الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
منذ ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال، مرّت السياسة الخارجية التونسية بمراحل ومحطّات عديدة اتّسمت في أغلب الأحيان بالهدوء والاتّزان مرتكزة على عدد من الثوابت : خدمة المصالح التونسية، والشجاعة في إبداء الرأي في القضايا العادلة وأهمّها القضية الفلسطينية والتمسّك بالشرعية الدولية، وتجنب الإصطفاف وراء محاور إقليمية ودولية ضمانا لاستقلال القرار الوطني.
بُعيد الثورة تلاشت بعض هذه الثوابت التي اتّسمت بها السياسة الخارجية للبلاد من خلال اصطفافات واضحة وراء محاور عربية تتغذّى من حالة الانقسام السياسي الداخلي في تونس.
مع قدوم الرئيس قيس سعيّد في عام 2019 أخذت الدبلوماسية والسياسة الخارجية التونسية وفق عديد المتابعين منعرجا جديدا يتّسم بالتشنّج والصِّدام يلوّح فيه الرئيس سعيّد بإمكانية استبدال علاقات تونس التاريخية بعلاقات جديدة من خلال الإيحاء بالتقرّب من المحور الروسي الصيني.
يأتي هذا في ظل ما تشهده علاقة تونس بكل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي من توتّر، حيث وجّه لهما الرئيس سعيّد رسائل في أكثر من مناسبة كانت أوّلها استدعاء القائمة بأعمال السفارة الأمريكية للاحتجاج على تصريحات وزير الخارجية توني بلينكن واعتباره “تدخّلا سافرا” في الشأن الداخلي التونسي، ورفضه مواصلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي وإملاءاته، فضلا عن توتّر العلاقات مع الإتحاد الأوروبي في خصوص ملف الهجرة غير النظامية، ورفض لما يعتبره “ابتزازا” مقابل مساعدات مالية، بالإضافة إلى عدم السّماح لوفد من البرلمان الأوروبي زيارة تونس، وصولا إلى موقفه الراديكالي والشرس تجاه الحرب في قطاع غزّة وكل القوى الغربية المساندة للكيان الصهيوني وتبنّيه عمليّة “طوفان الأقصى”.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
منذ ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال، مرّت السياسة الخارجية التونسية بمراحل ومحطّات عديدة اتّسمت في أغلب الأحيان بالهدوء والاتّزان مرتكزة على عدد من الثوابت : خدمة المصالح التونسية، والشجاعة في إبداء الرأي في القضايا العادلة وأهمّها القضية الفلسطينية والتمسّك بالشرعية الدولية، وتجنب الإصطفاف وراء محاور إقليمية ودولية ضمانا لاستقلال القرار الوطني.
بُعيد الثورة تلاشت بعض هذه الثوابت التي اتّسمت بها السياسة الخارجية للبلاد من خلال اصطفافات واضحة وراء محاور عربية تتغذّى من حالة الانقسام السياسي الداخلي في تونس.
مع قدوم الرئيس قيس سعيّد في عام 2019 أخذت الدبلوماسية والسياسة الخارجية التونسية وفق عديد المتابعين منعرجا جديدا يتّسم بالتشنّج والصِّدام يلوّح فيه الرئيس سعيّد بإمكانية استبدال علاقات تونس التاريخية بعلاقات جديدة من خلال الإيحاء بالتقرّب من المحور الروسي الصيني.
يأتي هذا في ظل ما تشهده علاقة تونس بكل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي من توتّر، حيث وجّه لهما الرئيس سعيّد رسائل في أكثر من مناسبة كانت أوّلها استدعاء القائمة بأعمال السفارة الأمريكية للاحتجاج على تصريحات وزير الخارجية توني بلينكن واعتباره “تدخّلا سافرا” في الشأن الداخلي التونسي، ورفضه مواصلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي وإملاءاته، فضلا عن توتّر العلاقات مع الإتحاد الأوروبي في خصوص ملف الهجرة غير النظامية، ورفض لما يعتبره “ابتزازا” مقابل مساعدات مالية، بالإضافة إلى عدم السّماح لوفد من البرلمان الأوروبي زيارة تونس، وصولا إلى موقفه الراديكالي والشرس تجاه الحرب في قطاع غزّة وكل القوى الغربية المساندة للكيان الصهيوني وتبنّيه عمليّة “طوفان الأقصى”.
وفي الوقت الذي رحّبت فيه الجماهير التونسية والعربية بالموقف التونسي من الأحداث التي يعرفها قطاع غزّة بعد عملية طوفان الأقصى والرد العنيف للكيان الصهيوني والذي خلّف مجازر إنسانية وفق وصف المنظمات الدولية، في ظل موقف دولي مساند لما تقوم به قوّات الإحتلال الصهيوني، كان رأي عدد من المتابعين للشأن العام التونسي يصف موقف الرئيس سعيّد بـ”الاندفاعي” والفاقد للطابع الدبلوماسي و”أكثر راديكالية” من بين المواقف الدولية المناصرة للشعب الفلسطيني حتى تلك المنتمية إلى ما يسمّى بمحور الممانعة محذّرين من مغبّة الانزلاق إلى الصِّدام والعزلة الدّولية ومتسائلين عمّا اذا كانت جملة المواقف “المتشنّجة” السابق ذكرها أعلاه مجرّد أداة للمقايضة السايسية أم أنّها تعكس تغيّرا جذريا للديبلوماسية التونسية وتوجّها نحو ثوابت جديدة بعيدة عن مبادئ “الحياد” و”الدبلوماسية الهادئة”.
فكيف تطوّرت السياسة الخارجية التونسية في علاقة بالقضية الفلسطينية؟ بماذا تميّزت الدبلوماسية التونسية في تونس منذ نظام الحبيب بورقيبة وصولا إلى حكومات الإنتقال الديمقراطي؟ وبماذا يتميّز قيس سعيّد عن الرؤساء السابقين لتونس على المستوى الدبلوماسي؟ وهل تتجّه تونس رويدا رويدا نحو عزلة دولية؟ لماذا يلوّح الرئيس برسائل غير مباشرة حول ربط علاقات حيوية بكل من روسيا والصين وإيران؟
في هذا المقال التفسيري نسعى للإجابة عن جملة هذه الأسئلة.
الدبلوماسية التونسية والقضية الفلسطينية
وُصف موقف تونس من عملية طوفان الأقصى وعدوان الكيان الصهيوني، الذي ردّ بشكل عنيف بمئات الغارات الجوية في قطاع غزّة، بالموقف الأكثر راديكالية على مدى تاريخ الدبلوماسية التونسية منذ الاستقلال.
وجاء في بيان نُشر على صفحة الرئاسة التونسية في السابع من شهر أكتوبر أنّ “تونس تقف دوما مع حق الشعب الفلسطيني في استرجاع كل أرض فلسطين”. كما ذكّرت الرئاسة التونسية بتاريخ المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في حق الشعب الفلسطيني دون أن يحرّك المجتمع الدولي ساكنا لوقف هذا العدوان وفق نص البيان.
فضلا عن الموقف الراديكالي، كان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد كلّف وزير الخارجية نبيل عمار المشارك في اجتماع وزراء خارجية الدول العربية الذي انعقد بصفة عاجلة، برفض اللائحة الصادرة عنهم جملة وتفصيلا بعد أن صادق عليها هذا الأخير.
وجاء في نص التكليف الذي نشرته صفحة الرئاسة التونسية أنّ “تونس الثابتة على مواقفها والمتمسّكة بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على كل أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، تتحفّظ جملة وتفصيلا على القرار الصادر عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في دورته غير العادية بتاريخ 11 أكتوبر 2023.”
واعتبر الرئيس سعيّد في رسالة وجّهها إلى قادة الدول العربية بأنّ “فلسطين ليست ملفًا أو قضية فيها مدّع ومدّعا عليه، بل هي حق الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يسقط بالتقادم أو يسقطه الاحتلال الصهيوني بالقتل والتشريد وقطع أبسط مقومات الحياة من ماء ودواء، ومن غذاء وكهرباء، ومن استهداف للشيوخ وللنساء والأطفال الأبرياء والبيوت والمشافي وطواقم النجدة والإسعاف”، وفق نص البلاغ.
هذا الموقف التونسي الشرس لم تقابله في الحقيقة تحركات دبلوماسية من أجل وقف إطلاق النار في القطاع بما يوقف نزيف أعداد الشهداء والجرحى الذين يعدّون بالآلاف كما تفعل عدّة دول عربية وقوى اقليمية عدا بعض اللقاءات الثنائية التي جمعت وزير الخارجية التونسي نبيل عمار بنظرائه من بعض الدول العربية والأوروبية، كما لم يتّضح بعدُ أسباب عدم مُشاركة الرئيس التونسي في قمّة السلام التي دعت إليها مصر في الـ21 من شهر أكتوبر 2023.
غياب تونس الدبلوماسي عن قمّة السلام، استدعى من الرئيس سعيّد حثّ وزير خارجيته نبيل عمار على استدعاء عدد من سفراء الدول الأجنبية في تونس لتبليغهم الموقف التونسي من مجريات الأحداث في قطاع غزّة وللمطالبة بتطبيق القانون الدولي الإنساني لوقف الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني على مرأى ومسمع العالم كلّه وفق نصّ بيان نشرته صفحة الرئاسة مساء الاثنين 23 أكتوبر 2023.
للدبلوماسية التونسية سجلّ حافل بالمواقف المتعلّقة بالقضية الفلسطينية لعلّ أبرزها كانت ابّان فترة حكم الرئيس الأول للبلاد الحبيب بورقيبة الذي لم ينقطع على مدى ثلث قرن من حكمه عن القيام بمساع دبلوماسية لدعم القضية الفلسطينية وفق منهج مخالف لما اتّفقت عليه الدول القومية العربية التي تتزعمها مصر والجمهورية العربية السورية.
كان الحبيب بورقيبة، وفق عديد المؤرخين على غرار عبد اللطيف الحناشي، يؤمن بالعمل السياسي والدبلوماسي لاسترجاع الحق الفلسطيني ووقف مشروع الاستيطان الصهيوني والذي كان مدعوما من الغرب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
انطلاقا من هذه الفلسفة رسم الحبيب بورقيبة سياسته الخارجية القائمة على ربط علاقات حيوية بالولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الأكبر في العالم والتي ستكون لها انعكاسات واضحة في سياسة تونس الخارجية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
خلال زيارته إلى القدس ومخيمات الفلسطينيين في أريحا عام 1965 أصدح الحبيب بورقيبة بموقفه علنا حين دعا الفلسطينيين إلى قبول مبادرة حل الدولتين على حدود 1947 الشيء الذي أدخله في صدام مع الدول العربية، حتى أنّ منظمة التحرير الفلسطينية التي دفع الحبيب بورقيبة نحو تشكّلها كممثل شرعي للفلسطينيين طالبت بفصل تونس من عضوية جامعة الدّول العربية احتجاجا على الموقف البورقيبي.
في المقابل ظهر الرئيس التونسي أمام العالم الغربي في مظهر رجل السلام بما زاد من توطيد علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية التي قامت في وقت لاحق بدعمه ماليا وعسكريا خاصة مع تصاعد التهديدات الليبية بقيادة معمر القذافي في أواخر ستينات القرن الماضي، والذي كان يكنّ العداء للحبيب بورقيبة ويتّهمه بإفشال مخططات الوحدة العربية.
بعد الحروب العربية الإسرائيلية في أواخر الستينات وبدايات السبعينات والتي انتهت بتوقيع مصر تحت قيادة أنور السادات معاهدة كامب ديفيد عام 1979 وزيارة السادات إلى إسرائيل في نفس العام، عادت تونس إلى واجهة الدبلوماسية العربية خاصة وأنّ فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية بدأت تقتنع شيئا فشيئا بالطّرح الذّي يقدّمه الحبيب بورقيبة حول السياسة المرحلية في استرجاع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى كونها أصبحت ضيفا ثقيلا على دول الطوق الفلسطيني.
فبعد طردها من الأراضي الأردنية إثر حرب طاحنة، تحالف الكيان الصهيوني مع عدد من الحركات اللبنانية لتضييق الخناق على منظمة التحرير التي اتّخذت من الجنوب اللبناني منطلقا لعملياتها ضدّ اسرائيل وانتهت بمجازر بشعة نفذتها قوات الإحتلال الصهيوني أبرزها مجزرة صبرة وشاتيلا.
ورغم علاقاته الوطيدة بالولايات المتحدة الأمريكية، لم يتوان الحبيب بورقيبة في توجيه نقد شديد اللهجة إلى السياسات الأمريكية الداعمة للكيان الصهيوني. وبعد اجتياح الكيان الصهيوني للبنان ومحاصرته لبيروت دعا الرئيس التونسي الدول العربية إلى سحب سفرائها من الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجا على الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها على لبنان.
انتهى المطاف بمنظمة التحرير الفلسطينية بالاستقرار في تونس عام 1982 بعد أن وافقت الأخيرة على ذلك، على أمل إقناع زعيم المقاومة الفلسطينية ياسر عرفات بجدوى المبادرات التي أطلقها الحبيب بورقيبة من أجل إمضاء معاهدة سلام على حدود 1947 ووضع حدّ لحالة التشرّد التي يعاني منها الفلسطينيون لأكثر من 30 عاما.
بعد القصف الإسرائيلي على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية بمنطقة حمام الشط في أكتوبر من عام 1985، بدأ ياسر عرفات في المُضي في المساعي التي كان قد قام بها الحبيب بورقيبة خاصة بعد تقدّم الأخير في السنّ حيث لم تعد له القدرة على مواصلة قيادة الجهود الدبلوماسية ولا حتى مواصلة قيادة بلاده.
ورغم الشيخوخة والمرض، استطاع الحبيب بورقيبة استثمار علاقاته المزدهرة مع الولايات المتحدة الأمريكية لاقتلاع قرار من مجلس الأمن يدين الكيان الصهيوني بعد القصف الذي قام به للأراضي التونسية واستهدافه لمقرّات منظمة التحرير الفلسطينية ببلدة حمّام الشطّ الواقعة في الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس.
صوّتت لصالح القرار كل الدول الأعضاء. وامتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت نزولا عند طلبات الرئيس التونسي حليفها الأوّل في منطقة شمال أفريقيا والذي هدّد بقطع علاقاته معها في صورة استعمالها حقّ الفيتو لنقض القرار.
بدأ اهتمام تونس بالقضية الفلسطينية يعرف نوعا من البرود في السنوات اللاحقة لقصف الكيان الصهيوني للأراضي التونسية. وتُشير تقارير صحفية عديدة إلى حصول قطيعة في العلاقة بين الزعيمين ياسر عرفات والحبيب بورقيبة، حيث أصبح الأخير يرى في منظمة التحرير الفلسطينية عنصر إزعاج وعدم استقرار لبلاده، خاصة وأنّ الولايات المتحدّة الأمريكية كانت تضغط في اتجاه أن تلعب تونس دورا أمنيا واستخباراتيا بهدف إفشال عمليات المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وهو ما لم تذهب في اتّجاهه تونس.
بوصول زين العابدين بن علي الى رأس السلطة في تونس، بعد انقلابه على الحبيب بورقيبة، بدأت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية تعرف نوعا من التضييق الأمني عليها.
ويتضح هذا الفتور في العلاقة بين الأجهزة الرسمية التونسية ومنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال حوادث الاغتيالات المتتالية التي قام بها جهاز الموساد في تونس، بداية من عملية اغتيال القيادي بالمنظمة خليل الوزير المُكنى بـ “أبو جهاد” في عام 1988 وصولا إلى اغتيال ثلاثة قادة آخرين وهم كل من “أبو الهول” و “أبو إياد” و “أبو محمد العميري” في عام 1991.
وبهدف مزيد توطيد علاقاته بالغرب وأساسا الولايات المتحدة الأمريكية، سمح زين العابدين بن علي لوفود إسرائيلية بزيارة تونس في خضم المفاوضات الجارية بين إسرائيل وفلسطين تحت رعاية أمريكية انتهت عام 1993 بإمضاء اتفاقية “أوسلو” للسّلام تنصّ على قيام دولة فلسطين (حكم ذاتي) على حدود 1967.
بُعيد إمضاء اتفاقية السلام وإعلان قيام دولة فلسطين، بدأ زين العابدين بن علي مسارا جديدا في العلاقات التونسية الإسرائيلية من خلال فتح قنوات اتصال بين الجانبين عبر سفارتيهما في بلجيكا عام 1994 لتتطور العلاقة نحو فتح مكتبي اتّصال من الجهتين، وهي خطوة أولى أراد من خلالها النظام التونسي الشروع في إنهاء حالة القطيعة الرسمية مع الكيان الصهيوني.
ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في جانفي/يناير من العام 2000، والمجازر التي قامت بها قوات الإحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستجابة للائحة الجامعة العربية التّي انعقدت حينها للتباحث في الوضع الفلسطيني، اتّخذت تونس قرارا بغلق مكتب اتّصالها لدى الكيان الصهيوني وطرد مكتب هذا الأخير من تونس، فضلا عن دعوة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للحضور في تونس أين عقد الطرفان في شهر أكتوبر من العام 2000 اجتماعا عاما في الضاحية الشمالية بتونس العاصمة، أكّد فيه الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي على حق الفلسطينيين في إقامة دولة ذات سيادة على حدود 1967 تماشيا مع قرارات الجامعة العربية.
وصف عديد المتابعين تلك الخطوة التونسية واستضافة ياسر عرفات، بالمراوغة من السلطة وبأنّها كانت موجّهة لتهدئة الداخل التونسي الذي كان متأثرا بالأحداث الجارية في فلسطين ودفع التهمة التّي التصقت به بخذلان القضية الفلسطينية.
يُنَسّب المؤرخ السياسي عبد اللطيف الحناشي بعض المعطيات التاريخية الخاصة بموقف نظام بن علي من عدد من القضايا العربية ويُشير الى أنّ علاقة بن علي بياسر عرفات على وجه الخصوص كانت علاقة صداقة وطيدة وحميمية. كما كانت تونس قد أسندت الجهود الدولية السابقة لإمضاء اتفاقية السلام، إضافة إلى أنّ الموقف التونسي في علاقة بحصار بغداد عام 1991 (بعد غزو العراق للكويت) كان مشرّفا إلى أبعد الحدود وفق وصف الحنّاشي.
ويشرح الحنّاشي موقف تونس من حصار بغداد والذي كان حاد اللهجة وناقدا لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، قائلا:
المستوى الثقافي بين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كان بعيدا جدّا فالموقف التونسي تجاه حرب الخليج الثانية أسّسته الدبلوماسية التونسية الكفؤة التي بقيت محافظة على ثوابت السياسة الخارجية البورقيبية فبن علي كان حريصا في سياسته الخارجية بالذات على الاعتماد على الكفاءات التونسية في هذا المجال..
المؤرخ عبد اللطيف الحناشي
بعد ذلك، وفي عام 2005 فازت تونس بتنظيم الجزء الثاني من القمة العالمية لمجتمع المعلومات على أراضيها. وقامت بتوجيه دعوة إلى كلّ الدّول المشاركة في النسخة الأولى المنعقدة في اسبانيا بما في ذلك “دولة إسرائيل” للمشاركة في فعاليات القمة. وشارك سيلفان شالوم وزير خارجية “آريال شارون” المتّهم بارتكاب مجازر حرب في قطاع غزة والضفة الغربية، في فعاليات القمّة على رأس وفد الكيان الصهيوني.
ظلّت السياسة الخارجية التونسية المتّصلة بالقضية الفلسطينية في السنوات اللاحقة لعام 2005 ووصولا إلى ثورة جانفي 2011، تقتصر على التنديد وتقديم المساعدات دون تسجيل أي تحرّك دبلوماسي، كما دأبت على ذلك منذ استقلالها.
تقلّص الدور الدبلوماسي التونسي المتعلّق بالقضية الفلسطينية وبقي محدودا رغم المواقف المناصرة لحقّ الشّعب الفلسطيني في استرجاع أراضيه المحتلّة، سيما مع حالة الإنقسام التي عرفتها البلاد بُعيد ثورة جانفي 2011 إذ فشل البرلمان التونسي لأكثر من ثلاث مرات في تمرير قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني مع غياب واضح للدبلوماسية التونسية في نصرة حقّ الشّعب الفلسطيني في الجمعيات والمنتديات الدولية.
تجدر الاشارة هنا الى أنّ فترة حكم الاسلاميين وشركائهم بعد الثورة، بقيادة حركة النهضة، كانت قد اتّسمت بتقارب كبير مع حركة حماس حتّى أنّ رئيس الجمهورية آنذاك، منصف المرزوقي، المقرّب من حركة النهضة، كان قد استقبل وفدا من حركة حماس بقيادة خالد مشعل في القصر الرئاسي سنة 2014 بالتوازي مع تنظيم مصر إحدى القمم العربية الشيء الذي لم تستسغه السلطة الفلسطينية واعتبرته -في وثيقة مسرّبة من سفارتها بتونس- تخندقا في “الحلف الإخواني”.
مع قدوم الرئيس قيس سعيّد في عام 2019 وصعوده إلى سدّة الحكم تغيّر الخطاب التونسي المتصل بالقضية الفلسطينية واتّخذ لهجة حادة، حيث اعتبر سعيّد في أكثر من مناسبة أنّ التطبيع مع الكيان الصهيوني يعتبر “جريمة خيانة عظمى” ولا يكفي تجريمه بمجرّد قانون.
ولا يعزل متابعون موقف الرئيس التونسي الراديكالي والقريب شكلا من موقف دول معادية للحلف الأمريكي الأوروبي، على غرار الجمهورية الإيرانية، عن العلاقات المتوترة لتونس مع هذا الحلف منذ إعلان سعيّد ما وصفها بـ التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021.
من دبلوماسية تحرّكها المصلحة الوطنية إلى دبلوماسية الارتهان
تشي علاقة تونس بالقضية الفلسطينية بالتحوّلات الكبرى التي مرّت بها السياسة الخارجية التونسية، منذ الاستقلال إلى اليوم.ويمكن تقسيم السياسة الخارجية التونسية إلى ثلاث مراحل أساسية : مرحلة أولى توصف بكونها دبلوماسية تُعلي المصلحة الوطنية ونصرة القضايا العادلة كانت تحت نظام الرئيس الحبيب بورقيبة. ومرحلة ثانية توصف بكونها دبلوماسية المصالح الضيقة والارتهان إلى الغرب تحت حكم نظام بن علي. ومرحلة ثالثة توصف بكونها دبلوماسية مفككة وضعيفة ومُرتهنة في السنوات اللاحقة لثورة جانفي 2011.
وتعكس هذه التحوّلات الدبلوماسية تحالفات تونس الخارجية، حيث بذل الحبيب بورقيبة جهدا كبيرا لتوطيد علاقات بلاده مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، خاصة أنّ حكومته كانت مُقبلة بعد الإستقلال على إصلاحات جذرية تستوجب دعما ماليا كبير.
كانت السياسة الخارجية في تونس تحت حكم الرئيس الحبيب بورقيبة مرتبطة شديد الإرتباط بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتعود جذور العلاقات بين بورقيبة والولايات المتحدة الأمريكية، وفق دراسات عديدة على غرار مؤلفات المؤرخ عبد اللطيف الحناشي والوزير الأسبق الشاذلي القليبي، إلى مرحلة الوجود الفرنسي في تونس، ويصف أندري بوتار مراسل جريدة “لوموند” سابقا بدايات هذا الارتباط قائلا :
انبثقت من ذاكرة الطالب الباريسي، ذكريات نظرية ويلسون التي كانت تستهوي الأفكار، أن أمريكا الجديدة قادرة على تفهم ذلك الطموح إلى الحرية، و عمد بورقيبة إلى إقناعها بذلك.
ويرى عدد من قيادات اليسار التونسي أنّ اختيار بورقيبة الولايات المتّحدة وأوروبا الغربية و تفضيلها على الاتحاد السوفياتي مردّه أنّ الأوضاع الدولية فرضت ذلك الاختيار التكتيكي، مستندين على ما قاله بورقيبة نفسه خلال اجتماعاته بقادة الحزب الدستوري الجديد:
فرنسا كانت في الشقّ الغربي، و كان لا بدّ لنا أن ننضمّ إلى شقّ أصدقاءها لكسب مؤازرتهم حتى يساعدونا و يؤثروا في فرنسا لصالح القضية التونسية، لكن لو بقينا في الشقّ الاشتراكي الشيوعي لأمكن لفرنسا العبث بحركتنا بسهولة، والادّعاء أمام الرأي العام الدّولي أنّنا شيوعيون فلا مصدّق لنا ولا نصير.
مقتطف من خطاب بورقيبة خلال اجتماعاته بقادة الحزب
لكنّ هذا التبرير المنطقي لاختيار الغرب في نظر بعض من معارضي الحبيب بورقيبة وأهمهم اليساريين ليس كافيا، لأنّ الثابت أنّ بورقيبة كان يبغض الشيوعية، و كان معجبا بالثقافة الغربية وخاصة الفرنسية وفق وصف الشاذلي القليبي الوزير والدبلوماسي التونسي السابق والأمين العام الرابع لجامعة الدول العربية.
يصف القليبي في كتابه “أضواء من الذاكرة البورقيبية” عمق العلاقة بين بورقيبة والولايات المتحدة الأمريكية بأنّها علاقة عشق.
إنّ بورقيبة في مجال السياسة الخارجية كانت لديه ميول لأمريكا تكاد تتحوّل إلى عشق. وكان بورقيبة في كلّ عمله السياسي للدفاع عن استقلال بلاده استراتيجيا كبيرا و تكتيكيا مرهفا بعيد النظر. كان على قناعة أنّ بلدا مثل تونس لا يمكن أن يضمن أمنه دون مظلة قوة عظمى.
الشاذلي القليبي في كتابه أضواء من الذاكرة البورقيبية
على الرغم من الودّ الذي كانت تظهره أمريكا لحليفها الحبيب بورقيبة إلاّ أنّ الدّعم الأمريكي لاستقلال تونس، وفق أطروحة دكتوراه للباحثة الجزائرية شهرزاد رميثة، لم يكن نابعا من الرغبة في الدفاع عن حق تقرير المصير لدولة مستعمرة، بل في تحوّل مدفوع بسياسات الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم ترغب في تهميش حلفائها الفرنسيين إلاّ أنّها اعتبرت شمال إفريقيا قطعة شطرنج جيوسياسية مهمّة في الحرب الباردة، حيث خشيت الولايات المتحدة من أن تتّجه تونس شرقا طلبا للدعم في حال لم تجده غربا. و ما زاد من تعزيز هذا الخوف أنّ الاتحاد السوفياتي كان ينشر نفوذه في الدول النامية و المتحررة حديثا من براثن الإستعمار.
وكانت علاقة بورقيبة بالولايات المتحدة الأمريكية ترمي بكامل ثقلها على موقفه من سياسة عدم الانحياز. وحسب ما تؤكده الدراسات و حتى التصريحات التي أدلى بها الحبيب بورقيبة نفسه الداعمة لـ “كتلة عدم الانحياز” وموافقته على مبادئها، إلاّ أنّه بقي وفيّا للولايات المتحدة الأمريكية، وكان يؤكد وفاءه في كل مرّة و بالتالي انحيازه لصفّها للحصول على مساعدات وقروض.
و تأكيدا للعلاقات المتميزة التي جمعت نظام الحبيب بورقيبة بالولايات المتحدة الأمريكية، كتبت الصحيفة الأمريكية واشنطن ريبورت في مقال نشرته عام 1990 بمناسبة زيارة يؤدّيها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، أنّ “الرئيس (الأسبق) بورقيبة خلال محادثاته مع الجانب الأمريكي لم يتردد قط، على الأقل سرا، في التعبير عن الأهمية التي يوليها لوجود الأسطول السادس الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط. وكانت السفن الحربية الأمريكية تقوم بزيارات منتظمة إلى تونس، وكان بورقيبة قد توجّه إلى الأسطول السادس عندما انهار سد كبير في عام 1973 على وادي مجردة بعد أيام من الأمطار الغزيرة، حيث استجابت الولايات المتحدة لنداءاته ووجهت مروحيات من أسطولها المذكور لمساعدة تونس في إنقاذ من حاصرتهم المياه”.
تقول الواشنطن ريبورت، أنّ هذا المثال يوضّح بشكل كبير متانة العلاقات التونسية الأمريكية والمكانة التي كان يحظى بها الحبيب بورقيبة في واشنطن.
العلاقة الوطيدة بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية لم تمنع الحبيب بورقيبة من مدّ روابط صداقة مع دول عربية على غرار المملكة المغربية ودول خليجية والجمهورية الجزائرية خاصة في ستينات القرن الماضي عندما سمح للمقاومة الجزائرية بالتمركز في جبال تونس على حدودها مع الجزائر لتكون منطلقا لعمليات عسكرية ضدّ المُستعمر الفرنسي، حتى أنه لم ير مانعا في المُضي قدما نحو مبادرة الوحدة مع ليبيا وإمداد علاقات حتى مع بعض الدول الاشتراكية. كما قبِل استضافة مقرّ الجامعة العربية بعد حرب أكتوبر من عام 1974 بالرغم من توتّر علاقات بلاده مع جزء كبير من الدول العربية خاصة منها ذات الأنظمة العروبية.
ولئن تميّزت الفترة البورقيبية في علاقة بالسياسة الخارجية بالالتزام بإعلاء مصلحة الوطن أوّلا ثم نصرة القضايا العادلة وتقدير التوازنات العالمية في أي قرار تتخذه البلاد ثانيا، فانّ هذه الثوابت ستعرف نوعا من التراجع في السنوات الأخيرة من حكم الحبيب بورقيبة على وجه خاصّ مع وصول زين العابدين بن علي إلى سدّة الحكم.
منذ عام 1987 وبعد الإطاحة بحكم الحبيب بورقيبة، اتّخذت السياسة الخارجية التونسية وفق عديد المتابعين شكلا آخر، حيث أدارت ظهرها للقضايا العربية الكبرى ولم تتعدّ مواقفها الدبلوماسية في خصوص الأزمات التي تضرب عددا من الدول العربية سوى التنديد وتقديم المساعدات دون أن تتبعها خطوات جريئة. ومردّ هذا انتهاج حكم بن علي سياسة خارجية قوامها المقايضة مع الغرب وإمداد علاقات اقتصادية خاصة مع أوروبا ومزيد تطوير العلاقات التونسية الأمريكية خاصة في المجال العسكري وفق ما يذهب إليه عدد من المحلّلين.
فضلا عن هذا اختزل نظام بن علي مهام البعثات الدبلوماسية التونسية في الخارج في مراقبة المعارضين والوشاية بهم والتصدّي لما من شأنه أن يمسّ من صورته في الخارج.
غير أنّ الدبلوماسية التونسية، تحت حكم بن علي، وفي بدايات حكمه وفي إطار الضغط لاقتلاع اعتراف غربي به خاصة وأنه يوصف بالرئيس المُنقلب على الشرعية، كانت قد لعبت دورا في حرب الخليج الثانية، حيث طالبت تونس بوقف فوري للنزاع وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة في تحرير الكويت من الجيش العراقي محذّرة من أن تتحوّل إلى حرب تدمير للعراق وشعبها.
كما انتقدت تونس بشكل مباشر سياسات الولايات المتحدة الأمريكية التي تحصّنت بالقرار الأممي لتحرير الكويت في عام 1991، لشنّ حرب على نظام صدّام حسين صاحب الشعبية العربية. موقف لم يغيّر أي شيء في علاقة تونس بالولايات المتحدة الأمريكية ولم يتكرّر أبدا حتى خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2004، السنة التي أدّى فيها بن علي زيارته الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بما يوضّح نوعية السياسة الخارجية التي انتهجها والقائمة على اصطياد الفرص في تلميع صورة نظامه وسياسة المواقف بمقابل.
من المحطات الفارقة في تاريخ الدبلوماسية التونسية، انضمام تونس إلى ما عُرف بالحرب على الإرهاب ووقوفها مع الجانب الأمريكي بُعيد أحداث 11 سبتمبر من عام 2000، بحثا عن مزيد من الدعم الأمريكي وقصد إحكام القبضة الأمنية على نشاط الجماعات والأحزاب الإسلامية في تونس.
رغم تقارب نظام بن علي مع واشنطن وانخراطه ضمن الحرب على الإرهاب، لم يمنع ذلك واشنطن من مواصلة دعوة تونس لمزيد من الانفتاح وتوفير الحقوق والحريات.
ومنذ سقوط نظام بن علي في 14 جانفي/ يناير 2011، وانطلاق سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي أطاحت بعدّة أنظمة عربية بما أعاد توزيع التحالفات الإقليمية في كامل المنطقة العربية وحوض البحر الأبيض المتوسط، ظهرت أولويات جديدة للسياسة الخارجية التونسية بقيادة الترويكا الحاكمة ذات الأغلبية الإسلامية.
ولم تعد القضية الفلسطينية خلال السنوات الأولى من الثورة التونسية قضية مركزية، بفعل المتغيرات الجيوستراتيجية. واتّخذت تونس مكانا في محور إقليمي تتزعّمه كل من قطر وتركيا اللتين دعّمتا تنظيم الإخوان المُسلمين بكلّ من تونس ومصر وليبيا وسوريا وتناغمت مع سياسات الولايات المتّحدة الأمريكية في المنطقة، حتى أنّ الترويكا حينها اتّخذت قرارا كان الأوّل من نوعه في تاريخ تونس وهو التدخّل في الشأن السوري الداخلي وتنظيمها لمؤتمر “أصدقاء سوريا” الذّي كان من بين أهدافه إسقاط نظام بشار الأسد.
بعد أربع سنوات من تبعية تونس إلى المحور القطري التركي، تعالت أصوات في الداخل التونسي بضرورة وقف هذه التبعية والعودة إلى ما يسمّى بثوابت الدولة التونسية في عدم الاصطفاف وعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول. هذه الدعوات تزعمتها حركة نداء تونس بقيادة الباجي قائد السبسي التي كانت تدعمها الإمارات العربية المتحدة العدو اللدود للحلف القطري التركي في المنطقة.
وما يمكن أن يميّز السياسة الخارجية في سنوات الانتقال السياسي في تونس بعد الثورة، حالة الانقسام الواضح في الداخل التونسي وتنازع الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة وظهور ما اصطلح على تسميته بالدبلوماسية البرلمانية بعد تولّي رئيس حركة النهضة الإسلامية رئاسة البرلمان التونسي في عام 2019.
وما يزيد من قتامة المشهد في السياسة الخارجية التونسية وتأثُرها بالانقسام الداخلي، عدم اتّخاذ السلطة الرسمية التونسية أي موقف حاسم من اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري (كان ينشط في صفوف كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس الفلسطينية) على أراضيها والتي أعلن جهاز الموساد الإسرائيلي عن تبنّيه لها، بما يعيد الذاكرة التونسية إلى سلسلة الاغتيالات التي كان قام بها الموساد الإسرائيلي في تونس في الفترة المنحصرة بين عامي 1988 و1991، وحالة البرود التام التي تعاملت بها الأجهزة الرسمية في تونس في خصوص نشاط الموساد على أراضيها.
في خضم تقلّص دور تونس الدبلوماسي على أكثر من صعيد لفترة ناهزت الـ 30 عاما، حافظت الدبلوماسية التونسية على منحاها المرتبط بسياسات الغرب، أساسا كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، مستفيدة من مساعدات وقروض مالية كبيرة ضخّتها هذه الأنظمة على مدار سنوات وتزايدت في فترة الانتقال الديمقراطي تحت عنوان دعم الانتقال الديمقراطي والحرب على الإرهاب، لعل أبرزها الضمان المالي الذي قدّمته الولايات المتحدة الأمريكية في مناسبتين ومساعدتها لتونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي أعوام 2013 و2016 فضلا عن الترفيع في قيمة المساعدات الأمريكية لفائدة الجيش التونسي والمجتمع المدني والمؤسسات الحكومية.
الموقف الراديكالي لقيس سعيّد
يشي الموقف التونسي الأخير منذ إنطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، بمدى تعلّق الرئيس التونسي قيس سعيّد بالقضية الفلسطينية ودعمه لها.
ولم يكن موقف الرئيس سعيّد الذي كان محلّ ترحيب شعبي تونس وعربي، الأوّل من نوعه، حيث كانت مناهضة التطبيع من أهم الرسائل التي بعث بها سعيّد إلى العالم الذي يتساءل عنه وعن أفكاره في سباق الإنتخابات عام 2019، حين أكّد دعمه للقضية الفلسطينية بشكل كبير واعتبرها قضية مركزية بالنسبة إليه ومعلنا رفضه التام والكلي لفكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني حتى أنه يعتبر ذلك من باب الخيانة العُظمى.
ولا يفوّت الرئيس التونسي أي فرصة عند مشاركته في قمم دولية إلاّ ويعرّج على حق الفلسطينيين في تحرير أراضيهم. خلال الغارات التي شنتها قوّات الإحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة في عام 2021، بادر الرئيس التونسي بمبادرة توجّه بها إلى مجلس الأمن تنصّ على وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع ووقف الإحتلال وعلى حق الفلسطينيين في إقامة دولة ذات سيادة على حدود 1967.
هذا الموقف الدبلوماسي، لن يجد مكانا له في الموقف التونسي المستجد مع الأحداث الجارية منذ 07 أكتوبر 2023 بعد عملية طوفان الأقصى، حيث شدد الرئيس التونسي في بيانه على حق الفلسطينيين في كل أرض فلسطين من النهر إلى البحر بما فُهم منه تخلي الدولة التونسية عن موقفها من حل الدولتين ومرورها نحو ضرورة استرجاع الفلسطينيين لأراضيهم كاملة وتأسيس دولة فلسطين.
كما يرى متابعون أنّ الموقف التونسي كان بمثابة ردّ على مواقف الغرب التّي ساندت المجازر التي تقوم بها قوّات الإحتلال الصهيوني.
يعتبر المؤرخ السياسي عبد اللطيف الحناشي في حواره مع موقع الكتيبة، أنّ الموقف التونسي “موقف مشرّف في المضمون لكنّه في ذات الوقت يفتقد إلى الرصانة الدبلوماسية ويتسم بالاندفاعية وهو أكثر راديكالية من مواقف دول محور الممانعة ذاتها على غرار الموقف الجزائري”.
وعن رفض تونس للائحة الصادرة عن اجتماع وزراء خارجية الدول العربية جملة وتفصيلا بعد أن كان صادق على مضمونها وزير الخارجية نبيل عمار، يقول الحناشي انّ الوزير كان عليه الرجوع إلى رئيس الجمهورية ووضعه في الصورة قبل اتخاذ أي قرار.
ويُشير الحناشي الى أنّ الموقف العربي في علاقة بمجريات الأحداث في قطاع غزّة تُشكله كتلتان، الأولى متناغمة مع موقف الجامعة العربية التّي تقوده مصر وبعض الدول المطبّعة مع “إسرائيل”. وأمّا الكتلة الثانية فتجمع كلّا من الجزائر والعراق وسوريا وبعض الدول الأخرى التي كانت لها مواقف مساندة بشكل مطلق للفلسطينيين والتي تحفّظت على بعض النقاط الواردة في اللائحة المذكورة ووافقت على أخرى.
وعن تداعيات الموقف الراديكالي التونسي، يُقول الحناشي انّه “من السابق لأوانه التكهّن بارتداداته لكنّه سيحمل مستقبلا ردود فعل من دول لها علاقات اقتصادية وعسكرية متينة مع تونس على غرار الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية المساندتين بشكل مطلق للكيان الصهيوني والتي تشهد علاقتها بتونس نوعا من التوتر في السنتين الأخيرتين”.
من جانبه يعتبر الباحث في العلوم السياسية حمزة المؤدب أنّ “موقف الرئيس قيس سعيّد يتماشى والموقف الشعبي التونسي الذي رحّب به أشدّ الترحاب، مُشيرا الى أنّه بالرغم من أنّ الموقف التونسي كان حادّا ومناصرا للفلسطينيين إلا أنه كان يفتقد إلى الحدّ الأدنى من اللغة الدبلوماسية وراديكاليا أكثر من موقف الجزائر التي تتصدر قائمة دول محور الممانعة في المنطقة”.
يُشير المؤدب الى أنّ الموقف الجزائري كان محافظا على اللّهجة الدبلوماسية ونادى، كما في مواقف سابقة، بضرورة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود 1967 على خلاف الموقف التونسي الذي نادى بتحرير كامل أرض فلسطين.
ويضيف المؤدب في حواره مع موقع الكتيبة، أنّ موقف الرئيس سعيّد ليس بمعزل من مواقفه من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية التي تعرف علاقته بهم توترا شديدا.
وحول التقاطع الحاصل في المواقف بين تونس وبعض الدول المعادية للتحالف الأمريكي الأوروبي على غرار الجمهورية الإيرانية، يعتبر المؤدب أنّ ذلك “إمّا أن يكون من باب الصدفة لأنّ الموقف التونسي صدر في وقت قياسي ولا ينذر بوجود تنسيق مسبق، أو انّ الرئيس التونسي يوجّه من خلاله رسالة إلى الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تستبطن استعداده للتحالف مع الحلف الروسي الإيراني الصيني، في ظل التوتر الذي تشهده علاقته بهما”، مشيرا الى أنّ قيس سعيّد يعتمد سياسة خارجية “صدامية” مع شركاء تونس التاريخيين تمادت حتى مع الدول العربية برفضه لائحة الجامعة العربية جملة وتفصيلا.
ولا يستبعد المؤدب في بحر قراءته للموقف التونسي، أنّ الرئيس سعيّد يستبق من خلال موقفه الراديكالي إلى ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس في ظل توتر حاد في علاقته بالجهات المانحة بما يعطي صورة أنّ تونس إذا لم تتحصل على مساعدات مالية مستقبلا سيكون ذلك بسبب موقفها من الحرب على قطاع غزّة، قائلا:
موقف سعيّد المتناغم والموقف الشعبي في جزء منه موجه إلى الرأي العام الداخلي في تونس بما يزيد من شعبيته ويعزز سرديته المبنية على المؤامرات التي تحاك ضدّه.
قيس سعيّد وسياسة الصدام
منذ فرضه الإجراءات الإستثنائية في 25 جويلية من عام 2021، اتّخذ الرئيس قيس سعيّد خطابا جديدا في سياسته الخارجية قائم على احترام السيادة التونسية وعدم قبول أي تدخل في الشأن التونسي بأي شكل من الأشكال.
وكانت انتقادات الرئيس سعيّد تجاه دول الإتحاد الأوروبي لاذعة في خصوص ما يعتبره تدخلا سافرا في الشؤون التونسية مستنكرا ما وصفها بتحرّكات بعض الأطراف السياسية التونسية في الخارج لتأليب الرأي العام الدولي ضدّ المسار الإصلاحي الذي انتهجه. ولم يتوان سعيّد لحظة عن توجيه تهم الخيانة إلى عدد من معارضيه وفتح قضايا عديدة في شبهة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي شملت عددا من الوجوه السياسية التونسية وحتى بعض سفراء دول أجنبية في تونس.
واتسمت السياسة الخارجية التونسية في الفترة الممتدة بين 2021 وإلى غاية اليوم، بسمتين أساسيتين الأولى كانت باستقبال عدد من الوفود الأجنبية من البرلمان الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية وحتى من الدول العربية لشرح الأوضاع التي حتّمت عليه فرض “الإجراءات الإستثنائية” في الخامس والعشرين من جويلية من عام 2021، وشرح أسبابها محاولا استمالتهم للوقوف معه، والسمة الثانية وصفت بالخطاب الصدامي.
بعد أشهر قليلة اعتمد الرئيس سعيّد سياسة خارجية قوامها الخطاب السيادي أو السيادوي كما يصفه عدد من معارضيه، وصل إلى حدّ طرد الأمينة العامة للكونفدرالية الأوروبية للنقابات إيستر لينش بعد مشاركتها في مسيرة عمالية بتونس دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل باعتبارها “شخصية غير مرغوب فيها” على الأراضي التونسية.
ويشدد الرئيس التونسي في كل مناسبة على “العلاقات الندّية” التي يجب أن تربط تونس بعدد من الدول الشريكة، وعلى أنّ المساعدات التي يتمّ تقديمها إلى تونس من طرف هذه الدول يجب ألاّ تتحوّل الى ذريعة لإبتزاز الدولة التونسية وفق قوله.
وفي الأشهر القليلة الماضية، اشتد الخطاب الصدامي للرئيس سعيّد مع الدول الغربية، ليمرّ من القول إلى الفعل وذلك بعد تغريدة المفوّض الأوروبي لشؤون الجوار والتوسع أوليفر فارهيلي الذي طالب فيها سعيّد بإعادة الأموال التي تمّ صرفها من طرف الإتحاد الأوروبي بعنوان مساعدات لمعالجة تداعيات جائحة كوفيد-19.
وأمر الرئيس سعيّد على الفور وزير الخارجية نبيل عمّار بالردّ على النائب المذكور في بيان تمّ نشره بتاريخ 05 أكتوبر 2023، على الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية، كما تمّ إرجاع المبلغ المالي موضوع الخلاف الجديد مع البرلمان الأوروبي والبالغ قيمته 60 مليون يورو وفق ما صرّح به عمّار إلى صحيفة “لوسوار” البلجيكية.
يعلّق الباحث السياسي حمزة المؤدب على السياسة الخارجية التي يتّبعها الرئيس قيس سعيّد، بالقول انّها “أدّت إلى عزل تونس عن نحو ثلاثة أرباع العالم وستكون لها تداعيات خطيرة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في تونس”.
وذكّر المؤدب بالخطاب الرئاسي في 23 فيفري من هذا العام في خصوص ملف المهاجرين غير النظاميين والذي تضمّن كلمات عنصرية، زادت من عزلة تونس عن محيطها الإفريقي في الوقت الذي كان يتوجّب عليها إمداد علاقات مع دول افريقية وفتح أسواق بها للسّلع التونسية.
تونس أصبحت لها علاقات متوترة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي والدول الإفريقية وبوادر عزلة عربية بعد رفضها للائحة الدول العربية في خصوص القضية الفلسطينية جملة وتفصيلا.
حمزة المؤدب باحث سياسي
في خصوص التقرّب من الحلف الصيني الروسي الإيراني، يقول المؤدب أنّ تونس غير قادرة أساسا على إمداد علاقات مع هذه الدول باعتبار أنّ اقتصادها قائم في الأساس على شراكات تاريخية مع الإتحاد الأوروبي، مذكّرا في هذا المجال بما قاله السفير الصيني جوابا على إمكانية التحاق تونس بمجموعة البريكس، عندما قال انّ على تونس المُضي في اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
واعتبر المؤدّب أنّ ضعف السياسة الخارجية التونسية، يتأكد بمجريات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي انتهت برفض الرئيس سعيّد للاتفاق المبدئي الذي أمضته حكومته منذ عامين، وغلق باب المفاوضات مع الأخير.
ويصف الباحث السياسي، السياسة الخارجية التونسية مع الرئيس سعيّد و تلوحيها في أكثر من مناسبة بالتقرّب من حلف دولي معادي للولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي بأنّها “مبنيّة على دبلوماسية خطابية أي أنها تقول ما لا تستطيع فعله على أرض الواقع، مضيفا:
تونس غير قادرة على قطع علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدليل أنّ الوزارات مازالت تعمل على تنفيذ برامج تعاون ثنائي مع هذه الدول، ولا هي قادرة على الإصطفاف وراء محور آخر لأنّ ذلك له كلفة عالية على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.
كما أنّ المحور الصيني الروسي الإيراني -يضيف محدثنا- لا يرى في التحالف مع تونس أية نتيجة، على خلاف موقف هذا المحور من تحالفه مع الجزائر باعتبارها قوة عسكرية ونفطية.
وفي خصوص ما يصفه المؤدب بالدبلوماسية الخطابية، يقول ذات المتحدّث انّ فكرة تهديد الغرب بورقة التقرّب من المحور الروسي الصيني الإيراني بدأت منذ الحوار الشهير الذي أدلى به وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تياني إلى وسائل إعلام محلّية إيطالية في أفريل من هذا العام حين خاطب الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية قائلا:
الخطأ الذي يجب ألا يرتكبه الغرب، وقد قلته أيضًا لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: دعونا لا نترك تونس بين أيادي روسية أو صينية.
وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تياني
منذ عامين اتّخذت السياسية الخارجية التونسية منحى أدّى بها إلى نوع من العزلة الدبلوماسية. ويتّضح ذلك من خلال حالة اللامبالاة في الخطاب الرسمي الدولي، تجاه الموقف التونسي في علاقة بمجريات الأحداث منذ بدء عملية طوفان الأقصى بقطاع غزّة والذي اعتبره كثير من المتابعين “مشرّفا” لكنه “اندفاعي ولا يتسم بالرصانة الدبلوماسية”.
ويخشى قطاع واسع من التونسيّين.ـات من إمكانية تمادي الدبلوماسية التونسية في سياسة التصعيد واتّخاذ مواقف متشنّجة قد تكلّف البلاد خسارة حلفائها وشركائها التقليديين والاستراتيجيين دون التمكّن من تحصيل منافع من أيّ تحالفات جديدة ممكنة.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي