الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“تمّت الموافقة على طلب التأشيرة إلى فرنسا الذي تقدّم به زوجي في حين تمّ رفض منحي التأشيرة رغم أنّنا قدّمنا الوثائق ذاتها.. صديقان لنا أيضا تحصّلا على التأشيرة لفرنسا في الوقت الذي لم تتحصّل فيه زوجاتهما عليها.. المسألة اعتباطية.. شعرنا كأنّنا في قرعة.” هكذا تحدّثت سيرين، فنّية أسنان، بنبرة تنمّ عن تهكّم واستغراب، عن قصتها مع التأشيرات إلى فرنسا.
قصّة سيرين لا تمثّل استثناء بل هي مثال مصغّر عمّا يتعرّض له آلاف التونسيين.ـات يوميّا من معاناة و”إذلال”، وفي بعض الأحيان تلاعب، في سبيل الحصول على تأشيرة للسفر إلى دول الاتحاد الأوروبي عموما، وفرنسا بشكل خاصّ، بغضّ النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها أو الفئة التي يمثّلونها.
بات السفر إلى فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أزمة كوفيد، مهمّة شبه مستحيلة، تحتاج إلى مدّة قد تصل إلى 6 أشهر بين الحصول على موعد لتقديم ملف التأشيرة وإعداد الوثائق اللازمة وانتظار قرار الموافقة أو الرفض.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“تمّت الموافقة على طلب التأشيرة إلى فرنسا الذي تقدّم به زوجي في حين تمّ رفض منحي التأشيرة رغم أنّنا قدّمنا الوثائق ذاتها.. صديقان لنا أيضا تحصّلا على التأشيرة لفرنسا في الوقت الذي لم تتحصّل فيه زوجاتهما عليها.. المسألة اعتباطية.. شعرنا كأنّنا في قرعة.” هكذا تحدّثت سيرين، فنّية أسنان، بنبرة تنمّ عن تهكّم واستغراب، عن قصتها مع التأشيرات إلى فرنسا.
قصّة سيرين لا تمثّل استثناء بل هي مثال مصغّر عمّا يتعرّض له آلاف التونسيين.ـات يوميّا من معاناة و”إذلال”، وفي بعض الأحيان تلاعب، في سبيل الحصول على تأشيرة للسفر إلى دول الاتحاد الأوروبي عموما، وفرنسا بشكل خاصّ، بغضّ النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها أو الفئة التي يمثّلونها.
بات السفر إلى فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أزمة كوفيد، مهمّة شبه مستحيلة، تحتاج إلى مدّة قد تصل إلى 6 أشهر بين الحصول على موعد لتقديم ملف التأشيرة وإعداد الوثائق اللازمة وانتظار قرار الموافقة أو الرفض.
على الرغم من أنّ الحقّ في التنقّل هو أحد أهم الحقوق الأساسيّة التي نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يجد عدد هام من التونسيين.ـات أنفسهم محرومين من هذا الحقّ، حتّى بعد استيفائهم لكافة الإجراءات البيروقراطية لتقديم ملفّ التأشيرة، فالكثير منهم/هن جوبهوا برفض منحهم التأشيرة لفرنسا بتعلّات واهية وغير واضحة.
تأشيرة شنغن: أداة مركزية في سياسات الهجرة
في الآونة الأخيرة، أصبح رفض منح التأشيرات يطال فئات كانت منذ مدّة غير بعيدة تتنقّل بشكل دائم بين تونس وفرنسا دون إشكاليّات تُذكر، من بينهم أساتذة جامعيون وأطبّاء ومحامون وإطارات شبه طبّية ومهندسون إلخ.
تزعم فرنسا أنّ تونس تمثّل أولويّة بالنسبة إليها ولا تكاد تمرّ فرصة إلاّ ويذكّر مسوؤلوها بـ”علاقات الصداقة التاريخية والاستراتيجية” بين البلدين. وتعدّ فرنسا أبرز الشركاء الاقتصاديين لتونس، حتّى أنها كانت في 2019 الشريك الاقتصادي الأوّل لتونس، حيث كانت الوجهة التجارية لما يقارب 29,1% من الصادرات التونسيّة ومصدر 14,3% من الواردات التونسية.
يقيم في تونس حوالي 22 ألف فرنسي. ويزور تونس عشرات الآلاف من السيّاح الفرنسيين الذين لا يحتاجون إلى تأشيرة أو إجراءات استثنائية لدخول التراب التونسي، بل إنّ بعضهم يستطيع الدخول بإظهار بطاقة هويّته الفرنسية فقط.
تستفيد فرنسا كذلك من كفاءات تونسية تختارها بعناية ودقّة وتسهّل انتقالها إليها ضمن ما يُسمّى ببرنامج “تأشيرة المواهب” الذّي يضمن الإقامة لعدّة سنوات، حتّى تغطّي حاجياتها المهنية بخبرات تونسيّة مقابل مبالغ زهيدة.
في المقابل، يجد التونسيون.ـات الأقلّ حظّا أنفسهم/هن في مواجهة عقبات عديدة للحصول على تأشيرة إلى فرنسا تبدأ منذ محاولة الحصول على موعد لتقديم ملفّ التأشيرة مرورا بجملة الوثائق التي يتعيّن إعدادها وصولا إلى انتظار قرار الموافقة على التأشيرة أو الرفض. وهو مسار إضافة إلى المدّة التي يستغرقها يتطلّب موارد مالية هامّة لا تراعي الوضعيات الاقتصادية للتونسيين.ـات.
ولئن كان الحديث عن رفض مطالب تأشيرات إلى فرنسا قد طفى على السطح مؤخّرا بشكل متواتر، إلّا أنّ حالات الرفض ليست أمرا جديدا، إذ تطرّقت دراسة صادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نُشرت في فيفري/ شباط 2020، بعنوان “حصن أوروبا: تشديد سياسة تأشيرة شنغن وعواقبها وضحاياها“، إلى مسألة نظام التأشيرات الذي تحوّل من خدمة عامّة إلى نشاط اقتصادي خاصّ يدرّ أرباحا على شركات أجنبية خاصّة.
وثّقت دراسة “حصن أوروبا” كذلك حالات رفض منح تأشيرات إلى دول الاتحاد الأوروبي التي غالبا ما تأتي بتبريرات ضعيفة وظالمة، خاصّة أنّ الأسباب التي تبرّر الرفض وفق نظام تأشيرة الشنغن محدودة وبالتالي فإن ملفّا يتضمّن كافة الوثائق لا يمكن رفضه.
هذا الأمر يحيل إلى أنّ حالات الرفض المتكرّرة المبنيّة على تبريرات واهية تثبت أنّ الأمر يتعلّق بسياسة مدروسة جيّدا ومتّبعة تجاه مواطنين.ـات من دول مثل تونس.
تصف الدّراسة سياسة تأشيرة شنغن بـ”أداة مركزية في سياسات الهجرة”. ويتمّ بالتالي استخدام سياسة التأشيرات وسيلةَ ضغط على بلدان “العالم الثالث” التي لا تتعاون بشكل كاف في مسألة إعادة قبول المهاجرين.
في هذا السياق، يقول الباحث في علم الاجتماع وأحد معدّي دراسة “حصن أوروبا”، أحمد جماعة، لموقع الكتيبة:
إنّ حالات رفض التأشيرات تمثّل إهانة لتونس ولكنّها ليست مسألة معزولة بل هي تربط الهجرة بالاقتصاد السياسي ضمن علاقة هيمنة تجمع تونس بالاتحاد الأوروبي ككلّ وتقوم على نهب ثروات المنطقة المغاربية وأفريقيا.
أحمد جماعة، باحث في علم الاجتماع
ويضيف أحمد جماعة انّها “تمثّل أيضا منظومة اقتصاد سياسي تعطي حرّية التنقّل للسلع والأفكار وكل شيء باستثناء الأفراد من جنوب المتوسّط. ففي الوقت الذي يمكن فيه للمواطن الأوروبي أن يأتي للعمل في تونس حتّى لو تجاوز فترة إقامته وأصبحت وضعيّته غير قانونية، يحتاج التونسي.ـة للتنقّل إلى فرنسا إلى مدّة قد تصل إلى 6 أشهر لإعداد ملفّ تأشيرة، وفق المتحدّث ذاته.
يؤكّد أحمد جماعة أنّ المسألة تندرج في إطار منظومة كاملة للاقتصاد السياسي بين شمال العالم وجنوبه. وبالتركيز على المنطقة المغاربيّة، فهي تمثّل علاقات هيمنة وعلاقات قوّة باعتبار أنّ الطّرف الأوروبي في وضع أقوى من حكومات المغرب العربي ذات القرار المشتّت.
تربط فرنسا حالات رفض منح التأشيرة بالنوايا الهجرية للمواطنين.ـات التونسيين.ـات بغضّ النظر عن الوثائق التي يوفّرونها والتي تثبت عدم نيّتهم البقاء في فرنسا. وعلى الرّغم من أنّ حالات الرفض كانت قد سجّلت ارتفاعا بين 2018 و2019، إلاّ أنّها لم تبلغ آنذاك الرّقم القياسي المسجّل منذ ما بعد أزمة كوفيد.
في سبتمبر/ أيلول 2021، أعلنت فرنسا نيّتها التخفيض في نسبة التأشيرات لمواطني.ـات الدول المغاربيّة، بنسبة 50% للمغرب والجزائر و30% لتونس بهدف دفع هذه الدول إلى التعاون أكثر في مجال إعادة استقبال مواطنيها الموجودين على الأراضي الفرنسية بطريقة غير نظامية.
يؤكد دبلوماسي تونسي سابق رفيع المستوى -طلب عدم نشر هويّته- لموقع الكتيبة، أنّ حالات رفض منح التأشيرة لفرنسا المتكرّرة في الآونة الأخيرة جعلت المسألة سياسة متعمّدة للحدّ من إعطاء التأشيرات ليس لها أيّ أساس قانوني ومرتبطة بمسألة ترحيل التونسيين الموجودين في فرنسا بطريقة غير نظامية.
يبيّن الدبلوماسي السابق أنه من المفترض أن تمنح القنصليّات التونسيّة هناك جوازات مرور (des laissez-passer) بتوافق بينها وبين الجهات الأمنيّة الفرنسيّة، لمن دخل التّراب الفرنسي بصفة غير نظامية حتى يعودوا إلى تونس.
تحاول القنصليّات التونسية التثبّت من هويّة هؤلاء الأشخاص من خلال إرسال بصماتهم إلى وزارة الداخليّة التونسيّة، الأمر الذي يستغرق مدّة طويلة ويؤدي إلى تراكم هذه الحالات، وهو ما تراه السّلطات الفرنسيّة تراخيا من نظيرتها التونسيّة، وفق المصدر ذاته.
يتّفق الباحث في علم الاجتماع أحمد جماعة مع هذه المقاربة، مشيرا إلى أنّ ما تمّت ملاحظته هو أنّه، رغم وجود حالات رفض عديدة في السابق تضرّرت، بعد القرار الفرنسي في التخفيض في كوتا (نسبة) التأشيرات، فئات أخرى من التونسيين.ـات التي لم تكن معنيّة على غرار أساتذة التعليم العالي والتعليم الثانوي والإطارات الطّبية وشبه الطّبية وحتّى الطلبة المتوجّهين للدراسة الذين تمّ قبولهم في جامعات فرنسيّة.
أبواب فرنسيّة موصدة
سيرين، فنّية الأسنان، كان قد سبق لها أن زارت فرنسا وألمانيا إلى جانب دول أوروبية أخرى، مرّات عديدة للمشاركة في معارض خاصّة بطبّ الأسنان، وجدت نفسها مؤخرا من الضحايا الجدد للسياسة الفرنسيّة. تروي محدّثتنا قصّتها بنبرة فيها الكثير من التهكّم والاستغراب، حيث أنّها كان من المفترض أن تشارك في معرض لطبّ الأسنان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 الّا أنّ مصالح الفيزا الفرنسية كان لها موقف آخر.
قامت سيرين بإعداد كلّ الوثائق المطلوبة لتقديم ملفّ تأشيرة مهنيّة وعمدت إلى حجز تذكرة الطائرة والفندق وحوّلت مبلغا ماليّا قيمته 1000 يورو لتستعمله خلال إقامتها بفرنسا مدّة 4 أيّام. نجحت سيرين في الظفر بموعد في شركة “ت ال اس كونتاكت” (TLS Contact) بسهولة باعتبار أنها تقدّمت بطلب في تأشيرة مهنيّة وليست سياحيّة. وتقدّمت بملفّها قبل 3 أشهر تقريبا من تاريخ انعقاد المعرض.
من جانبه، تقدّم زوجها، الذي كان سيشارك معها في المعرض، بطلب تأشيرة مهنيّة أيضا بعدها بحوالي أسبوعين، وقدّم في ملفّه الوثائق ذاتها التي كانت قد ضمّنتها سيرين في ملفّها. تمّت الموافقة على طلب تأشيرة الزوج في غضون 3 أسابيع من تاريخ تقديمه لملفّه.
لم يصل الردّ على ملفّ تأشيرة سيرين إلّا في اليوم الثاني من انطلاق أشغال المعرض في فرنسا، وكانت مفاجأتها كبيرة عندما وجدت أنّها لم تحصل على التأشيرة بتعلّة “سخيفة” جدّا، وهي أنّ المبلغ الذي قامت بصرفه إلى اليورو غير كاف لتغطية مدّة إقامتها، على الرّغم من أنّ زوجها كان قد قام بتحويل المبلغ ذاته، وهو 1000 يورو.
ما حصل لسيرين لم يكن استثناء، فهناك صديقان لها قُبلت ملفّات تأشيراتهما إلى فرنسا في حين تمّ رفض ملفّات زوجاتهما، رغم انّ إحداهما لها مشروع خاصّ بها ولا تبحث عن الهجرة أو الهروب إلى البلاد الفرنسيّة.
مورّدان يعملان في شركة واحدة ويقومان بنفس العمل، قدّما وثائقهما أيضا لطلب الحصول على تأشيرة إلى فرنسا في اليوم ذاته، أحدهما تمّت الموافقة على ملفّه فيما رُفض الثاني. الفرق الوحيد بين هاتين الحالتين هو أنّ الموقّع على وثائق المورّد الذي تحصّل على تأشيرة هو موظّف من أصول إفريقية يعمل في القنصليّة الفرنسية، فيما حملت وثائق المورّد الثاني الذي وقع رفضه إمضاء موظّف فرنسي.
تؤكّد حالات الرّفض هذه أن المسألة اعتباطيّة ولا تقوم على أساس قانونيّ. تعزّز صحّة هذه الفرضيّة شهادة فائزة، وهي أستاذة تعليم ثانوي ومترجمة -أي أنّها موظّفة مرسّمة- التي جوبه طلبها الحصول على تأشيرة إلى فرنسا كذلك بالرفض.
كانت فائزة تنوي زيارة شقيقتها المقيمة في فرنسا. في فيفري/ شباط 2022، تقدّمت بطلب تأشيرة سياحية وقامت بإعداد كافّة الوثائق الضرورية من إيصالات بنكيّة وكشوفات المرتبات وغيرها. كما صرفت مبلغا قيمته 1000 يورو.
لم تتوقّع حينها أن يقع رفض طلب تأشيرتها خاصّة أنّ التبرير الذي أرسل إليها لا أساس له والذي يقول إنّ “المعلومات التي تمّ تقديمها لتبرير شروط وهدف إقامتها المبرمجة غير موثوق فيها”، وهو ما يعني أنّ السّلطات الفرنسيّة لم تثق في الوثائق المقدّمة ومن نيّتها في مغادرة الأراضي الفرنسيّة.
تقول فائزة إنّ هذا الأمر الذي يحصل لكثير من التونسيين.ـات هو “إهانة كبرى” خاصّة عندما تكون وضعيّة المعنيّ بالأمر قانونيّة وليس هناك أيّ سبب للرفض مؤكدّة أن التنقّل في أي مكان في العالم هو حقّ من الحقوق الأساسيّة.
أجمع الكثيرون ممّن تحدّث معهم موقع الكتيبة على أنّ ما يحصل من رفض من قبل السفارة الفرنسيّة هو “مسألة اعتباطيّة”، من بينهم معتزّ، وهو مهندس يتمتّع براتب جيّد ويعمل في تونس منذ 6 سنوات وليس لديه أيّ دافع أو رغبة للهجرة إلى فرنسا وفق قوله.
في نهاية عام 2021، أراد معتزّ القيام برحلة إلى أوروبا بمعيّة عدد من أصدقائه المتكوّنين من أطبّاء أسنان ومهندسين. تقدّموا بطلبات تأشيرات إلى فرنسا في الفترة ذاتها، إلاّ أنّهم فوجئوا بقبول مطالب 3 أو 4 أشخاص من بينهم، فيما تمّ رفض المطلبين المتبقّيين.
كان معتزّ وخطيبته -وهي طبيبة أسنان- ممن تمّ رفض ملفّيهما، رغم أنّ هذه الأخيرة كانت قد تحصّلت على تأشيرة سابقا في 2018. وقد بُرّر هذا الرفض بأنّ المعلومات المقدّمة حول ظروف الإقامة (أي الموارد المالية والسكن) غير موثوقة، علما أنّ كامل أفراد المجموعة قد قدّموا الوثائق ذاتها.
لا تمثّل هذه الشهادات إلاّ جزءاً صغيرا من واقع مئات التونسيين.ـات الذين رفضت السلطات الفرنسيّة منحهم تأشيرة الدخول إلى أراضيها. والكثيرون منهم يلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن استغرابهم وغضبهم لتعامل السلطات الفرنسية معهم ورفضهم غير المبرّر.
من بين هؤلاء أستاذ الحضارة بالجامعة التونسيّة المنصف عبد الجليل (عميد سابق لكليّة الآداب بسوسة) الذي استنكر في تدوينة نشرها بتاريخ 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 معاملة فرنسا للمواطنين التونسيين من طالبي التأشيرة معاملة مهينة ومذلّة، قائلا:
“لا يكفي أنّها تغلق باب المواعيد وتؤخّرها، وإنّما ترى من حقّها أيضا أن ترفض المطالب بلا تعليل. ومع ذلك تدّعي فرنسا أنّها أمّ حقوق الإنسان والحرّيات العامّة والفرديّة وما إلى ذلك من حجج الاستبداد المقنّع”.
المنصف عبد الجليل
أعلن حينها عبد الجليل أنّه لن يشارك في أيّ ندوة أو لقاء أو تظاهرة علميّة وثقافيّة يكون فيها الفرنسيّون منظّمين أو طرفا في التنظيم مطالبا رئاسة الجمهوريّة بـ”إقرار المعاملة بالمثل ومطالبة الفرنسيّين بالتأشيرة مقابل نفس المبلغ الموظّف على التونسيّين”.
لا تعدّ حالة الأستاذ الجامعي المنصف عبد الجليل حالة منفردة، إذ تراوح عدد الأساتذة الجامعيّين الذين تمّ رفض منحهم تأشيرات إلى فرنسا بين 150 و200 أستاذا/ة جامعيّا، بحسب ما أفادنا به الكاتب العام للنقابة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي نزار بن صالح.
يشدّد بن صالح على أنّ مطالب التأشيرات لهؤلاء الأساتذة الجامعيّين تندرج في إطار تنقّلات ذات صبغة أكاديمية وعلميّة إلّا أنّها تُرفض دون مبرّر واقعي. وقد بدأت ملاحظة هذه الظاهرة منذ ربيع 2022 عندما بدأ أساتذة وأكاديميون من الأسماء المرموقة والمعروفة في الفضاء الجامعي التونسي معتادون على التنقّل إلى فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية أو بلدان أمريكا الشمالية، بالاتصال بالنقابة لإعلامهم بالرفض المفاجئ لمطالب تأشيراتهم.
يضيف محدّثنا أنّ التبريرات المصاحبة لقرار الرفض ليست واضحة، إلّا أنه يؤكّد صحّة فرضيّة أنّ السّبب الحقيقي وراء حالات الرفض المتواترة هو طلبات الحكومة الفرنسية من نظيرتها التونسية في علاقة بما يسمّى بـ”الهجرة غير النظامية”، وفق قوله.
وهو ما يستنكره نزار بن صالح الذي أكّد أنّه لا يجب الخلط بين الملفّات وأنّه لا معنى لوقف منح التأشيرات للجامعيين والباحثين بهدف الضغط على الحكومة التونسيّة.
بن صالح أشار، كذلك، إلى مفارقة أخرى وهي قدرة الجامعيين الفرنسيين على التنقّل بحرّية والدخول إلى تونس كيفما شاؤوا في حين أنّ نظرائهم من التونسييّن يضظرّون إلى الوقوف في صفّ طويل لتقديم ملّف التأشيرة ومن ثمّ ترفض ملفّاتهم.
أطمئن الحكومة الفرنسيّة، لا يوجد جامعيّون تونسيّون يطمحون للهجرة والعيش في السرّية في فرنسا.. ليس هناك ظاهرة هجرة غير نظاميّة للجامعيّين نحو فرنسا وما يحصل إساءة نعيشها بنوع من الألم.
الأستاذ الجامعي نزار بن صالح
تثبت هذه الشهادات وغيرها اعتباطيّة سياسة منح التأشيرات إلى فرنسا خاصّة عندما باتت تطال، في الأشهر الأخيرة، شخصيّات تعوّت على أن تتنقّل إلى فرنسا بسهولة.
إلاّ أنّ هذه الظاهرة تخفي وراءها ازداوجيّة في التعامل الفرنسي مع المواطنين.ـات التونسيين.ـات، نظرا إلى أنّ بعض الشخصيّات التونسيّة التي تحظى بدعم من هياكلها المهنيّة أو لها تأثير على الرأي العام تلقى معاملة مختلفة من قبل مصالح القنصليّة و/أو السفارة الفرنسيّة.
في صائفة 2022، أعلنت فاطمة الشرفي الأستاذة الجامعية والدكتورة في الطبّ النفسي للأطفال والمراهقين في مستشفى المنجي سليم، عبر تدوينة في حسابها في تويتر، أنّه تمّ رفض طلبها في الحصول على تأشيرة إلى فرنسا رغم أنّها كانت دائما ما تتحصّل عليها ورغم عملها القائم على تكوين أطبّاء يذهبون للعمل في فرنسا، كما أنّها أمّ لشابّ يحمل الجنسيّة الفرنسية.
أثار هذا الإعلان جدلا كبيرا في ذلك الوقت وتداولت الخبر وسائل إعلام عديدة لتتّصل القنصليّة بالشرفي وتتراجع عن قرارها وتمنحها تأشيرة.
رحلة طويلة لطلب التأشيرة
حالات رفض منح التأشيرات إلى فرنسا والتّمييز في التعامل بين المواطنين.ـات التونسيين.ـات لا تمثّل إلّا الشجرة التي تخفي غابة معاناة التونسييّن.ـات في رحلة حصولهم/هن على تأشيرة تمكّنهم من دخول الأراضي الفرنسيّة بشكل خاص والأوروبية عموما.
قبل الحصول على الردّ بالموافقة أو الرفض على طلب التأشيرة، يمرّ طالبو التأشيرات بسلسلة من الإجراءات التي تبدأ بالحصول على موعد في شركة “ت ال اس كونتاكت”.
أمر بات مؤخّرا شبه مستحيل، إذ تؤكد شهادات عديد التونسيين.ـات أنّهم لا يستطيعون الحصول على موعد لتقديم ملف تأشيرة، خاصّة عندما تكون سياحيّة، إلا بعد 3 أشهر.
“أيمن”، اسم مستعار لمهندس معلوماتية تونسي يعمل في شركة أجنبية، تمّ رفض طلب تأشيرة تقدّم به في أواخر السنة الفارطة رغم أنّه كان قد تخرّج من جامعة فرنسيّة وسافر عديد المرّات إلى هناك، يحاول منذ أسابيع الحصول على موعد لتقديم طلب تأشيرة آخر. أوّل موعد متوفّر وجده أيمن كان في شهر جويلية/ تموز 2023.
بعد رفض منحها تأشيرة مهنيّة، قرّرت سيرين أن تقدّم طلب تأشيرة سياحية. إلّا أنّ أصدقاءها من الأطباء أعلموها أنهم يحاولون هذه الأيّام العثور على مواعيد لتقديم الملفات إلا أنّ أوّل المواعيد المتوفّرة تنطلق في شهر جويلية/ تموز المقبل، رغم إعلان القنصليّة الفرنسية أنها ستفتح مواعيد جديدة.
ليس هناك ظاهرة هجرة غير نظاميّة للجامعيّين نحو فرنسا وما يحصل إساءة نعيشها بنوع من الألم.
نزار بن صالح
بدورها، عاشت مروى وهي منسّقة مشاريع في احدى منظمات المجتمع المدني تجربة صعبة في الحصول على موعد بعد تلقّيها دعوة من قبل منظمة فرنسيّة للمشاركة في ندوة ستنعقد في مدينة “نيس” في شهر جوان/ حزيران 2023.
تلقّت مروى الدعوة يوم 29 مارس/ آذار 2023 وسارعت إلى موقع “ت ال اس كونتاكت” بهدف حجز موعد، إلاّ أنّها فوجئت أنّ تاريخ أوّل موعد متوفّر يسبق تاريخ انعقاد الندوة بحوالي أسبوع، وهي مدّة غير كافية للحصول على ردّ السفارة الفرنسيّة.
حاولت محدثتنا الاتصال بشركة “ت ال اس” مرّات عديدة لتقديم موعد تقديم ملف التأشيرة دون جدوى، الأمر الذي دفعها إلى الاتصال بالجمعية المنظّمة للندوة كي تتدخّل لفائدتها، وهو ما وقع، حيث اتّصلت الجمعية الفرنسيّة بالسفارة الفرنسية في تونس، ليتمّ إثر ذلك تغيير موعد تقديم الملف إلى بداية شهر مايو/ أيار الجاري.
تعمل السلطات الفرنسيّة على التمييز بين التونسيين.ـات حتّى عندما يتعلّق الأمر بمواعيد تقديم ملفات التأشيرات، وهو ما تؤكده شهادات تحصّلنا عليها، إحداها لصحفي تونسي حاول حجز موعد عبر موقع “ت ال اس” إلا أنّه لم يجد مواعيد متوفرة إلا بعد 3 أشهر من تاريخ محاولته التسجيل.
لم يجد الصحفي من حلّ سوى الاكتفاء بتسجيل اسمه في موعد بعيد الأجل، إلّا أنّه فوجئ في اليوم الموالي باتصال من القنصليّة الفرنسيّة لإعلامه بتقديم موعده لتقديم ملفّه.
هذه المماطلة في حجز المواعيد لتقديم ملفّات التأشيرات جعلت بعض الأساتذة الجامعيين يحتجّون عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويدعون إلى مقاطعة المنابر الأوروبية خاصّة أنّهم كانوا سيتوجّهون إلى فرنسا بدعوة من جهات فرنسيّة، واضطرّوا إلى الانتظار أشهرا للحصول على موعد ومن ثمّ رفضت بعض مطالبهم، وهو ما حصل للأستاذة الجامعية فاتن المداح والأستاذ الجامعي عبد الله الفهري.
دفع هذا التعاطي مع الأساتذة الجامعيين كاتب عام نقابة التعليم العالي نزار بن صالح إلى المطالبة بإحداث شبّاك موحّد للجامعيين وإلى تسهيل إجراءات طلب التأشيرة لفائدتهم حتى لا ينتظروا أشهرا ولا يقفوا في صفوف طويلة لتقديم ملفّاتهم التي قد تُرفض.
علاوة على ذلك، يُجبر التونسيون.ـات على دفع مبالغ لا تقلّ عن حوالي 400 دينار تونسي (حوالي 119 يورو) للشخص الواحد، موزّعة كالآتي: 110 دينارا (حوالي 30 يورو) لفائدة شركة “ت ال اس” وحوالي 260 دينار (80 يورو) لفائدة القنصلية الفرنسيّة.
تنضاف إلى هذا المعلوم مصاريف أخرى كحجز تذاكر الطائرة ومبلغ مالي يتمّ تحويله إلى اليورو قبل السفر وفي بعض الأحيان معاليم حجز الفندق والتأمين إلخ.
كلّ هذه المصاريف المستوجب دفعها لدى تقديم ملف تأشيرة إلى فرنسا لا يتمكّن طالبـ.ـة التأشيرة من استردادها أو على الأقل استرداد جزء منها إذا ما تمّ رفض ملفّه.
تعدّ تكلفة التأشيرة باهظة بالنظر إلى قيمة الدينار التونسي مقارنة باليورو، وهو ما تؤكده دراسة “حصن أوروبا: تشديد سياسة تأشيرة شنغن وعواقبها وضحاياها”، علما وأنّ التكلفة ارتفعت من 60 يورو إلى 80 يورو، وقد تمّ تفعيل التسعيرة الجديدة بداية من سنة 2020، بحسب ما أفادتنا به شركة “ت ال اس كونتاكت”.
إلّا أنّ منظومة شنغن لا تنصّ على وجوب إعادة الأموال في حالة الرفض على عكس ما هو معمول به في سفارات دول أخرى بتونس على غرار سفارة روسيا أو سفارة مصر.
يقول المكلّف بالإعلام في السفارة الفرنسيّة بتونس لويس راسين، في معرض ردّه على بعض الأسئلة التي توجهنا بها إليه عبر البريد الالكتروني “إنّ رسوم التأشيرة هي مقابل خدمة سواء تمّ منح التأشيرة أم لا وإنّ المسألة محدّدة بمنظومة شنغن، كما أنّه في الممارسة الدولية لا يتمّ تعويض طلبات التأشيرة المرفوضة”، حسب تعبيره.
ملايين الدينارات التونسية تذهب إلى جنّة ضريبية بالعملة الصعبة
في المقابل، تحيل مسألة الأموال التي يدفعها طالبو التأشيرة من التونسيين.ـات إلى قضيّة أخرى وهي خوصصة التأشيرة. يشير الباحث في علم الاجتماع أحمد جماعة إلى أنّه في السابق كان أيّ مواطنـ.ـة في أيّ مكان في العالم يتوجّه مباشرة إلى قنصليّة أو سفارة البلد الذي يريد السفر إليه، أمّا اليوم لجأت الدول الأوروبية إلى فاعلين خواصّ مثل “ت ال اس” و”ف اف اس غلوبال” (VFS Global) وغيرها.
عرف اللجوء إلى هذه الشركات ذروته خلال السنوات الأخيرة من قبل معظم دول الاتحاد الأوروبي أو دول الشنغن.إلاّ أنّ الاستعانة بهذه الأطراف الخارجية يجعل الراغبين/ات في الحصول على التأشيرة عرضة للاستغلال من قبل مقدّمي هذه الخدمة الناشطين في القطاع الخاصّ، وفق الدراسة الآنف ذكرها. وقد جعلت هذه الشركات بالتالي عمليّة تقديم ملف التأشيرة أكثر تعقيدا لتحيد بذلك عن الدور الذي أنشئت من أجله.
هذا الأمر ينطبق مع ما يحصل مع التونسييّن مع شركة “ت ال اس كونتاكت” بشكل خاصّ رغم وجود شركات أخرى تعمل في تونس في نفس المجال. يشتكي العديد من التونسيين من الخدمات التي تقدّمها “ت ال اس” ومن الأموال التي تأخذها منهم دون أن يتمكّنوا من استرجاعها عند رفض طلبات تأشيراتهم.
تأسّست شركة “تي ال اس كونتاكت” سنة 2007 وهي مختصّة في جمع طلبات التأشيرات وتقدّم لطالبي.ـات التأشيرة المعلومات وتتولّى جدولة المواعيد وتقديم المستندات الداعمة وإعادة جواز السفر عند نهاية العمليّة. وهي اليوم تدير 150 مركز تأشيرة في 90 بلدا في العالم.
بدأت شركة “ت ال اس” نشاطها في تونس سنة 2012 من قبل شركة “انترناشونال كومباني أوف أنستيتوشونال سرفيس” (International Company of Institutional Services “I.C.I.S) المسجّلة في لوكسمبورغ – المعروفة بكونها جنّة ضريبيّة- ممثّلة في شخص مديرها برترون فايزجربر وشركة “ت ال اي كونتاكت فرنسا” (TLS Contact France) ممثّلة أيضا برئيسها برترون فايزجربر.
تشغّل الشركة 150 شخصا بين موظفين فيها ومقدّمي خدمات الأمن والتنظيف. وتتلقّى مبلغا قيمته حوالي 110 دينارا تونسيا (30 يورو) مقابل الخدمات التي تقدّمها للشخص الواحد.
تحقّق الشركة أرباحا هامّة، إذ بلغ رقم معاملاتها في سنة 2022 حوالي 19 مليون دينار تونسي، مسجّلا بذلك ارتفاعا مقارنة بسنوات 2021 و2020 التي تراجعت خلالها أرباح “ت ال اس تونس” بسبب أزمة الكورونا التي أدّت إلى غلق الحدود بين الدول.
تقدّم شركة “ت ال اس” تونس خدمة أخرى تسمّى بـ”VIP”، وهي خدمة تهدف إلى توفير مزيد “من الراحة” لمستعمليها الذين يتعيّن عليهم في المقابل دفع مبلغ 150 دينارا (حوالي 45 يورو) إضافيّا.
يتذمّر الكثير من التونسيين.ـات من طالبي.ـات التأشيرة من المعاليم التي يُجبرون على دفعها لشركة “ت ال اس” دون إمكانيّة استرجاع ولو جزء بسيط منها في حال رُفضت مطالبهم.
تبرّر “ت ال اس” عدم إعادة المصاريف بأنّها كشركة قامت بعملها وقدّمت الخدمة لطالبـ.ـة التأشيرة باعتبار أنّ الردّ الذي يصل من السفارة أو القنصليّة لا علاقة لها به بل أنّها لا تعلم حتّى ما إذا كان الطلب قد قوبل بالرّفض أو القبول، لأنّ مهمّتها تقتضي إعادة جواز السفر إلى المعنيّ بالأمر في ظرف مغلق.
في سياق متّصل، فتحت خوصصة منظومة تأشيرات الشنغن وغياب المواعيد لدى شركة “ت ال اس” الباب أمام نوع جديد من التلاعب الذي يتعرّض إليه تونسيّون من قبل وكالات خاصّة.
في الوقت الذي يعجز فيه جلّ طالبي.ـات التأشيرة على حجز موعد لتقديم ملفّ، تعرض وكالات أسفار خدماتها لتوفير مواعيد في تواريخ قريبة.
اتّصل موقع الكتيبة بـ3 وكالات، عرضت الأولى علينا توفير موعد لتقديم ملف تأشيرة لفرنسا في موفى شهر ماي/ أيار أو بداية شهر جوان/ حزيران 2023، وذلك مقابل دفع 800 دينار (حوالي 240 يورو) لوكالة الأسفار، إلى جانب بقيّة معاليم التأشيرة، رغم أنّ المواعيد التي كانت متوفّرة على موقع “ت ال اس” كانت في جويلية/ تموز المقبل.
وكالة الأسفار الثانية قالت إنها ستتمكّن قريبا من توفير مواعيد لتقديم ملفّ تأشيرة إلى إسبانيا فقط في جوان/ حزيران 2023 مقابل 200 (حوالي 60 يورو) دينار (بالإضافة إلى بقيّة مصاريف التأشيرة). أمّا الوكالة الثالثة فقالت إنها يمكن أن توفّر موعدا لتقديم ملف تأشيرة لفرنسا (على أن تكون بناء على دعوة مهنيّة) مقابل 300 (90 يورو) دينار لفائدة وكالة الأسفار دون احتساب بقية مصاريف التأشيرة.
تحصّل موقع الكتيبة أيضا على شهادة تؤكد أنّ أطبّاء يتعاملون مع وكالة يتمتّع صاحبها بعلاقات مع شركة “ت ال اس” للحصول على تأشيرة مهنيّة لفرنسا.
يوفّر صاحب هذه الوكالة موعدا للحريف الذي يتّصل به في غضون أسبوع وهو يعلمه بماهيّة الوثائق التي يحتاجونها، كما يشترط عليه أن يختار خدمة الـ”vip”. ويتقاضى – مقابل تقديم الملفّ فقط- 250 دينارا (حوالي 75 يورو) إذا قام الحريف بإعداد وثائقه بنفسه، أمّا إذا تولّى هو إعدادها فيتقاضى 300 دينار (90 يورو).
في حين يتغيّر المبلغ الجملي الذي يطلبه حسب طول مدّة التأشيرة التي حصل عليها الحريف، علما وأنه لا يرجع جواز السفر إلى صاحبه إلا بعد استلامه المبلغ الذي طلبه.
“صاحب وكالة يستطيع تأمين عودة في غضون أسبوع ويستلم هو صاحب جواز سفر الحريف دون توكيل”
الأخطر من ذلك أنّ صاحب هذه الوكالة يذهب بنفسه لاسترجاع جواز السفر من شركة “ت ال اس” بسهولة ودون أن يحمل معه أي توكيل أو تكليف، في حين أنّ مواطنـ.ـة عاديـ.ـة يجد نفسه مجبرا على الخضوع إلى عمليّة تثبّت من بطاقة تعريفه الوطنية وعملية تفتيش قبل أن يدخل مقرّ “ت ال اس” لاستلام جواز سفره.
ليست هذه المرّة الأولى التي يتمّ الحديث فيها عن مثل هذه الممارسات في شركات كـ”ت ال اس”، إذ سبق أن تناولت في أوت/آب 2017 تقارير إعلاميّة خبر إعلان القنصليّة الفرنسيّة في الجزائر إنهاء عقدها مع شركة “ت ال اس كونتاكت”، بعد شكاوى قدّمت بشأن “شبهات فساد”.
في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2017، ذكرت مصادر إعلامية أخرى أنّ الاتحاد الأوروبي يخشى من أنشطة غير قانونيّة متعلّقة بإصدار تأشيرات شنغن في تونس والمغرب والجزائر. وتحدّثت عن وجود شبكة من الوسطاء الذين تعاونوا مع صلات من المسؤولين في القنصليّات أو السفارات لتأمين حصول أشخاص على تأشيرة شنغن.
الدبلوماسيّة تونسيّة: صمت أم تطبيع مع “إذلال” للتونسيين.ـات؟
توجّه موقع الكتيبة بمجموعة من الأسئلة إلى كلّ من السفارة الفرنسية بتونس وشركة “ت ال اس كونتاكت” تونس بشأن المسائل المتعلّقة بغياب مواعيد تقديم ملفّات التأشيرة وحالات الرّفض المتكرّرة، إلى جانب ممارسات بعض وكالات الأسفار.
قالت “ت ال اس” لموقع الكتيبة، في معرض ردّها الذي جاء في شكل رسالة إلكترونية، إنّ ما تقوم بعض وكالات الأسفار هو “خطّة تجارية للإيقاع بطالبي الحصول على موعد للتأشيرة”، مضيفة أنّه من المستحيل أن يتمّ فتح حساب باسم شخص ما ومن ثمّ تغيير اسم صاحب الحساب (بعد الحصول على موعد) باعتبار أن نظمها الإعلامية تمنع ذلك.
أمام مواجهة الشركة بالمعلومات المؤكدة لدينا حول قيام وكالات أسفار بتوفير مواعيد في آجال قريبة (أي أنها متوفرة بشكل سابق)، قالت الشركة:
إنّ بعض الأشخاص ذوي النيّة السيئة يحجزون مواعيد مسبقا بأسماء مزيّفة ومن ثمّ يعيدون جدولتها، لأن منصّة “ت ال اس” تسمح لمقدّمي الطلبات بإعادة الجدولة مرّة واحدة فقط. وعندما يتمّ تأجيل الموعد الذي تمّ تحديده باسم مزيّف، يصبح هناك موعد متوفّر ويمكن حجزه مباشرة باسم آخر”.
مقتطف من ردّ شركة ت ال اس
وفي ما يتعلّق بعدم توفّر مواعيد لتقديم ملفّ تأشيرة إلى فرنسا، تقول “ت ال اس” إنّ القنصليّة هي التي تحدّد عدد المواعيد المتاحة كلّ يوم في مراكز الشركة وفق قدرتها على المعالجة، مذكّرة أنّ القنصل الفرنسي قد صرّح مؤخّرا أن القنصليّة الفرنسيّة افتقرت إلى الموارد البشرية والمادّية في الأشهر الأخيرة لمعالجة الملفّات في وقت كانت طلبات التأشيرة تتزايد فيه بشكل كبير.
السّفارة الفرنسيّة من جهتها خيّرت عدم التعاون معنا واكتفى المكلّف الإعلامي فيها لويس، بعد أن طلبنا عقد لقاء صحفي مع القنصل أو السفير الفرنسي أو متحدّث رسمي باسم السفارة، بإحالتنا على لقاءات صحفيّة سابقة لكلّ من السفير والقنصل الفرنسيّين.
وكان القنصل الفرنسي دومينيك ماس قد أرجع، في حوار صحفي مع إذاعة الديوان المشار إليه آنفا، قد أرجع سبب عدم وجود مواعيد لتقديم ملفّ التأشيرة إلى نقص في الموارد البشريّة مقارنة بالطلب الهائل على التأشيرات.
وقال إنّ وكالات الأسفار التي تمنح مواعيد مقابل مبالغ ماليّة لها أنظمة معلوماتية تعلمها في كلّ مرّة توجد فيها مواعيد متاحة، الأمر الذي يمكّنها من تسجيل حرفائها الذين كانوا قد قدّموا ملفاتهم إليها.
أمّا عن حالات الرفض المتكرّرة، زعم القنصل الفرنسي أنه اطّلع على ملفّات أشخاص تضمّنت وثائق منقوصة أو وثائق مزوّرة بالرغم من أنّ من بينهم من كان قد تحصّل على تأشيرات في السابق.
مزاعم يمكن دحضها بسهولة خاصة وأن عددا من بين الأشخاص الذين وقع رفض ملفّاتهم تمّ التراجع عن قرار الرفض مثلما حدث مع الأستاذة الجامعية والدكتورة فاطمة الشرفي أو الأستاذ الجامعي المنصف عبد الجليل.
كما اطّلع موقع الكتيبة على وثائق بعض المواطنين/ات الذين تحدثنا إليهم وتمكّنا من التأكّد من سلامتها.
في الوقت الذي تتقاذف فيه كلّ من السفارة الفرنسية وشركة “ت ال اس” مسؤولية تعطيل مصالح مئات التونسيين/ات الذين يحتاجون إلى السّفر إلى فرنسا لغايات مهنية وأحيانا صحّية أو عائلية إنسانيّة، تواصل السلطات التونسية ممارسة سياسة الصّمت إزاء هذه الممارسات التي تعدّ خرقا للأعراف الدولية وحتى لبعض الاتفاقيات الثنائية، من بينها بروتوكول لإدارة الهجرة بين حكومة الجمهورية الفرنسية وحكومة الجمهورية التونسية ممضى في 2008.
“الخطاب السيادوي التونسي مجرّد خطاب ولا توجد أي ممارسة تعكسه على أرض الواقع”
أحمد جماعة
وينصّ البروتوكول في فصله الأول على أن تقوم فرنسا بتسهيل حصول مواطنين تونسيين على تأشيرة الدخول إلى فرنسا وذلك لفائدة فئات متعددة من المواطنين من بينهم رجال الأعمال والأطباء والمحامين والأساتذة الجامعيين إلخ، إلى جانب الأشخاص الذين سيتلقون علاجا في فرنسا وغيره.
يبيّن الدبلوماسي السابق، الذي كنّا قد تحدّثنا إليه، أنّه إزاء هذه السياسة المتعمّدة، يتعيّن على الخارجية التونسية أن تقوم في خطوة أولى، من خلال المكلّف بالبروتوكول، بدعوة ممثّل عن الدولة الفرنسية ومجابهته بطول آجال الحصول على التأشيرة.
إذا لم ينجح ذلك، يقع تسييس العمليّة إذ يتعيّن في هذه الحالة على المدير العام المكلف بالملفّ السياسي المهتم بالقسم الفرنسي في وزارة الشؤون الخارجية التونسية متابعة المسألة، وإذا لم تقع أي حلحلة تحال القضيّة إلى كاتب الدولة ووزير الشؤون الخارجية، وفق المتحدث ذاته.
واعتبر الدبلوماسي السابق أنّ الصمت الرهيب من الجهات الرسمية غير معقول مؤكدا أنّ منح تأشيرات للتونسيين/ات ليست منّة نظرا إلى وجود مصالح مشتركة واتفاقيات ثنائية بين البلدين.
من جانبه، يعتبر الباحث في علم الاجتماع أنّ هناك نوعا من “الانبطاح” لدى السلطات التونسيّة وأن المسؤول التونسي دائما ما يستبطن أنّه أقلّ قيمة من المسؤول الأوروبي ويرضى بأي شيء يقدّمونه له، مضيفا أنّه يجب أن تقوم وزارة الخارجية التونسية بالتنديد والتفاوض ولو بالقليل.
يذهب جماعة إلى الدعوة إلى إعادة النظر في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ككلّ وفرض علاقات أكثر ندّية والانفتاح على أسواق ولغات جديدة قائلا “هم يستفيدون من الأطباء التونسيين ومن المهندسين ومن يد عاملة كفؤة دون مقابل.. كلّ ذلك نهب متواصل للعقول دون أيّ مقابل”.
يأتي صمت السلطات التونسية في وقت يبرز فيه خطاب سيادوي يدّعي استعادة السيادة التونسية دون أن يتطرّق في مناسبة واحدة للظلم الذي يتعرّض له آلاف المواطنين.ـات التونسيين.ـات جرّاء ممارسات السفارة الفرنسية وشركة “ت ال اس”.
لا يعكس هذا الخطاب أي ممارسة فعليّة على أرض الواقع. وبيّين أحمد جماعة، في هذا الصدد، أنّ هذا الخطاب ليس له أيّ مفكّرون أو مسؤولون لهم تصوّرات بديلة أو علاقات مع دول أخرى، مؤكّدا أنّه لا يوجد من يتحدّث عن حقّ التونسيين/ات في التنقّل بل إن بعض المسؤولين ربطوا الهجرة غير النظامية بالإرهاب على غرار رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي.
وختم بالقول “أحيانا يكون المسؤول التونسي على يمين المسؤول الأوروبي.. هناك استبطان أن هذه هي قواعد اللعبة ولا يوجد مجرّد تلميح أنه يمكننا نحن أيضا أن نطلب تأشيرة على الأوروبيين.. مثل هذه المسألة ليست مطروحة على جدول الأعمال.. الخطاب السيادوي مجرّد خطاب”.
على الرغم من أنّه يمكن لمن رُفضت طلبات تأشيراتهم اللجوء إلى محكمة في مدينة نانت الفرنسية للطعن فيها، إلّا أنّ هذا الإجراء يتطلّب مجهودات طويلة وأموالا إضافية، وقد لا يؤدي إلى نتيجة. حتّى أن سيرين رفضت اللجوء إلى هذه الطريقة قائلة “لن أترجّاهم كي يقبلوا ملفّ تأشيرتي”.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة انتاجات صحفية يشتغل عليها موقع الكتيبة حول ملفات بينية مشتركة تهم علاقة تونس بدول الاتحاد الأوروبي ولاسيما الجمهورية الفرنسيّة بخصوص قضايا وملفات حقوقية واقتصادية وجيو ـ سياسيّة.
يندرج هذا المقال ضمن سلسلة انتاجات صحفية يشتغل عليها موقع الكتيبة حول ملفات بينية مشتركة تهم علاقة تونس بدول الاتحاد الأوروبي ولاسيما الجمهورية الفرنسيّة بخصوص قضايا وملفات حقوقية واقتصادية وجيو ـ سياسيّة.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة