الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“قد يموت المرء وهو ينتظر الحصول على موعد في المستشفى”، هي عبارات لخّصت بها وداد (اسم مستعار) معاناة آلاف المرضى التونسييّن الذين وجدوا أبواب المستشفيات العموميّة مغلقة أمامهم رغم وضعيّاتهم الصحّية الصّعبة وأحيانا المستعجلة، الأمر الذي يدفع البعض منهم لطرق أبواب القطاع الخاصّ، في حين ينتظر البقيّة مصيرهم وموعدهم لدى الطّبيب بصمت ويخفون خلف وجوه شاحبة أنين آلام تثقل صدورهم وخيبة في دولة عجزت أن توفّر حقّهم الإنساني في الصحّة.

وجدت “هيفاء” -شقيقة وداد- نفسها تواجه المرحلة الرابعة من مرض السرطان الذي انتشر في جسدها بعد فشل اكتشاف هذا المرض في مرحلة مبكّرة لأسباب متعدّدة يمكن تلخيص أبرزها في تأخّر صدور نتائج التحليل وعدم اكتراث الطبيبة المعالجة لتشكّيات هيفاء من آلام في يدها ورقبتها.

تتقاطع قصّة هيفاء في تفاصيلها مع قصص مئات المرضى الذين ساءت حالتهم الصحّية بسبب عدم حصولهم على العلاج في الوقت المناسب أو تعرّضهم لمضاعفات صحّية نتيجة تأخير إجراء تدخلّات جراحيّة “عاجلة”. تمثّل هذه القصص جزءا من الإخلالات والنقائص التي تعبث بالمنظومة الصحّية العموميّة والتي تتجلّى في مواقف عديدة.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“قد يموت المرء وهو ينتظر الحصول على موعد في المستشفى”، هي عبارات لخّصت بها وداد (اسم مستعار) معاناة آلاف المرضى التونسييّن الذين وجدوا أبواب المستشفيات العموميّة مغلقة أمامهم رغم وضعيّاتهم الصحّية الصّعبة وأحيانا المستعجلة، الأمر الذي يدفع البعض منهم لطرق أبواب القطاع الخاصّ، في حين ينتظر البقيّة مصيرهم وموعدهم لدى الطّبيب بصمت ويخفون خلف وجوه شاحبة أنين آلام تثقل صدورهم وخيبة في دولة عجزت أن توفّر حقّهم الإنساني في الصحّة.

وجدت “هيفاء” -شقيقة وداد- نفسها تواجه المرحلة الرابعة من مرض السرطان الذي انتشر في جسدها بعد فشل اكتشاف هذا المرض في مرحلة مبكّرة لأسباب متعدّدة يمكن تلخيص أبرزها في تأخّر صدور نتائج التحليل وعدم اكتراث الطبيبة المعالجة لتشكّيات هيفاء من آلام في يدها ورقبتها.

تتقاطع قصّة هيفاء في تفاصيلها مع قصص مئات المرضى الذين ساءت حالتهم الصحّية بسبب عدم حصولهم على العلاج في الوقت المناسب أو تعرّضهم لمضاعفات صحّية نتيجة تأخير إجراء تدخلّات جراحيّة “عاجلة”. تمثّل هذه القصص جزءا من الإخلالات والنقائص التي تعبث بالمنظومة الصحّية العموميّة والتي تتجلّى في مواقف عديدة.

يشتكي المواطنون/ات الذين يتوجّهون إلى المستشفيات العمومية ومؤسسات الصحة العمومية بشكل عامّ من طول الانتظار للمرور أمام الطبيب ومن سوء معاملة الإطار شبه الطبّي لهم، فضلا عن قيام بعض الأعوان بدعوتهم إلى التوجّه لعيادة خاصّة أو مطالبتهم بدفع مبلغ مالي حتى يسرّعوا في عمليّة تسجيلهم وبالتالي فحصهم.

تتضاعف الأزمة في الجهات الداخلية من الجمهورية التونسيّة التي تشكو من ضعف عدد الأطبّاء العاملين في الجهات وانحسار عدد المؤسّسات الصحّية وعدم توفّر المعدّات والآلات الطبّية فيها، إلخ، في ظلّ غياب استراتيجية واضحة ومعلنة من قبل الدولة التونسية للنهوض بالقطاع الصحّي وبالتالي حرمان التونسيين.ـات من حقّهم/ن في الصحّة.

مواعيد مؤجّلة

يقول حمدي، ستّيني يشكو من مرض مزمن ويحتاج إلى إجراء تحاليل وعيادة الطبيب بشكل دائم، بصوت أنهكه المرض وساعات الانتظار الطويلة لتسجيل اسمه في المستشفى، “قد يتطلّب الحصول على موعد لإجراء كشف بالرنين المغناطيسي (IRM) شهرين أو 3 أشهر رغم أنّ حالة المريض قد تكون حرجة، قد يموت وهو ينتظر موعده”.

يتوجّه المواطنون.ـات إلى المستشفيات العمومية في ساعات الصباح الأولى وينتظرون منذ الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا لتسجيل أسمائهم.ن إلى بعد الظهر مترقّبين أن يتمّ فحصهم. غالبا، يشتكي هؤلاء المرضى من سوء معاملة عدد كبير من العاملين.ـات والإطار شبه الطبّي لهم.

في المقابل، يتمتّع أولئك الذين لهم “واسطات” في المستشفى أو القادرون على دفع رشاوى هنا وهناك بأفضليّة على البقيّة تمكّنهم من الحصول على موعد سريع وفوري سواء كان ذلك للفحص لدى الأطباء أو لإجراء صورة بالأشعّة أو تحليل ما.

هذا التأخّر في إجراء التحاليل وحتّى أحيانا تدخّلات جراحيّة عاجلة من شأنه أن يؤدّي إلى مضاعفات خطيرة لدى بعض المرضى، وهو ما حصل مع سمير الذي كان يحتاج إلى عمليّة جراحيّة لإزالة الزائدة الدودية إلّا أنّه وجد نفسه يعاني مخلّفات الإهمال.

يقول سمير لموقع الكتيبة إنّ عمليّة إزالة الزائدة الدوديّة لا تستغرق عادة أكثر من نصف ساعة ولكنّها في حالة سمير استمرّت 5 ساعات متواصلة دون أن يقدّم أيّ من الإطار الطبّي أو شبه الطبّي أي تفسير لأفراد عائلة سمير.

بدأت القصّة عندما توجّه سمير إلى مركز الإصابات والحروق البليغة بولاية (محافظة) بن عروس (جنوبي العاصمة تونس) وكان من المفترض أن يخضع لتدخّل جراحي لإزالة الزائدة الدودية.

بقي موعد إجراء التدخّل الجراحي يُؤجّل بتعلّة وجود “حالات مستعجلة” ليقضي سمير أيّاما ملقى على السرير دون أيّ تدخّل طبّي. وعلمت العائلة لاحقا أنّ الزائدة الدودية انفجرت داخل أحشاء سمير 3 أيّام قبل أن يخضع للعمليّة الجراحيّة، ما جعل العملية معقّدة للغاية.

كان سمير سيبقى ملقى على أحد أسرّة المستشفى يصارع آلامه لولا تدخّل احدى أقارب العائلة (طبيبة) التي اتّصلت بزملائها في المستشفى المذكور وحثّتهم على التعجيل بإجراء التدخّل الجراحي لانقاذ الموقف قبل فوات الأوان.

وما يزال سمير يعاني مخلّفات هذا الإهمال حيث أنّ جرح العمليّة مازال ملتهبا وينزف بشكل كبير رغم مرور حوالي الشهر على خضوعه للتدخّل الجراحي.

لئن كانت الصورة تبدو قاتمة في مستشفيات العاصمة التونسية، فإنّ الوضع يزداد سوءا في المناطق الداخليّة التي تغيب فيها المؤسّسات الصحّية ويكاد يهجرها الأطبّاء، وبشكل خاصّ أطبّاء الاختصاص.

تتكوّن المنظومة العلاجيّة العموميّة في تونس من 3 خطوط أساسيّة. يتمثّل الخطّ الأوّل في مراكز الصحّة الأساسية التي بلغ عددها 2113 مركزا سنة 2021، إلى جانب المستشفيات المحلّية البالغ عددها 110 مستشفى إلى حدود 2021.

فيما يتمثّل الخطّ الثاني في 35 مستشفى جهويا موزّعة على كلّ ولايات الجمهورية التونسية وعددها 24 ولاية. في حين يتكوّن الخطّ الثالث من 22 مؤسّسة عموميّة للصحّة، أو ما يُعرف بالمستشفيات الجامعيّة التي يتركّز جلّها في ولاية تونس التي تضمّ لوحدها 12 مستشفى جامعي. فيما تتوزّع بقيّة المستشفيات الجامعيّة على ولايات منّوبة وسوسة وصفاقس وأريانة وبن عروس والمنستير وزغوان.

يبلغ عدد الأطباء لكلّ 1000 شخص في تونس 1,3 في القطاع العامّ. ورغم تطوّر عدد الأطبّاء في تونس خلال العقدين الأخيرين، حيث ارتفع من 8.03 طبيب لكلّ 10 ملايين ساكن في 2001 إلى 13.44 طبيب لكلّ عشرة ملايين ساكن في 2021، إلّا أنّ المناطق الداخليّة مازالت تشكو غياب الأطبّاء، وفق ما تؤكّده دراسة أصدرها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في مارس/آذار 2024، تحت عنوان “هجرة مهنيي الصحّة: تحديّات لمنظومة الصحّة التونسية؟”.

على سبيل المثال، في سنة 2021 تبيّن وجود 1160 طبيبا عامّا لكلّ 10 مليون ساكن في ولاية تونس مقابل 171 طبيبا لذات العدد من السكّان في ولاية سيدي بوزيد، بحسب الدراسة ذاتها.

يتسبّب ضعف عدد الإطارات الطبّية وشبه الطبّية في الجهات الداخلية والمستشفيات الجهوية في مشاكل إضافيّة للمرضى في المناطق المهمّشة حيث يجدون أنفسهم مضطرّين لقطع مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مستشفى جهوي أو محلّي، ومن ثمّ انتظار موعد قد يأتي متأخّرا جدّا أو نتائج تحليل لا تصدر إلّا بعد فوات الأوان.

بدأت قصّة هيفاء التي كانت تشكو آلاما في الظهر وتوجّهت إلى طبيبين عامّين في منطقة غار الدماء من ولاية جندوبة (الشمال الغربي للجمهورية التونسية) وكانا في كلّ مرّة يصفان لها مهدّئات قائلين إنها تشكو من التعب أو من “الروماتيزم”.

بقيت هيفاء على هذا الوضع لمدّة أشهر قبل أن تنتبه إلى وجود “حبّة” صغيرة في صدرها فتوجّهت مباشرة إلى المستشفى الجهوي بجندوبة أين طُلب منها أن تقوم بإجراء صور بالأشعّة خارج المستشفى في أحد مخابر القطاع الخاصّ.

وقامت بإجراء صورة بالموجات فوق الصوتيّة (échographie) وصورة الثدي الشعاعية (mammographie) وذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. وقد كشفت هذه الصورة وجود كتلة مثيرة للعديد من الشكوك وبالتالي فإنّ نتيجتها كانت سلبيّة، وفق تأكيد وداد -شقيقة هيفاء- لموقع الكتيبة.

على الرغم من النتائج السلبيّة للصور، لم تتمكّن هيفاء من الحصول على موعد في المستشفى مع الطبيبة المختصّة إلّا بعد أسبوعين. في هذا الإطار، تقول وداد:

” أكتوبر الوردي في تونس مجرّد شعارات وهو ينتهي عند التشخيص النظري.. قد تموت وأنت تنتظر موعدا يُؤجّل في كلّ مرّة.”

طلبت الطبيبة التي تولّت فحص هيفاء منها إجراء خزعة في القطاع الخاصّ، فأجابتها أنّ هناك وحدة مختصّة لعلاج السرطان بمستشفى جندوبة يمكنها أن تجري فيها هذا التحليل. وقد أصرّت هيفاء على موقفها الرافض لإجراء الخزعة خارج المستشفى ولم تقم بالتالي بإجرائه.
بعد أسبوعين، عادت إلى مستشفى جندوبة مرّة أخرى لتعطيها الطبيبة موعدا آخر بعد أسبوعين قائلة لها إنّها ستخضع لعمليّة جراحيّة ومن الوارد أن تستيقظ ولا تجد ثدييها.

يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، أي بعد حوالي الشهر من المواعيد “المتأخّرة”، خضعت هيفاء للعمليّة الجراحيّة التي وجدوا خلالها ورما داخل كيس في مكان معيّن واكتشفوا أنّه نوع من السرطان. وقد أخذوا عيّنة منها وأرسلوها إلى المخبر. كما تمّ بتر صدر المريضة بشكل كامل.

تشير وداد إلى أنّه تمّ إرسال العيّنة إلى مخبر المستشفى يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول 2023، في حين غادرت شقيقتها المستشفى في اليوم الموالي للعمليّة وطُلب منها العودة بعد أسبوعين ريثما تكون نتائج التحليل قد جهزت.

عادت هيفاء إلى المستشفى بعد أسبوعين وهي تشتكي من آلام في يدها، إلّا أنّ الطبيبة لم تعر المسألة اهتماما وأعلمتها أنّ نتائج تحليل العيّنة لم تجهز بعد.

بعد مرور أسبوعين آخرين، توجّهت هيفاء إلى الطبيبة مرّة أخرى وهي تشتكي من آلام شديدة في الرقبة. كذلك، قالت لها الطبيبة إنّ “الآلام في الرقبة ليست من اختصاصها ولا تعنيها” وإنّ التحليل لم ينته بعد، وعليها أن تراجعها بعد أسبوعين إضافيين.

بقيت هيفاء على هذه الحال إلى غاية حلول شهر فيفري/ شباط 2024 دون أن يجهز التحليل. وقد فوجئت وداد عندما زارت شقيقتها بوضعها الصحّي المتردّي فأخذتها معها إلى العاصمة تونس أين أجرت صورة بالأشعة المقطعية (سكانير) وذلك يوم 5 فيفري/ شباط المنقضي.

أظهر السكانير أنّ السرطان قد انتشر في عضو آخر وبات في المرحلة الرابعة. بعد تدخّلات بعض “الأصدقاء”، صدرت نتيجة تحليل العيّنة التي تمّ رفعها خلال العمليّة يوم 8 فيفري/ شباط أي بعد شهرين من تاريخ سحب العيّنة تقريبا. وبفضل هذه التدخّلات، تمكّنت هيفاء من الشروع في بدء العلاج بوحدة السرطان في مستشفى جندوبة في غضون أيّام قليلة من صدور نتيجة تحليل العيّنة.

تقول وداد:

” لماذا تأخّر المستشفى في إصدار نتيجة تحليل العيّنة لمدّة شهرين إلى أن أصبحت حالة شقيقتي خطرة؟”

كان المستشفى الجهوي بجندوبة قد تعلّل بنقص في الموارد البشريّة أدّى إلى تأخّر صدور نتيجة التحليل، وفق ما أفادتنا به وداد.

علاوة على ذلك، يشتكي عدد من المرضى الذين تحدّث معهم موقع الكتيبة من تعلّل عاملين في بعض المستشفيات بتعطّل آلات السكانير أو الراديو وغيرها ودعوتهم إليهم كي يقوموا بإجرائها في القطاع الخاصّ.

يقول مروان، وهو شاب كان يصطحب والده لعيادة طبيب في أحد مستشفيات العاصمة تونس، إنّ عون استقبال حثّه على التوجّه إلى مصحّة خاصّة يخضع فيها والده للعمليّة الجراحية عوض انتظار موعد في المستشفى لن يُحدّد إلّا بعد أشهر طويلة.

يسمح القانون التونسي لأطبّاء الاختصاص الذين يصلون إلى مستوى معيّن من ممارسة نشاط تكميلي وهو يتمثّل في أن إجراء الطبيب لعيادات للمرضى في المستشفى مستعملا تجهيزات المستشفى يومين في الأسبوع وفق شروط محددة مسبقا، وهو إجراء اتّخذته الدولة للحدّ من توجّه كبار أطبّاء الاختصاص إلى القطاع الخاصّ. إلّا أنّ بعض الأطبّاء يستغلّون هذا الإجراء كغطاء لتحويل وجهة المرضى.

هجرة الأطبّاء.. معضلة جديدة للمنظومة الصحّية

يمثّل أطبّاء القطاع الخاصّ حوالي 55% من إجمالي عدد الأطبّاء الممارسين في تونس. في المقابل، 7% من الإطار شبه الطبّي فقط يعملون في القطاع الخاصّ، بحسب دراسة “هجرة مهنيي الصحّة: تحدّيات لمنظومة الصحّة التونسية؟” المذكورة أعلاه.

تكشف الدراسة ذاتها أنّ 27.8% من المهاجرين.ـات التونسيين.ـات خلال سنة 2022 هم من مهنيّي الصحّة. في حين يبلغ عدد الأطبّاء والممرّضين التونسيين الناشطين في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) -وهي منظمة اقتصادية حكوميّة تضمّ 35 دولة وتمثّل منتدى للبلدان التي تصف نفسها بأنّها ملتزمة بالديمقراطية واقتصاد السوق- 4000 شخص وذلك بين 2015 و2016.

تفيد الدراسة أيضا أنّ كلفة هجرة الأطبّاء على تونس تبلغ 16 مليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 0.037% من الناتج المحلّي الإجمالي. بالإضافة إلى أنّ عدد المتعاونين في مجال الصحّة ارتفع بشكل أعلى مقارنة مع نسق ارتفاع بقيّة المتعاونين في المجالات الأخرى. وفي الفترة المتراوحة بين 2016 و2022، بلغت نسبة ارتفاع المتعاونين في مجال الصحّة 8% فيما يقدّر معدّل ارتفاع إجمالي المتعاونين 5%.

وكان عميد الأطبّاء التونسيين رضا الضاوي قد كشف في تصريح إذاعي أنّ عدد الأطبّاء الذين غادروا البلاد سنة 2023 بلغ 1300 طبيب، مشيرا إلى أنّ هجرة الأطباء الشبّان تشهد نسقا تصاعديّا حيث كان عددهم في 2018 و2019 يناهز الـ350 طبيبا ليصل إلى 800 طبيب خلال سنتي 2021 و2022.

تمثّل هجرة الأطبّاء من تونس نتيجة حتمية لتضافر عوامل عدّة يرتبط بعضها بالرواتب التي يتقاضونها خاصّة من يختار منهم العمل في القطاع العامّ، فضلا عن وضعيّة المستشفيات التي تغيب عنها أدنى المقوّمات والإمكانيات التي يجب أن تكون متوفّرة لاستقبال المرضى، ولغياب استراتيجية صحّية واضحة من الدولة التونسية.

يقول رئيس جمعيّة قرطاج للصحّة مالك قطاط إنّ تطوّر شبكة خدمات الرعاية الصحّية في تونس مازال لم يستوعب بعد التحوّلات السكّانية والعمرانيّة التي تمرّ بها البلاد في السنوات الـ20 أو 30 الأخيرة خاصّة مع تسارع نسق الامتداد السكّاني داخل المدن الكبيرة والأحزمة العمرانية وحركات الهجرة الداخلية من المناطق الأقلّ حظّا في التنمية إلى تلك الأوفر حظّا على الأقل تاريخيّا.

ويبرز قطاط أنّ عدد سكّان تونس الكبرى شهد خلال السنوات العشر الأخيرة زيادة بما لا يقلّ عن 600 ألف مواطن في حين مازالت الدولة التونسية تحافظ على نفس عدد المرافق الصحّية مع إمكانيّات بشرية ومادّية أقلّ من تلك التي كانت متوفّرة في السابق.

ويضيف:

“سيؤدّي تواصل ارتفاع هذا الضغط العالي الى انفجار المنظومة الصحّية التي بقينا نتوارثها منذ الاستقلال”

ويبيّن محدّثنا أنّ عدم استيعاب التنمية الصحّية للتحوّلات السكانيّة له انعكاسات على متلقّي الخدمة الصحّية من جهة ومقدّم هذه الخدمة من جهة أخرى باعتبار أنّ عدم قدرة المؤسّسات الصحّية على مواكبة روح العصر وعدم تحلّي الإدارة بأساليب التسيير الحديثة وتحسين مناهج الإدارة الصحّية وتطويرها يخلق نوعا من فقدان التواصل بين المؤسّسة ومحيطها الخارجي، ويزيد الضغط على الإطارات الطبّية وشبه الطبّية، والتي ينتهي بها الأمر إلى أن تقول “كفى” ويبدأ كلّ شخص في البحث عن “الخلاص الفردي”، وفق قوله.

يشير قطاط كذلك إلى وجود “منظومة ذات سرعتين بين القطاعين العامّ والخاصّ”، موضّحا أنّ هناك قطاعا يفقد موارده البشريّة خاصّة مع زيادة في نسق هجرة الأطبّاء الشبّان بالإضافة إلى الأطبّاء الاستشفائيين الجامعيّين الذين باتوا يبحثون عن آفاق خارج تونس ولم يعد الأمر مقتصرا على التوجّه إلى القطاع الخاصّ، وفق قوله.

ويذكّر أنّ “النفقات الصحّية ترتفع بشكل كبير خصوصا وأنّ البلاد تتّجه نحو تهرّم سكّاني مع انحسار في قاعدة الفتوّة والشباب ما يؤدّي إلى إنهاك أكثر للماليّة العمومية إذا لم يحدث تغيير جذري في طريقة نظرة الدولة للصحّة”.

ويختم مالك قطاط بالقول إنّ “الصحّة ليست مسؤوليّة وزارة الصحّة فقط بل هي مسؤوليّة قطاعات متعدّدة خاصّة وأنّ الصحّة مرتبطة بكلّ شيء حولنا”.

تمثّل المنظومة العلاجية العمومية الملجأ الوحيد لمئات العائلات التونسية التي تعاني الفقر والخصاصة ولا يمكنها اللجوء إلى القطاع الخاصّ للحصول على حقّ أساسيّ يكفله الدستور التونسي والمواثيق الدولية، وهو الحقّ في الصحّة. إلّا أنّ الوضعية التي آلت إليها المؤسسات الصحّية العامّة تحتاج إلى سياسة شاملة واستراتيجية جديدة تنقذ المنظومة الصحّية العموميّة في إطار التزام الدولة بواجباتها الاجتماعية تجاه المواطنين.ـات.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
تصوير ومونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
مونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

rahma