات منع السفر بهذه القرارات على وجه السرعة. وتضمن لهم الحق في الطعن في هذه القرارات.
ما مدى نجاعة التصنيفات الأمنية في مواجهة الإرهاب؟
تندرج التصنيفات الأمنية، حسب وزارة الداخلية، ضمن الاستراتيجية الوطنية لمقاومة الإرهاب، حيث تعتبر سياسة استباقية تضع الأفراد “المهددين للسلم العام أو الخطرين على المجتمع” تحت أعين الأجهزة الأمنية.
وقد كان لوزير الداخلية الأسبق لطفي براهم تصريح يؤكد فيه نجاعة بعض التدابير الأمنية في حماية الشباب التونسي من السفر إلى بؤر التوتر. ومنعت الأجهزة الأمنية وفقا له 29 ألفا و450 تونسيا من السفر ما حال دون انخراطهم المحتمل في عمليات إرهابية في بؤر توتر (ليبيا والعراق وسوريا) وفق قوله.
غير أنّ تقارير حقوقية ما فتئت تشدّد على أنّ التصنيفات لا تخضع إلى مراجعة دقيقة، وهي تتم أصلا وفق معايير فضفاضة، إذ شُمل أشخاص بأحد الإجراءات بناء على تقارير كيدية من أعوان أمن، أو لمجرد شبهة اعتمادا على اللباس أو المقهى الذي يرتاده، حسب ما أكده تقرير “المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب”.
وكانت المنظمة قد أكّدت في التقرير ذاته ما وصفته باعتباطية التدابير وضعف مردوديتها في مقاومة الإرهاب، ورصدت الآثار السلبية على حياة مواطنين ومواطنات قد لا تكون لديهم أيّة علاقة بالتطرف. وخلصت المنظّمة إلى أنّ التصنيفات أشبه بادانة (التصنيف S) لم تصدرها محكمة، دون القدرة في غالب الأحيان على التخلص من تبعاتها.
وبيّن التقرير أيضا هشاشة وضع الضحية المصنّف من ناحية الأثر النفسي والعزلة الاجتماعية، إذ صرّح أحد المستجوبين بما يلي:
مجرّد الخروج من البيت أصبح أشبه بعمل بطولي ونضال يومي تواجه فيه المجتمع وتحاول إثبات أن وجودك كمواطن لا يمثل خطرا على أحد.
المحامية والناشطة إيناس الجعايبي
رغم أنّ وزارة الداخلية التونسية فتحت الباب أمام وجود آلية للتظلم لمن وضعوا دون وجه حق تحت طائلة أحد هذه التصنيفات الّا انّ هذه الآلية تبقى ضبابية رغم رفعها الإجراءَ على البعض.
يعلّق الباحث في علم الاجتماع وصاحب عدد من البحوث السوسيولوجية حول الإرهاب جهاد حاج سالم حول سياسة التصنيف التي تنتهجها الدولة قائلا إنّ “المقاربة الأمنية ليست شرا في ذاته، لأنّ العمل الأمني جزء مهم ومحوري في مجهود مقاومة الإرهاب والتطرف العنيف. لكن المقاربة الأمنية السيئة والخاطئة أو لنقل الممارسة الأمنية تُأتي ثمارا مضادة تؤدي في أغلب الأحيان نحو تأزيم العلاقة بين المؤسسة الأمنية وجزء مهم من شباب الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة”.
وكان لهذه الممارسات القمعية والردعية المفرطة، وفق الباحث ذاته، الدور الأساسي في دفع جزء هام من الشباب نحو التطرف العنيف.. “وعلى الدولة عبر أجهزتها مراجعة هذه المقاربة وباقة التصنيفات التي أثبتت إلى حد الأن أنها تأتي آثارا مضادة، وتوتر أكثر العلاقة بين الأمن والشباب” وفق محدثنا.
مثلت قرارات ما بعد 25 جويلية/تمّوز 2021 فرصة جديدة للتذكير بمعاناة المصنفين وضرورة مراجعة قانون حالة الطوارئ وبيان مدى خطورته على احترام منظومة حقوق الإنسان، وعلى وجه الخصوص حق المحاكمة العادلة.
تلك القرارات بيّنت أيضا قصر النظر لدى النواب المشرّعين طيلة عشرية ما بعد الثورة، حيث لم يقع فيها مراجعة تركة قوانين العهود السابقة غير الملائمة لروح دستور 27 جانفي 2014، ليجد بعد ذلك جزء كبير من النواب أنفسهم ضحية قانون الطوارئ والتدابير الأمنية المختلفة ليعيشوا نفس معاناة المصنفين، دون معرفة موعد الحل. ويبقى هذا القانون الاستثنائي سلاحا في يد السلطة أشبه بأداة سياسية لتصفية الخصوم، و قيدا دائما للحريات الفردية والعامة في تونس.
حاولنا في هذا المقال تفسير منظومة التشريعات والتصنيفات المثيرة للجدل والموروثة من ما قبل الثورة ونقاش مدى مطابقتها مع مبادئ دستور 27 جانفي 2014، خاصة بعد قرارات 25 جويلية والتحذير من أن تتحول هذه التدابير لأداة تصفية سياسية للخصوم. حاولنا أيضا شرح مدى قانونية هذه التصنيفات ونجاعتها في مكافحة الفساد والإرهاب والسيطرة على الجريمة المنظمة.
حاولنا في هذا المقال تفسير منظومة التشريعات والتصنيفات المثيرة للجدل والموروثة من ما قبل الثورة ونقاش مدى مطابقتها مع مبادئ دستور 27 جانفي 2014، خاصة بعد قرارات 25 جويلية والتحذير من أن تتحول هذه التدابير لأداة تصفية سياسية للخصوم. حاولنا أيضا شرح مدى قانونية هذه التصنيفات ونجاعتها في مكافحة الفساد والإرهاب والسيطرة على الجريمة المنظمة.
الكاتب : مالك الزغدودي
صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية..
الكاتب: مالك الزغدودي
صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.