الكاتب : سناء عدوني

صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.

‘ أنا شابة لا زلت عزباء، اكتشفت في شهر أوت/ أغسطس في السنة الماضية 2021، خلال حصّة علاج لدى طبيب مختص قرب نفاد مخزون بويضاتي، وقد أعلمني طبيبي أنّه لديّ نقص فادح في البويضات، رغم أنّه ليست لديّ مشاكل وراثية ولا جينية… لقد أدركت بعد التحاليل الطبيّة أن وضعيّة خصوبتي أشبه بوضعيّة امرأة في سنّ الـ48 بعد أن انقطع عنها الطمث، وقد وجدت نفسي في وضع صعب وأمام حاجز قانوني ويوما بعد يوم أخسر الوقت لكنّني سأخوض معركتي وسأغيّر شيئا ما من أجل حقّي وحقّ العديد من النساء التونسيات من أمثالي في الأمومة”.

بنبرة حزينة لم تخل من روح قويّة تنضح إصرارا وعزيمة على مجابهة كابوس خطر فقدان القدرة على الإنجاب بسبب العائق القانوني، تحدثت “ياسمين” -إسم مستعار- 33 سنة، لموقع الكتيبة عن رحلتها المضنية من أجل ممارسة ما تراه حقّا إنسانيا وحريّة شخصيّة في تجميد الأمشاج لوقف نزيف تآكل مخزون البويضات.

الكاتب : سناء عدوني

صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.

‘ أنا شابة لا زلت عزباء، اكتشفت في شهر أوت/ أغسطس في السنة الماضية 2021، خلال حصّة علاج لدى طبيب مختص قرب نفاد مخزون بويضاتي، وقد أعلمني طبيبي أنّه لديّ نقص فادح في البويضات، رغم أنّه ليست لديّ مشاكل وراثية ولا جينية… لقد أدركت بعد التحاليل الطبيّة أن وضعيّة خصوبتي أشبه بوضعيّة امرأة في سنّ الـ48 بعد أن انقطع عنها الطمث، وقد وجدت نفسي في وضع صعب وأمام حاجز قانوني ويوما بعد يوم أخسر الوقت لكنّني سأخوض معركتي وسأغيّر شيئا ما من أجل حقّي وحقّ العديد من النساء التونسيات من أمثالي في الأمومة”.

بنبرة حزينة لم تخل من روح قويّة تنضح إصرارا وعزيمة على مجابهة كابوس خطر فقدان القدرة على الإنجاب بسبب العائق القانوني، تحدثت “ياسمين” -إسم مستعار- 33 سنة، لموقع الكتيبة عن رحلتها المضنية من أجل ممارسة ما تراه حقّا إنسانيا وحريّة شخصيّة في تجميد الأمشاج لوقف نزيف تآكل مخزون البويضات.

منذ اكتشافها نضوبا حادا في مخزون بويضاتها، تَعُدّ “ياسمين” الدقائق والساعات التي تمرّ من عمرها لتقلّل من خصوبتها في غضون سنة وتجعل من بويضاتها التي تسارع الزمن رهن التوقف الاضطراري قبل إحالتها على التقاعد المبكر نهائيا، في ظلّ عدم سماح القانون بتجميد البويضات للفتيات العازبات من خارج حالات معينة محدودة جدا، الأمر الذي قلب حياتها رأسا على عقب لتعيش في ظلّ هاجس شبح الحرمان من الأمومة متعلقة بأمل وحيد في تغيير هذا القانون وتحقيق حلمها في إنقاذ حقّ الأمومة لحالات مماثلة لحالتها.

“بويضات ياسمين”.. ضحيّة قانون أعرج

رغم عيشها على وقع صدمة نفسية نتيجة إمكانية عدم قدرتها على الإنجاب مستقبلا في غضون سنة واحدة وهي التي مازالت لا تخطّط للزواج أو الارتباط، تحدّت “ياسمين”رفض والديها الإفصاح في العلن عن هذا المشكل وخرجت للحديث عن حالتها الصحيّة الدقيقة والشاقّة. “ياسمين” شابة في سنّ الثالثة والثلاثين اكتشفت منذ أشهر قليلة خلت أنّها ستفقد قدرتها على الإنجاب في وقت قياسي. منذ ذلك الحين أضحت تواجه تناقضات مأسوية يوميّة في التعايش مع زمن يأكل من مخزون بويضاتها دون القدرة على إنقاذها بحفظها وتأجيل استعمالها إلى حين ارتباطها وذلك من خلال تقنية تجميد البويضات.

بصوت عال كعلو ثقتها في إرادتها وبملامح شاحبة ومظهر أنيق، تكابد ياسمين ألما داخليا قائلة في هذا السياق : “بويضاتي الآن عاجزة عن النشاط الطبيعي وقد اقتربت من التعطل النهائي. حالتي قريبة من سنّ اليأس المبكر وهذا ما دفعني إلى محاولة تجميد بويضاتي في مستشفى عزيزة عثمانة بتونس إلى حين أن يتسنى لي الارتباط والزواج ومن ثمّ الإنجاب. تخيلوا معي هول المأساة فعلى الرغم من حالتي الاستثنائية التي تستوجب تجميد البويضات للإبقاء على حلم الأمومة فقد صدمت بجدار قانوني”.

ينص القانون التونسي الصادر في 7 أوت/أغسطس 2001 والمتعلّق بالطبّ الإنجابي في فصله السادس على أنّه “يمكن استثنائيا للشخص غير المتزوج والذي يخضع لعلاج أو الذي يستعد للخضوع إلى عمل طبّي من شأنه أن يؤثر على قدرته على الإنجاب، اللجوء إلى تجميد أمشاجه قصد استعمالها لاحقا في إطار رابطة زواج شرعي وفي نطاق الطب الإنجابي وطبقا للقواعد والشروط الواردة بهذا القانون.”

وينظم الفصل الرابع مسألة التجميد بالنسبة للمتزوجين، حيث ينصّ على أنّه “لا يمكن اللجوء إلى الطب الإنجابي إلاّ بالنسبة إلى شخصين متزوجين وعلى قيد الحياة وبواسطة أمشاج متأتّية منهما فقط وأن يكونا في سنّ الإنجاب”. فيما يوضّح الفصل الخامس أنه “لا يمكن تلقيح الأمشاج ولا زرع الأجنة في إطار الطب الإنجابي إلا بالحضور الشخصي للزوجين المعنيين وبعد الحصول على موافقتهما الكتابية”.

ويعني ذلك أنّ القانون لم يسمح بتجميد البويضات إلاّ في حالات محدّدة وهي لامرأة متزوجة يكون زوجها على قيد الحياة وبموافقته ولم يسمح المشرّع للمرأة العزباء بذلك إلاّ في حالة خضوعها لعلاج مثل العلاج الكيميائي في حالة الإصابة بالسرطان وما قد ينجرّ عن ذلك من إضعاف للخصوبة الأمر الذي يحتّم تجميد بعض البويضات لحماية حقّ الإنجاب فيما بعد لكنه لم يصرّح بذلك بالنسبة لباقي الحالات المشابهة لحالة “ياسمين”.

وعلى الرغم من هذا المطب القانوني، بدأت “ياسمين” منذ أشهر في تناول أدوية لتنشيط بويضاتها على أمل أن تُحلّ إشكالية القانون وتتمكّن من التجميد، بناء على نتائج فحوصاتها القادمة، التي ستحدّد قرارها وكيفية قيامها بالتجميد.

فكّرت “ياسمين” في الأثناء في السفر إلى الخارج وتحديدا إلى إسبانيا للقيام بالعملية، لكنّ كلفة التجميد باهضة جدا هناك وفق قولها، ممّا منعها من القيام بذلك نظرا لظروفها الاجتماعية التي لا تساعد على تحقيق غايتها من خلال هذا الحلّ المتاح أمامها.

“لماذا أضطر للسفر إلى الخارج أين تكون تكاليف عملية تجميد البويضات عالية جدا، بينما التقنية موجودة في تونس في مستشفى عزيزة عثمانة العمومي بالذات وبسعر رمزي وفقا لإطار مضبوط؟”

ياسمين

تكشف حالة “ياسمين” عيّنة من الحالات التي لم يفكر فيها القانون فهي لا تعالج مرضا سرطانيا ولا تستعمل أدوية تقلّل الخصوبة، لكنّها لم تتزوج لعدم وجود شريك، وتطالب بحقها في أن تتمكن من الإنجاب حين تتوفر لها الفرصة.

في الوقت الحالي تكرّس “ياسمين” حياتها في التواصل مع فتيات يواجهن حالات مشابهة لحالتها لأسباب قد تكون جينية أو مهنية وتشدّد على أنّ هدفها يكمن في الدفع نحو مراجعة هذا القانون، الأمر الذي سيعوض لها حرمانها من أمومتها بزاد معنوي كبير وراحة نفسية بتركها لبصمتها كأوّل شابة تونسية تخرج للعلن للحديث عن حالتها متجاوزة الضغوط العائلية.

وتعتبر محدثتنا نفسها ضحية لمظلمة قانونية وإلى تعسف على حقوقها وحقوق العديد من الشابات العزباوات مثلها، موضحة في نفس السياق : ”مهدّدة بالحرمان من الأمومة بسبب قانون منقوص لم يراجعه المشرع لإنقاذ حالات كحالتي… عديد الفتيات قد يكن لم يكتشفن بعد ذلك”.

في الحقيقة ، تزيد من حساسية المسألة بعض الأفكار المغلوطة التي تكشف عن ثقافة سطحية حول الموضوع تتعلق باختلاط الأنساب غير أنّ القانون الحالي ينظّم المسألة بطريقة صارمة، حتى أنه يمنع استعمال الأمشاج في حال وفاة الزوج ولا يتم اخراج البويضات أو السائل المنوي المجمد إلاّ بحكم قضائي، وفق نفس المصدر.

وتلجأ بعض النساء في العالم إلى تجميد البويضات لحماية حقهن في الانجاب وتأجيله إلى وقت لاحق لأسباب شخصية ومهنية أو لمشاكل صحية وجينية مثلا لمعالجة قصور المبيض وتحسين أنظمة الاستزراع للبويضات غير الناضجة، لكنّ الأمر في تونس يثير الكثير من التحفظات نظرا لحساسية الموضوع والمخاوف المحيطة به.

خلال رحلتها المضنية بين الأطباء للعلاج الطبي والنفسي، تسرد “ياسمين” بمرارة محاولة طبيب في إحدى المستشفيات استغلال حالتها من خلال أخذ عيّنة من بويضاتها وإجراء أبحاث علميّة عليها، في وقت تحاول فيه الشابة جاهدة الحصول على بويضة واحدة ناجعة تمكنها من المحافظة على أمومتها.

وتوضح محدثتنا ملامح من هذه المأساة التي امتزجت بالألم والشعور بالامتهان والإحباط حيث تستحضر “ياسمين” بعض وقائع هذه الحادثة من خبايا ذاكرتها المثخنة بالجراح :

قصدت طبيبا في مستشفى عمومي للعلاج غير أنه حاول تحويلي إلى فأر تجارب حيث أراد أخذ عينة من بويضاتي الضئيلة أصلا ليجري عليها أبحاثا ويدرسها لطلبته…أراد استغلالي لزيادة علمه.

وتضيف “ياسمين” بالقول : “الحصول على بويضة واحدة ناشطة وناجعة عملية شاقة، وهذا الطبيب أراد استغلالي، فكرت في تقديم شكوى ضده لكن سياقا معيّنا منعني من ذلك.”

كيف يتعاطى الأطباء مع مسألة تجميد البويضات من منظور علمي؟

يفسّر الدكتور محمد خروف وهو طبيب مختص في طب النساء والتوليد والمساعدة على الإنجاب أنّ مخزون البويضات المتواجد في المبيضين، يحتوي على كمية معينة من البويضات، تنقص في كل دورة شهرية حيث تبدأ الفتاة بفقدان جزء من بويضاتها طبيعيا وشيئا فشيئا.

يضيف الدكتور خروف في توضيحه العلمي لمسألة صعوبة تشخيص وجود قصور في المبيض قائلا انّ “الإشكال يكمن في أنه حتى لو حصل الانخفاض بصفة غير عادية، وأكثر من اللازم فإنّ العلامات والأعراض على ذلك لا تظهر إلا في مرحلة متقدمة أي بعد نقص كبير وفادح في البويضات، وقبل هذه المرحلة تكون الأعراض قليلة وشبه منعدمة ولا يمكن أن تظهر إلا بتحاليل معينة أو في حالات ارتباك كبير في الدورة.”

ويتابع قائلا: “سنة 2001 حين صدر قانون الطب الإنجابي لم يكن تجميد البويضات موجودا، نظرا إلى أنّ القانون صدر أصلا بصفة مبكرة وترك الباب مفتوحا للأشخاص غير المتزوجين لتجميد بويضات أو حيوانات منوية في حالات الخضوع إلى علاج كيميائي يخفض الخصوبة فقط.”

ولا ينفي الطبيب أنّ الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها تونس خلال السنوات العشر الأخيرة قد ساهمت في تعطيل مراجعة هذا القانون رغم المطالب التي رفعها الأطباء إلى الجهات المعنية، إذ لم تعد المكاسب المتعلقة بالحقوق والصحة الإنجابية من ضمن الأولويات الحكومية.

“اصطدمنا بقانون لم يفكّر في تطور المجتمع والطب والحالات التي تتطلب العلاج، والإشكال الحقيقي يواجه النساء اللاتي لم ينجبن بعد لعدم الالتقاء بالشريك المناسب أو للتركيز على العمل أو الهجرة”

محمد خروف

وفي هذا السياق، يمكن أن نستشف أنّ الطابع التقييدي لهذا القانون يعكس النظرة الضيقة للمشرّع الذي لم يتوقع اتساع نطاق الحالات التي تتطلب التجميد بعد سنوات مثل حالات الأمراض الجينية أو الأمراض غير سرطانية التي تقلّل الخصوبة.

وقد تسببت هذه القيود في إشكاليات واجهها أطباء الاختصاص . يقول الدكتور خروف في نفس الإطار: “وجدنا أنفسنا في تونس أمام قانون لم يفكّر في تطور المجتمع والطب والحالات التي تتطلب العلاج، و الإشكال الحقيقي يواجه النساء اللاتي لم ينجبن بعد لعدم الالتقاء بالشريك المناسب أو التركيز على العمل أو الهجرة…حتّى لو تمّ تجميد البويضات وتلقيحها فيما بعد بمني الشريك وتكوين أجنة، تظل العملية غير مضمونة بصفة تامة نظرا إلى إمكانية فشل الحقن المجهري، الذي تظل نسبة نجاحه بين 45 و50 بالمائة في حالة سن صغير للمرأة”.

” التجميد يمكن أن يكون حلّا كلما كانت المرأة أصغر سنّا، التقدّم في السنّ يجعل من نسبة نجاح التجميد أضعف”

محمد خروف

من المهم أن نشير أيضا إلى أنّ تحقيق الحمل بعد تجميد البويضات ليس مضمونا بصفة قاطعة باعتبار أنّ “سحب البويضات لا يمكن أن يكون ناجعا في فترة الانخفاض الحاد لأن المبيض في هذه الحالة لا يستجيب للمنشطات”، بحسب المصدر ذاته.

حول عملية سحب البويضات والتي يدور حولها جدل كبير، يفسّر الدكتور خروف هذه العملية بدقّة في تفاصيل مراحلها: ” في مرحلة أولى علينا سحب أكثر من بويضة لتكثيف حظوظ الإنجاب، حيث يتم الإعداد لذلك مسبقا خلال أول يوم في الدورة عبر منح منشطات لتحفيز المبيض لتوفير عدد معين من البويضات حسب العدد الطبيعي إذا كان كثيفا أو ضئيلا”.

“وفي المرحلة الثانية، بعد التيقّن من وصول جيوب البويضات إلى حجم معيّن تكون تبعا لذلك جاهزة للسحب، ويتمّ القيام بعملية السحب بإبرة بعد الكشف بالصدا والتخدير ثم يقع تفريغ السائل الموجود داخل الجيوب وفي المخبر نبحث عن البويضة في ذلك السائل والعملية لا تتجاوز 10 دقائق،” يوضح المتحدث نفسه.

ويضيف الدكتور خروف: “هناك إناث لا تردن فقدان الغشاء لذلك وجدنا طريقة أخرى خصوصا لدى الفتيات في سن الـ 15 سنة والـ 12 مصابات بالسرطان وأولوياؤهن لا يريدون أن يفقدن غشاء البكارة لذلك اضطررنا إلى إجراء العملية عبر المثانة لا عبر المهبل”.

” غشاء البكارة يحول دون قدرة الفتيات الصغيرات المصابات بالسرطان على سحب بويضاتهن بسبب رفض الأولياء ما دفع الأطباء إلى السحب عبر المثانة”.

محمد خروف

ويتابع محمد خروف : “قمنا بهذه العملية في مستشفى عزيزة عثمانة ونشرناها في منشور علمي وتبقى أنجع عملية تقنيا لاستخراج البويضات هي أن تتم عبر الكشف بالصدا المهبلي، أما مسألة غشاء البكارة فهو يمكن أن يتمزق كما يمكن أن لا يتمزق، وأحيانا يقف ذلك حائلا عند بعض الأولياء عند القيام بعملية لطفلات مصابات بالسرطان”.

هكذا أصبحت مسألة غشاء البكارة تمثّل حاجزا “أخلاقيا” عند بعض الأولياء ممن يشتد بهم الألم على الغشاء مثل ألمهم من السرطان الذي يأكل أجساد طفلاتهن الأمر الذي جعل الأطباء يجتهدون لإيجاد حل لمن يرون في ذلك إشكالية.

ويرى نفس الطبيب أنّ عدم الاستقرار السياسي طيلة سنوات في تونس ساهم في تأخير النظر في مثل هذه القضايا الصحية حيث لم تعد من الأولويات.

في تونس عملية تجميد البويضات تبدو عموما غير مكلّفة حيث تبلغ كلفتها في مستشفى عمومي حوالي 250 دينار و2000 دينار كلفة أدوية تستعمل لمدة خمس سنوات، بينما كلفتها في القطاع الخاص حوالي 2000 دينار، كما يمكن استرجاع المصاريف عبر الصندوق الوطني للتأمين على المرض، وفق معطيات تقريبية تحصّل عليها موقع “الكتيبة” من مصادر متقاطعة .

محاذير مشروعة ومعادلة ممكنة

تواجه مسألة تجميد البويضات نظريا معادلة صعبة بين مبدأ حرية التصرف في الجسد، وما يترتب عن ذلك من امتلاك سلطة قرار الإنجاب من عدمه كمبدأ مطلق وكوني من جهة، ومخاطر الاستغلال وتحويل المسألة إلى وسيلة للربح قد تصل حتى إلى المتاجرة بالأعضاء من جهة أخرى، في وقت بات فيه القانون الحالي حجر عثرة أمام الحالات المماثلة لحالة “ياسمين” والذي لم يراع التطورات الحاصلة في المجتمع والطب وتطور الحالات التي تستوجب التجميد من خارج ما صرّح به هذا القانون.

رغم سهولة العملية والحاجة إليها، تظلّ المخاوف من فتح الباب أمام استغلال هذه الحالات للمتاجرة وزيادة الأرباح هاجسا يؤرق الساحة الحقوقية والنسوية. في هذا المضمار، تقول الطبيبة النفسية والناشطة في المجال الحقوقي النسوي أحلام بالحاج :”المبدأ العام في نظري هو حرّية التصرف في الجسد في المسائل السلوكية وغيرها، لكن الاحتفاظ بأجزاء معينة من الجسد يجب أن يكون مضبوطا ومنظما وإلا يمكن أن يتعرض إلى التلاعب والتجارة بالأعضاء.”وتشدد المتحدثة على أنّ ” القانون الحالي تقييدي جدّا لكنّه أفضل من قوانين الكثير من البلدان”،بحسب تعبيرها.

وتعتبر بالحاج أنّ “مسألة تجميد البويضات حساسة ويجب أن تخضع للإيتيقا والمسؤولية، ويجب احترام هذه المعادلة من أجل مستقبل الانسانية ولو هي على حساب حرية الأشخاص، لأنه لا يوجد شيء معطل أو محرر بطريقة مطلقة خاصة في مسألة حساسة كهذه.”

داخل الأوساط المهنية، باتت تُطرح تساؤلات حول التغيرات المجتمعية الطارئة مع تأخر الزواج وطول الحياة المهنية ومسيرات البحث العلمي، التي قد تصل إلى بلوغ المرأة سن الـ 36 أي مع بدء نقص الخصوبة، وهنا نظريا تعتبر بعض الشابات أنه من الضروري أن يسمح القانون بضمان جميع الحقوق وفقا لشروط مضبوطة لا سيما أين يتمّ التجميد، والقوانين التي تنظم هذا المجال، ودراسة دور القطاع الخاص الذي قد يستغل المسألة ليحوّلها إلى حاجة لا مجرد عملية ثانوية وفق شروط وعوامل مضبوطة من أجل تنمية ربحه.

” كبرى الشركات العالمية مثل غوغل وفيسبوك مارست وصاية على أجساد الموظفات النساء ودفعتهن إلى تجميد بويضاتهن لمنعهن من الإنجاب لتحقيق أكثر إنتاجية وربح مادي للمؤسسات”

ووسط الحالة السيئة للمستشفيات العمومية في تونس ونقص المعدات والتقنيات تتساءل الناشطة النسوية أحلام بالحاج هل “أن الصحة العمومية اليوم يمكنها استيعاب كل حاجيات النساء في هذا المجال؟”. هذا ما يجب أن يناقش أيضا، وفق تقديرها.

قد تثير مسألة تجميد البويضات أطماع لفيف من أطباء القطاع الخاص في زيادة أرباحهم، عبر تحويل المسألة وتسويقها من مجرد عملية استثنائية موجهة لفئة معيّنة ووفق شروط وظروف مضبوطة إلى قاعدة تعمم من أجل استقطاب أكثر عدد من النساء ودفعهن إلى التجميد في المصحات الخاصة. هذا الهاجس تثيره أحلام بالحاج في حديثها مع موقع “الكتيبة” محذّرة من خطورة تحرير عمليات تجميد البويضات بقولها: “إذا سمحنا لأي كان بالنشاط في هذا القطاع فالمسألة ستكون خطيرة.”

وأشارت بالحاج إلى أنّ تسليط الضوء على الدور الإنجابي للمرأة يفتح المجال للرقابة المجتمعية على جسد المرأة والتحكم في رغبتها في الإنجاب، بحيث يكون هذا الدور هو المسبق.وشدّدت على أنّ “المسألة الثانية الأخطر هي الخلفية التي ستترتّب عن هذه العملية حيث أنها ستكون وسيلة لتوجيه النقاش الاجتماعي نحو أن دور المرأة إنجابي بحت”، وفقا لرأيها.

وفي العالم الغربي، شركات كبيرة مثل غوغل وأبل وفيسبوك كانت قد دفعت موظفاتها إلى تجميد بويضاتها مع تسديد كافة النفقات لتأجيل الإنجاب من أجل ضمان أكثر إنتاجية في العمل والتحكم بذلك في رغبة النساء في الإنجاب، أي أنه باسم الحقوق تم التدخل في الحرية، بحسب بعض التقارير الصادرة حول هذا الموضوع.

ارتفاع طلبات تجميد البويضات.. مدخل لمراجعة قانون الطب الإنجابي

شهدت طلبات تجميد البويضات في مستشفى عزيزة عثمانة بتونس طفرة كبيرة بين سنتي 2015 و2021 وهو ما توضحه الأستاذة المبرزة في بيولوجيا علم الأنسجة والأجنة وبيولوجيا الإنجاب في مخبر بيولوجيا الإنجاب في مستشفى عزيزة عثمانة خديجة قاسم بالرجب بقولها ” انطلقنا منذ العام 2015 في أول تجارب التجميد في إطار الحفاظ على الخصوبة ولاحظنا تطورا في الطلب بما يفوق 630 طلبا فيما تم إنجاز التجميد لنحو 400 حالة.”

وأشارت إلى أن ” 15 بالمائة من أنشطة المستشفى في السنة تمثل حالات تجميد البويضات ولم يتم التعامل معها إلا في إطار ما يسمح به القانون الحالي.”

ورغم زخم الطلبات تؤكد الطبيبة أنهم قد تعاملوا فقط مع الحالات التي يسمح بها القانون، مشيرة في نفس الوقت إلى أن الأطباء يسعون إلى تغيير القانون ليشمل أكثر نساء خصوصا وأن الحالات والمطالب موجودة من خارج ما صرح به القانون، حيث تأتي عازبات يعانين من نقص مخزون البويضات لأسباب جينية.

من هذا المنطلق ، تدعو المحامية والباحثة في القانون وعضو الائتلاف المدني للدفاع عن الحريات الفردية في تونس الأستاذة هالة بن سالم ، في تصريح لموقع “الكتيبة”، إلى ضرورة مراجعة وتطوير المدونة التشريعية في علاقة بمسألة تجميد البويضات في اتجاه رفع وصاية الدولة على أجساد النساء وذلك على أسس علمية وحقوقية صرفة وبعيدا عن الذهنيات المحافظة التي تتدثر بذرائع دينية وخلفيات أخلاقوية، وفق توصيفها.

وتضيف الأستاذة بن سالم: ” قانون 2001 المتعلّق بالطب الإنجابي كانت الغاية منه التعاطي مع حالات استثنائية محدودة جدا ولم تكن له علاقة بالمنطلقات الحقوقية والاجتماعية. النساء هن أحرار في التصرف في أجسادهن ولا يحق للدولة فرض وصاية عليهن. يجب مراعاة معدّل سن الزواج في تونس اليوم الذي ارتفع إلى ما يفوق 35 سنة.”

وتؤكد محدثتنا أنّه من المفروض أن يشمل هذا القانون الجميع دون تمييز وفق الحالة المدنية أي في علاقة بمسألة الحق في تجميد البويضات وفق المعتقدات الشخصية والحاجة الاجتماعية أو الضرورات الصحية الانجابية ، مشيرة إلى أنّ العديد من النساء التونسيات الميسورات ماديا اضطررن إلى السفر إلى الخارج للقيام بعمليات تجميد البويضات في الوقت الذي لا تسمح فيه الظروف الاجتماعية والمادية للعديد من الشابات للقيام بنفس الشيء.

هذا وتشدّد هالة بن سالم على أنّه من الضروري فتح نقاش جدّي حول هذه المسألة من أجل تقنينها وبالتالي تجاوز التخوفات بشكل عقلاني يمكّن من اجتراح الحلول القانونية والعملية حتّى لا تحرم أي شابة تونسية غير متزوجة من حقّها في الأمومة، مشيدة بالتطور العلمي والطبي الذي بلغته تونس في هذا المجال والذي يقتضي، حسب تقديرها، رفع كل أشكال التمييز والوصاية من قبل الدولة مع ضرورة توفير آليات الولوج لهذه التقنية اختياريا في إطار المساواة وتكريس الحقوق والحريات الفردية بين جميع المواطنات.

كلمة الكتيبة:

يجمع هذا المقال بين الصحافة التفسيرية والصحافة العلميّة. وهو يندرج ضمن مجموعة إنتاجات صحفية يعكف موقع الكتيبة على اعدادها في إطار النبش في قضايا النساء التونسيات المسكوت عنها ولاسيما تلك المتعلقة بالصحة الإنجابية والجنسيّة وحقوق المرأة عموما. وقد أنجز هذا المحتوى بصيغة حسّاسة للجندر .

كلمة الكتيبة:
يجمع هذا المقال بين الصحافة التفسيرية والصحافة العلميّة. وهو يندرج ضمن مجموعة إنتاجات صحفية يعكف موقع الكتيبة على اعدادها في إطار النبش في قضايا النساء التونسيات المسكوت عنها ولاسيما تلك المتعلقة بالصحة الإنجابية والجنسيّة وحقوق المرأة عموما. وقد أنجز هذا المحتوى بصيغة حسّاسة للجندر .

الكاتب : سناء عدوني

صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
تصوير: حمزة الفزاني
مونتاج: رأفت عبدلي
غرافيك: منال بن رجب
مونتاج : رأفت عبدلي
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
تصوير : حمزة الفزاني

الكاتب : سناء عدوني

صحفية وباحثة في العلوم السياسيّة. شغلت عديد الخطط في الصحافة العربية والدولية.

sana