الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“كان يخطّط لقتلي فعلا ولم يكن يهدّدني فحسب.. كان يضع سكّينا كبيرا فوق رقبتي ويقسم أنّه سيذبحني.. عندما قام بتحريك السكين أصيب صديقه الذي كان يحاول إيقافه بجرح في يده.. تطلّب الأمر تدخلّ 3 رجال كي يبعدوه عنّي”.
بنبرة مرتعشة، استرجعت سامية (اسم مستعار)، وهي سيّدة في الثلاثينات من عمرها وناجية من العنف الزوجي، تفاصيل الليلة التي كادت تفقد خلالها حياتها أمام أنظار طفليها وعدد من الجيران الذين كانوا يحاولون إبعاد زوجها السابق عنها.
كانت سامية محظوظة في تلك الليلة فبعد محاولات عديدة وجهود 3 رجال نجت من القتل ومن مصير لاقته وتلاقيه عشرات النساء التونسيات اللواتي قُتلن على أيدي رجال لم يتردّدوا في ارتكاب جريمة قتل يثبتون من خلالها هيمنتهم، يحفّزهم على ذلك انتشار ثقافة الإفلات من العقاب و تراخي الدولة في تطبيق القوانين التي كانت قد صادقت عليها لحماية النساء.
ارتفعت وتيرة جرائم قتل أو تقتيل النساء خلال الأشهر الأخيرة، إلى درجة أنّ البعض بات يعتبر أنّها ترتقي إلى مستوى الظاهرة، رغم ترسانة التشريعات التي يمكن الاعتماد عليها لمحاسبة الجناة وحماية النساء ضحايا العنف، وخاصّة القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة.
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
“كان يخطّط لقتلي فعلا ولم يكن يهدّدني فحسب.. كان يضع سكّينا كبيرا فوق رقبتي ويقسم أنّه سيذبحني.. عندما قام بتحريك السكين أصيب صديقه الذي كان يحاول إيقافه بجرح في يده.. تطلّب الأمر تدخلّ 3 رجال كي يبعدوه عنّي”.
بنبرة مرتعشة، استرجعت سامية (اسم مستعار)، وهي سيّدة في الثلاثينات من عمرها وناجية من العنف الزوجي، تفاصيل الليلة التي كادت تفقد خلالها حياتها أمام أنظار طفليها وعدد من الجيران الذين كانوا يحاولون إبعاد زوجها السابق عنها.
كانت سامية محظوظة في تلك الليلة فبعد محاولات عديدة وجهود 3 رجال نجت من القتل ومن مصير لاقته وتلاقيه عشرات النساء التونسيات اللواتي قُتلن على أيدي رجال لم يتردّدوا في ارتكاب جريمة قتل يثبتون من خلالها هيمنتهم، يحفّزهم على ذلك انتشار ثقافة الإفلات من العقاب و تراخي الدولة في تطبيق القوانين التي كانت قد صادقت عليها لحماية النساء.
ارتفعت وتيرة جرائم قتل أو تقتيل النساء خلال الأشهر الأخيرة، إلى درجة أنّ البعض بات يعتبر أنّها ترتقي إلى مستوى الظاهرة، رغم ترسانة التشريعات التي يمكن الاعتماد عليها لمحاسبة الجناة وحماية النساء ضحايا العنف، وخاصّة القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة.
ضحايا تراخي مؤسّسات الدولة
تشبه قصّة “سامية” في بعض تفاصيلها قصص مئات من النساء الأخريات اللواتي يقعن ضحايا دوّامة عنف يصعب الخروج منها لعوامل مختلفة.
قبل تلك الليلة التي كادت أن تفقد فيها حياتها قتلا، تعرّضت سامية في مناسبات عديدة للعنف اللفظي والنفسي من زوجها الذي لم يكن يتردّد في شتمها وإهانتها حتّى أمام أفراد عائلتها. وكان كذلك يقوم بالاعتداء عليها جسديّا وضربها ضربا مبرحا في بعض الحالات.
تحمّلت سامية كلّ ذلك العنف من أجل طفليها متأثرة بالموروث الثقافي الذكوري وعقلية مجتمع محافظ يجعل دائما من المرأة الحلقة الأضعف في المعادلة الأسريّة الزوجيّة. وكانت تبرّر العنف الذي جوبهت به في أكثر من مرّة بكون معنّفها في حالة سكر، لتكتشف لاحقا أنّ ذلك غير صحيح خاصّة أنّه عندما حاول قتلها بالسكّين لم يكن تحت تأثير أي مادّة كحوليّة، وفق تأكيدها.
نشب الخلاف الأخير بينهما عندما اكتشفت خيانته لها وطلبت منها مغادرة المنزل الذي كانت تتولّى هي الإنفاق عليه وترك سيّارته التي اشترتها له، ليقوم بإخراجها بالقوة من المنزل وهي في ملابس منزلية وحافية القدمين دون مفتاح أو مال أو أي شيء آخر.
توجّهت سامية وقتها إلى منزل أحد أصدقاء زوجها لكي يتوسّط بينهما وتدخل المنزل لتأخذ بعض الأغراض وابنيها وتغادر، إلا أنّ زوجها السابق رفض إدخالها وقام بمحاولة قتلها بواسطة سكّين كبير مخصّص لذبح الخراف دون أن يراعي وجود الطفلين وصراخهما أو يهتمّ لحضور أصدقائه وعدد من الجيران الذين تدخّلوا لإيقافه عندما سمعوا أصوات الصراخ.
منذ بداية السنة الحاليّة وإلى غاية جويلية/تمّوز 2023، تمّ تسجيل 24 جريمة قتل نساء في تونس مقابل 15 جريمة قتل نساء سنة 2022 وفق إحصائيّات مدّنا بها الاتحاد الوطني للمرأة التونسية.
يُجمع مختصّون.ـات وحقوقيون.ـات تحدّث إليهم/ن موقع الكتيبة على أنّ جرائم قتل النساء لم تعد حالات معزولة بل باتت ظاهرة لها أسباب وعوامل متعدّدة ومتنوّعة.
رغم ذلك، لا يوجد في القانون التونسي تعريف أو حديث عن هذه الجرائم، إذ يكتفي القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة بتعريف العنف على أنّه “كلّ اعتداء مادّي أو معنوي أو جنسي أو اقتصادي ضدّ المرأة أساسه التمييز بسبب الجنس والذي يتسبّب في إيذاء أو ألم أو ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة ويشمل أيضا التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان من الحقوق والحرّيات سواء في الحياة العامّة أو الخاصّة”.
تحمّل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات الدولة مسؤوليّة ارتفاع عدد جرائم قتل النساء. تقول الكاتبة العامّة للجمعية أحلام بو سروال لموقع الكتيبة:
“إنّ مواصلة الإفلات من العقاب في قضايا العنف المسلّط على النساء هو ما يشجّع مرتكبي هذه الجرائم على قتل النساء.. وقد لاحظنا جرائم عديدة كانت نتيجة لعدم تطبيق قرارات الحماية”.
تُعَدّ الطريق لفوز الضحيّة في قضيّة عنف أمام القضاء طويلة والإجراءات قد تكون مرهقة. ويمكن أن تصنّف هذه الصعوبات إلى نوعين، الأوّل مرتبط بالجانب الثقافي والاقتصادي والاجتماعي كالخوف من الوصم وعدم نفاذ الضحيّة إلى المعلومات وعدم إلمامها بالقوانين والإجراءات القانونية.
في حين يرتبط النّوع الثاني، وفق ما تبرزه دراسة بعنوان “نفاذ ضحايا العنف من النساء إلى العدالة: العقبات والتحديات” من الصعوبات بالمؤسسات، وتشمل التحيّز الجنساني لبعض القضاة ووصم النساء ضحايا العنف من قبل أعوان الأمن، فضلا عن عدم وجود مكاتب أو خلايا تضمن استقبال وتوجيه النساء ضحايا العنف داخل المحاكم.
ما تزال آليات تطبيق القوانين، وعلى رأسها القانون عدد 58، منقوصة، علاوة على غياب نصوص تطبيقية يمكن لكافّة القضاة الاعتماد عليها. توضّح رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة راضية الجربي في حديثها لموقع الكتيبة أنّ غياب منشور موحّد يتعلّق بإجراءات تطبيق هذا القانون، سواء في علاقة بإجراءات الحماية والوقاية أو حتّى العقوبات، يفتح المجال أمام كلّ قاض لكي يفعل ما يريد.
في اليوم الذي تلى نجاتها من محاولة القتل، توجّهت سامية إلى أقرب وحدة مختصّة بالبحث في جرائم العنف ضدّ المرأة وقدّمت شكاية ضدّ زوجها وخيّرت أن يقوم بإمضاء التزام بعدم التعرّض إليها مجدّدا. مضت أيّام ولم يتّصل أي شخص من الوحدة بالمعتدي رغم أنّ سامية اضطرّت إلى البقاء معه في المنزل لعدم تمكّنها من التوجه إلى أيّ مكان آخر.
إثر ذلك، قام زوج سامية السابق بتغيير أقفال الباب لتجد نفسها ملقاة في الشارع. حاولت الاستعانة مجدّدا بالوحدة المختصّة إلا أنّها لم تجد إلّا أبوابا موصدة وشخصا أعلمها أنّ “زوجها مسنود أمنيا” وأنّ أحد معارفه تدخّل لفائدته ولن يقوم بتوقيع أي التزام.
وجدت سامية نفسها وحيدة في تلك الظروف القاسية ولم يكن أمامها من خيار إلاّ أن تحارب من أجل الحصول على الطلاق، وهو أمر لم يحصل إلا بعد حوالي سنة ونصف.
قصص كثيرة أخرى تكشف كيفيّة عدم حرص القائمين على تطبيق القانون المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة على المستويين الأمني والقضائي على حدّ السواء. خلال إعداد هذا المقال، كنّا اتفقنا على الحديث مع أحد أقارب امرأة قتل زوجها وفرّ ولم يتمّ القبض عليه إلى اليوم. إلّا أنّ مصدرنا خيّر التراجع في النهاية وذلك خوفا من خسارة عائلة الضحيّة لحضانة أطفالها لفائدة عائلة الجاني.
تعاني هاجر، وهي سيّدة في الأربعينات من العمر، الأمرّين من زوجها الذي بدأ في تعنيفها بعد أن أنجبت 4 فتيات في الوقت الذي يريد فيه طفلا ذكرا. تحمّلت هاجر العنف الجسدي الذي كانت تتعرّض إليه على يدي زوجها إلّا أنّها قدّمت شكاية ضدّه عندما قام بالاعتداء على إحدى بناته -وهي تبلغ من العمر 10 سنوات- وتسبّب لها بجرح خطير على مستوى الرأس.
كانت المفاجأة عندما اكتفى القاضي بإصدار حكم ضدّه بعدم سماع الدعوى وخطيّة ماليّة قدرها 100 دينار تونسي (حوالي 32 دولارا) وذلك بسبب عدم قدرة الطفلة على مكافحته لخوفها الشديد منه، وفق شهادة تحصّل عليها موقع الكتيبة من اتحاد المرأة التونسية.
“ذكورية متأزّمة”
تمثّل جرائم قتل النساء، أو ما يُعرف الـ”Femicide” باللغة الانكليزية، -علما وأنّه لا يوجد مصطلح موحّد باللغة العربية- تعبيرا عن مجتمع غير متكافئ وتجسيدا للقمع الأبوي، ويتمّ الحفاظ على السلطة الأبوية وإدامتها من خلال العنف القائم على النوع الاجتماعي. وترتبط هذه الجرائم بالطريقة التي ينظر مرتكبوها إلى النساء، بحسب ما جاء في دراسة بعنوان “جرد لجرائم قتل النساء في تونس” صدرت في 2022.
يعتبر الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي، في حديثه لموقع الكتيبة، أنّ جرائم قتل النساء هي “عنف مبني على النوع الاجتماعي وهو مرتبط بالعديد من المتغيّرات حيث بتنا نعيش في مجتمع يتميّز بالخوف من المستقبل وضعفت المقدرة الشرائية للرجل، ما جعل الهوية الذكورية في أزمة وبالتالي تلجأ إلى العنف”، بحسب تعبيره.
تحاول الذكورية المتأزّمة إثبات وجودها، ويتجلّى ذلك في صعود ما يُسمّى بـ”المحافظة الجديدة”، التي ترى في النساء مصدر تهديد، الأمر الذي يحيل إلى وجود نزعة مناهضة للنساء. ومناهضة النسوية أمر له جذوره الثقافية داخل المجتمع، وعندما يتأزّم المجتمع فهو يعود إلى هذه الجذور الثقافية للاحتماء بها.
الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي
على صعيد عالمي، 6 من 10 نساء يُقتلن على أيدي شركائهن أو أحد أفراد عائلاتهنّ، بحسب ما جاء في دراسة “جرد لجرائم قتل النساء في تونس”. في تونس، لا تعترف الدولة بجرائم قتل النساء بشكل منفصل ولا توجد إحصائيّات رسميّة في هذا الصدد.
في 30 ماي/ أيار 2023، توجّه موقع الكتيبة برسالتين إلكترونيتين إلى وزارتي الداخلية والعدل للحصول على إحصائيات رسميّة حول عدد جرائم قتل النساء، إلّا أنّنا لم نتلقّ أي ردّ إلى اليوم.
اتّصلنا كذلك بوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ التي أعلمتنا أنّها لا تمتلك إحصائيّات حول عدد جرائم القتل وأنّ الأرقام المتوفّرة لديها متعلّقة بالعنف المسلّط على النساء.
تقول المديرة التنفيذية لمنظمة “أصوات نساء” سارّة بن سعيد لموقع الكتيبة:
إنّ غياب أرقام رسميّة لجرائم قتل النساء يندرج في إطار عدم اعتراف الدولة بجريمة قتل النساء.
تظهر الإحصائيّات، سواء تلك الصادرة عن وزارة المرأة أو عن منظّمات المجتمع المدني، أنّ غالبيّة حالات العنف ضدّ النساء يُمارسها الأزواج بدرجة أولى ومن ثمّ أحد أفراد العائلة، أبا أو أخا أو ابنا.
عادة ما تكون النساء ضحايا جرائم القتل عرضة للعنف من قبل الزوج أو أحد أفراد العائلة لمدّة طويلة. ويجدن أنفسهنّ عالقات في حلقة مغلقة من العنف يصعب الخروج منها خاصّة عندما يكون هناك تطبيع مع العنف داخل العائلة وفي الشارع إلى درجة يصبح فيها العنف هو العادي والسائد وعدم قبول العنف هو غير الطبيعي.
سامية، على سبيل المثال، خيّرت تحمّل سنوات من العنف الجسدي واللفظي من أجل طفليها راضخة بذلك لضغوط الموروث الثقافي.
لينا (اسم مستعار)، أجبرت على الزواج عندما كانت مراهقة تبلغ من العمر 15 عاما. بدأت إثرها سنوات من المعاناة تعرّضت خلالها لأنواع مختلفة من العنف اللفظي والجسدي الذي كاد يودي بحياتها في أكثر من مناسبة، وحتّى أنّها نُقلت إلى المستشفى في إحدى المرّات والدّماء تغطّيها كاملة.
كانت في كلّ مرّة تحاول تقديم شكاية ضدّه تقوم عائلتها بالتدخّل لكي تصالحه وتعود معه إلى المنزل، حتّى أنّها وافقت على العودة إليه بعد أن نقلت إلى المستشفى لأنّها كانت تعيش في حالة رعب ودوامة خوف باعتبار أنّه كان يهدّدها ويهدّد أطفالهما بشكل دائم، بحسب ما جاء في شهادة تحصّلنا عليها من الاتحاد الوطني للمرأة.
لا يطال العنف ضدّ النساء وجرائم القتل الزوجات فحسب، إذ تمّ تسجيل حالات قتل فيها الابن والدته والأب ابنته والأخ شقيقته.
في غرّة جويلية/ تمّوز 2023، هزّت منطقة حي التضامن (حيّ شعبي تابع لولاية أريانة) جريمة قتل شاب لشقيقته بعد أن أقدم على ذبحها فوق سطح منزلهم.
ما تزال أسباب إقدام الشاب على قتل أخته بهذه الطريقة مجهولة. اللافت في القضيّة أنّ الجاني كان قد أعلم والده أنّه سيقتل شقيقته قبل الجريمة بأسبوع وذلك من أجل “أن تذهب إلى الجنّة وتتخلّص من الفقر والحاجة”، وفق مزاعمه. رغم ذلك، لم يحرّك الأب ساكنا ولم يحاول حماية ابنته.
كانت العلاقة بين الشقيقين “حميمية” وكان يرافقها كظلّها. لم تكن الضحيّة تغادر المنزل إلّا إذا كان يرافقها حتّى إذا أرادت التوجّه إلى محلّ البقالة، ولم تكن تنبس ببنت شفة أمامه، بحسب ما أكّده لنا المدوّن والناشط بالمجتمع المدني في حيّ التضامن حسن الهيشري الذي زار عائلة الضحيّة بعد وقوع الجريمة بيوم.
بدت الأمور مريبة في منزل الضحيّة بالنسبة إلى حسن الهيشري إذ كان البيت خاليا من المعزّين، حتّى أنّ والدي الضحيّة والجاني ظهرا هادئين إلى درجة غريبة. اكتفى الأب بالحديث عن الأوضاع الاجتماعية الصعبة للعائلة وبطالة الابن التي دفعته إلى التفكير في قتل شقيقته ومن ثمّ نفسه. بلغت درجة برود الأب أنّه كان جالسا يتحدّث في المكان الذي ذُبحت فيه ابنته قرب ما تبقّى من بركة دمائها في هدوء غريب.
على المستوى النفسي، تمثّل علاقة المعتدي بالضحيّة سببا هامّا في جرائم قتل النساء والتي يكون فيها دائما من الهيمنة والسيطرة النفسيّة ما يجعل الضحيّة غير قادرة على مغادرة تلك العلاقة حتّى إذا كانت تعلم أنّها عرضة للعنف، وفق ما بيّنته لموقع الكتيبة الإخصائيّة النفسيّة سندس قربوج.
تضيف محدّثتنا أنّه عندما يقوم الجاني بعزل الضحيّة والسّيطرة والهيمنة عليها من المفترض أن يقوم المحيطون بها سواء كانوا أصدقاء أو عائلة أو جيران وخاصّة أعوان أمن، بتوفير الدّعم حتّى تتمكّن من النهوض مجدّدا وتجد مخرجا من العلاقة السامّة التي يمكن أن تتحوّل إلى علاقة قاتلة.
لئن كان للعنف المسلّط على النساء جذور في ثقافة المجتمع التونسي، فإنّ الإعلام التقليدي الجماهيري، وبخاصّة، المرئي والمسموع، يقوم بدور كبير في التطبيع مع العنف.
من برامج تسمّي نفسها “ترفيهية” يتمّ خلالها عرض “سكاتشات” تكرّس صورة نمطيّة عن النساء وتحريض على العنف ضدّهن، وهو ما حصل على سبيل الذكر لا الحصر في حلقة من برنامج “أمور جدّية” الذي كان يعرض على قناة الحوار التونسي، مرورا بما يُعرف بـ”تلفزيون الواقع” الذي يتمّ فيه استدعاء نساء معنّفات والضغط عليهنّ من أجل العودة إلى أزواجهن المعتدين أمام ملايين المشاهدين دون مراعاة لحالاتهنّ النفسيّة. كلّها أمثلة بسيطة عن تطبيع وسائل الإعلام مع العنف المسلّط على النساء والعقليّة الذكورية التي يدافع عنها عدد كبير من المعلّقين الاعلاميين “الكرونيكور”.
يعتبر الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي أن هذا النوع من الإعلام متواطئ وهو يعمل على تركيز العائلة المحافظة ويكرّس صورا نمطيّة ويبرّر العنف للبحث عن الأرباح المادّية دون الأخذ في عين الاعتبار قيم المجتمع والمسؤولية المجتمعية.
ويقول الغربالي:
“إعلام الترفيه وتلفزيون الواقع يمارسان العنف الرمزي وهما شريكان في جرائم قتل النساء”.
من جهتها، تبيّن سارّة بن سعيد، المديرة التنفيذية لأصوات نساء، أنّ ما وصفته بغياب الرقابة التامة عن الإعلام الخاصّ، خصوصا، تجعل الكثير من البرامج التي تبثّ من الصباح إلى المساء تشرّع للعنف وتطبّع مع ثقافة الإفلات من العقاب.
إرادة سياسيّة غائبة
لا يُعنى القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة بالتعهّد بضحايا العنف ضدّ النساء فقط، وإنّما يشمل جوانب وقائية وحمائيّة تهدف إلى تجنّب تسجيل المزيد من حالات العنف (التي قد تصل إلى القتل) وتستوجب تدخّل وزارات عديدة وهي وزارات المرأة والداخلية والعدل والتربية والشؤون الدينية والصحّة والشؤون الاجتماعية، فضلا عن الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري.
رغم ذلك، مازال القانون ينتظر إلى اليوم التطبيق الشامل من مختلف الجهات المعنيّة. تتساءل الكاتبة العامّة لجمعية النساء الديمقراطيات أحلام بوسروال قائلة :
هناك مراجع عمليّة لجميع الوزارات المعنيّة كي تتمكّن من التعهد بضحايا العنف، أين هو تطبيق هذه المراجع اليوم؟.
وتضيف “نحن نعلم أنّ الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضدّ المرأة لسنة 2021 لم تُطبّق إلى اليوم ولا بدّ كذلك من تحيينها كي تأخذ في عين الاعتبار ضحايا التقتيل”.
تذهب المديرة التنفيذية لـ”أصوات نساء” سارّة بن سعيد إلى الحديث عن غياب إرادة سياسية لتطبيق القانون عدد 58 في ظلّ صمتها إزاء العنف المسلّط على النساء. وتشير إلى غياب السياسات العمومية التي من شأنها تطبيق القوانين وتغيير العقليّات.
يتجلّى غياب السياسات العمومية التي تحتاج إلى إرادة سياسيّة في عدم تخصيص ميزانيات لتطبيق القانون المتعلّق بالقضاء على العنف كما يجب إذ لم يتمّ العمل على تأمين مراكز إيواء للنساء ضحايا العنف اللواتي لا يجدن ملجأ فيعدن إلى منازل المعتدين عليهن، وهو ما يؤدي في حالات عديدة إلى مقتلهنّ.
كذلك، لم يتمّ العمل على تأمين تأهيل وإعادة إدماج المعتدين في المجتمع من أجل إخراجهم من دوامة العنف، وهو أمر يحتاج ميزانية كبيرة تغطّي مصاريف الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين والعملة في هذه المراكز.
هذا علاوة على التدريب الدائم والمستمرّ للمعنيّين بتطبيق هذا القانون من أمنيين وقضاة وضرورة توفير أمنيات نساء في الوحدات الأمنية المختصّة لمناهضة العنف ضدّ المرأة.
على الرغم من عدم حرص وزارة المرأة على تطبيق القانون 58، تعمل الوزارة داخل مكاتبها على مراجعته وتغييره، وهو أمر تراه رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة راضية الجربي ضروريّا بعد أن تبيّنت صعوبة تطبيقه، على حدّ قولها.
في المقابل، ترفض المنظمات النسوية التونسية، وعلى رأسها الديناميكية النسوية، التي تضمّ عدّة جمعيات ومنظمات من بينها جمعية النساء الديمقراطيات وأصوات نساء، المساس بالقانون وتنقيحه.
وتطالب سارّة بن سعيد بتطبيق القانون عدد 58 ورصد الميزانيات الضرورية لإحداث مراكز الإيواء وإعداد إحصائيات رسميّة حول جرائم قتل النساء والتنسيق بين مختلف الوزارات المعنيّة وإصدار قرارات الحماية للنساء ضحايا العنف والتكوين المستمرّ للأمنيين والقضاة.
تبقى معضلة جرائم قتل النساء والعنف المسلّط عليهنّ قائمة في ظلّ تقاعس الجهات الرسمية المعنيّة والمقاومة الثقافية لمحاولات الإصلاح والفكر الذكوري المنتشر في المجتمع وأجهزة الدولة التي تبيّن أنّها لا ترى في هذا الملفّ أولويّة رغم مخاطره على المجتمع كافّة لا النساء فقط.
تمّ انتاج هذا المحتوى الصحفي في اطار برنامج شراكة مع صحفيون/ات من أجل حقوق الانسان
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة
الكاتبة : رحمة الباهي
صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة