الكاتب : سناء عدوني
صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.
تضطر “أسماء”، موظّفة في شركة خاصة تبلغ من العمر 32 سنة، في غالب الأحيان لاستعمال تطبيق “بولط” على مضض من أجل الوصول إلى مقر عملها الكائن بالمركز العمراني الشمالي في تونس العاصمة لاسيما في الوقت المحدّد صباحا.
تقطن محدثتنا في شقة على وجه الايجار بشارع مدريد وسط العاصمة تونس. رافقناها مؤخرا في صباح أحد الأيام وهي تغادر منزلها في اتجاه موقع العمل. وقفت مطولا على حافة الطريق آملة في الظفر بسيارة أجرة تاكسي تنقلها إلى الوجهة المطلوبة.
الكاتب : سناء عدوني
صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.
تضطر “أسماء”، موظّفة في شركة خاصة تبلغ من العمر 32 سنة، في غالب الأحيان لاستعمال تطبيق “بولط” على مضض من أجل الوصول إلى مقر عملها الكائن بالمركز العمراني الشمالي في تونس العاصمة لاسيما في الوقت المحدّد صباحا.
تقطن محدثتنا في شقة على وجه الايجار بشارع مدريد وسط العاصمة تونس. رافقناها مؤخرا في صباح أحد الأيام وهي تغادر منزلها في اتجاه موقع العمل. وقفت مطولا على حافة الطريق آملة في الظفر بسيارة أجرة تاكسي تنقلها إلى الوجهة المطلوبة.
كانت عقارب الساعة تتقدّم بشكل برقي، فأجبرت “أسماء” على الاستنجاد بهاتفها الذكي لاستعمال تطبيق “بولط”. لم يتأخر الحلّ كثيرا، فبعد أن تعذّر عليها استغلال سيارة أجرة تاكسي تعمل بالتعريفة العادية، عثرت محدثتنا على قرابة 10 سيارات تاكسي متوفرة في تطبيق “بولط” صالحة للحجز كانت غير بعيدة عن شارع مدريد والشوارع المحيطة به.
بعد دقائق معدودات من عملية الحجز، حلّت سيارة الأجرة التاكسي التي تحمل شعار “بولط”. نجحت “أسماء” يومها في الوصول إلى مقر عملها بشيء من التأخير دون مشاكل تذكر مع أرباب العمل، لكنّ كلفة استعمال تطبيق “بولط” كانت باهظة بلا شكّ.
تقول “أسماء” بنبرة تنضح مرارة وحنقا : “ما يلزّك على المرّ كان اللّي أمرّ منّو” (مثل شعبي تونسي يستشهد به للتعبير عن حالة الإكراه والاضطرار لفعل شيء ما يكون أقل ضررا). ها أنا أضطرّ لقبول تعريفة قيمتها 13,6 دينار تونسي والحال أنّه في الحالة العادية يفترض أن لا تتجاوز التسعيرة 5 دينارات فقط. أقوم بكل هذا لكي لا أخسر مورد رزقي الوحيد. بعملية حسابية بسيطة تقريبا ثلث راتبي شهريا يذهب إلى “بولط”. ليس لديّ أي حلّ آخر خاصة في ظلّ التجاوزات التي يقوم بها أصحاب سيارات الأجرة التاكسي الذين يتعاملون بسياسة النقل المشروط، فضلا عن سوء الخدمات المقدمة من الدولة في مجال النقل العمومي.”
وتضيف نفس المواطنة قائلة: “في بعض الوضعيات مثل الفترات الصباحية والمسائية والحالات التي تتساقط فيها الأمطار بكثافة في فصل الشتاء تكون التعريفة أكبر من حيث القيمة المالية. تخيّلوا معي حجم الأسى الذي أشعر به يوميا جرّاء التعريفة المجحفة المستعلمة من قبل “بولط” التي يبدو أنّها فوق المحاسبة فهي تعمل بلا حسيب أو رقيب”.
قصّة معاناة المواطنة “أسماء” مع “بولط” لا تختلف كثيرا عن قصص آلاف المواطنين من مستعملي هذا التطبيق الذي يخفي خلفه شبكة تهرّب ضريبي تستغل شركة واجهة في تونس تحوم حولها أيضا شبهات غسيل أموال، فضلا عمّا تسبّب فيه القائمون على هذه الشركة من تقويض للسوق وتدمير لقواعد المنافسة النزيهة.
فمن يقف وراء “بولط تونس”؟ وكيف تمكنت في وقت وجيز من غزو السوق التونسية؟ ما علاقتها بالشركة الأم في أستونيا؟ وكيف نجحت في التهرّب الضريبي؟ وماهي أهم التجاوزات المرصودة بخصوصها؟ وما علاقة احدى شركات الاعلانات الإسرائيلية بالمعطيات الشخصية التونسية التي تقوم بتخزينها هذه الشركة؟ ولماذا يصمت القضاء التونسي على كلّ الجرائم المرتكبة رغم شكاوى المواطنين وعديد مكونات المجتمع المدني؟
سنسعى على مدى هذا التحقيق الذي أنجزه موقع الكتيبة بالتعاون مع مشروع مكافحة الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود الى الاجابة عن جملة الأسئلة السابقة.
مخاتلة قانونية
في الطريق المؤدية إلى ضاحية المرسى شمالي العاصمة تونس، وتحديدا في النقطة الكلمترية 11، حينما تدير وجهك إلى اليسار تلاحظ صفوفا من سيارات الأجرة التاكسي التي تتقاطر يوميا على مقر شركة “بولوازن آس تي بي” التي تمثل الغطاء القانوني لتطبيق “بولط” المختصة في النقل، وفق نشاطها العملي.
حينما تمّ الإعلان في سنة 2018 عن عزم شركة “بولط” العالمية الاستثمار في السوق التونسية، كان من المنتظر أن يساهم هذا العملاق العالمي في المساعدة على حلّ جزء من مشاكل النقل الحضري لاسيما في تونس الكبرى (ولايات تونس، أريانة، بن عروس ومنوبة) التي تمثل أضخم تجمع سكاني في الجمهورية التونسية بزهاء 3 مليون نسمة أي قرابة ربع المجتمع التونسي.
انطلقت “بولط” عمليا في النشاط في سنة 2019. وقد نجحت في وقت وجيز لا يتجاوز فقط مدّة الشهرين في استقطاب أكثر من 2200 سائق سيارة أجرة تاكسي، وفق ما صرّح به موظف سابق في المؤسسة لموقع الكتيبة.
يقول نفس المتحدث وهو موظف سام سابق فضّل عدم ذكر اسمه: “لقد اعتمدنا وقتها سياسة ذكيّة تقوم على منح امتيازات مغرية لسائقي سيارات الأجرة التاكسي من أجل استقطابهم. إنّ السياسة التسويقية التي قمنا باعتمادها كانت تقوم أساسا على منح السائقين المتعاملين معنا نسبة عمولة تساوي مئة بالمئة وهاتفا ذكيا وخدمة إنترنت تقدر بـ 25 جيغا، مع دورة تدريبية في استخدام المنصة المخصصة للسائقين. كلّ هذا مقابل الاشتغال بالتطبيق لمدّة لا تقل عن 8 ساعات في اليوم بهدف الترويج له وهو ما حصل فعلا حيث حققنا نتائج قياسية.”
“تمكنا في غضون شهرين فقط بعد انطلاق نشاط “بولط” في تونس من استقطاب أكثر من 2200 سائق سيارة أجرة تاكسي بفضل سياسة تسويقية مغرية”.
موظف سابق في “بولط تونس”
بالتوازي مع ذلك، كان هناك أيضا عمل ميداني كبير، يضيف نفس المصدر قائلا: “كان فريق بولط يعمل كخلية نحل. مجموعة تتنقّل إلى الميدان من أجل استقطاب سيارات الأجرة في الطرقات وفي مآوي السيارات وأمام المغازات الكبرى من أجل إقناعهم بالانخراط في الشركة عبر اغرائهم بمكاسب مرتقبة. ومجموعة أخرى كانت تعمل في المقر، تستقبل يوميا عشرات السائقين وأصحاب سيارات التاكسي، حيث سرعان ما أصبح المشهد قائما على طوابير أمام الشركة لمن هم بصدد انتظار الحصول على عمولتهم أو الذين انضموا للعمل صلب المؤسسة حيث كانت تتم عملية إلصاق شعار علامة “بولط” على السيارات المنضمة حديثا.”
في الحقيقة، وإلى حدود شهر أوت/أغسطس من سنة 2020 لا نعلم على أي أساس قانوني مؤسساتي كان يتمّ هذا النشاط. فمن خلال العودة إلى أرشيف هذه الشركة في السجل الوطني للمؤسسات نجد أنّ بعث شركة “بولوازون آس تي بي” تمّ في صائفة 2020 أي بعد مرور قرابة السنتين أو أكثر على انطلاق النشاط الفعلي.
هذه الشركة التي تدير نشاط “بولط تونس” تقدّم نفسها في الوثائق الرسميّة على أنّها مختصة في الخدمات الإعلامية والبرمجيات، تأسست برأس مال مالطي “غير مقيم” بنحو 99.99 بالمئة وبمساهمة بنحو 0.01 من السويد “غير مقيم”. نفس المؤسّسة المشغلة للتطبيق تحمل صفة شركة ذات مسؤولية محدودة.
وبحسب الوثيقة المستخرجة من السجل الوطني للمؤسسات فإنّ رأسمال شركة “بولوازون اس تي بي” عند إطلاقها تناهز قيمته 10 آلاف دينار تونسي.
في هذا السياق، تقول المتحدثة باسم بولط، نثابيسينج موكوينا، وهي مديرة العلاقات العامة قسم إفريقيا، في مراسلة الكترونية وردت على موقع الكتيبة ردّا على مجموعة الأسئلة التي توجهنا بها إلى المدير التنفيذي لـ”بولط تونس” جهاد النفزي، إنّ بولط في تونس عملت تاريخيا عبر “شريك أوّل وهو “BLT Tunisie LTD” ولاحقا “Poloison STP.”
لكنها في المقابل رفضت التعليق بشأن ما اعتبرته “الشؤون التجارية لشركاء بولط السابقين”، وفق تعبيرها.
مؤسّس “بولوازون آس تي بي” في تونس هو سويدي الجنسية ويدعى كلاس مارتن جوهانسون تحصل على حق امتياز “بولط” من خلال “آلية الفرانشايز” من المالك الأصلي ماركوس فيليغ وهو استوني الجنسية.
يعرّف “الفرانشايز” أو حقّ الامتياز التجاري بأنّه اتفاق يمنح فيه صاحب مشروع أو علامة تجارية قائمة ترخيصا لطرف ثان للعمل وممارسة نفس النشاط باستخدام اسم العلامة الأصلية الأولى سواء عبر استعمال الاسم ذاته أو نظام التصنيع أو التوزيع أو الإنتاج أو المبيعات أو هذه العناصر مجتمعة، وذلك مقابل حصول العلامة التجارية الأصلية على نسبة من الأرباح والعائدات أو قيمة معيّنة مقدمة لقاء منح حقّ الامتياز أو الاثنين معا.
تكشف هذه المعطيات عن عملية مخاتلة قانونية قام باتباعها القائمون على “بولط تونس”. وتكمن هذه المخاتلة في عدم تطابق النشاط الفعلي وهو النقل في مجال سيارات الأجرة التاكسي مع ماهو مصرّح به في وثائق تكوين المؤسسة -بولوازون آس تي بي- التي تضمّنت أنشطة تتعلّق بتطوير البرمجيات وصيانتها.
أمّا التناقض الثاني فيكمن في عدم الالتزام بمعايير وشروط “الفرانشايز” حيث عادة ما يتعلّق الأمر بأنشطة تجارية صرفة وهو ما لا يتطابق في هذه الحالة مع الشركة المذكورة التي تزعم أنّ نشاطها مرتبط بمجال الإعلامية. هذا إلى جانب عدم احترام مميزات علامة “بولط” في الخارج حيث يتمّ استعمال وتوفير سيارات خاصة بمواصفات ذات جودة عالية وفق ما تضبطه شروط حقوق الامتياز التجاري، وفق ما أفاد به مختصون وخبراء في التأسيس القانوني للشركات تسنّى لموقع الكتيبة التواصل معهم.
من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار “بولط تونس” في خانة الشركات المصدّرة كليّا على اعتبار أنّها لا تصدّر للخارج فهي تنشط حصرا في السوق المحليّة التونسية.
في هذا السياق، يوضّح خبير في مجال التكوين القانوني للمؤسسات (يعمل في القطاع العام) فضّل عدم ذكر اسمه قائلا: “بولط ليست علامة تجارية تعتمد على بيع منتج معيّن وإنّما في هذه الحالة يمكن أن تكون مؤسّسة حاصلة على حقّ امتياز (فرانشيز) من حيث الشكل أي أنّها حاصلة على حقّ امتياز من الخارج لكنها ليست تجارية ونشاطها المصرّح به غير مطابق لنشاطها الحقيقي، فضلا على أنّ الامتياز التجاري يتطلب ملاءمة شروط معيّنة بحيث لا يضرّ بخصوصية وجودة العلامة”.
من المهم في هذا الجانب الإشارة أيضا إلى أنّ “بولط” توفّر في جلّ أنحاء العالم ( أكثر من 30 دولة) سيارات خاصة بشروط ومعايير ذات جودة عالية وخدمات مضبوطة مثل توفير الماء والإنترنت للحرفاء من مستعملي التطبيق، كما أنّ السائقين يكون لهم زيّ موحّد حامل للعلامة وشعارها.
على نقيض كلّ هذا تنشط “بولط تونس” على حساب قطاع التاكسي الفردي (الأصفر) ما يتنافى مع معاييرها في الخارج. كما أنّها تطبّق تعريفة مضاعفة دون أن تستثمر شيئا في تحسين خدماتها مثل علامتها الأصلية لا سيما في البلدان الأوربية.
وقد ساهم كلّ هذا في ضرب مفهوم الخدمة العامة التي يفترض أن يقدّمها قطاع سيارات الأجرة التاكسي لمعاضدة جهود الدولة في مجال النقل على ضوء رخص تسند وفق شروط والتزامات قانونية معينة.
تقويض للسوق وخروقات لا تحصى ولا تعدّ
تتكتّم “بولط تونس” على العدد الحقيقي والدقيق لسيارات الأجرة التاكسي التي تعمل تحت لوائها رغم أنّها يفترض أن يكون عملها في كنف الشفافية. وعلى الرغم من عديد المحاولات التي قمنا بها عبر أكثر من قناة وأكثر من مصدر فإنّنا لم نتوصّل سوى إلى الحصول على تقديرات متقاطعة، وقد اكتفت المتحدثة باسم الشركة الأمّ “بولط” نثابيسينج موكوينا في ردها على أسئلة موقع الكتيبة بالقول إنّ التطبيق في تونس يتعامل مع أكثر من 3500 سائق مسجل على المنصة دون تحديد العدد الحقيقي الذي بقي مبهما.
فبحسب مصدر من وزارة النقل، يقدّر عدد سيارات الأجرة التاكسي في تونس الكبرى بنحو 16190، وفق أحدث المعطيات الرسمية، مع العلم أنّ عدد سيارات الأجرة التاكسي المتحصلة على الترخيص للنشاط من الدولة التونسية لا يعني التطابق مع عدد السائقين الذين لهم البطاقة المهنية حيث يقدّر عدد هؤلاء برقم أكبر بكثير وهو ما يعزّز إمكانية استغلال شركة “بولط تونس” لأكثر من سائق يستغلّون نفس السيارة طيلة يوم كامل (24 ساعة) وعلى امتداد كامل أياّم الأسبوع.
هذا العدد الذي لم يعد كافيا لتلبية حاجيات السوق في ظلّ اختلال العرض والطلب مقارنة بعدد السكان وضعف خدمات النقل العمومي، تمكّنت “بولط” تونس” من استقطاب ما يناهز نصفه وهو ما تسبّب في الهيمنة على السوق بشكل يتعارض مع قواعد المنافسة، بحسب نفس الموظف السابق في الشركة.
غير أنّ ما يلفت الانتباه في هذا المضمار بالإضافة إلى ما تسبّبت فيه “بولط تونس” من تقويض للسوق، هو إخلال سائقي سيارات الأجرة الذي يعملون تحت لوائها بالعلاقة التعاقدية التي تربطهم بالدولة.
يقول مدير تنظيم النقل البرّي بوزارة النقل نزار بن محمد في حواره مع موقع الكتيبة في هذا الإطار: “إنّ استعمال تطبيق في قطاع منظّم يتمثّل في سيارات الأجرة التاكسي التي تعمل بعدّاد حوّلَهُ إلى قطاع هجين مخالف للقوانين المنظمة للمهنة وخصوصا احترام التعريفة المضبوطة بمقتضى مقرّر بين وزارتي النقل والتجارة.”
ويقرّ المسؤول ذاته بأنّ “تاكسي بولط” أخلّ بالعلاقة التعاقدية مع الدولة حيث أنّ الرخصة التي مُنحت لصاحب سيارة الأجرة التاكسي من الولاية المعنية وبقية الجهات الرسمية المتدخلة كانت على أساس تطبيقه لشروط توفير خدمة نقل واحترام التعريفة القانونية ولهذا عليه الالتزام بنقل الحريف وكلّ امتناع عن ذلك لسبب غير وجيه خارج الحالات المسموح بها (إصلاح عطب، التوجه إلى طبيب للعلاج) يوجب العقوبة.
ويضيف نزار بن محمد: “سائق بولط حينما ينطلق في رحلته لنقل حريف يشغّل التطبيق بالتوازي مع العدّاد بهدف التمويه في حال إيقافه من شرطة المرور للتهرّب من العقوبات والخطايا المالية لأنّه يدرك جيدا أنّ ما يقوم به من احتساب التعريفة بتطبيق بولط هو مخالف للقانون.”
هذه الشركة (بولط) تعمل ضمن قطاع مواز على اعتبار أنّها لا تخضع لأيّة تراخيص أو قوانين أو ضوابط.
نزار بن محمد
بفضل الإغراءات التي قدّمتها في بداية عملها في السوق التونسية، تمكّنت “بولط” من استمالة العديد من أصحاب سيارات الأجرة التاكسي الذين دشّنوا موسم الهجرة نحو التطبيق المذكور وهو ما يفسّر ندرة سيارات التاكسي التي تعمل بالتعريفة العادية في جلّ الأوقات وخاصة في أوقات الذروة.
من خلال هذه السياسة المتّبعة والتي تسبّبت في ارتفاع مشطّ في أسعار التعريفة المستعملة دون أي وجه حقّ قانوني والتي تتضاعف في بعض الحالات لتصل إلى ما يناهز ثلاث مرات مقارنة بسعر التعريفة العادية، استغلّت “بولط” السوق التونسية لتعويض عدم قدرتها على تحقيق أرباح ضخمة في الأسواق الأوربية التي تخضع لقوانين صارمة ومنافسة شرسة من العملاق الآخر “أوبر”.
فضلا عن ذلك ، ومن خلال البحث والتمحيص في تعريفة “بولط” في السوق الفرنسية، نستشفّ أنّ سعر خدمة الشركة المذكورة آنفا يقدّر بحوالي نصف سعر خدمة منافستها “أوبر” حينما نقوم بعملية حسابية لنفس الوجهة وبنفس المسافة.
ومن المعلوم أنّ قطاع التاكسي في تونس الكبرى على وجه الخصوص، يشهد تسجيل تجاوزات ومخالفات عديدة بلغت 12885 مخالفة محصاة من قبل وزارة النقل بين سنتي 2017 و2021.
وفي محاولة لإقناع السائقين بوضعها القانوني المزعوم، اعتمدت “بولط تونس” التعاقد مع السائقين بعقود صورية إضافة إلى التعامل مع الحرفاء بفواتير فاقدة للمقومات الأساسية لعملية فوترة الأنشطة الخدماتية.
ووفق معاينة لنشاط إحدى سيارات “بولط” من شارع محمد الخامس بالعاصمة إلى مقر وزارة التجارة في نهج غانا، رصدنا تجاوزات تتعلّق بعدم شفافية التعريفة التي تضبط أصلا بطريقة غامضة ومبهمة بواسطة هذا التطبيق أي أنّها مخالفة لماهو معمول به بالنسبة إلى العدّاد العادي.
وخلال هذه الرحلة التي رصدناها تم تغيير التسعيرة من 6800 إلى 9300 دون موجب وبتريرات واهية من قبيل الازدحام المروري وعدم دقة الوجهة، الأمر الذي يغذّي شبهات التحيّل التي تلاحق الشركة.
تهرّب ضريبي وشبهات غسيل أموال
العقود الوهمية التي تحصّل موقع الكتيبة على نسخ منها والتعاملات النقدية “الكاش” والفواتير غير القانونية مع الحرفاء وعدم شفافية المعاملات، كلّها عوامل تفتح الباب على مصراعيه أمام شبهات التهرب الضريبي والغشّ الجبائي نظرا لصعوبة حصر حركة الأموال ونسبة المرابيح بالنسبة لهذه الشركة.
تؤكد شهادات متطابقة تحصل عليها موقع الكتيبة من سائقي سيارات أجرة استعملوا التطبيق ومن بينهم نوفل (اسم مستعار وهو سائق سيارة تاكسي اشتغل سابقا مع بولط) أنّ “كلّ المعاملات تتمّ نقدا ودون فواتير ممضاة بين الطرفين”.
من خلال معاينة مجموعة الوثائق التي تحصّل عليها موقع الكتيبة في علاقة بطبيعة التعاقد المزعوم بين”بولط تونس” وأصحاب سيارات الأجرة التاكسي تبيّن أنّ الشركة المعنية (بولوازون) كانت قد استغلت الصبغة العامة والمجمعة لأنشطتها الموثقة والثابتة من الالتزامات الممضاة من جانب واحد في العقد الصوري لمعالجة المعطيات الشخصية للأشخاص في مخالفة الفصل 450 من المجلة المدنية الذي ينصّ على التعريف بالإمضاء.
كل المعاملات المالية بين سائقي سيارات التاكسي و”بولط تونس” تتمّ نقدا(بالكاش).
شهادة سائق سيارة أجرة اشتغل مع “بولط”
في هذا السياق، يمكن التأكيد أيضا على أنّ الفواتير التي ترسلها الشركة عبر البريد الالكتروني لحرفائها بعد اسداء الخدمة تفتقد للمقومات القانونية على اعتبار أنّها لا تحمل إمضاء مقدم الخدمة ولا رقم التاكسي الناقل ولا إمضاء المنتفع.
على ضوء ما تمّ رصده من إخلالات وبناء على معطيات عديدة أكدت هيمنة كبيرة للتطبيق على السوق، كانت التصريحات الجبائية للشركة على النقيض من ذلك غير معقولة وغير متناسقة بالمقارنة مع حصة الشركة من السوق التونسية.
وخلال عملية البحث والتحري، توصّل موقع الكتيبة إلى التصريحات الجبائية الخاصة بشركة “بولوازون آس تي بي” المشغلة لتطبيق “بولط تونس” حيث صرّحت المؤسّسة المذكورة خلال سنة 2020 برقم معاملات بقيمة 1.297 مليون دينار فيما صرّحت بأرباح بنحو 57 ألف دينار تمّ تحقيقها في نفس العام.
وفي العام التالي أي سنة 2021، صرّحت ذات الشركة لدى مصالح الجباية برقم معاملات بقيمة 4.060 مليون دينار مقابل أرباح بحوالي 1.086 مليون دينار، كما يشار إلى أنّها في هذه السنة صرّحت بأجور بقيمة 640 ألف دينار في علاقة بالموظفين الذين يشتغلون معها وهو على ما يبدو رقم مضخم، وفق خبراء مختصين في الجباية وبحسب -أيضا- شهادات موظفين سابقين بالشركة.
علاوة على غياب الشفافية في المعاملات المالية والذي يدحض صحة هذه التصريحات الجبائية، فإنّ عملية حسابية قمنا بها استنادا إلى معطيات تحصّلنا عليها من موظفين سابقين بالشركة، تناقض بدورها ما تم التصريح به لدى مصالح الجباية التونسية.
وفي هذا الإطار، وحسب العقد المزعوم بين الشركة ونفس السائق المذكور أعلاه فإن حصة شركة “بولط تونس” من كل 100 دينار يتم تجميعها في يوم عمل واحد بالنسبة الى سائق سيارة الأجرة تبلغ 15 بالمئة أي 15 دينارا.
من خلال عملية حسابية تقريبية بسيطة يمكن أن نستشف حجم التلاعب والغش في التصريح الجبائي المقدم حول رقم المعاملات في سنة 2021 على سبيل المثال.
ففي حال ما قمنا بقسمة رقم الـ 4 مليون دينار المصرّح به كحصيلة معاملات الشركة في سنة 2021، على 12 شهرا من العمل فهو يفترض أنّ نفس المؤسسة تحقّق رقم معاملات شهريا يقدّر بـ333 ألف دينار.
وإذا ما تعمقنا أكثر من خلال قسمة رقم المعاملات الشهرية (333 ألف دينار) المزعوم على 25 يوم عمل في الشهر(مع استثناء أيام الآحاد رغم أنّ تطبيق بولط يعمل كامل أيام الأسبوع)، حينها نحصل على رقم معاملات يومية مزعوم بقيمة 13 ألف دينار.
عندما نقوم بقسمة رقم المعاملات اليومية المزعوم من قبل شركة “بولوازون” على 5000 سيارة أجرة (وهو رقم تقريبي أدنى) ،فهذا يعني أنّ “بولط تونس” تحقّق رقم معاملات يومي مع كلّ سيارة بما قيمته 2.6 دينار فقط وهو رقم غير منطقي ويفضح التصريحات الجبائية الرسميّة المغشوشة.
من خلال القيام أيضا بعملية حسابية تقريبيّة أخرى، وفي حال ما افترضنا أنّ كلّ سيارة أجرة تتعامل مع “تطبيق بولط” تحقّق يوميا رقم معاملات يقدّر بـ 100 دينار يكون فيها نصيب الشركة 15 دينارا، هذا يعني أنّ رقم معاملات شركة “بولوازون آس تي بي” في اليوم يقدّر بـ75 ألف دينار باحتساب عدد تقريبي للسواق يناهز 5000 سيارة تاكسي.
في نفس الإطار، حينما نقوم بضرب رقم 75 ألف دينار في 25 يوما من العمل يعني هذا أنّ “بولط تونس” تقوم برقم معاملات في الشهر يساوي 1.8 مليون دينار. وعندما نقوم بضرب الرقم التقريبي الأدنى الآنف ذكره في 12 شهرا يعني هذا أنّ الشركة تحقّق ما لا يقلّ عن 22.5 مليون دينار في السنة وهو رقم يرجح بعض الخبراء الماليين والجبائيين الذين قمنا باستشارتهم في هذا التحقيق أن يكون أكبر نظرا لأنّ العملية الحسابية التقريبية اقتصرت على 5000 سيارة أجرة فقط فضلا عن عدم احتساب أيام العمل في عطلة نهاية الأسبوع و إمكانية عمل أكثر من سائق على نفس السيارة طيلة 24 ساعة من النشاط اليومي.
هذه التقديرات التي توصلنا إليها عبر فرضيتنا الحسابية أقرب إلى الحقيقة من التصريحات الجبائية للشركة المعنية خصوصا بالنظر إلى استحالة تطويق الحركة المالية لها لعدم وجود الأثر بفعل غياب الفواتير وبسبب التعامل نقدا.
تخالف هذه المعاملات المسترابة الفصل 45 من قانون المالية لسنة 2019 المتعلق بترشيد تداول الأموال نقدا. كما أنّها تقع تحت طائلة الفصل 291 من المجلة الجزائية الذي ينص على أنّ جريمة التحيّل تهمّ كل من يستعمل الحيل والخزعبلات أو صفة غير صحيحة للاستيلاء على أموال الغير وهو ما ينطبق على هذه التطبيقة ومن يقف وراءها نظرا للصفة غير الحقيقية والتناقض الكبير بين نشاطها الحقيقي وما يتمّ التصريح به.
في هذا المستوى، من المهم الإشارة إلى أنّ الدستور التونسي الجديد الصادر بعد استفتاء جويلية/تموز 2022 ينص في فصله الخامس عشر على أنّ الضرائب والتكاليف العامة واجب على كل شخص على أساس العدل والإنصاف وكلّ تهرب ضريبي يعتبر جريمة في حقّ الدولة والمجتمع.
من خلال مزيد التعمّق في البحث الاستقصائي، هناك سؤال حارق يطرح وهو كيف تُخفي “بولط تونس” عملياتها المالية الحقيقية وأين تذهب الأموال والأرباح المجمّعة في تونس من خلال كيانها القانوني “بولوازون أس تي بي”؟
هذه التساؤلات شكلت نقطة مفصلية في البحث، وهنا انطلق تركيب قطع البازل لشركة “بولوازون آس تي بي” التي تبيّن أنّها الشجرة التي تخفي الغابة.
واصل موقع الكتيبة رحلة البحث عن فك شيفرات لغز “بولط تونس”، لنكتشف أن الشركة الأخيرة (بولوازون) لا تعدو كونها مجرد شركة واجهة لشركة أخرى لها نفس النشاط تدير العمليات المالية وهي تاكسيفاي تونيزيا هولدينغ آل تي دي “TXF Tunisia Holding LTD” مقرها في مالطا التي تعدّ من بين أكبر الجنّات الضريبيّة، حيث تملك هذه الأخيرة أكثر من 99 بالمئة من رأسمالها.
.
الوضع المستراب لـ”بولط تونس” يضعها أمام شبهات غسيل أموال حيث أنّ الأفعال المرصودة قد ينسحب عليها الفصل 92 من القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والذي يعرّف جرائم تبييض الأموال بكل فعل قصدي يهدف بأي وسيلة كانت إلى التدبير الكاذب للمصدر غير المشروع لأموال منقولة أو عقارية أو مداخيل متأتية بصفة مباشرة أو غير مباشرة من كلّ جناية أو جنحة.
ويعاقب مرتكبو هذه الجريمة بالسجن لمدّة 3 سنوات أو أكثر. كما تنسحب هذه الجرائم على مسيري الذوات المعنوية وعلى ممثليها وأعوانها والشركاء فيها ومراقبي الحسابات إذا ثبتت مسؤوليته الشخصية عن هذه الأفعال.
على الرغم من كلّ هذه المعطيات الهامة التي طرحها موقع الكتيبة في أسئلته الموجهة للشركة، فإنّ المتحدثة باسمها نثابيسينج موكوينا اكتفت بالقول “إنّ بولط تونس تدفع كل الضرائب المستحقة لمصلحة الإيرادات الضريبية”، مؤكدة في نفس الإطار أنّ “أرباح “بولط تونس” تحوّل إلى شركات المجموعة في الخارج”.
في الواقع، تاكسيفاي تونيزيا هولدينغ آل تي دي التي تحيل إلى الاسم الحقيقي لعلامة “بولط” الأوّل “تاكسيفاي” تمثّل الحديقة الخلفية المالية التي تدور في فلكها العمليات الحقيقية لتكديس المرابيح تحت حجاب من السرية، ومن ورائها شبكة نافذة ومتشابكة تكوّن فيما بينها أخطبوط المعاملات المالية لرجالات “بولط “الأربع. فماذا يمكن أن نعرف عن السيرة الذاتية لهذه الشخصيات؟ وما علاقة جون سيباستيان ريبارد مدير “بولط تونس” في مالطا بفضيحة تسريبات بارادايز بايبرز للعمليات المالية والائتمانية المشبوهة؟
“رجالات بولط” … بين فضيحة “بارادايز بايبرز” ومخلفات التوسع العشوائي
في الدول الافريقية، ركزّ تطبيق النقل “بولط ” فروعا هامة إمّا عبر تفويض حقوق امتياز لمستثمرين أو عبر الاستثمار المباشر من الشركة الاستونية الأم.
أسّس ماركوس فيليغ سنة 2013 حينما كان في سن الـ19 شركة “تاكسيفاي” والتي تعّد حاليا من بين أهم منصات النقل الخاصة في أوروبا وإفريقيا والتي تنتشر في أكثر من ثلاثين دولة.
خلال سنة 2018 وفي خضم حملة توسع في السوق الافريقية لمنافسة منصة النقل الشهيرة “أوبر” التي تسيطر على الأسواق الأوروبية الكبرى فضلا عن عدد من دول الخليج العربي، دخلت “بولط” للسوق التونسية في مسعى للمنافسة والاستثمار بعيدا عن الأسواق الأوروبية ذات القيود القانونية الكبيرة والصارمة وهو ما يقرّ به مؤسّس الشركة فيليغ بنفسه في حوار صحفي نقلته صحيفة Techcrunch إذ أكدّ أن العمل في الدول الأوروبية يعني أكثر قيودا وأكثر لوائح تنظيمية على أعماله بينما التوسع في إفريقيا أكثر سهولة وفق قوله.
وراء شركة “بولوازون” المشغلة لـ”بولط” في تونس تتخفى شبكة يتصدرها أربعة أشخاص تربطهم علاقات مالية عنقودية عابرة للحدود تشكلّ حركة أموالها التي لا تُحصر في اتجاه واحد. فهذه الشبكة نافذة اقتصاديا وماليا وسياسيا وهوامش المناورة لديها كثيرة حيث تتشارك جميعها في نفس الشركات ولهم نفس الخطط والوظائف.
على رأس الشبكة نجد مؤسّس “بولط” ومالك أصولها ماركوس فيليغ وهو استوني الجنسية يبلغ من العمر حوالي 28 سنة. يمتلك فيليغ مجموعة من الشركات على رأسها “تاكسيفاي-بولط” التسميتان الخاصتان بعلامة النقل العالمية وشركات أخرى، فيما نجد بعده مباشرة كلاس مارتن جوهانسون وهو سويدي الجنسية صاحب حق امتياز “بولط” في بداية نشاطها في تونس، وهو مؤسّس الشركة المشغلة لها في تونس “بولوازون آس تي بي”.
يمتلك جوهانسون أسهما في الشركة الأم وأسهمًا في شركات أخرى من بينها “بولط لنقل الطعام”.
يتشارك في كلّ هذه المؤسّسات مع بقية رجالات “بولط” أفراد هذه الشبكة العنقودية، من بينها شركة “بندرر” التي تقودنا إلى الشريك الثالث جاكوب أبال وهو دانماركي الجنسية كان المدير التنفيذي إبان إطلاق نشاط بولط في تونس. جاكوب أبال هو شريك في “بولط” فرع تشيكيا وقد ترأس فرع نفس الشركة سابقا في مالطا. كما أنّ له أسهما في شركة “بندرر”.
غير أنّ الرجل الأكثر اثارة للجدل في هذه الشبكة هو جون سيباستيان ريبارد مدير عمليات “بولط تونس” في مالطا وله شركة في مالطا بإسم ” تاكسيفاي تونس” بالانجليزية ” Taxify Tunisia Holding” مما يجعل شركة “بولوازون” في تونس مجرد شركة واجهة للشركة الحقيقية في مالطا التي تعدّ من الجنّات الضريبية في المنطقة.
مع العلم أنّه كثيرا ما يظهر ريبارد في وسائل الإعلام المالطية للحديث عن أعماله في مجال النقل بواسطة تطبيق “بولط” في تونس.
سبق وأن ذُكر اسم جون سيباستيان ريبارد في تسريبات “بارادايز بيبر” عن المتهربين ضريبيا وذوي العمليات المالية المشبوهة في أعمال الاستثمارات الخارجية التي تضمنت قائمة كبيرة لرجال أعمال مالطا.
وكان الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين قد نشر هذه البيانات التي تضمنت سنة 2017 نحو 13.4 مليون وثيقة. وكشفت التسريبات كيفية استخدام الساسة والشركات متعدّدة الجنسيات ورجال الأعمال للهياكل المعقدّة للائتمان والمؤسسات المالية لإخفاء أموالهم من إدارات الضرائب وإخفاء معاملاتهم في كنف السرّية للتمكن من التهرب الضريبي وتبييض الأموال.
لا يقتصر تأثير “تطبيق بولط” على السوق التونسية، فهذه الشركة باتت بفعل سياستها التوسعية العشوائية مصدرا للأزمات في مناطق مختلفة من العالم نظرا لاستغلالها لهشاشة القوانين وفساد بعض المنظومات السياسية. كل ذلك تسبب في اندلاع احتجاجات وصراعات ضدّها في لبنان وجنوب إفريقيا وإيطاليا.
“بولط”…بنك معلومات لشركة اعلانات إسرائيليّة
لا تقف خطورة “بولط” عند ما سبق ذكره، فقد أثبت اختبار أنجزه موقع الكتيبة بالاستعانة بشركة متخصصة في السلامة المعلوماتية أنّ هذا التطبيق يحتوي على مجموعة من المتعقبات تتوزع في مناطق عديدة من العالم من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وألمانيا واليونان.
غير أنّ اللافت للانتباه هو أنّ هذه المتعقبات التي تجمع المعلومات والبيانات تصدّرها “بولط” إلى الكيان الصهيوني حيث تستعمل من قبل شركة إعلانات إسرائيلية وهي “آبسفلاير” APPSFLYER الموجودة في هرتسليا في تل أبيب.
هذا المعطى ومن خلال عملية التدقيق التقني يبرز أنّ البيانات الشخصية التي يتمّ تجميعها في تونس كما هو الحال في بقيّة الدول التي تنشط فيها “بولط”، توضع كبنك معلومات تستعمله شركة الاعلانات الإسرائيلية في عمليات التسويق كما يمكن أن تكون تستعمله في مآرب أخرى.
تعمل شركة “آبسفلاير” على تعقب المستخدمين الذين يقومون بتثبيت جملة من التطبيقات من بينها “بولط” على هاوتفهم وانجاز تقارير حول المستخدمين ثمّ الترويج للمنتجات حسب ما رصدته من سلوكات وهو ما يشكلّ تهديدا للسيادة الرقميّة وانتهاكا لحرمة المعطيات الشخصية والأمن السيبراني خصوصا لدى الدول ذات البنى التكنولوجية الضعيفة التي يسهل اختراقها.
يقول المهندس والخبير في السلامة المعلوماتية بسام لموشي في تصريح لموقع الكتيبة حول هذا الموضوع: “إنّ تطبيق “بولط” يحتوي على روبوت آلي يتمكّن من تحديد وجهة المستخدم حسب الزمان صباحا أو مساء بعد تمكّنه من اختراق المعطيات الشخصية والتعرف على التحركات اليومية للحريف.”
وكان تقرير نشرته المنصة المتخصصة في بحوث السلامة المعلوماتية pixel de tracking قد رفع الستار عن أهمّ الخاصيات الخطيرة في تطبيق بولط. وتتمثل هذه الخاصيات في نظام تحديد المواقع الـ GPS والكاميرا ومسجل الصوت الذي يمكّن التطبيق من معرفة تحركات المستخدمين وتحديد موقع الهاتف وبالتالي مكان وجود الأشخاص.
على ضوء ذلك، اعتبر التقرير، أنّ تطبيق “بولط” يقوم بانتهاكات صارخة للائحة العامة لحماية البيانات – GDPR ويمثّل وسيلة لتهديد السيادة الرقمية والأمن القومي للدول. وأشار التقرير إلى أنّ تطبيق “بولط” يشارك الاسم والموقع الجغرافي ورقم الهاتف والبريد الإلكتروني مع شركات أخرى مثل غوغل “Google” وساغمونت “Segment” و كلافر تاب “CleverTap”.
وبخصوص جملة التجاوزات المسجلة من قبل شركة “بولط” في علاقة بانتهاك المعطيات الشخصية، تجاهلت المتحدثة الرسمية موكوينا النقطة المتعلقة بالشركة الإسرائيلية، فيما أوضحت قائلة:
“يخضع جمع البيانات لسياسة الخصوصية الخاصة بنا. نحن لا نجمع إلا نوع البيانات من حرفائنا وشركائنا الذي يحتاجه استعمال المنصة فلا شيء يزيد عن ذلك. لذلك قمنا بوضع إجراءات مختلفة لضمان بقاء البيانات التي منحت إلينا في كنف الثقة آمنة وهذه الإجراءات متوفرة في سياسات الخصوصية العالمية المتاحة على موقعنا. وفيما يهم القوانين التونسية المتعلقة بالخصوصية، فقد قمنا بالتعاون مع الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية لضمان التزام بولط بالقوانين التونسية المتعلقة بالخصوصية. بالإضافة إلى ذلك، يتم تخزين جميع البيانات المتعلقة بالركاب والسائقين في مراكز البيانات في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي فقط. “
على عكس ذلك فإنّ ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق هو عدم احترام تطبيق “بولط” في تونس لقانون المعطيات الشخصية. وكانت الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية قد نشرت بلاغا صحفيا بتاريخ 15 جويلية/يوليو 2022 أكّدت فيه عدم حصول “بولط تونس” على ترخيص لمعالجة المعطيات الشخصية لحرفائها من التونسيين، مشيرة إلى أنّ نفس الشركة تعتمد قانون حماية المعطيات الشخصية الأوروبي في عملها.
من هذا المنطلق، يمكن الجزم بأنّ نشاط “بولط تونس” مخالف للقانون الأساسي عدد 63 لسنة 2004 وخاصة لأحكام فصوله التي تنصّ على أنّه يشترط أن تتوفر في الشخص الطبيعي أو الممثل القانوني للشخص المعنوي الراغب في القيام بمعالجة المعطيات الشخصية، الجنسية التونسية والإقامة بالبلاد التونسية ونقائه من السوابق، إضافة لخضوع كلّ عملية معالجة لمعطيات شخصية إلى تصريح من الهيئة الوطنية الراجعة بالنظر وهو ما لا لم يتم احترامه في قضيّة الحال.
ويحجر القانون الآنف ذكره،في فصله عدد 30 نقل المعطيات الشخصية إلى الخارج، بالإضافة إلى الفصل 20 الذي ينص على أنّ كلّ عملية معالجة لبعض المعطيات الشخصية أو مجملها لمسؤول، يجب أن تضبط في عقد مناولة كتابي وهو ما لا يتوفر إجراء وشكلا في الالتزام الصادر من جانب واحد بالنسبة الى سائقي سيارات الأجرة التاكسي الذين يتعاملون مع “بولط تونس” (كما أوضح ذلك العقد المزعوم المشار إليه سابقا).
من خلال كلّ هذا يمكن أن نخلص إلى أنّ النشاط الاجتماعي الحقيقي للشركة المذكورة يتمثل في معالجة المعطيات الشخصية للأفراد ما يجعلها مخالفة للقوانين حيث من المفترض أن تكون محلّ متابعة قضائية قد تنتهي بعقوبات سجنية تتراوح مدتها بين عامين إلى 5 سنوات، وفق خبراء متخصّصين في المجال القانوني في علاقة بالجرائم التي تتعلّق بانتهاك المعطيات الشخصية.
دعوات لتحرّك جدّي من القضاء التونسي
أمام كل هذه التجاوزات المسجلة والتي شملت انتهاكات إضافية لقوانين التجارة الإلكترونية، تواصل شركة “بولط تونس” النشاط الفوضوي في السوق بالتوازي مع موجة تنديدات واسعة من مكونات المجتمع المدني التي ما انفكّت تطالب السلطات بالتدخّل.
في هذا السياق، يطالب رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك عمار ضيّة الهياكل المعنية بـ”التصدّي للاستغلال المجحف للحرفاء ومحاسبة المخالفين.” وفق تصريحه لموقع الكتيبة.
وقد أكّد مقرّر عام مجلس المنافسة محمد شيخ روحو، “تفاعلهم مع التشكيات العديدة الواردة ضدّ الشركة، وذلك بتوجيه مجموعة من الاستفسارات إلى الوزارات المعنية لصياغة تقرير”. بيد أنّ السلطات المعنية لم تتّخذ إلى اليوم إجراءات فعلية لردع المخالفين وإيقاف استنزاف جيوب المواطنين.
من جانبه، عبّر عادل عرفة نائب رئيس الغرفة الوطنية للتاكسي الفردي التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية عن استغرابه ممّا وصفه بصمت هياكل الدولة على غموض وضعية تحويلات الأموال بين “بولط تونس” والشركة الأم وفق قوله.
وكان عرفة قد شدّد في التصريح ذاته على أنّ “النقابة ترفض تعاقد السائقين مع هذه الشركة نظرا لنشاطها اللا قانوني المخالف للقوانين المنظمة للمهنة.”
موقف المنظمة النقابية يطابق الموقف الرسمي لوزارة النقل في إجابة على مطلب حق نفاذ للمعلومة توجه به إليها موقع الكتيبة. الوزارة كانت قد أكّدت عدم منح أية تراخيص للشركة المذكورة وعدم وجود أي إطار تشريعي ينظم هذا النوع من الخدمات وفق ما ورد في الردّ.
في المقابل، يثير عدم رد القضاء التونسي على عريضة إعلام بجريمة وجهتها منظمة أنا يقظ إلى وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس الحيرة تجاه الصمت المطبق حول هذه الشركة، الأمر الذي سمح لها بالتمادي في الخروقات والاستعداد للتوسع أكثر في أسواق ولايتي (محافظتي) نابل وصفاقس، بعد غزوها لسوق التاكسي في ولاية (محافظة) سوسة، وفق شهادات تحصّل عليها موقع الكتيبة من موظفين سابقين في مناصب هامة بالشركة.
طموحات الشركة التوسعية، تعكس مدى استفادتها من السوق التونسية بفعل تحولها إلى محتكر شبه حصري لقطاع التاكسي الفردي وتحجيمها لخدمات سيارات الأجرة العادية التي باتت نادرة تبعا لما تؤكده جملة المعطيات، وهو ما ينذر بمزيد تدمير السوق على أكثر من جهة وسط تغاضي السلطات الرسميّة عن هذا الملف الحارق.
“نتطلّع إلى التوسع في تونس والتعاون مع السلطات المحلية والأطراف المعنية. نحن متحمسون لإدارة عملياتنا في تونس بسبب التطور الهام ودعم الحكومة التونسية.”
المتحدثة باسم بولط نثابيسينج موكوينا
النوايا التوسعية لـ”بولط” في السوق التونسية تؤكدها المتحدثة باسم الشركة الأمّ في مراسلتها لموقع الكتيبة حيث تقول:”تونس بلد مهم بالنسبة إلينا ونتطلع إلى مزيد من الاستثمار في البلاد. انتقالنا من شريك إلى كيان تديره بولط بالكامل في جويلية/تموز 2022 يظهر التزامنا بأن نكون المنصة الرائدة في مجال النقل في المنطقة والتي تريد أن تجعل التنقل والتسليم في المناطق الحضرية ميسور التكلفة وآمنا ومستداما.
وتضيف قائلة: “نتطلّع إلى التوسع في تونس والتعاون مع السلطات المحلية والأطراف المعنية. نحن متحمسون لإدارة عملياتنا في تونس بسبب التطور الهام ودعم الحكومة التونسية. نعتبر تونس مكانا رائعا للتطور وسنواصل توسيع خدماتنا وخلق فرص عمل وفرص كسب في البلاد.”
إنّ هذا الردّ المتفائل من قبل المتحدثة باسم “بولط” ، هو في الحقيقة لا يعكس حجم معاناة مستعملي هذا التطبيق في تونس الذي تحوّل إلى نقمة لدى كثير من مستعمليه الذين أطلقوا دعوات للمقاطعة على صفحات التواصل الاجتماعي في ظلّ عدم تدخل مؤسّسات الدولة بالشكل القانوني المطلوب.
رغم محاولاتنا مرارا وتكرارا تمكين المسؤول على فرع "بولط" في تونس جهاد النفزي من حقّ الردّ والتوضيح والتعليق على جملة المعطيات التي تضمنها هذا التحقيق، إلا أنّ هذا الأخير رفض الادلاء بأي تصريح إعلامي رسمي لموقع الكتيبة، متوعدا بمقاضاة الصحفيين العاملين بالمؤسسة بموجب المرسوم عدد 54 لسنة 2022 بعد نشر التحقيق. يذكر أنّ موقع الكتيبة كان قد وجّه مطالب نفاذ للمعلومة إلى كلّ من وزارة التجارة ووزارة تكنولوجيات الاتصال والبنك المركزي التونسي إلا أنهم جميعا لم يحترموا القانون حيث لم نتلق أيّ إجابة الى حدّ نشر التحقيق.
رغم محاولاتنا مرارا وتكرارا تمكين المسؤول على فرع "بولط" في تونس جهاد النفزي من حقّ الردّ والتوضيح والتعليق على جملة المعطيات التي تضمنها هذا التحقيق، إلا أنّ هذا الأخير رفض الادلاء بأي تصريح إعلامي رسمي لموقع الكتيبة، متوعدا بمقاضاة الصحفيين العاملين بالمؤسسة بموجب المرسوم عدد 54 لسنة 2022 بعد نشر التحقيق. يذكر أنّ موقع الكتيبة كان قد وجّه مطالب نفاذ للمعلومة إلى كلّ من وزارة التجارة ووزارة تكنولوجيات الاتصال والبنك المركزي التونسي إلا أنهم جميعا لم يحترموا القانون حيث لم نتلق أيّ إجابة الى حدّ نشر التحقيق.
الكاتب : سناء عدوني
صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.
الكاتب : سناء عدوني
صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.