الكاتب : صفاء القبطني
صحفية متحصلة على شهادة الماجستير في الصحافة الاستقصائية
الحزن و العجز يسيطران على قلب لطفي الذي يبلغ من العمر 62 عاما وهو أحد متساكني معتمدية منزل بورقيبة التي تبعد 15 كلم عن حديقة إشكل. يصف لنا لطفي مدى تعلّقه بحديقة “اشكل” حيث كان حاضرا على كل مراحل تأسيسها، و لا يمكن إخفاء حزنه البالغ واضطرابه الداخلي لما حلّ بمكانه المفضّل الذّي كان يهرب إليه من ضغوطات الحياة ومشاكل العمل، لكن مع قرار غلق الحديقة وجد لطفي نفسه بلا مكان يفيء إليه، وفق قوله.
بنبرة يائسة تخفي آمالًا متلاشية يقول لطفي : “اعتدت أن أزور المحمية مرّة أو مرّتين في الأسبوع لكن اليوم مع قرار الغلق لم أعد أستطيع زيارة المحمية كما في السابق … لديّ شغف كبير بالطبيعة وخاصة بالطيور.”
يضيف متنهّدا : “اشكل لم تعُد مثلما كانت سابقا في فترة التسعينات، إذ تعاني الآن من مشكلات عديدة، من بينها ندرة الطيور المهاجرة ونقص الموارد المائية بسبب السدود.”
الكاتب : صفاء القبطني
صحفية متحصلة على شهادة الماجستير في الصحافة الاستقصائية
الحزن و العجز يسيطران على قلب لطفي الذي يبلغ من العمر 62 عاما وهو أحد متساكني معتمدية منزل بورقيبة التي تبعد 15 كلم عن حديقة إشكل. يصف لنا لطفي مدى تعلّقه بحديقة “اشكل” حيث كان حاضرا على كل مراحل تأسيسها، و لا يمكن إخفاء حزنه البالغ واضطرابه الداخلي لما حلّ بمكانه المفضّل الذّي كان يهرب إليه من ضغوطات الحياة ومشاكل العمل، لكن مع قرار غلق الحديقة وجد لطفي نفسه بلا مكان يفيء إليه، وفق قوله.
بنبرة يائسة تخفي آمالًا متلاشية يقول لطفي : “اعتدت أن أزور المحمية مرّة أو مرّتين في الأسبوع لكن اليوم مع قرار الغلق لم أعد أستطيع زيارة المحمية كما في السابق … لديّ شغف كبير بالطبيعة وخاصة
بالطيور.”يضيف متنهّدا : “اشكل لم تعُد مثلما كانت سابقا في فترة التسعينات، إذ تعاني الآن من مشكلات عديدة، من بينها ندرة الطيور المهاجرة ونقص الموارد المائية بسبب السدود.”
محمية اشكل ظاهرة بيئية استثنائية
تقع المحمية الوطنية “إشكل” في شمال شرق تونس على بعد 75 كيلومترًا من العاصمة تونس. تغطّي مساحة تقدّر بحوالي 12,600 هكتار، تنقسم بشكل متعاقب إلى مناطق متنوعة تشمل الجبل (1,363 هكتار) و بحيرة إشكل 8,500 هكتار والاهوار 2,737 هكتار. منذ فترة طويلة، تمّ التعرّف على البحيرة والمستنقعات كواحدة من أهمّ المناطق الرطبة في غربيّ الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط. وهي أيضًا معروفة بأنّها ملاذ للطيور. يتمّ إمداد البحيرة بالمياه العذبة من حوضها القادم من منطقة تبلغ مساحتها 2080 كيلومترا مربّعا، وهي متّصلة بالبحر من خلال بحيرة بنزرت عبر وادي تينجة.
وتستمدّ المحميّة اسمها من جبل إشكل الذي يتميّز بصموده عبر العصور، شاهدًا على عبور الحضارات الكبرى والأحداث التاريخية والثقافيّة المهمّة حيث احتضنت الدّولةَ الحفصيةَ والرومانَ والفينيقيين.
إلى جانب كامارغ (فرنسا)، ودنيانا (إسبانيا)، والقالة (الجزائر)، تمّ الاعتراف بـبحيرة إشكل كواحدة من بين الأراضي الرطبة الرئيسية في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، حيث تعتبر واحدة من المواقع القليلة في العالم المدرجة ضمن العديد من الاتفاقيات الدولية.
تمّ توقيع اتفاقية رامسار الدولية في عام 1971 بهدف حماية المناطق الرطبة ذات الأهمية العالية. وفي عام 1980 انضمّت تونس إلى هذه الاتفاقية بعد إدراج بحيرة إشكل في قائمة المناطق الرطبة المحمية بموجب الاتفاقية.
وتهدف هذه الاتفاقية إلى الحفاظ على التنوّع البيولوجي و الموارد المائية في المناطق الرطبة وتعزيز استدامتها.
سنة 1979 سُجّلت المحميّة في قائمة التراث العالمي من قبل منظّمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم وهذا ما يمكّنها من الحصول على مساعدات مالية لضمان استمرارية حمايتها.
كما انضمّت محميّة “اشكل” الى المحيط الحيوي لليونسكو سنة 1977 وذلك لوجود سكّان بداخلها، فضلا عن الأنشطة البشرية المتعلقة بالحفاظ على الموارد الطبيعية.
يقول الخبير البيئي حمدي حشّاد :
بفضل تركيبتها الفريدة وسخاء الطبيعة، تُعتبر بحيرة إشكل ظاهرة بيئية استثنائية في بنزرت” هكذا استهلّ الخبير البيئي حمدي حشاد حديثه عن محمية اشكل.
المهندس البيئي السيد حمدي حشاد
يتابع محدثنا قائلا: “تمتاز هذه البحيرة بأنّها تجمع بين ستّ أودية مختلفة وستّة أنواع رئيسية من المياه العذبة التّي تتدفّق إليها من وادي سجنان ووادي غزالة ووادي الملاح و وادي دوميس ووادي جومين وأخيرا وادي تينجة. هذا التّلاقي المميّز يؤدّي إلى زيادة كبيرة في محتوى المياه العذبة في البحيرة خلال فصل الشتاء. أمّا في فصل الصيف، ينخفض منسوب مياه الأودية الستّة التي تُمدّ البحيرة بالمياه العذبة، ما يسمح للمياه المالحة من البحر الأبيض المتوسط بالتسرّب إلى البحيرة وزيادة ملوحتها. هذا التغيير في ملوحة المياه يفتح الباب أمام ظهور حياة برية وبيئية جديدة على شواطئ البحيرة، ما يعزز تنوّعها ويدعم الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات الموجودة في المنطقة”.
تُقضّي الطيور المهاجرة أثناء مسارات الهجرة من الشمال نحو الجنوب فترة الشّتاء في محمية اشكل حيث تبني أعشاشها وتبيض أيضا. وهذا ساهم في تصنيف محمية اشكل منطقة ذات أهمية إيكولوجية وإدراجها في قائمة التراث العالمي.
المهندس البيئي السيد حمدي حشاد
و يضيف حمدي حشّاد مفسّرا : “تنفرد محمية اشكل بخصوصية مهمّة على مستوى العالم حيث أنّها تُعتَبر البحيرةَ الوحيدة المرتبطة بنهر والنهر مرتبط ببحيرة والبحيرة مرتبطة بقناة والقناة مرتبطة بالبحر الأبيض المتوسط. هذه التركيبة تقريبا موجودة في بحيرة اشكل فقط.”
تتوزع التشريعات المتعلقة بالمناطق المحمية على عدة أنظمة قانونية من بينها مجلة الغابات، مجلة التهيئة الترابية والتعمير، بالإضافة إلى قانون المحميات البحرية والشاطئية وقانون الحدائق الحضرية. وتهدف جملة هذه التشريعات إلى المحافظة على الطبيعة والتنوّع البيولوجي في الوسطين البحري والساحلي واستعمال مواردهما الطبيعية في إطار التنمية المستديمة وذلك بإحداث مساحات محمية بحرية وساحلية.
محمية اشكل .. الجنّة المنسيّة
تعاني المحمية الآن من وضع كارثي : فالطيور المهاجرة التي اعتادت العيش في هذا المكان تجد نفسها الآن بلا مأوى، ويمكن رؤية بعضها يبحث عن الطّعام والماء بينما يبدو البعض الآخر منها متعبًا وهائمًا. يقول فتحي البجاوي رئيس جمعية أحباء محمية اشكل بحُرقة شديدة في هذا الصدد :
انّ النباتات اليوم مذبوحة وجافّة، حيث تفتقر البيئة المحيطة بالمحميّة إلى العناية والصيانة فضلا عن أنّ المحميّة أصبحت مهجورة وهذا يجسّد التأثيرات السّلبية للإهمال والتخلّي عن البيئة الطبيعية.”
فتحي البجاوي رئيس جمعية أحباء محمية اشكل
هذه العبارات تختزل حالة محمية “اشكل” منذ عقود. فعلى الرغم من وضعها المحمي منذ عام 1977، إلاّ أنّ منظومة “إشكل” شهدت ومازالت تشهد تغييرات جوهرية/ حيث تمّ -على سبيل الذّكر- بناء سلسلة من السّدود على الأودية التي تصبّ في البحيرة. ونتيجة لذلك، فإنّ تغييرات في هيدرولوجية المنظومة قلّصت بشكل كبير إمداد المياه العذبة وأدّت إلى فقدان التنوّع البيولوجي وارتفاع نسبة الملوحة المتأتّية من بحيرة بنزرت في المنطقة الرطبة، محوّلة إيّاها إلى أرض رطبة عادية يتدخّل فيها الإنسان، وفق ما أفادنا به فتحي البجاوي رئيس جمعية أحباء محمية “اشكل”.
من جهته يُعرّف المهندس البيئي حمدي حشاد التنوّع البيولوجي على أنّه “الرصيد الشامل للكائنات الحية التي تتمثل في الحيوانات، النباتات، الفطريات حتى من البكتيريا التي تكون موجودة في وسط معيّن”. و يقاس التنوع البيولوجي بعدد أنواع الكائنات الحيّة ومدى قيمتها على مستوى المنظومة الإيكولوجية، وفق قوله. ويؤكد حشّاد في نفس السياق على أنّ محمية اشكل تتمتّع برصيد هام من الحيوانات ومن الغطاء النباتي حتى من مناطق التعشيش المخصّصة للطيور والتي تشكّل بدورها نواةً هامة داخل المحمية وبالتالي فانّ “هذا التنوع البيولوجي هو سبب وجود حديقة إشكل المصنّفة كتراث عالمي لكن في حالة نقصه تصبح المحمية مهددة مستقبلا”، وفق ما جاء على لسانه.
وجاء في تقريرنُشر من طرف المرصد التونسي للبيئة والتنمية المستدامة تحت إشراف وزارة الشؤون المحلية والبيئة سنة 2018 بعنوان” تقرير حول الإدارة المستدامة للمناطق الرطبة في تونس” أنّ بحيرة اشكل تتعرّض الى تأثيرات خطيرة نتجت عن إنشاء السّدود على الأودية التي تغذّيها. و شهدت هذه البحيرة حالات حرجة للغاية منذ تنفيذ المشاريع لتحريك المياه السطحية من حوضها منذ عام 1986، الى جانب هذا تمّ بناء 53 بحيرة جبلية و 3 سدود كبيرة في حوض بحيرة إشكل، ما أدّى إلى انخفاض كبير في وصول المياه العذبة إلى البحيرة وارتفاع ملحوظ في نسب الملوحة مع تأثيراتها على التجمّعات الحيوية والنظام البيئي بشكل عام، علما أنّ الترسّب المفرط الذي تم تسجيله على مرّ السنين يؤدي إلى ترسّب كبير للرواسب الطينية في هذه البحيرة، وفق ما ورد في التقرير المذكور.
و تجدر الاشارة الى أنّه خلال العشرية الفاصلة بين سنتي 1996 و 2006، تمّ إدراج محمية اشكل على قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر بسبب الآثار السلبية لبناء السدود التي أدّت إلى زيادة نسبة الملوحة وفقدان الأنواع النباتية و تجمّعات الطيور المهاجرة إلى جانب نقص القدرات الميزانية و الادارية وعدم كفاية الهياكل الأساسية .(لجنة التراث العالمي، 1996، 2006).
في ما يتعلّق ببناء السدود و مدّة تأثيرها، يكشف المهندس البيئي حمدي حشّاد سياسة الدولة التي انتهجتها سابقا حيث يقول:
منذ الاستقلال بدأت الدولة التونسية سياسة كاملة لتنمية الفلاحة والتي ستكون العمود الفقري للاقتصاد التونسي ما أسفر عن بناء 6 سدود على مجاري الأودية التّي تصبّ في بحيرة اشكل.
يتابع محدثنا كلامه قائلا : “صحيح أنّ الدولة تمكّنت من إحداث تنمية فلاحية ومناطق سقوية وخلق عجلة اقتصادية في المناطق التي استثمرت فيها فلاحيا لكن في المقابل كان لهذه السياسة تداعيات سلبية جدا على محمية اشكل، حيث ساهم نقص المياه العذبة التي كانت تصبّ في البحيرة في ارتفاع درجة ملوحتها ما أدّى إلى تهديد الحياة الايكولوجية بطريقة أو بأخرى، إلى جانب هذا نتحدث اليوم عن تراجع العديد من أنواع الطيور التي كانت تعشش في بحيرة اشكل”.
و كان الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) بالشراكة مع “صندوق شراكة النظم الايكولوجية الحرجة” (CEPF) قد بيّن في تقرير تقني أنّ بناء 6 سدود أدّى الى اضطراب كبير في نظام البحيرة و تم تعزيز هذا الاضطراب بظهور سنوات جفاف متتالية انجرّ عنها تراجع النباتات المائية التي تشكّل الغذاء الرئيسي للطيور المهاجرة. بالاضافة الى ذلك أدّى ارتفاع درجة الملوحة في المستنقعات إلى نقص نوعية معينة من النباتات و التي تسمّى بـ scirpus maritimus، وفق ما ورد في التقرير.
و من جانبها، كانت “جمعية أحبّاء الطيور” قد نشرت احصائيات تبرز فيها مدى تراجع أدفاق الطيور المهاجرة حيث استقبلت تونس 600 ألف طائر مائي سنة 2021 إلّا أنّ نحو 19 ألفا فقط منها توجّه الى محمية اشكل قصد البحث عن الغذاء والتعشيش.
و في سنة 2020
أحصت المحميّة 5662 طائرا فقط وهذا رقم كارثي مقارنة بـ2008 حيث أحصت الحديقة 300 ألف طائر مهاجر.
و تأكيدا لما سبق، كانت وزارة الشؤون المحلية والبيئية قد نشرت التقرير الوطني حول وضعية البيئة والتنمية المستدامة سنة 2017 و جاء فيه أنّ أنواع الطيور التي تقلّص عددها سنة 2017/2016 تتمثّل في طائر الغرّ (دجاج الماء)، عائلة البطيات والنّحام الوردي.
الى جانب هذا، وفي نفس التقرير السابق، تمّت الاشارة الى النقص الذي تعاني منه النباتات في السنوات الأخيرة، حيث شهدت منطقة إشكل تراجعًا في مساحة نباتات سلق الماء بسبب تتالي فترات الجفاف. في سبتمبر 2014، كانت مساحة نباتات سلق الماء تتجاوز 33 كم مربع، بينما تقلصت إلى حوالي 27 كم مربع في سبتمبر 2017. يُرجّح خبراء أنّ هذا التراجع يعود إلى ارتفاع نسبة الملوحة في مياه بحيرة “إشكل” خلال فصول الخريف والشتاء في السنوات الأخيرة وفق التقرير الوطني حول وضعية البيئة و التنمية المستدامة سنة 2017.
تعتمد النّظم الإيكولوجية الغنية في بحيرة “إشكل” على التغيّرات السنوية في مستوى المياه والملوحة الناتجة عن توازن هيدرولوجي معقّد بين إمدادات المياه العذبة الموسمية من ستّة أنهار تصبّ في البحيرة وتدفقات المياه بين بحيرة إشكل والبحر عبر قناة تينجة.
عندما تكون إمدادات المياه كبيرة نتيجة الأمطار الشتوية التي تمتدّ من أكتوبر إلى مارس، يرتفع مستوى البحيرة، وتنخفض نسبة الملوحة، وتتدفّق الزيادة المائية إلى البحر. وعندما تكون تدفقات المياه العذبة ضعيفة، ينخفض مستوى البحيرة ويتسرّب ماء البحر إلى البحيرة عبر قناة تينجة، ما يؤدي إلى زيادة جديدة في نسبة الملوحة.
يقول محمد الصالح رمضان مدير مخبر بحث المنظومات البيئية والموارد المائية، في سياق تعليقه على التحديّات التّي تواجه محميّة اشكل وبالتحديد عن درجات الملوحة التي سُجّلت في السنوات الأخيرة :
تعود أسباب الاختلال في منظومة اشكل إلى التغيّر المناخي و بناء السدود. و كحلّ لمواجهة المشاكل، قمنا ببناء بوابة تينجة قصد التحكّم في الماء المتدفّق من البحر والتخفيض من نسبة الملوحة.
و يضيف محدثنا : “عندما تكون السنة ممطرة تظلّ البوابة مفتوحة الى حد شهر أفريل لأنّ نسبة الملوحة تكون منخفضة والمياه العذبة تكون مرتفعة لكن عندما تكون السنة جافة نضطرّ إلى إغلاق القفل لكي لا تتدفّق مياه البحر الى البحيرة وترتفع نسبة الملوحة وهذا يؤدي الى تقلّص بعض النباتات التّي لا تستطيع العيش في ملوحة مرتفعة، وإلى نقص عدد الطّيور المائية التي تتغذّى بدورها على تلك النباتات لكنّ هذا التمشّي لا يطبّق على أرض الواقع.”
وبنبرة حادة يتابع مدير مخبر بحث المنظومات البيئية والموارد المائية حديثه قائلا : “في سنة 1995 تولّت الوكالة الوطنية لحماية المحيط ادارة الموارد المائية و من المهام التي تقوم بها مراقبة نسبة الملوحة داخل و خارج البحيرة فاذا ارتفعت نسبة الملوحة في شهر أفريل عليها اغلاق قفل تينجة فورا لتفادي تدفّق مياه البحر إلى البحيرة الذي سينجر عنه اختلال على مستوى التنوّع البيولوجي”.
من جهتي أُؤكِّد لكم أنّ الوكالة الوطنية لحماية المحيط لا تراقب نسبة الملوحة ولا تتّبع التمشّي الذّي كنت أتحدّث عنه. هذا التراخي أدّى إلى فقدان بحيرة اشكل تنوّعها البيولوجي واختلال المنظومة البيئية.
محمد الصالح رمضان
في المقابل، تقول المكلفة بادارة المنظومات الطبيعية بالوكالة الوطنية لحماية المحيط والمسؤولة عن متابعة محمية إشكل نبيهة بن مبارك لموقع الكتيبة، انّ إدارتها “تقوم فقط بمتابعة علمية لبوابة تينجة”.. أمّا بالنسبة الى فترات فتح وغلق البوابة فانّها تختلف حسب الأمطار والجفاف وتعود أسباب ارتفاع نسبة الملوحة إلى التغيرات المناخية و نقص المياه الى جانب تتالي 7 سنوات من الجفاف. أما حالة المحمية في الوقت الحالي فانّها أكثر تدهورا من سنوات تسجيلها في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، وفق قول محدّثتنا.
تشير نبيهة بن مبارك إلى ما وصفتها بالانجازات التي قامت بها الوكالة الوطنية لحماية المحيط قائلة :”في الوقت الذي تمّ فيه تسجيل محمية اشكل في قائمة التراث العالمي المهدّد بالخطر، قمنا نحن باستدعاء خبراء من اليونسكو لمعاينة حالة المحمية في ذلك الوقت وبذلنا جهدا خرافيا حتّى تمكنّا من ارجاعها الى قائمة التراث العالمي”.
تأثير التغيرات المناخية على حديقة إشكل
تشكّل التغيرات المناخية تحديًا كبيرًا في العديد من مناطق العالم، بما في ذلك تونس، و يظهر تأثيرها بوضوح من خلال شحّ المياه وزيادة حالات الجفاف الى جانب قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة.
يُلاحظ أنّ التغيّرات المناخية أدّت إلى تتالي سنوات الجفاف وتقلص كميات الأمطار، ما نتج عنه نقص المياه وارتفاع ملحوظ في مستويات الملوحة. تلك الظروف المتغيرة تؤثر بشكل مباشر في التوازن البيئي في البحيرة وتهدد التنوع البيولوجي الذي يعتمد على هذا النظام البيئي.
على غرار ذلك، فانّ ارتفاع درجات الحرارة يؤثر في دورات المياه في البحيرة ويؤدي إلى تراجع في كمية الطحالب والنباتات المائية التي تشكل غذاءً أساسيًا للطيور المائية الموجودة في البحيرة.
في هذا السياق، يقول المهندس البيئي حمدي حشاد: “هناك جانب آخر مهم للغاية وهو التغيرات المناخية حيث أسهم ارتفاع درجات الحرارة في تدهور وضع الحديقة بطرق أخرى من خلال زيادة تبخر المياه وتتالي سنوات الجفاف، ما أدى إلى ابتعاد الطيور عن محمية إشكل. نقص كميات الأمطار كذلك يؤدي إلى تراجع تعبئة المياه، نلاحظ أنّ مساحات شاسعة من محمية إشكل أصبحت جافة تمامًا”.
يكشف محدثنا عن تأثر العديد من الكائنات مثل القواقع والبرمئيات وأنواع الأسماك والطيور بشدة بسبب هذا الاختلال في النظام البيئي. حيث تعودت هذه الكائنات على وجود كميات كافية من المياه والغذاء، ولكن بسبب نقص الماء وتدهور الظروف البيئية، وجدت نفسها في مواجهة صعوبات كبيرة.
يشهد التنوع الحيوي حاليًا اختلالًا وتدهورًا كاملاً، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك في المستقبل إلى انهيار النظام البيئي في محمية إشكل التي باتت تحت خطر جدّي يتطلب التدخل السريع من الجهات الدولية أولاً ثم الوطنية ثانيًا. يبدو أنّ الجهات الوطنية تظهر تراخيا وعجزًا عن اتخاذ التدابير الضرورية لإنقاذ الوضع.”
المهندس البيئي حمدي حشّاد
ويشدد الأستاذ الجامعي في المعهد الوطني للعلوم الفلاحية بتونس، محمد الصالح على أنّ بحيرة إشكل تعاني من مشكلة تراكم الرواسب بسبب الجفاف و قلّة الأمطار والتّي تتطلّب تدخّلًا عاجلاً، ويقترح اللّجوء إلى عمليات التجريف كحل لإعادة البحيرة إلى حالتها السابقة. وبصوت متجهّم، يوضّح محدّثنا أنّ “الأطراف المعنية لا تتدخل بشكل فعال لمواجهة هذه المشكلة وترفض تنفيذ عمليات التجريف بحجة تكلفتها الباهظة”.
في المقابل تختلف المسؤولة عن متابعة محمية “إشكل” نبيهة بن مبارك مع محمد الصالح في الرأي حيث ترى أنّ المشكلة التّي تعاني منها المحمية بالأساس تتمثّل في شحّ المياه. وتوضّح أنّ الاتفاقيات الدولية تلزم الدولة بتخصيص نسبة محددة من المياه لصالح بحيرة “إشكل” والمعروفة باسم المياه الإيكولوجية. ومع زيادة الطلب على مياه الشرب، قررت الدولة إعطاء الأولوية لتلبية احتياجات السكان على حساب بحيرة إشكل، وفق قولها.
في ما يتعلق بسؤالنا حول عملية التجريف للبحيرة من الرواسب، تشير نبيهة بن مبارك إلى أنّ الوكالة الوطنية لحماية المحيط لا تقوم بهذه العملية بل تقع مهمّة التّجريف تحت مسؤولية شركة خاصة تُدعى “تونس للبحيرات”. كان من المفترض أن تقوم هذه الشركة بإزالة الرواسب وتنظيف البوابة ومحيطها ولكنّها لم تعد تقوم بتلك المهمة وفق محدثتنا. وتضيف بن مبارك قائلة انّ “دور الوكالة الوطنية لحماية المحيط هو المتابعة العلمية و كتابة تقارير الى الإدارات المعنية و “هوما يدبّرو روسهم يعملو والّا ما يعملوش.. و وزارة الفلاحة هي المسؤولة.”
ووفق أرقام وزارة الفلاحة، تراجع منسوب المياه في السدود بحوالي 390 مليون متر مكعب، مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2022.
وكانت إيرادات السدود قد سجّلت انخفاضًا بمقدار 1 مليار متر مكعب، مع انخفاض معدل الإمداد الوطني بنسبة 50% خلال الفترة الممتدة من سبتمبر 2022 حتى منتصف مارس 2023. هذا الانخفاض الكبير يبرز خطورة الوضع وضرورة التصدّي للأزمة المائية الحالية بجدية وفعالية وفق تقدير عدد من الخبراء في المجال.
رغم محاولاتنا المتكررة للتواصل مع السيدة روضة الدريري، المكلفة بالإعلام في وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري الّا أنّنا لم نتحصّل على أيّ ردّ. ولتلافي ذلك، توجهنا إلى المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية ببنزرت، حيث التقينا رئيس دائرة الغابات لطفي الحمايدي الذّي أكّد عدم الاستجابة إلا بترخيص رسمي مكتوب. وأشار إلى أنّه “حتّى في حالة تمكُّننا من الاتصال بالسيد البرني رجب، محافظ الحديقة الوطنية بإشكل، عبر الهاتف، سيتم منعه من الردّ علينا”.
بسبب تفاقم الشحّ المائي في تونس وانخفاض مستويات المياه في السدود والبحيرات، اضطرّت الدولة إلى اتخاذ قرارات بشأن توزيع المياه حيث تمّ منح الأولوية لتلبية احتياجات السكّان على حساب الموارد المائية الطبيعية مثل بحيرة إشكل التي تعدّ أحد أهم المناطق الرطبة في العالم. وفي هذا السياق تقول بن مبارك :
بالرغم من التزام الدولة بالاتفاقيات الدولية بتخصيص نسبة معينة من المياه لحماية بحيرة إشكل والحفاظ على التوازن البيئي، إلا أنّ الارتفاع الحاد في الطلب على مياه الشرب دفع الدولة إلى إعطاء الأولوية لتلبية احتياجات السكان على حساب الحفاظ على بحيرة إشكل.
نبيهة بن مبارك
ارتبط التغير المناخي بالأنشطة البشرية الأخرى كالرعي والصيد الجائر الذي بات يهدد التنوع البيولوجي في حديقة إشكل، حيث جاء في تقرير نشر من طرف اليونسكو أنّ تربية المواشي تعدّ من العوامل المؤثرة على النظام البيئي حيث يؤدي الرعي الجائر إلى تدهور الأراضي والتربة بسبب الرعي المفرط، ما يقلل من قدرتها على امتصاص الكربون ويزيد من انبعاثات الغازات الدفيئة، كما يؤدي إلى تآكل النباتات الطبيعية وتغيّر توازن النظام البيئي.
يكشف التقرير نفسه أنّه، منذ سنة 2011، شهدت اشكل زيادة ملحوظة في الصيد الجائر على مدار الساعة داخل الحديقة، ونظرًا للنقص في قدرة إدارة الحديقة وفريق المراقبة، بما في ذلك نقص الموظفين المدربين خصيصًا لمكافحة الصيد الجائر، أصبح هذا التحدي متزايد الأهمية بالنسبة للأنواع الحيوانية التي تنتمي إلى الحديقة على غرار الأوز Greylag.
في نفس السياق، يشير المهندس البيئي حمدي حشاد إلى دور الأنشطة البشرية الضار في تدهور الوضع البيئي لحديقة اشكل، حيث يُلاحظ تزايد حالات الصيد غير المشروع التي يقوم بها السكان المحليون، ما تسبب في نهب ثروات المحمية البحرية والبرية، مثل الأسماك، القنفود والطيور. يضيف المصدر ذاته أنّ الكائنات الحية الموجودة في الحديقة تعتبر هشة للغاية، ما يزيد من تأثرها سلباً بتلك الأنشطة غير المستدامة.
وفي ظل ذلك، لاحظنا وجود مشاكل جوهرية في الحوكمة من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط والإدارة العامة للغابات، حيث تفتقر الجهود التنظيمية إلى الفعالية الكافية في التصدي للتحديات البيئية المتنامية، حيث يتطلب الوضع الراهن اتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة للحد من الانتهاكات وحماية البيئة بشكل أفضل، بما في ذلك تعزيز الرقابة وتحسين إدارة الموارد الطبيعية بشكل عام. ويشير حمدي حشاد إلى وجود تقصير وتراخٍ في التعامل مع تحديات حديقة اشكل، كما يؤكد على أنّ “الانتهاكات التي تتعرّض لها اشكل هي انتهاكات حاصلة تحت أنظار الدولة و أنظار حراس الغابات”.
يجب على الأطراف المعنية أن تظهر الارادة الصادقة في التعامل مع حديقة اشكل والتدخل السريع لإنقاذ تصنيفها كتراث عالمي وحماية التنوع الحيوي الموجود فيها.
من جهته، يؤكد فتحي البجاوي رئيس جمعية أحباء اشكل على ضرورة وضع خطة تشاركية مع المجتمع المدني تهدف إلى تعزيز التعاون والتشاور المنتظم، والمشاركة في صنع القرار، وتنفيذ المشاريع المشتركة، وتبادل المعلومات والمعرفة.
تبرز أمامنا محمية اشكل كمنظر مؤلم ومهيب، حيث تبدو أبوابها موصدة بإحكام، ولم تعد تستقبل الزوار وذلك بسبب قرار الغلق الذي صدر من طرف محمد قويدر الوالي السابق لبنزرت في 16 مارس 2020 في إطار التصدي لانتشار فيروس كورونا ولكن الى حد هذه الساعة مازال قرار الغلق ساري المفعول.
تمّ إنتاج هذا التحقيق في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19.
تمّ إنتاج هذا التحقيق في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19.
الكاتب : صفاء القبطني
صحفية متحصلة على شهادة الماجستير في الصحافة الاستقصائية
الكاتب : صفاء القبطني
صحفية متحصلة على شهادة الماجستير في الصحافة الاستقصائية