الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.
في 16 جانفي 2024 أعلن الحرس الوطني في بيان له تداولته نشرة الأخبار الرئيسة في القناة الوطنية الأولى وكذلك بعض المواقع الإخبارية فقدان 40 تونسيا (مهاجرون غير نظاميين) في عرض شواطئ البحر المتوسط أبحروا خلسة من سواحل صفاقس في اتجاه إيطاليا وذلك خلال الليلة الفاصلة بين يومي 10و11 جانفي.
ظهر الخبر في نشرة الأنباء وفي بعض المواقع الإخبارية وكان من المفترض أن يحظى بأهمية بالغة وبمتابعة إخبارية مستمرّة و بتحليل ونقاشات عميقة وجدّية. إنّ فقدان 40 تونسيا يمثل فاجعة إنسانية عظمية. لكنّ الحدث غاب واندثر وجاءت أخبار أخرى عن أحداث أخرى. ولم يحظ الحدث بأي نوع من المتابعة وكأنّ فقدان 40 تونسيا في عرض البحر لا يستحق المتابعة والاهتمام.
يبيّن هذا المثال ما وصل إليه النظام الإعلامي في تونس من ترهّل وانحلال بما أنه أصبح عاجزا عن توفير خدمة إخبارية بسيطة وأساسية تخصّ مأساة إنسانية كبيرة.
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.
في 16 جانفي 2024 أعلن الحرس الوطني في بيان له تداولته نشرة الأخبار الرئيسة في القناة الوطنية الأولى وكذلك بعض المواقع الإخبارية فقدان 40 تونسيا (مهاجرون غير نظاميين) في عرض شواطئ البحر المتوسط أبحروا خلسة من سواحل صفاقس في اتجاه إيطاليا وذلك خلال الليلة الفاصلة بين يومي 10و11 جانفي.
ظهر الخبر في نشرة الأنباء وفي بعض المواقع الإخبارية وكان من المفترض أن يحظى بأهمية بالغة وبمتابعة إخبارية مستمرّة و بتحليل ونقاشات عميقة وجدّية. إنّ فقدان 40 تونسيا يمثل فاجعة إنسانية عظمية. لكنّ الحدث غاب واندثر وجاءت أخبار أخرى عن أحداث أخرى. ولم يحظ الحدث بأي نوع من المتابعة وكأنّ فقدان 40 تونسيا في عرض البحر لا يستحق المتابعة والاهتمام.
يبيّن هذا المثال ما وصل إليه النظام الإعلامي في تونس من ترهّل وانحلال بما أنه أصبح عاجزا عن توفير خدمة إخبارية بسيطة وأساسية تخصّ مأساة إنسانية كبيرة.
1- ما هو النظام الإعلامي وهل يمكن أن ينهار ؟
النظام الإعلامي (في المجتمعات الديمقراطية) هو مجموعة من المكوّنات تتفاعل مع بعضها البعض بشكل فعاّل. وهذه المكوّنات هي كالآتي:
- منظومة قانونية (دستور، قوانين أساسية، قوانين) ومؤسّساتية (على غرار هيئات التعديل في الإعلام السمعي البصري) فعّالة وغير شكلية تضمن شروط استقلالية الإعلام ومساءلته (بما في ذلك العقوبات التي يمكن أن تسلّط عند عدم احترام التعاقدات مع هيئة التعديل)
- مؤسّسات إعلامية في مجال الإذاعة والتلفزيون والصحافة المطبوعة والمكتوبة والرقمية تقدّم مضامين متنوعة في مجالات السياسة والثقافة والفن والرياضة والاقتصاد الخ.
- منظومة مهنيّة: من التعديل الذاتي والمساءلة على غرار مجلس الصحافة والمواثيق الأخلاقية، إضافة إلى المواثيق التحريرية داخل المؤسسات.
- سوق إشهارية منظّمة وشفّافة مع منظومة قيس جمهور مستقلّة.
- سياسة عموميّة تقوم على مجموعة من الإجراءات الشفّافة لدعم المؤسسات الإعلامية في مجال الصحافة المكتوبة على وجه الخصوص، ومؤسّسات التكوين الأكاديمي والإعلام العمومي في شكل مؤسّسات تحظى بتمويل عمومي شفّاف ومنظّم ودائم.
هكذا نستشفّ أن الصحفيين (أو مهنة الصحافة التي ليست “مهنة حرّة” على غرار الطب أو المحاماة) لا يمثّلون سوى مكوّنا من مكوّنات النظام الإعلامي. ولهذا فإنّ جودة الصّحافة ليست مسؤولية الصحفيين فقط.
2- كيف ينهار النظام الإعلامي؟
إنّ انهيار النظام الإعلامي هو حالة فريدة من الحالات الاستثنائية التي يمكن أن تعرفها بعض المجتمعات الإنسانية المعاصرة، أي تلك التي تعيش حالة من الحرب الأهليّة على سبيل المثال، فتفقد الدولة بسببها السيادة على أراضيها ووحدتها وكذلك وحدة نظامها السياسي فتتكاثر “الأنظمة الإعلامية” في المناطق التي استقلّت بنفسها.
أمّا في الدول الديمقراطية، فالأنظمة الإعلاميّة مستقرّة وتشتغل عموما بشكل مقبول، والأزمات التي يمكن أن تعرفها فهي متفاوتة الأهمية، مصادرها مختلفة وعادة ما تأتي من التحوّلات الرقمية، خاصة بعد ظهور الإنترنت في مرحلة أولى وتنامي تأثير الشبكات الاجتماعية في مرحلة ثانية.
لكنّ الأزمة لا تكون شاملة وعميقة وهيكليّة، بل عادة جزئية فتتحوّل أيضا إلى موضوع للنقاش وللسياسات العمومية بالتشريع والتنظيم، أو بإقرار إجراءات لفائدة المؤسسات الإعلامية أو بالدخول في مواجهات مع شركات التكنولوجيا الكبرى(الخلاف بين أستراليا وفايسبوك مثالا).
وفي الدول السلطوية تكون الأنظمة الإعلامية كذلك، بحيث تؤدي أدوارا تشمل السيطرة على المجال العمومي واحتكاره لفائدة السلطة وتأمين الدعاية السياسيّة بشكل مستقرّ. على هذا الأساس لا يمكن الحديث فيها عن أزمة، إلاّ إذا كان المقصود بها القطيعة بين المجتمع والصحافة والإعلام التي لا يأبه بها النظام السياسي.
إنّ مصطلح “الانهيار” أصبح مستخدما بشكل متواتر في الأدبيات التحليلية لأزمات الإعلام المتعدّدة. ولعلّ انهيار الصحافة المحليّة هو الموضوع الأكثر إثارة للنقاش.
في مقال صدر مؤخرا، طرحت مجلة كولومبيا للصحافة ما تسمّيه “انهيار غرف الأخبار” أو “الهيئات التحريرية” the Collapse of Local Newsrooms وربطت هذا الانهيار بتراجع أدوارها في الحياة السياسيّة المحلّية.
وفي بريطانيا أيضا يستخدم المصطلح لتوصيف حالة الصحافة المحليّة أو الجهويّة (Collapse of local media) التي من علاماتها الكبرى تسريح الصحفيين وعجز الصحافة المحلية عن أداء أدوارها في الرقابة على السلطة المحلّية.
يستخدم أيضا المصطلح حتّى في الدول الصناعية مثل كندا حيث لا يتردّد بعض الباحثين في الشأن الإعلامي عن الحديث عن “انهيار الإعلام الكندي” الناتج عن التحولات التكنولوجية واحتكار المؤسسات الإعلامية.
الاتحاد الدولي للصحفيين بدوره أصدر تقريرا في 2022 حول انهيار الإعلام في أفغانستان : غلق العديد من المؤسسات الصحفية، التضييق على عمل الصحفيين، وتسريح الصحفيين.
في مقال لها صدر في صحيفة الغارديان في 2019 ، تتحدّث الصحفية ليديا بوغرين عن كون أنّ انهيار البيئة الإخبارية information ecosystem والذي يتمثل في انهيار النموذج الاقتصادي للإعلام وفي التضليل المعلوماتي ونتائجه الوخيمة على أدوار الصحافة في المجتمع، بل إن هذه الصحفية لا تتردّد في القول إن هذا الانهيار الشامل سيؤدي إلى مخاطر كبيرة بالنسبة إلى الإنسانية كتلك الناتجة عن المخاطر البيئة، مرتكزة في ذلك على تقرير مجموعة من علماء الذرة في جامعة شيكاغو الذين يرصدون الأخطار التي تهدّد الإنسانية بسبب السباق النووي والذين يعتبرون منذ 2019 أن حرمان المواطنين من الأخبار الجيدة ومن الاطلاع على الوقائع خطر على المجتمعات البشرية في مستوى الأخطار الأخرى الكبرى.
3- من الأزمة النسقيّة إلى الانهيار الشامل
إنّ المقصود بانهيار النظام الإعلامي، في هذا السياق، هو حالة من العطالة الشاملة التي يتجاوز فيها النظام الإعلامي حالة الأزمة والاضطراب dysfonctionnement إلى حالة من الشلل الشامل لتحقيق الغايات التي وٌضعت إليه. وفي هذه الحالة تؤدّي حالة العطالة والشلل إلى نتائج خطيرة على المجتمع.
في الحالة التونسية يمكن أن نقول إنّ انهيار النظام الإعلامي يمكن أن يمثّل مظهرا من مظاهر اضطراب مؤسسي ومجتمعي شامل يتصل بأنواع أخرى من الانهيار متصلة كلّها بما يسمى الأجسام الوسيطة التي فقدت من جهة أولى ثقة الناس والتي تتعرّض أيضا حاليّا إلى استراتيجية تفكيك من جهة ثانية.
يحيل مفهوم الأزمة النسقيّة إلى ما يمكن أن نسمّيه الاختلال الشامل بما أن مكوّنات عديدة من النظام الإعلامي تشتغل بطريقة مضطربة أو بما أنّها معطّلة. وتؤثّر “الاختلالات” الجزئية في اتجاه خلق اضطراب شامل للنظام.
وهذه الأزمة العميقة والشاملة يمكن أيضا أن نفهمها على أنها عجز النظام الإعلامي عن أداء الأدوار التي حٌدّدت له وعن العمل وفق الشروط التي وضعت له. لكن أين نجد هذه الوظائف والشروط؟ لا شكّ في أنّها موجودة في النصوص القانونية التي وضعت لتنظيم الإعلام وهي الدستور والقانون الانتخابي والمرسومين 115 و 116 وكرّاسات الشروط.
وعندما ندرس كل هذه النصوص القانونية يمكن أن نستشفّ ما يجب أن يكون عليه الإعلام التونسي أي : استقلالية الهيئات التحريرية وحمايتها من الإدارة ومصالحها، الشفافية المالية، تحقيق منظومة التعديل لإعلام متوازن وتعدّدي ومتنوع، ذي جودة، يتضمنّ برامج ذات علاقة بالشأن العام ويقوم على المنافسة النزيهة وعلى برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة وتربوية ذات جودة عالية ويكرّس قيم الحرية والعدالة ويعبّر عن الثقافة الوطنية ويدعمها، متطوّر ويستثمر في التكنولوجيات الرقمية وفي منشآت ذات قدرات مالية وتنافسية وموارد بشرية ذات كفاءة عالية (جلّ هذه الشروط موجودة في الفصل 15 من المرسوم 116 ).
بيد أنّ الوظيفة الأهم وردت في الدستور التونسي الحالي (2022) وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى دستور 2014 وهي التي ينص عليها الفصل 83 أي الحق في الإعلام. والمقصود ليس فقط التعرّض إلى الأخبار ولكن الحق في الاطلاع على كل ما يتعلّق بالحياة العامة.
وهذا الحق يمكن أن يكون أيضا متّصلا بالرأي العام وبالمساهمة في تشكيله والاطلاع عليه. بمعنى آخر فإن للمواطن الحق في أن يفصح عن آرائه للآخرين وأن يطلّع على آراء الآخرين والحقّ في أن يتعرّض للأخبار مهما كان مصدرها. وهذا الحق يمكن أن يصبح أيضا حقّا في المعرفة.
عموما، يمكن القول إنّ الأزمة العميقة (أي قبل الانهيار) للنظام الإعلامي التونسي كانت قد تجسّدت في المظاهر التالية:
★ غياب الشفافية والتلاعب الماكر بالصحافة
لا تلتزم كلّ المؤسسات الصحفيّة والإعلامية بالأحكام القانونية التي تضمنها المرسوم 115 وكرّاسات الشروط والمتصلة بالإفصاح عن المعلومات ذات الصلة بالملكية والنشاط الاقتصادي والحالة المالية.
إنّ الشفافية غائبة تماما حتى أنّنا لا نجد أية عقوبة سلّطتها الهايكا (هيئة الاتصال السمعي البصري) على المؤسسات الإعلامية التي لا تحترم هذه الأحكام.
وغياب الشفافية هو المؤشّر الأكثر خطورة على الأزمة التي سبقت الانهيار، لأنه يخبرنا عن عدم فاعلية منظومة التعديل (كيف يمكن لقنوات إذاعية وتلفزيونية أن تشتغل لمدة سنوات دون مداخيل إشهار). والتهاون في تنفيذ أحكام المرسوم 115 وكرّاسات الشروط يشي بوجود فرضيّة قويّة للتلاعب بالإعلام تتخفّى وراءها مؤسّسات لا تتوفّر فيها شروط البقاء.
★ التنوّع الشكلي
يزخر المشهد الإعلامي بالعديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية والجمعياتية، لكن هذا التنوّع كان شكليّا. في الإعلام العمومي كان التنوّع يخضع إلى الحدّ الأدنى بحيث أنّ الأحزاب السياسيّة والفاعلين السياسيين كانوا ممثلين في نشرات الأخبار وفي البرامج الحوارية.
وفي المؤسسات الخاصة كان التنوّع يستجيب لموازين القوى السياسيّة بتمثيلها بواسطة الكرونيكور. أمّا البرامج الأخرى فهي كلّها متماثلة وكأنها صادرة عن مبرمج واحد لا يأخذ في الاعتبار إلاّ حاجته إلى أن ترضى عنه وكالات الإشهار.
★ فقدان الصحفيين لسلطتهم على الأخبار والصحافة
فاعلون لا علاقة لهم بمهنة الصحافة في تونس من المجتمع المدني أو من السياسة أو من المحاماة أو من عالم الأعمال أحيانا أو حتى من الطب، يمارسون مهنة التّعليق (في أحيان كثيرة مجّانا).
كما يتردّد، في الأوساط الصحفية في إطار ما أطلقنا عليه “صحافة الأحاديث”هيمنة /غلبة الصحافة ذات التكلفة المنخفضة The low cost-journalism.
وهذا النّوع من الصحافة يقوم على الأحاديث بين عدد محدّد من الأشخاص (شخصية وأكثر).صحافة لا توظّف الأشكال الصحفيّة مثل الروبورتاج والتحقيق والاستقصاء ولا تهدف إلى التحرّي في الوقائع والأحداث والتفسير ولا توظّف تقنيّات السرد الصحفي وعرض البيانات.
يردّد السياسيون دائما، وكذلك النخب الحزبية وحتى الفكرية، أن حريّة الإعلام هي من مكاسب الثورة. والحقيقة أنهم يخلطون بين حريّة التعبير التي هي مكسب حقيقي والتي تؤمن للمواطنين أشكالا، حتى دنيا من المشاركة السياسية المجتمعية حتى ولو كان ذلك بأشكال التعبير البسيطة، وحريّة الصحافة والإعلام فهي شعار لم يتحقّق أبدا إلا في حالات خاصّة لأن شروطه متعدّدة ومنها خاصّة استقلاليّة فعليّة للصحفيين جماعيّا في هيئاتهم التحريرية حتى يتمكّنوا من إنجاز أعمال صحفيّة مطابقة للمعايير المهنية.
والحقيقة أنّ الصحفيين المهنيين لم يتمتّعوا أبدا بشروط حرّية الصحافة، على عكس المشاركين في البرامج الحوارية الذين يحظون بحقّ تمثيل الأحزاب والفاعلين السياسيين والدفاع عنهم باسم الصحافة ودون مساءلة. وكانت هذه الازدواجية مصدرا أساسيّا من مصادر أزمة الحياة السياسية.
4- مصادر الأزمة النسقية للاعلام ثم انهياره
★ نموذج اقتصادي قاصر
إنّ المؤسّسات الإعلامية هي مؤسّسات اقتصادية تقوم على ما يسمّى بـ “النموذج الاقتصادي”.
هذه المؤسّسات إمّا أن تتحصّل على إيرادات من الإشهار بفضل الجمهور أو أنهّا تبيع مضمونها (مقالات، برامج…).
وعندما تكون المؤسّسات عمومية فإن الدولة تموّلها وفق آليّات يحدّدها القانون، إضافة إلى موارد يمكن أن تتحصلّ عليها بواسطة الإشهار.
وقد طوّرت العديد من المؤسسات نماذج اقتصادية جديدة في أغلبها قائمة على تطوير المضمون بمقابل (خاصة في الصحافة الرقمية).
من الواضح أن جلّ المؤسسات الإعلاميّة غير قادرة على استحداث نموذج اقتصادي مبتكر يمكن أن يموّل مضامين ذات جودة تنتجها هيئات تحريرية ذات كفاءة عالية. وما زاد الطين بلّة هو أن الموارد الإشهارية المحدودة جدّا تتنافس عليها الكثير من الصحف والمواقع والقنوات التلفزيونية والإذاعية.
★ سياسة عمومية واضحة المعالم تدير أزمة الإعلام وتغذّيها وتستفيد منها
تخفي مقولة “ليس هناك إرادة لإصلاح الإعلام” سياسة عموميّة تتمثّل فيما نسمّيه إرادة عدم إصلاح الإعلام التي تحوّلت إلى سياسة عمومية، والتي هي أيضا ما لا تتخذّه الدولة من إجراءات والحقيقة أن هناك إرادة سياسيّة منذ 2011 إلى اليوم تتمثّل في عدم إصلاح الإعلام ومن علاماتها :
وعود إصلاحية تطلق للصحفيين ولا تتبعها إجراءات عمليّة فعليّة، تعطيل الإصلاح القانوني والإبقاء على المراسيم بدل سنّ القانون الأساسي الذي كان ينصّ عليه دستور 2014، عدم إصلاح المؤسسات العموميّة ضمانا لخدمة إعلامية عمومية أدنى، التلاعب بمؤسسات الإعلام المصادرة والمحافظة على منظومة تعديل غير فعّالة تقوم بوظيفتها الدنيا على غرار إصدار بعض العقوبات والتقارير الخاصة بالانتخابات التشريعية والرئاسية (آخر تقرير صدر سنة 2021).
من نتائج هذا الوضع أنّ السياسييّن الذين يحكمون البلاد من 2011 إلى اليوم يشتركون مع النظام السابق في النظر إلى الإعلام باعتباره أداة، وتوظيفه لإدارة الصورة وللتأثير على الرأي العام (خلق اتجاه من الآراء المناصرة).
ويمكن أن نقول كذلك إنّ الخيط الرّابط بين الحكومات السياسيّة والخيارات السياسيّة منذ 2011 إلى اليوم وترك الإعلام لنفسه دون إصلاح واستغلاله من منطلق الانتهازية من قبل الحكومات والنخب السياسية.
★ الشبكات الاجتماعية
ساهمت الشبكات الاجتماعية في تخريب النظام الإعلامي على النحو التالي:
تدمير النموذج الاقتصادي للإعلام القائم على الإشهار. ففيسبوك أتاح للمؤسّسات وكل من يبحث عن الاستشهار تجاوز الإعلام وإدارة حملاته الإشهارية بشكل مباشر.
ومن الملاحظ أنّ المؤسّسات الاقتصادية الكبرى استثمرت أموالا طائلة في صفحاتها وأصبح لها طواقم لإنتاج المضامين، بل وتجاورت صفحاتها بكثير أعداد المشتركين في صفحات المؤسّسات الصحفية.
فضلا عن ذلك، فإنّ الشبكات الاجتماعية وفّرت إمكانات واسعة للحصول على المعلومات (بما في ذلك تلك المضلّلة والمفبركة) خاصّة وأن العديد من المؤسّسات الإعلامية تكتفي في كثير من الأحيان بإعادة نشر (بشكل خام في عديد الأحيان) ما تبثّه المؤسسات السياسيّة والأحزاب والجمعيات على الفيسبوك.
وأخيرا، فإنّ العديد من المؤسّسات الإعلامية طوّرت استراتيجيات “انتحارية” (معتقدة أحيانا عديدة أنها استراتيجيات ابتكارية) تتمثّل في وضع كل مضامينها مجّانا على الفيسبوك وهي على هذا النحو فيه تحرم نفسها من تطوير منصّاتها الخاصّة وتصبح أسيرة الفيسبوك الذي يتغذّى منها ويساهم في خنقها كالثعبان الذي يلتهم ببطء فريسته.
★ الولادة المشوّهة
النظام الإعلامي الذي تشكّل في 2011 يتألّف من مكوّنات جديدة قانونيّة وخاصة المرسومين 115 و 116 والقانون الانتخابي الذي ينظّم أدوار الإعلام في المسارات الانتخابية ومؤسساته على غرار التعديل وكرّاسات الشروط. ولكنّه يتكوّن أيضا من مكونات قديمة على غرار المؤسسات الإعلامية الخاصّة والعمومية التي حافظت على تنظيمها وثقافتها.
هكذا كان الخيار في عدم إنشاء نظام إعلامي جديد بل بالاكتفاء ببعض الإصلاحات القانونية وعدم الانخراط في إصلاح شامل عميق يقطع مع النموذج القديم المتهالك.
جدير بالإشارة إلى أنّه حتّى هذا الإصلاح الجزئي لم ينفّذ بشكل كامل. هنا يمكن أن نلاحظ بلا عناء أنّ جلّ أحكام كرّاسات الشروط التي جاءت لخلق مؤسسات إعلامية من طراز جديد (الالتزامات المتعلقة بالشفافيّة الماليّة والتعديل الذاتي وقيس الجمهور والملكية الأدبية والفكرية) بقيت حبرا على ورق.
وهذه المؤسّسات الجدّية هي التي تعاني أكثر من غيرها من الأزمة النسقيّة لأنها ولدت لتكون غير قابلة للحياة.
5- مظاهر انهيار النظام المعلوماتي
تؤكد عديد المؤشرات ما نسمّيه انهيار النظام الإعلامي التونسي:
★ الصعوبات الاقتصادية
تعاني العديد من المؤسّسات الإعلامية من صعوبات جمّة والتي تجسّدت خاصّة في إيقاف بعض البرامج. وقد أدّت هذه الصعوبات الاقتصاديّة إلى إضرابات شنّها صحفيّون للحصول على أجورهم وتعطّل بثّ بعض الإذاعات على غرار إذاعة ابتسامة أف أم في بعض المناطق رغم وجودها في المرتبة الثانية فيما ينشر من نتائج قيس الجمهور.
في حين أنّ إذاعات أخرى تعيش أوضاعا ماليّة قاسية جدّا. كما سلّط الديوان الوطني للإرسال قيودا تقنيّة على عديد القنوات التلفزيونية التي تتمثّل في التخفيض من جودة الصورة التي أضحت تبدو ضبابية للمشاهدين.
★ تراجع كبير للهيئات الصحفيّة التي كانت محدودة في عديد القنوات
في الفترة الأخيرة، أضحى الصحفيّون يُستبدلون بمنتجين من خارج المؤسّسة أو يتمّ تحويلهم إلى منتجين للبرامج الترفيهية. وتشير بعض التقديرات التي تحصلنا عليها أن كل القنوات التلفزيونية باستثناء القنوات العمومية قد لا يصل العدد الإجمالي للصحفيين القارّين العاملين فيها جميعها إلى 30 صحفيّا.
★ ظاهرة المحلاّت التجارية التلفزيّة
أصبحت العديد من القنوات التلفزيونية منذ سنوات، “محلّات تجاريّة” تشبه إلى حدّ كبير صفحات الفايسبوك التجاريّة لبيع أنواع لا حصر لها من البضائع من الوسادات وصولا إلى أواني الطبخ.
فلا غرابة أن نجد قنوات بلا برامج وهيئات صحفية. وأدّت هذه السلعنة المتقدّمة للتلفزيون إلى تحوّل أكثر القنوات إلى ما يمكن أن نطلق عليه “الميديا الأشباح” ghostmedia ; media fantome وهي مؤسّسات تتوفّر فيها فقط الشروط الشكليّة للقناة التلفزيونية من قبيل:بعض البرامج مثل الأفلام الوثائقية عن الحيوانات وبعض الأفلام القديمة.
لهذا نرى تراجعا كبيرا للقدرة التشغيلية للمؤسّسات الإعلامية حتى أنّنا لا نكاد نعثر على مؤسسات إعلامية عمومية أو خاصّة قادرة على تشغيل الصحفيين المتخرجين من معاهد الصحافة أو من بعض المعاهد الخاصة.
★ العطالة الكاملة للإعلام العمومي
من الواضح أنّ القناة الوطنية الأولى لا تتوفّر فيها المقوّمات الدنيا لقناة تلفزيونية بشكل عامّ ولقناة عموميّة بشكل خاصّ. فإذا استثنينا نشرة الأخبار وبعض البرامج الأخرى الترفيهية النادرة، لا يمكن أن نتحدّث عن إعلام تلفزيوني عمومي يوفّر مضامين متنوعة ثقافية واجتماعية. أمّا مؤسّسات الإعلام العمومي الأخرى فلا تتوفّر فيها أيضا مقوّمات المرفق العمومي، خاصّة على مستوى تطوير الخدمات الرقمية.
★ موت الصحافة المطبوعة أو المكتوبة
كانت الصحافة في حالة موت سريري أما الآن فهي في حالة موت. لا تنشر الصحف الأرقام الخاصة بالنسخ التي تسحبها رغم أن المرسوم 115 يجبرها على ذلك. و بالاعتماد على بعض الشهادات يمكن أن نقول إن مبيعات بعض الصحف تتراوح بين العشرات وبعض الآلاف في مجتمع متعلّم.
★ تحويل الصحافة إلى آليّة اتصاليّة
من الملاحظ تراجع مكانة الصّحفي المهني في النظام الإعلامي. ويتمثّل هذا التراجع في المظاهر التالية:
تعاظم صحافة النقل التي تتمثّل في تحويل الصحفي إلى مجرّد ناقل للمضامين التي تنتجها المؤسسات في إطار ما أطلقنا عليه “صحافة النقل”.
ومن مظاهر انهيار النظام الإعلامي أيضا النموذج الجديد للاتصال الحكومي والسياسي القائم على الصحافة كوسيط بينها وبين الجمهور والرّأي العام والاكتفاء بالأشكال الدنيا.
إنّ هذا النموذج لا يهدّد “صحافة الأحاديث والدردشة”، بقدر ما يهدّد الصحافة المهنية الإخبارية التي تحتاج إلى معطيات ومعلومات تستقيها من المصادر ثم تقوم بالتأكد منها والتحرّي فيها.
إنّ هذا النموذج الجديد للاتصال الحكومي يفقد الصحافة مشروعيّتها الاجتماعية باعتبارها مؤسّسة توفّر المعلومات الموثوقة للاطلاع على الأحداث والحصول على معارف لفهم سياقاتها.
في المقابل، وتوازيا مع ترك بعض أشكال الصحافة كالمشاركات في البرامج الحوارية والندوات الصحفية والحوارات الصحفية التي يرفض الوزراء الخضوع فيها إلى السؤال الصحفي باعتباره نوعا من المساءلة، تواصل مراكز السلطة المتعدّدة الاعتماد على الإعلام، وفق تصور أداتي ومصلحيّ بحت باعتباره “حلقة وصل” أو ما أصبح يعبر عنه على لسان بعض المسؤولين بـ”الإعلام الشريك”.
فالاتصال الرئاسي ما يزال يستخدم التلفزيون العمومي لإتاحة الفيديوهات الرئاسية، كما لا يتوانى بعض الوزراء عن توظيف الصحافة بشكل مفرط يتناقض مع المقولة السائدة عن ترك الوسائط الصحفية حتى أن بعض الوزراء (والمؤسسات) حاضرون في نشرات الأخبار بشكل مستمر يكاد يكون يوميّا يروّجون لنشاطهم بشكل مستمرّ، حتى تلك التي تدخل في خانة الأنشطة الإدارية البحتة التي لا فائدة خبريّة منها وذلك بفضل الطواقم الاتصالية ذات الأعداد الهائلة.
★ شيطنة الصحافة وتراجع خطير في نسبة ثقة المواطنين في الإعلام
من مظاهر انهيار النظام الإعلامي، الحملات التي تتعرّض إليها الصحافة إما من مصادر رسميّة سياسيّة/مؤسسيّة أو حتى من أحزاب المعارضة.
وشيطنة الصحافة هي من الأسباب الخارجية التي ساهمت بشكل حاسم في تردّي صورة الإعلام والعاملين فيه لدى الجمهور.
6- نتائج الانهيار النظام الإعلامي على المجتمع والنظام السياسي
لا نرى إلا نادرا تفسيرات لعلاقة الأزمة الهيكلية والشاملة للإعلام وأزمة الحياة السياسية والحال أنه يمكن البرهنة على بوضوح. ولهذا فيجب أن نهتم الآن بنتائج انهيار النظام الإعلامي على المجتمع وعلى الحياة العامة والسياسية.
النتيجة الأولى: مخاطر التلاعب بالرّأي العام التونسي من أطراف خارجيّة
تؤكّد العديد من المؤشّرات ومنها مثلا اعترافات شركة ميتا نفسها وتحقيقات أمريكية (انظر تقرير مولر) على أنّ الشبكات الاجتماعية أصبحت تستخدم للتدخّل في الحياة السياسية للدول والتأثير على الرأي العام والتلاعب بالانتخابات.
ومن المشروع القول إنّ تراجع ثقة التونسيين في الصحافة وعزوفهم عن متابعة المصادر الإخبارية المهنية واعتمادهم على الشبكات الاجتماعية للحصول على الأخبار يعزّز من مخاطر تلاعب الأطراف الخارجية بالرأي العام التونسي.
النتيجة الثانية: تنامي التّضليل المعلوماتي
يؤدّي انهيار النظام الإعلامي إلى تعزيز مخاطر استخدام الفاعلين السياسيين للتّضليل المعلوماتي و المعلومات المفبركة لإدارة الصراعات السياسيّة وتعزيز الاستقطاب السياسي وتقسيم المجتمع التونسي بواسطة المعلومات المفبركة؟
ويساهم كل هذا، في تعزيز عزوف الناس عن الشأن السياسي والتقليل من شأن الانتخابات.
ويؤدّي التّضليل المعلوماتي إلى تشكيل رأي عام متقلّب تحكمه الأكاذيب والتخوين والمشاعر المخرّبة على غرار الحقد والغضب والذي يتعامل مع قضايا الشأن العام بغير معرفة، ممّا يجعل من العسير جدّا وضع سياسات عموميّة في كلّ مجالات الحياة تحظى بقبول التونسيّين بشكل عقلاني، بمعنى سياسات تراعي الصالح العام.
النتيجة الثالثة: تفكيك المجتمع
إنّ انهيار النظام الإعلامي يحرم التونسيّين من مجال مشترك يتابعون فيه الشؤون العامة ويطّلعون فيه على ما يحصل في بلادهم من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.
كما أن انهيار النظام الإعلامي يمنع التونسيين من الاطّلاع على أوضاع بعضهم البعض، ويساهم هذا الانهيار أيضا في نشر الرداءة التي تقوم بها البرامج الترفيهية على أوسع نطاق.
هكذا لا يُظهر الإعلام التونسي إلّا نادرا جدا إنجازات النّخب الفنية والجامعية والفكرية والجمعياتيّة.
وعندما ينظر المجتمع التونسي إلى نفسه عبر التلفزيون مثلا فإنه لا يرى إلا الوجه الرّديء منه. فغياب البرامج الثقافية التي تشجّع الكتاب والموسيقى والفنون في كلّ القنوات التلفزيونية له نتائج على الذوق العامّ الذي ما انفكّ يتردّى، مما يؤدّي إلى إضعاف قدرات الأفراد والمجتمع على الابتكار والتقدّم.
ويعمّق انهيار النظام الإعلامي، إذا ما استمرّ، انقسام المجتمع وانكفاء التونسيين على قضاياهم الخاصّة وعوالمهم الفرديّة، وتنامي ثقافة الأنانية واللّامبالاة وتراجع شعور الانتماء المشترك إلى مجتمع متماسك.
يفسّر هذا المقال حالة الانهيار التي يعيشها الإعلام (أو النظام الإعلامي) التونسي بعد أن مرّ بمرحلة ولادة عام 2011 تمخض عنها مولود جديد سرعان ما أصيب بحالة الاضطراب العضوي الشامل التي تكاثرت معها علل حتّى أصبح في حالة من الأزمة الشاملة والعميقة بعد أن صارت بعض مكوناته في حالة "موت سريري"قبل أن ينهار.
يفسّر هذا المقال حالة الانهيار التي يعيشها الإعلام (أو النظام الإعلامي) التونسي بعد أن مرّ بمرحلة ولادة عام 2011 تمخض عنها مولود جديد سرعان ما أصيب بحالة الاضطراب العضوي الشامل التي تكاثرت معها علل حتّى أصبح في حالة من الأزمة الشاملة والعميقة بعد أن صارت بعض مكوناته في حالة "موت سريري"قبل أن ينهار.
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.