الكاتبة : منية العرفاوي

صحفية وكاتبة مختصة في الشأن السياسي وقضايا التطرف العنيف وحقوق الإنسان.

”أنا خيّرت ألّا أترأس قائمة ائتلاف الكرامة بسوسة في الانتخابات التشريعية الأخيرة حتى لا تتأثر سمعة القائمة وأمنح فرصة للصائدين في المياه العكرة وأصبح مادة دسمة تتغذى من شبهة علاقة ما تجمع أنصار الشريعة بائتلاف الكرامة. نعم كنت من أنصار الشريعة قبل أن أشقّ طريقي بعيدا عن ذلك الفكر الظلامي“. هكذا تحدّث يوسف مزوز، الإعلامي المشهور والناشط السياسي اليوم وشيخ جامع فاطمة الزهراء بحمام سوسة والداعية الذي كان يؤثث بخطبه الحماسية الخيمات الدعوية بالوردانين بالأمس القريب.

هذا المقال يروي حكاية يوسف مزوز بمختلف تشعباتها وانعطفاتها الكبرى والتي كانت حبلى بأحداث وتقلبات تكاد تكون سريالية. حكاية قد تبدو للوهلة الأولى غريبة وخطيرة لكنها في حقيقة تقتضي بحثا وتأملا عميقا لعله يساعد على فهم مرحلة حساسة من تاريخ البلاد وسبر أغوار بعض التيارات والمجموعات التي ساهمت في التأثير على مجرى الأحداث في الماضي القريب وفي الحاضر الآني.

الكاتبة : منية العرفاوي

صحفية وكاتبة مختصة في الشأن السياسي وقضايا التطرف العنيف وحقوق الإنسان.

”أنا خيّرت ألّا أترأس قائمة ائتلاف الكرامة بسوسة في الانتخابات التشريعية الأخيرة حتى لا تتأثر سمعة القائمة وأمنح فرصة للصائدين في المياه العكرة وأصبح مادة دسمة تتغذى من شبهة علاقة ما تجمع أنصار الشريعة بائتلاف الكرامة. نعم كنت من أنصار الشريعة قبل أن أشقّ طريقي بعيدا عن ذلك الفكر الظلامي“. هكذا تحدّث يوسف مزوز، الإعلامي المشهور والناشط السياسي اليوم وشيخ جامع فاطمة الزهراء بحمام سوسة والداعية الذي كان يؤثث بخطبه الحماسية الخيمات الدعوية بالوردانين بالأمس القريب.

هذا المقال يروي حكاية يوسف مزوز بمختلف تشعباتها وانعطفاتها الكبرى والتي كانت حبلى بأحداث وتقلبات تكاد تكون سريالية. حكاية قد تبدو للوهلة الأولى غريبة وخطيرة لكنها في حقيقة تقتضي بحثا وتأملا عميقا لعله يساعد على فهم مرحلة حساسة من تاريخ البلاد وسبر أغوار بعض التيارات والمجموعات التي ساهمت في التأثير على مجرى الأحداث في الماضي القريب وفي الحاضر الآني.

سنهديك رصاصة .. !

قبل تلك الرسالة التي أرسلها إليه أمير داعشي من الرقة ليقول له ”عندما سندخل فاتحين من ليبيا الى تونس سأهديك رصاصة في مؤخرة رأسك“ وخلال كل تلك السنوات الماضية، كانت أفكار يوسف مزوز تتقاطع مع أفكار هذا الأمير الداعشي في مواضع شتّى وقد يكونا اشتركا في ذات البدايات ونهلا من أطروحات ذات المؤثرين من دعاة الفتنة الدينية كأمثال أبو إسحاق الحويني ومحمد حسان ومحمد العريفي وعائض القرني ،فضلا عن فرضية كونهما عاشا معا مرحلة الانبهار بما تقدمه قناتي إقرأ والرحمة.

عن تلك الفترة يتحدث يوسف مزوز قائلا:

”حدثت الصحوة الشبابية الدينية في تونس في بداية الألفية. وقد كانت سياسة تجفيف المنابع الأيديولوجية والعقائدية في ذروتها، ولم يجد الشباب المتعطش لدينه وعقيدته إلا هؤلاء الدعاة وتلك القنوات لينهلوا منها العلم الشرعي والمعرفة بدينهم.“

كانت بداية هذه ”الصحوة“، كما يحلو ليوسف مزوز تسميتها، صاخبة ودموية حيث انتهت بقتل تونسيين وسياح من ألمانيا وفرنسا وجرح أكثر من ثلاثين شخص، جروحا متفاوتة الخطورة، أمام كنيس الغريبة بجربة في 11 أفريل 2002 عندما عمد الشاب العشريني نزار نوّار إلى تفجير شاحنة كان يقودها على مقربة من الكنيس اليهودي.

وقد تبنت القاعدة بعد ذلك العملية وأثبتت التحقيقات أن نزار نوار الذي وضعت على قبره في احدى مقابر بن قردان قطعة من الرخام نقش عليها كلمة ”شهيد“ في ديسمبر 2016 تلقى تعليماته من القيادي في التنظيم خالد الشيخ محمد، أحد العقول المدبرة لهجمات 11 سبتمبر 2011 في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانت عملية كنيس الغريبة بجربة أولى عمليات الموت تحت هتافات التكبير في تلك الفترة.

على هامش أحداث سليمان

القتل والتفجير بإسم الإسلام في حادثة الغريبة سنة 2002 سيعقبه موت آخر تحت راية العقاب اقترن بأحداث سليمان الدموية وقد سجن يوسف مزوز على هامش هذه العملية سنتين ونصف.

عندما تسأله عن تلك الأحداث ومدى تورطه، تشعر بالتردد في حديثه وبتعثّر الكلمات على شفتيه وكأنه يريد أن يمحو تلك الأيام من ذاكرته. انها تلك الذاكرة الرمادية كما وصفها في حديثه والذكريات المشحونة بالغضب والنقمة والثورة والتمرد على كل شيء تحت شعار جذاب يدغدغ وجدان الشباب الباحث عن معنى في ظل نظام دكتاتوري لا يرحم ولا يتسامح.

بتاريخ 18 جانفي من سنة 2007 قُبض على يوسف مزوز في مرحلة الاعتقالات الكبرى التي طالت عددا كبيرا من الشباب السلفي ورائحة البارود ما تزال تخيم على جبال مدينة سليمان التي شهدت عملية الاشتباك مع مجموعة أسد بن الفرات الإرهابية ،بعد أيام قليلة من وقوعها.

هنا نتحدث عن بداية مرحلة على غاية من الخطورة في حياة الشاب يوسف مزوز الذي لم يتجاوز وقتها العشرين من عمره. مثلت حينذاك عملية سليمان فصلا أمنيا جديدا بين نظام قمعي وشباب التيار السلفي من الذين وجدوا في العنف وسيلة للتعبير والتصدي لسياسات بن علي- حسب تصورهم- والجماعات الإرهابية المتسلّلة من الجبال والمبرمجة عقائديا وفق رؤية وتوجهات زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. هذه العملية الدموية انتهت باستشهاد عونيّ أمن وقتل 12 إرهابيا والقبض على 15 إرهابي، بينهم من أنقذت الثورة رأسه من على حبل المشنقة.

يتذكر يوسف مزوز تفاصيل ذلك اليوم من أيام شهر جانفي الباردة. يوم لم تشرق شمسه الا وهو قيد الاعتقال في زنزانة بعد القبض عليه وهو يغادر صلاة الفجر. يستحضر حيثيات ذلك الصباح قائلا:

”كنت من بين أولئك الذين تم اعتقالهم بتهمة عقد اجتماعات غير مرخص فيها. وبعد ذلك تم إيداع الجميع في سجن المرناقية. أصحاب المنطقة الرمادية وأصحاب المنطقة السوداء من العائدين من أفغانستان والعراق ،مع استعمال أقصى طرق التعذيب لانتزاع الاعترافات وتغذية مشاعر الغضب والقهر خاصة مع انطلاق حملات أمنية شرسة هدفها التضييق ومنع الصلاة وارتداء الحجاب والنقاب. كان ضغطا رهيبا ولد انفجار ما بعد 2011.“

يساريون في نُصرة الشباب السلفي

تلك السنوات التي تحدث عنها يوسف مزوز ،كانت عصيبة حيث اتسمت بالضغط والغضب وقد سجن خلالها سنتين ونصف. العديد من الحقوقيين والمحامين الذين برزوا بمواقفهم المبدئية خلال تلك الحقبة تم تكفيرهم بعد ذلك من ذات الشباب السلفي الذي صُنف قبل الثورة كضحايا لنظام بن علي ليتحولوا غداة حدث 14 جانفي 2011 الى جلادين، فمن دافع عنهم بالأمس أصبح في نظرهم عدوا يجب تصفيته لأنه مخالف لـ”شرع الله“.

في تلك السنوات التي سبقت الثورة لم يجد الشباب السلفي غير الحقوقيين للدفاع عنهم من أجل حقهم في محاكمات عادلة كمواطنين بقطع النظر عن انتمائهم الفكري. فالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان برئاسة المحامي اليساري مختار الطريفي أصدرت بيانا بتاريخ 1 فيفري 2007 عبرت فيه على انشغالها بحملة الإيقافات والمداهمات والاختفاءات التي طالت أعدادا كبيرة من الشباب وقتها وحذرت النظام من أي انتهاكات تطالهم.

كما أن فرع الرابطة بسوسة وقتها، بقيادة الرئيس الحالي جمال مسلم طالب بإطلاق سراح شباب الجهة الذين تم اعتقالهم على خلفية أحداث سليمان وذلك في بيان للفرع وقّع بتاريخ 30 جانفي 2007، معبرا عن إدانته للعنف كأسلوب للعمل السياسي.

كان يوسف مزوز من بين الشباب الذي طالب فرع المنظمة الحقوقية العريقة بإطلاق سراحهم إلى جانب ياسر الغالي الذي اعتقل معه في نفس اليوم وعماد بن عامر وأيمن ذويب اللذان اعتقلا قبلهما وعلى خلفية أحداث ديسمبر 2006 التي سبقت عملية سليمان.

في شهادة نشرتها جريدة الموقف ونقلتها وقتها مجلة تونس نيوز الالكترونية ذائعة الصيت في الأوساط الحقوقية والديمقراطية المعارضة لنظام بن علي، دافعت عائلة يوسف مزوز عن ابنها، مؤكدة براءته ولكن القضاء لم ير يوسف مزوز بريئا بل مذنبا حيث حُوكم بسنتين ونصف سجنا، وقد صنّفته الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين في 29 فيفري 2008 في القائمة الأولية لضحايا قانون 10 ديسمبر 2003 لمكافحة الإرهاب.

العائدون إلى القتل

بلغ مجمل الأحكام في قضية أحداث سليمان 385 سنة. بعضهم حُوكم بالإعدام ومنهم صابر الرقوبي. وتمت معاملتهم بعد الثورة كسجناء رأي وتمتعوا بالعفو التشريعي العام. ورغم هذه الثورة التي كانت أشبه بالمعجزة حيث أنقذت ذلك الشباب السلفي من عنابر الموت وحبل المشنقة وسنوات طويلة تنتظرهم في زنازين خانقة، إلا أن العفو التشريعي العام لم يدفعهم للتوبة فما إن غادروا الزنازين حتى انفجروا في الفضاء العام ومنهم سيف الله بن حسين(أبو عياض) والصحبي النصري الذي كان محكوما بثلاثين سنة سجنا وقاد بعد الثورة عملية نزل الامبريال الإرهابية ومحاولة تفجير روضة آل بورقيبة.

وكذلك بدر الدين القصوري الذي كان محكوما بالسجن مدى الحياة وبعد أن استنشق هواء الحرية التحق بكتيبة عقبة بن نافع في جبل الشعانبي وكان أحد منفذي الكمين الإرهابي الذي ذهب ضحيته ثمانية جنود من الجيش الوطني في جويلية 2013، بالإضافة إلى خليفة القراوي الذي كان محكوما بسبع سنوات وتمتع بالعفو التشريعي العام وأصبح بعد الثورة يحمل صفة ”راق شرعي“ للتمويه عن نشاطه الإرهابي.

ولكن يوسف مزوز لم يكن من المتمتعين بالعفو التشريعي العام حيث غادر السجن أسابيع قليلة قبل الثورة في سنة 2010. عن تلك الفترة يتحدث مستذكرا الكثير من مشاعر الخوف واليأس حينئذ :

”فكرت جديا في ”الحرقة“ وطلب اللجوء السياسي في بلجيكا وقد نجحت بالفعل في جمع المبلغ المطلوب إلا أن اندلاع الثورة كان مباغتا وغيّر أشياء كثيرة ومنها هذه الفكرة.“

لاحقا سرعان ما تحولت قناعة يوسف مزوز في ضرورة مغادرة البلاد إلى رغبة في البقاء والدعوة للأفكار المستوردة من الخارج والتي تستلهم أدبياتها من أطروحات القاعدة وأسامة بن لادن والألباني وابن تيمية.

لقد كان انفجار الغضب المكبوت في سنوات 2011 و2012 و2013 مدويا بشكل دموي مريع في المجتمع التونسي حتى كاد يعصف بالتجربة الديمقراطية الناشئة.

رجل من جيل الغضب

كان يوسف مزوز رجلا من ذلك الجيل الذي يصفه بأنه جيل الغضب. واليوم عندما يتحدث عن تلك الظاهرة الإرهابية التي اجتاحت الفضاء العام من خلال الخيمات الدعوية وخطفت المساجد واستحوذت على المنابر، يقول عنها أنها كانت أشبه بـ ”الموضة“ التي انساق خلفها الشباب وأقبل عليها بلهفة في الأحياء الشعبية خاصة من خلال السعي الى تغيير السحنة واللباس. يضيف مزوز أنها لم تكن ظاهرة دينية بالأساس بل هي أقرب الى الظاهرة الاجتماعية التي تأثر بها الناس.

بيد أن يوسف مزوز لم يكن من المفتونين بـ ”الموضة الجديدة“ بل كان أحد ”صنُاعها“ وخاصة بعد أن اعتلى منبر جامع فاطمة الزهراء في حمام سوسة دون أن تمنحه وزارة الشؤون الدينية الترخيص.

وفي شهادة الواعظ الجهوي بسوسة -نتحفظ على ذكر اسمه- ذكر أن جامع فاطمة الزهراء بناه أحد أصحاب المشاريع في الجهة في 2012 كعمل خيري، ولكن هذا الجامع تم الاستيلاء عليه وافتكاك منبره.

ووفق شهادة نفس الواعظ فإن الخطب التي حضرها في جامع فاطمة الزهراء لم تكن عنيفة او متطرفة بل كان الخطاب الذي يقدمه الشيخ يوسف مزوز معتدلا نوعا ما مقارنة بمساجد أخرى تم الاستيلاء عليها وتوظيفها في الدعوة إلى الجهاد وتحفيز الشباب على الالتحاق بثغور القتال في سوريا.

ورغم أن الواعظ الديني بسوسة شهد بأنه لم يسمع دعوات صريحة إلى الجهاد من أعلى منبر جامع فاطمة الزهراء، وأن يوسف مزوز استجاب لدعوة انزاله من على المنبر دون مشاكل، الا أن موقفه المعلن من الجهاد والذي عبّر عنه في الفيلم الفرنسي ”سلفيون“  المثير للجدل وقوله وهو يبتسم إنه ”يتمنى الموت في سبيل الله وإن الذهاب إلى الجهاد في سوريا وبلاد الشام هي أمنية لكل شاب سلفي في تونس“ جعله ملاحقا بتهمة التحريض على الجهاد حتى أن بعض وسائل الإعلام لقبته بـ ”مفتي الجهاد“ عندما تم القبض عليه للمرة الثانية بتاريخ 4 جويلية 2014.

لكن اليوم يتنصل يوسف مزوز من ذلك الموقف ويؤكد أن المفاهيم لم تكن واضحة في ذهنه، نافيا أن يكون تصريحه في الفيلم الفرنسي، يقصد به الجهاد صلب تنظيمات داعش أو جبهة النصرة وأن كلامه ”كان في قلب الثورة السورية.. ثورة الشعب وليس ثورة الجماعات الإرهابية المتطرفة“، على حد تعبيره.

كما أقر أن هذه التنظيمات التي هي ”الدولة الإسلامية أو ”تنظيم داعش“ بزعامة البغدادي أو تنظيم جبهة النصرة وغيرها من الجماعات الإرهابية كانت تحمل شعارات جذابة وجميلة ولكنها شعارات أساءت للدين وشوهت مفهوم الشريعة وهو مفهوم إسلامي أصيل كان يمكن توظيفه لخدمة العالم الإسلامي بمعنى ان يكون هناك اتحاد للعالم الإسلامي على معنى الاتحاد الأوروبي الذي هو اتحاد للعالم المسيحي.

 يمعن اليوم يوسف مزوز في نقد الأطروحات السلفية الجهادية الدموية قائلا في نفس المضمار:

”شوّهوا الجهاد والخلافة والإسلام والشريعة الى درجة جعلت البعض يخجل من هذه المصطلحات اللصيقة بالدين.. هؤلاء كانوا صنيعة لدى جهات اجنبية ومخابراتية وقد استغلت الجماعات المتطرفة حماسة الشباب السلفي لسحبهم الى المحرقة“

ويضيف يوسف مزوز أنه لا يرى فرقا بين من يؤمن بالفكر الجهادي الداعشي وبين من يؤمن بالعنف الثوري في تونس اليوم. كما يعتبر أن الجهاد يعني بذل الجهد من أجل الدفاع عن الأرض والنفس وان القضية الفلسطينية هي أفضل تجليات الجهاد في العصر الحاضر، مشددا على أننا لا نستطيع الحديث عن الجهاد بالسلاح في العصر الحالي في ظل دول منهزمة اقتصاديا وفكريا.

موضة أنصار الشريعة..!

لم يخف يوسف مزوز أن الظاهرة الإرهابية لها شعارات جذابة وتدغدغ المشاعر والأحاسيس مثل مقاومة الظلم والتمرد على الحكم بغير ما أنزل الله وأن كل هذه العناوين التي تستعملها الجماعات لاستقطاب الشباب والتبشير بعودة الخلافة الإسلامية العادلة هي غررت بمئات الشباب وأن الإرهابي كمال زروق كان يركز في دعوته لأنصار الشريعة على الشباب المفقّر والمهمّش في الأحياء الشعبية ويقول لهم كلاما لم يقله لهم يوما سياسي أو مسؤول في الدولة من قبيل أنتم ستفعلون ما لم يفعله غيركم وستفتحون مدنا وستدخلون الجنة وغيرها من الخطابات التي منحت شبابا لم يعره أحد اهتماما، معنى لحياته ووجوده، وفق تعبيره.

هذه الظاهرة التي انتشرت في المساجد وعبرت عن نفسها بالخيمات الدعوية التي يقول يوسف مزوز أنها كانت من بين الأشياء إلى جانب العمل الخيري التي جذبته إلى تنظيم أنصار الشريعة ودفعته للانضمام إلى التنظيم الذي صّنف في جويلية 2013 تنظيما إرهابيا بعد تورطه في الاغتيالات والتورط في سنوات الدم والرصاص. تهمة أكدها يوسف مزوز وكانت سببا مباشر كما يقول في العودة عن طريقهم.

”أنا لم اتبع موضة التدين كما حصل مع البعض بل كنت أشاطرهم بعض أفكارهم وأعجبت بالعمل الخيري والخيمات الدعوية التي كانت تدعو إلى سلك طريق الهداية والابتعاد عن كل ما يخالف شرع الله“، يقول يوسف مزوز الذي كان ناشطا بقوة في هذه الخيمات الدعوية خاصة في ولاية سوسة.
تلك الخيمات التي كان يدعو لها الخطيب الإدريسي الذي يناديه يوسف مزوز بالشيخ الوالد، بقوله:”أقيموا خيماتكم الدعوية ولا تخشوا أحدا، واثبتوا على الدعوة فهي لا تنقطع أبدا، وبرنامج الحكومة ككل هو قطع الطريق أمام هذا الشباب الملتزم، لأنها تعمل تحت منظومة صهيونية نصرانية.. “.

يشدّد يوسف مزوز على أن الخطيب الادريسي كان رافضا للصدام مع الدولة وحمل السلاح. ويقول محدثنا موضحا في نفس السياق:

”لم يكن موقف الخطيب الادريسي ذلك الذي كنت أتبناه من باب الخوف من السلطة ولكنه كان ينبع من قناعة راسخة لديه بأن تونس لا يمكن أن تكون أرض جهاد وأنها يجب أن تكون أرض دعوة “

على أرض الواقع، تونس لم تكن بالنسبة لأنصار الشريعة أرض دعوة فقط كما تعهدوا بذلك في دعوتهم الى أن نسمع منهم ولا نسمع عنهم وكما قيل ذلك في تصريحات ”أبو عياض“ في بداية بحث التنظيم عن حاضنة شعبية. كما أن حديث الخطيب الادريسي على ضرورة أن تكون تونس أرض دعوة فيه مخاتلة للتاريخ لأن الجهاد وتطبيق الشريعة هو جزء من جوهر الدعوة التي تؤمن بها السلفية بكل تشكيلاتها الجهادية وحتى العلمية بما في ذلك جماعة الدعوة والتبليغ وان كل المواقف تعدّل وفق اللحظة التاريخية.

صناعة التّوحش

تنظيم أنصار الشريعة أخذته حماسة المرجعيات الأم المتطرفة والعنيفة وأدخل البلاد في سنوات سواد ودم لم ينكرها يوسف مزوز بل بيّن أنها كانت سببا مباشرا في ”ردّته“ عن التنظيم، قائلا :

”عندما تم الاعتداء وقتل الجنود أدركت أن طريق الحق تلوث بالدم وأن أي عاقل لا يمكن أن يستمر في هذا التنظيم، خاصة مع بروز قيادات جديدة من أمثال الرويسي والسبتاوي والقضقاضي وذهابهم إلى الأقصى في خيار صناعة التوحش وليس إدارته كما يقول ”أبو بكر ناجي“ من إقامة معسكرات للتدريب وإدخال الأسلحة من ليبيا وتخزينها وبعد ذلك اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي.“

خيار ”صناعة التوحش“ كما وصفه يوسف مزوز يقول انه كان وراء تراجعه عن هذا الفكر الجهادي. وهذا التراجع من خلال ادانته المعلنة للارهاب والفكر الداعشي جعله في نظر إخوة الأمس”مرتدا” عن دينه يجوز هدر دمه وهو ما حصل في بيان نشرته ”افريقية للاعلام“ بعد العملية الإرهابية التي استهدفت حافلة الأمن الرئاسي بمحمد الخامس حيث يقول انه تم تحذير من يسمون بالشباب الموحد منه مع ذكره بالاسم.

وفي قضية التحريض على الجهاد وبعد إحالة القضية على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب تم إخلاء سبيله. روى يوسف مزوز تفاصيل هذه القضية في رسالة منشورة، حيث قال أنه تمّ استدعاؤه لدى فرقة الأبحاث للحرس الوطني بسوسة وأنه عندما دخل إلى أحد المكاتب كان فيها اثنان من المحققين وراء الحاسوب يدونون الأقوال وجلست قبالته فتاة عشرينية متحجبة تلبس سروالا ولباسا غير فضفاض.يستحضر مزوز تفاصيل عملية المكافحة التي تمت وقتها قائلا :

”كانت ترتعش بشدّة أمامي، وقد ادّعت أنها كانت تصلّي خلفي الجمعة في جامع فاطمة الزهراء بحمام سوسة الذي كنت أتولى الخطابة على منبره بين سنتي 2012-2014 وقد وعزلت من الخطابة منه في حملة العزل التي قادها وزير الشؤون الدينية وقتها الندائي ”بطيخ“ (في إشارة إلى عثمان بطيخ) والتي شملت مشايخ مثل رضا الجوادي ومحمد العفاس والبشير بن حسن وآخرين…“

ادعت الفتاة أن يوسف مزوز كان يحث المصلين على الجهاد في سوريا نساء ورجالا.وقد صرحت أمام المحققين أنها تأثرت بدعواته تلك حيث كانت تنوي السفر إلى بلاد الشام.لاحقا تم ايقاف مزوز رفقة الفتاة وقد نقلا إلى القطب القضائي لمكافحة الارهاب بتونس العاصمة. هناك غيرت هذه الفتاة في أقوالها حيث قالت إنه تمّ تهديدها من طرف فرقة الحرس الوطني بسوسة بالاغتصاب ان لم تقم باتهام مزوز بالتحريض على التسفير، وفق قوله. انتهى ذلك اليوم الطويل باطلاق سراح يوسف مزوز والفتاة في حدود الثانية فجرا تقريبا.

وفي ذات روايته لتفاصيل تلك الحادثة استخلص يوسف مزوز أن فرق الأبحاث ومكافحة الإرهاب تعتبر الشباب المتدين مواطنين من درجة ثالثة، وأن ”المنتقبات والملتحين هم مجرد أرقام عند البواسل لا يعاملون كبشر.. تتم مداهمة بيوتهم وجرجرتهم الى المحاكم ولا يهم ان يكونوا أبرياء.“ يضيف مزوز في نفس السياق:

”قال لي أحد رجال الأمن مرة عندما عبّرت عن امتعاضي من الاستدعاءات اللاقانونية :”غيروا من هم في مجلس الشعب ولن نقوم باستدعائكم بعد ذلك، هم من يفرضون علينا هذه الاجراءات وأنا أعرف أنك بريء كل البراءة…“

وبعد تلك الفترة التي قام فيها بمراجعات حسب تصريحه ومرّ خلالها بتحولات فكرية يقول إن الفضل فيها يرجع إلى مشائخ الزيتونة، انطلقت مرحلة جديدة في حياة يوسف مزوز عندما قرر الدخول إلى عالم السياسة من خلال الانضمام لائتلاف الكرامة والترشح إلى مجلس نواب الشعب عن دائرة سوسة مسقط رأسه.

أضواء الشهرة وأشباح الماضي

في ذلك اللقاء الذي جمعنا به في استوديو برنامجه ”يوسف شو“ بمدينة سوسة، الذي يقدمه على قناة الانسان، لم يكن يوسف مزوز مرتاحا بما يكفي ليستذكر معنا تلك الأيام الماضية، أيام الشيخ يوسف بقميصه ولحيته الطويلة والصرامة التي تعلو سحنته، والسبحة التي لا تفارق يده، فاليوم تغيّر كل شيء. البدلة الافرنجية والملابس الشبابية بألوانها الزاهية حلّت محل القميص الداكن. والوجه المتجهم الذي كانت تعلوه الشدّة والغلظة انفرجت أساريره واللحية أصبحت أكثر تهذيبا على شاكلة مشاهير الفن والاعلام.

ولكن مع أوّل صورة تقفز من الماضي، يعود العبوس والتجهم وتبدو علامات الخوف والتوجس واضحة على ملامحه، وهو يشيح بنظره بعيدا في إنكار قلق الماضي بكل تفاصيله وتهرب عينيه لتفتّش عن الأمان في الصورة الجديدة.

داخل استديو برنامج ”يوسف شو“ بكل أضوائه وصخب جدل النقاشات المتحررة من كل التابوهات والمحرمات، جلس قبالة الإعلامي المعروف اليوم من ناقش الإلحاد والمثلية الجنسية.
مزوز الذي يؤمن بأهمية الإعلام الديني ويرى أن لديه جمهورا واسعا متعطشا للفكر الديني يطالب اليوم بتحرير هذا المجال،معبرا عن رفضه لأن يكون محتكرا في المرفق الإعلامي العمومي.
لقد أصبح يوسف مزوز على امتداد السنوات الأخيرة من أبرز الفاعلين والمؤثرين في هذا الاعلام الديني، من خلال تجربته الحالية في قناة الإنسان وإذاعة الزيتونة حيث يقدم برنامجين، أحدهما في التفسير وآخر في تاريخ الفقه الإسلامي مع عدد من أساتذة جامعة الزيتونة.
عن الإعلام الديني وعقوبة تقليص سنة من إجازة قناة الإنسان باعتبار توجهها الديني عكس ما تم التنصيص عليه في رخصة البث يقول مزوز:

”أعتقد أن تجربة الإعلام الديني في الإعلام العمومي هي تجربة سلبية جدا حيث أنه يفتقد إلى الجرأة ويقتصر على التداول في القضايا التاريخية والقديمة.. اليوم قناة الإنسان عاقبتها الهايكا لأنّ أكثر من خمسين بالمائة من برامجها دينية ونحن حتى نرضي الهايكا فقدنا جزءا كبيرا من جمهورنا.“

بين أنصار الشريعة وائتلاف الكرامة

ائتلاف الكرامة الذي بات اليوم حالة سياسية مثيرة للجدل لأنه أضحى يمثل أحد قطبي معركة الهوية مع الحزب الدستوري الحر كما يقول يوسف مزوز اختاره لأنه يعتقد انه كان الأكثر وضوحا، إذ يختلف في خطابه عن خطاب حركة النهضة الذي يراه خطابا مخاتلا رغم أنه ينهل من ذات المرجعية الإسلامية التي ينهل منها ائتلاف الكرامة.
خيار العمل السياسي ينزله يوسف مزوز ضمن مراجعاته التي ترى في الشريعة تحقيق مصلحة ومنفعة للناس أيضا، وينتقد من خلاله تجربة القوى الدينية ومن بينها حزب التحرير الذي ما زال يجلس على الربوة دون صوت ولا تأثير بحكم رفضه للمسألة الديمقراطية وتشبثه بمشروع الخلافة، وفق تقديره.

ولكن يوسف مزوز تخلى عن موقع الجلوس على الربوة ونزل كما يقول إلى الميدان في انتخابات 2019 رغم أنه الى غاية سنوات خلت كان لا يؤمن بالنظام الديمقراطي ويراه نظاما علمانيا فُرض على الدول الإسلامية وهو مخالف للشرع ولا يتبنى الديمقراطية التي تعني حكم الشعب لأنه كان يعتقد في حكم الله وليس الشعب وفي ضرورة تطبيق الشريعة.

ورغم فشله في بلوغ البرلمان إلا أنّه يصر على أن التجربة السياسية خيار لا يمكن التراجع عنه وأنه سيواصل تجربته مع ائتلاف الكرامة الذي يريده أن يصبح حزبا، وإن كانت لا تبدو أفكار يوسف مزوز بعيدة عن أفكار ائتلاف الكرامة الذي تتقاطع أفكاره وأطروحاته في عدة مواضع مع تنظيم أنصار الشريعة.

ولعل هذا التقارب بين ائتلاف الكرامة والمتطرفين الذين حاولوا الظهور بمظهر جديد تجلى بشكل كبير في المبادرة التشريعية التي تقدم بها ائتلاف الكرامة في بداية شهر أكتوبر الماضي من أجل تنقيح قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.و تنص هذه المبادرة على توسيع نطاق التجريم في الفصل 31 من قانون أوت 2015 لتشمل الإشادة والتمجيد بالاستبداد والديكتاتورية، وذلك في اطار صراع الائتلاف مع الحزب الدستوري الحر الذي لطالما اتهمهم بالإرهاب وبرسكلتهم للإرهابيين حيث نجد صلب هذه المبادرة التشريعية اقتراح تجريم الوصم بالإرهاب والتكفير واعتباره جريمة إرهابية.

وهذا الوصم بالإرهاب والتكفير هو ما يخشاه يوسف مزوز اليوم رغم مراجعاته الخجولة لأفكاره السابقة المتطرفة، وهو ما زال الى اليوم يحمل تصنيفا أمنيا بأنه ”عنصر تكفيري“ وخاضع للإجراء الحدودي S17 الذي تفرضه وزارة الداخلية وفق سلطتها التقديرية لتصنيف بعض المواطنين الذين تعلقت بهم شبهات الإنتماء إلى تنظيمات إرهابية أو تبييض الأموال من مغادرة التراب التونسي أو من السفر من ولاية إلى أخرى داخل تونس. ويخوض ائتلاف الكرامة منذ صعوده إلى البرلمان معركة من أجل الغاء هذا الاجراء الحدودي الذي يراه غير دستوري وينتهك حقوق الإنسان.

الخوف من أن يُستعمل هذا الماضي كورقة ضده لم يمنع يوسف مزوز من التمسك بتجربته السياسية. لهذا نجده يعلق على هذه المسألة بكل هدوء وثقة في النفس وبنبرة طموح متوهجة:

”لن أعود إلى الربوة مرّة أخرى وسأواصل التجربة السياسيّة في ائتلاف الكرامة.“

على الرغم من ذلك لا يخفي مزوز انزعاجه من الخطاب العنيف لرئيس كتلة ائتلاف الكرامة وبعض القيادات الأخرى، مؤكدا أن تونس ستعيش لسنوات قادمة معارك حول الهوية بين عبير موسي وسيف الدين مخلوف. وبين ماض يثقل روحه بذكريات التصقت به ولن تغادره، وحاضر الشهرة والأضواء والطموح السياسي، نتلمس بعض الجوانب في شخصية يوسف مزوز الذي ما انفك يحاول تعديل إيقاع حياته وفق الصورة الجديدة.

كلمة الكتيبة:

يمثّل هذا المقال محاولة جريئة لرصد تجربة أحد القيادات البارزة في وقت سابق ضمن تنظيم أنصار الشريعة الذي بات يصنّف ضمن الجماعات الإرهابية في تونس. وقد بذلت كاتبة المقال جهد الطاقة من أجل سبر أغوار أهم التحولات التي عاشها يوسف مزوز بطل هذه القصّة الصحفية لاسيما بعد دخوله إلى عالم الإعلام ومساهمته في مسيرة تأسيس إئتلاف الكرامة الذي أضحى فصيلا سياسيا مثيرا للجدل داخل البرلمان وخارجه.

شارك في الانتاج:

alqatibaتدقيق: وليد الماجري

alqatibaفيديو: حمزة فزّاني

alqatibaرسوم:مهدي الهمامي

alqatibaتأطير: محمد اليوسفي

alqatibaغرافيك:منال بن رجب

alqatibaتطوير تقني: أيوب حيدوسي