الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“نؤمّن في جمعيّة المدنيّة نقل حوالي 14 ألف تلميذ(ة) وقد يصل الرقم أحيانا إلى 15 ألف في 14 ولاية (محافظة) من خلال رحلات بين المدارس ومنازل التلاميذ تؤمّنها 500 سيّارة”.

بنبرة لا تخلو من الفخر وتظهر فيها الحماسة عند الحديث عن قضيّة التلاميذ في المناطق الداخلية المهمّشة، تحدّثت الكاتبة العامّة لجمعيّة المدنيّة دلال المحرزي عن هذه التجربة الجمعياتيّة التي انطلقت في نشاطها لتأمين نقل الأطفال إلى المدارس في جهات تغيب فيها الدولة وتحاصر المخاطر الأطفال الذين يسيرون مسافات طويلة للوصول إلى مقاعد الدراسة في ظروف قاسية.

بدأت “المدنيّة” نشاطها في مارس/ آذار 2011 إبّان الثورة التونسيّة التي انتهت بسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وخلق جوّ من الحرّية وصدور قوانين من بينها المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات، ممّا خلق جوّا من الحرّية وفتح المجال أمام تأسيس عديد المنظمات والجمعيّات في مجالات متنوّعة.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“نؤمّن في جمعيّة المدنيّة نقل حوالي 14 ألف تلميذ(ة) وقد يصل الرقم أحيانا إلى 15 ألف في 14 ولاية (محافظة) من خلال رحلات بين المدارس ومنازل التلاميذ تؤمّنها 500 سيّارة”.

بنبرة لا تخلو من الفخر وتظهر فيها الحماسة عند الحديث عن قضيّة التلاميذ في المناطق الداخلية المهمّشة، تحدّثت الكاتبة العامّة لجمعيّة المدنيّة دلال المحرزي عن هذه التجربة الجمعياتيّة التي انطلقت في نشاطها لتأمين نقل الأطفال إلى المدارس في جهات تغيب فيها الدولة وتحاصر المخاطر الأطفال الذين يسيرون مسافات طويلة للوصول إلى مقاعد الدراسة في ظروف قاسية.

بدأت “المدنيّة” نشاطها في مارس/ آذار 2011 إبّان الثورة التونسيّة التي انتهت بسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وخلق جوّ من الحرّية وصدور قوانين من بينها المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات، ممّا خلق جوّا من الحرّية وفتح المجال أمام تأسيس عديد المنظمات والجمعيّات في مجالات متنوّعة.

رغم الجهود التي تبذلها جمعيّة المدنيّة وغيرها من المنظّمات غير الربحيّة، ومن المكاسب التي تحقّقت بفضل مساهمات المجتمع المدني على أصعدة مختلفة بشكل خاصّ بعد الثورة، يواجه هذا الأخير منذ بضع سنوات حملات شيطنة واتهامات بتمويل الإرهاب والارتهان إلى أطراف أجنبيّة والعمالة.

وقد تبنّت السلطات التونسية هذا الخطاب وتسعى منذ سنوات إلى تغيير المرسوم عدد 88 بتعلّة أنّ المجتمع المدني يتلقّى تمويلات أجنبية لتنفيذ أجندات غربيّة متجاهلة إسهامات الجمعيّات والمنظّمات غير الربحيّة في النهوض بالمجتمع التونسي والمساهمة في الاقتصاد وتكريس المواطنة والحقوق والحريّات.

على هامش تظاهرة تتويجية لأنشطة نوادي دار “المدنية” للمعرفة بالكاف/ ماي 2024

على هامش تظاهرة تتويجية لأنشطة نوادي دار “المدنية” للمعرفة بالكاف/ ماي 2024

جمعيّات تعوّض الدولة “الغائبة”

انطلقت فكرة “المدنيّة” بعد جولة قام بها مؤسّسها لطفي مكتوف في مختلف ولايات الجمهورية التونسية في الأشهر الأولى من سنة 2011 ليلتقي في منطقة اسمها “العفسات” في معتمديّة القصور من ولاية الكاف، بطفلة تدعى فاطمة كانت تبلغ حينها 7 سنوات وكانت تسير بمفردها في طريق موحش لا تعبره إلّا عربات مسرعة لتصل إلى مدرستها التي تبعد عن منزلها 8 كيلومترات.

تأثّر لطفي مكتوف بقصّة فاطمة التي كانت مصرّة على مواصلة دراستها رغم كلّ الظروف القاسية وصعوبة الوصول إلى المدرسة لتصبح في يوم ما صحفيّة تنقل معاناة زميلاتها وزملائها، لتتبنّى جمعيّة المدنيّة قضيّة نقل الأطفال في المناطق الريفية وتُطلق اسم “فاطمة” على برنامج النقل الريفي لفائدة هؤلاء التلاميذ، وفق ما أفادت به دلال المحرزي في حوارها مع موقع الكتيبة.

تستذكر المحرزي بتأثّر كذلك قصّة أمل، الطفلة التي كانت تقطن في أحد أرياف منطقة مكثر التابعة لولاية سليانة. كانت تصرّ على الذهاب إلى المدرسة حتّى في الأيّام المثلجة. في بعض الأيّام، كانت أمل تصل إلى المدرسة مبلّلة لا تشعر بيديها من شدّة البرد، ومع ذلك كانت تصرّ على مواصلة دراستها حتّى تستطيع التخرّج والعمل وتحسين ظروف حياة عائلتها.

اليوم، تجتاز فاطمة امتحانات البكالوريا، في الوقت الذي باتت فيه أمل تلميذة متفّوقة نجحت بمعدّل ممتاز وهي تدرس في الجامعة. ولئن بدأت تجربة المدنيّة انطلاقا من قصّتي فاطمة وأمل، فقد نجحت الجمعيّة اليوم بعد مرور 12 سنة على تأسيسها في تأمين نقل أكثر من 14 ألف تلميذ(ة) عبر رحلات يؤمّنها 500 ناقل في مختلف ولايات الجمهورية التونسية.

وتطمح جمعيّة المدنية إلى توفير النقل لفائدة 20 ألف تلميذ.ة بحلول السنة الدراسية 2025/2024. وتقول الكاتبة العامّة للجمعيّة بنبرة حالمة:

“هدفنا في العشريّة الثانية أن نتمكّن من توفير النّقل لـ30 ألف تلميذ.ة حتّى لا نسمع بأطفال انقطعوا عن الدراسة لعدم قدرتهم على التنقّل عشرات الكيلومترات يوميّا للوصول إلى المدارس”.

تقدّر المحرزي كلفة الوصول إلى تحقيق هذا الهدف بـ5 مليون دينار تونسي وهي تعمل مع شركاء يتمثّلون أساسا في وزارة التربية التونسية وبعض الشركات الخاصّة.

لم تكتف جمعيّة المدنيّة بتأمين النقل للتلاميذ، بل قامت بتأسيس ديار للمعرفة توفّر أنشطة متنوّعة للتلاميذ من مطالعة ومسرح وكتابة وغيرها، وهي تستقطب مئات الأطفال الذين وجدوا فيها ملجأ يفجّرون فيه طاقاتهم ومكانا آمنا يبعدهم عن مخاطر الشارع في الولايات والجهات التي تغيب فيها الدولة وأجهزتها بفعل القصور التنموي.

وتولّت المدنيّة كذلك نقل تلاميذ إلى معرض الكتاب الدولي الذي يقام بتونس سنويّا ومكّنتهم من شراء الكتب التي يرغبون هم في قراءتها. وتعمل كذلك على تأمين رحلات إلى المتاحف التاريخية. بل إنّ البعض منهم تمكّن من زيارة سويسرا في رحلة نظّمها مؤسّس الجمعية لتمكينهم من زيارة معرض الكتاب هناك، وفق دلال المحرزي.

ساهمت جمعيّة المدنيّة في التخفيف من معدّل الانقطاع عن الدراسة في المناطق التي تؤمّن النقل فيها بشكل كبير، وفق ما أكّدته لنا دلال المحرزي التي لا تبدي اهتماما لحملات الشيطنة الموجّهة ضدّ المجتمع المدني وتفضّل التركيز على عملها وتحقيق أهداف الجمعيّة المتمثّلة أساسا في بناء تونس أفضل فيها مواطنون.ـات صالحون.ـات يحبّون دولتهم التي وفّرت لهم تعليما مجّانيّا وحفظت كرامتهم وصحّتهم، وفق تعبيرها.

لا تعدّ “المدنيّة” المثال الوحيد للجمعيّات التي خلقت أثرا إيجابيّا في المجتمع التونسي، بل عديدة هي المنظّمات والجمعيّات التي ساهمت وتساهم إلى اليوم، كلّ في مجال نشاطها، في إحداث تغييرات إيجابية أو على الأقلّ توفير المساعدة للأقلّيات والفئات المستضعفة والمناطق المهمّشة.

على سبيل المثال، وفّرت جمعيّة “بيتي” منذ تأسيسها في 2012 عديد الخدمات لفائدة النساء المعنّفات من إيواء وإحاطة وتدعيم قدرات وغيرها. وتفيد دراسة بعنوان “المجتمع المدني في تونس: الإسهام الاقتصادي والاجتماعي والنفاذ إلى الموارد”، صادرة في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، أنّ عدد الوافدات على جمعيّة بيتي بين 2015 و2019 بلغ 815 امرأة.

من بين الجمعيّات التي تعمل على تطوير المشاريع وتمكين الفئات المهمّشة والمعزولة في تونس، نجحت الجمعية التونسية للتصرّف والتوازن الاجتماعي (TAMSS) في فرض اسمها كأحد أهمّ الجمعيّات الناشطة في هذا المجال. بدأت الجمعيّة نشاطها في 2006 معتمدة بشكل أساسي على موارد ماليّة محدودة.

بحلول 2008، تلقّت دعما من اليونيسيف ومن عدد من السفارات الأجنبيّة المعتمدة في تونس ممّا مكّنها من توسيع نطاق عملها. بعد الثورة التونسية، غيّرت جمعية التصرّف والتوازن الاجتماعي عمليّاتها الإداريّة لتلائم معايير المنظمات الدولية غير الربحيّة، الأمر الذي مكّنها من تنمية نشاطها لتغطّي الولايات الـ24.

أنشأت الجمعيّة 3 مراكز لحماية الأسرة وهي تديرها نيابة عن وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ. ووقّعت أكثر من 10 اتفاقيات شراكة مع وزارات وهيئات حكوميّة مختلفة، إلى جانب تقديمها خدمات لأكثر من 100 منظمة غير حكومية في 15 ولاية.

وقامت أيضا بإحداث 3 مراكز لدعم العاملين لحسابهم الخاصّ غير المدرجين في الاقتصاد الرسمي من باعثي المشاريع الصغيرة ومساعدتهم في الانتقال من الاقتصاد “الموازي” إلى الرسمي. كما صاغت مشروع قانون لتسهيل عمليّة الانتقال من القطاع الموازي إلى القطاع الرسمي ونفّذت عشرات الدراسات والتقارير.

وأنشأت أيضا مركزين للإرشاد ومأوى للنساء ضحايا العنف. وهي تقوم بدور محوري في بناء القدرات المؤسسية وريادة الأعمال والتوظيف.

ويفيد الموقع الالكتروني للجمعية التونسية للتصرّف والتوازن الاجتماعي أنّ الجمعية قامت ببعث و/أو توسيع أنشطة 1500 مؤسسة وتأطير وتكوين أكثر من 4000 باعث.ة مشروع. وقامت بإنجاز أكثر من 50 مشروعا في كامل الجمهورية واستفاد من برامجها أكثر من 10 آلاف امرأة وشاب وشابّة.

لا تشمل أنشطة منظّمات المجتمع المدني الجانب الاجتماعي فقط. فبعض الجمعيّات اختارت العمل على البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية للدولة التونسية. من بين هذه الجمعيّات، نجد المرصد التونسي للمياه الذي يعرّف نفسه بكونه مشروعا جمعياتيّا يعنى بالنظر في كلّ الإشكاليّات والقضايا المتعلّقة بحقّ الولوج للمياه في تونس.

ويتجسّد دور المرصد أساسا في التأثير في السياسات والممارسات المتّبعة، بالإضافة إلى رصد ومتابعة مدى تطبيق الالتزامات الوطنية والدولية لكافّة الأطراف المتدخّلة في قطاع المياه بهدف العمل على تحسين ظروف ولوج مختلف الفئات الريفيّة والحضريّة للخدمات المائيّة والصّرف الصحّي.

ويقوم المرصد بنشاطات متعدّدة منذ 2016 على غرار إحداث منصّة الكترونية للتبليغ عن انقطاعات المياه وإطلاق حملات لمتابعة وتقييم برامج عمل الوزارات والهياكل المعنيّة وإعداد دراسات وتحقيقات، علاوة على تركيز تنسيقية وطنيّة للحركات الاجتماعية ذات الصلة بالمياه.

تشمل أنشطة الجمعيّات كذلك مكافحة الفساد والعمل من أجل تعزيز الشفافية. ومن بين المنظمات التي تعمل في هذا الإطار مرصد رقابة الذي تأسّس في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019.

ويهدف المرصد، بحسب ما جاء في موقعه الالكتروني، إلى تشجيع المواطنين على القيام بواجب الرقابة على مختلف أجهزة الدولة والتبليغ عن مظاهر الفساد وسوء التصرّف. ويعمل على تمكينهم من مجموعة من الآليات الضرورية على غرار النفاذ إلى المعلومة والتبليغ الآمن والاطلاع على المعلومات المفتوحة المتعلّقة بجميع مؤسسات ومنشآت الدولة.

ويعمل المرصد أيضا على التقصّي في ملفّات الفساد على إثر تلقي شكايات والتعهد بها، ودراسة الملفّات التي يتلقّاها والتثبّت من المعطيات ومقارنتها بتلك الموجودة في بنك معلوماته واستكمال الملفّات عبر طلبات النفاذ إلى المعلومة كلّما اقتضى الأمر.

ويتولّى مرصد رقابة كذلك إحالة الملفات على القضاء وهياكل الرقابة وإعلام الرأي العام بالملفات والشكايات المقدّمة، فضلا عن التدقيق في التقارير الماليّة المحاسبية للمنشآت والمؤسسات والهياكل العمومية وإعداد الاستراتيجيّات ودراسات الإصلاح الهيكلي و المؤسساتي والتشريعي.

لا تمثّل الجمعيّات المذكورة إلّا جزءا بسيطا من مشهد يشمل مئات الجمعيّات والمنظّمات التي تنشط في مجالات متنوّعة سواء كانت اجتماعيّة أو حقوقية أو اقتصادية أو بيئية، وتقوم في كثير من الأحيان بدور الدولة التي تعجز عن الالتزام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها لعدّة أسباب لعلّ أبرزها ضعف إمكانيّاتها الماليّة والبشرية وغياب الاستقرار السياسي خصوصا بعد الثورة التونسية، بالإضافة إلى تهميش القضايا الاجتماعية والاقتصادية.

الجمعيّات في تونس بين الماضي والحاضر

لا يوجد إلى اليوم تعريف موحّد لمفهوم المجتمع المدني الذي مازال موضوع مناقشة. وقد تطوّر مفهوم المجتمع المدني على مرّ العصور.

يبيّن دليل مرجعيّ بعنوان “مدخل إلى المجتمع المدني: الأدوار والتحدّيات” صدر سنة 2023 عن مركز الكواكبي، أنّ المجتمع المدني كان يُفهم في البداية بأنّه مجموعة من الأفراد والمجتمعات تتشارك في الحياة المدنيّة بشكل منظّم. ومع مرور الزمن، تطوّر هذا المفهوم ليشمل التفاعل مع الحكومات والمشاركة في صنع القرار والعمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان. وتُعزّز أهمّية المجتمع المدني من خلال دوره في رصد السلطات ومراقبتها وتقديم خدمات للمجتمع وتمثل مصالح الفئات الضعيفة وتعزيز الشفافية والمساءلة. ومن شأن المجتمع المدني أن يساهم في تعزيز الديمقراطية وبناء مجتمع أكثر تعدّدية وتوازنا.

في تونس، عرف المجتمع المدني تطوّرات تاريخيّة مهمّة وعاش في مختلف فتراته صراعات عميقة مع الاستعمار والدولة. في القرن التاسع عشر، عرفت تونس وجود جمعيّات دينية وخيرية اجتماعية وتعدّدت خاصّة في ظلّ الأزمات والمجاعات والأوبئة.

كما تعدّدت جمعيّات الأوقاف التي كانت تهدف إلى إدارة وتطوير الأوقاف والمساهمة في دعم المشاريع الاجتماعية والخيرية والثقافية في المجتمع من بينها المجتمع المدني للأوقاف الذي تأسّس سنة 1896. من بين الجمعيّات أيضا تأسست جمعية “الرفاه العام” في 1864 والجمعية الخلدونية في 1896 وجمعية قدماء المدرسة الصادقية.

وعرفت تونس في مطلع الثلاثينيات حركة ثقافية وفكرية نشيطة. وتكثّف العمل الجمعياتي ليبلغ عدد الجمعيات سنة 1937 حوالي 94 جمعية ناشطة في مختلف المجالات. وتأسّست أيضا نقابات مثل جامعة عموم العملة التونسية (1924)، علاوة على عديد الجمعيات الرياضية والكشفية.

بعد الاستقلال وخلال فترة حكم الحبيب بورقيبة، واجه المجتمع المدني تحدّيات كبيرة وتقييدات في ممارسة نشاطه، وتمّ حلّ عديد الجمعيّات وتقييد حرّيات المنظمات السياسية والحقوقية والنقابية. وتمّ إنشاء هيئات رسميّة لتنظيم الجمعيات وتنظيم عملها، وتحويل بعض الجمعيّات إلى مؤسسات حكومية أو تجمّعات شبابية تابعة للحزب الحاكم على غرار الاتحاد التونسي للتضامن والاتحاد الوطني للمرأة واتحاد منظمات الشباب.

في المقابل، حافظت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي تأسّست سنة 1977، على استقلاليتها ومواجهتها لانتهاكات الحقوق المدنية والسياسية، وهي الأولى التي نشطت في هذا المجال على المستويين العربي والإفريقي.

أمّا في فترة حكم بن علي، شهد مجال المجتمع المدني في المرحلة الأولى الممتدّة من 1987 إلى 1989 تحوّلات هامّة، إذ تمّ اعتماد سياسة حكومية لتشجيع المجتمع المدني والجمعيات وتمّ إحداث القانون المتعلّق بتأسيس وادارة الجمعيّات وهيئة الرقابة على الجمعيّات لمراقبة نشاطاتها.

وتأسّست في تلك الفترة جمعيّات مثل “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” و”جمعية النساء التونسيات للبحوث حول التنمية” والمعهد العربي لحقوق الإنسان. وارتفع عدد الجمعيات التي تنوّعت أهدافها وأنشطتها. إلّا أنّ النظام كان يعتمد على تنمية علاقات زبونية مع جمعيات موالية له لتتعدّد الجمعيات التي ترأسها شخصيّات سياسية أو قريبة من النظام، في حين تعرّضت الجمعيات المستقلّة للتّضييق والاضطهاد خاصّة في الفترة الأخيرة من حكم بن علي. ووقع حظر عدد كبير من الجمعيات، وفق ما جاء في الدليل المرجعي “مدخل إلى المجتمع المدني: الأدوار والتحدّيات”.

جاءت ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأوّل 2010 – 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 لتطيح بنظام بن علي وتفتح الباب أمام نفس جديد من الحرّية الذي طال كلّ المجالات وباتت حرّية التجمّع وحرّية التعبير وحرّية الإعلام مكفولة وفق قوانين ومراسيم جديدة.

مثّل المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم عمل الجمعيّات منعرجا تاريخيّا للعمل الجمعياتي في تونس، إذ فتح المجال لتأسيس عديد الجمعيّات والمنظّمات ليرتفع عددها بشكل كبير وتتعدّد مجالات أنشطتها لتشمل مختلف أوجه الحياة التونسية.

تستذكر أستاذة القانون العامّ والناشطة الحقوقية حفيظة شقير، في حوارها مع موقع الكتيبة، أنّ الهمّ الرئيسي لأعضاء اللجان التي أُحدثت لتغيير القوانين بعد الثورة، وبشكل خاصّ القادمين.ـات من المجتمع المدني، كان تنظيف القوانين التي كانت مقيّدة للحقوق والحرّيات من كلّ النقائص والشوائب.

وبيّنت شقير أنّه عند إعداد المرسوم 88 تمّ الاعتماد على الواقع الذي كانت تعيشه المنظمات والجمعيّات و المشاكل و التضييقات التي عانت منها بموجب القانون عدد 7 لسنة 1959 وهو القانون الذي كان يُطبّق على الجمعيات وأرسى نظام الترخيص ومنح وزارة الداخلية، وبالأحرى وزير الداخلية، سلطة تقديرية مطلقة في إسناد التراخيص.

وأوضحت أنّ المكاسب التي حقّقها المرسوم 88 تتمثّل في التخلّص من ضرورة التحصّل على ترخيص وأصبح تكوين الجمعيّات يقتصر على الإعلان بالتكوين، وتمّ أيضا إبعاد وزارة الداخلية من مهمة إسناد التراخيص والاهتمام بملّف الجمعيات وباتت الكتابة العامّة للحكومة هي المكلّفة بهذا الملفّ. كما أكّد المرسوم استقلاليّة الجمعيّات تجاه الأحزاب السياسيّة والتنظيمات التي ليس لها علاقة بالمجتمع المدني.

أدّى هذا المناخ من الحرّية إلى تطّور عدد الجمعيّات لتشهد الفترة الممتدّة من 2011 إلى 2020 تأسيس أكثر من 13 ألف جمعيّة جديدة. وبحسب دراسة بعنوان “الإمكانات الكامنة لمساهمة الجمعيّات في الاقتصاد التونسي”، صدرت في فيفري/ شباط 2024، بلغت ذروة الجمعيّات خلال سنتي 2011 و2012 بإحداث 2088 و 2868 جمعيّة على التوالي. وارتفع عدد الجمعيّات بحلول 9 فيفري/ شباط 2024 إلى 24982 جمعيّة وفق معطيات مركز الإعلام والتّكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيّات (مؤسّسة حكوميّة).

ويتجاوز مجموع الجمعيّات المدرسية والعلميّة والاجتماعيّة والثقافيّة والفنّية والرياضيّة والتعاونيّات 75,5% من جملة الجمعيّات، وفق ما يبيّنه الدليل المرجعي “مدخل إلى المجتمع المدني: الأدوار والتحدّيات”. في المقابل، تفيد دراسة بعنوان “توضيحات حول واقع منظّمات المجتمع المدني في تونس”، صادرة في ديسمبر/ كانون الأوّل 2023، أنّ عدد الجمعيّات الناشطة فعليّا على أرض الواقع يتراوح بين 7000 و8000 جمعيّة فقط.

المجتمع المدني: قطاع اقتصادي حيوي

لا يقتصر دور الجمعيّات والمنظّمات على ما تقوم به، كلّ حسب مجال اختصاصها، من أنشطة أو ما تقدّمه من خدمات مباشرة أو غير مباشرة للمواطنين.ـات من مختلف الفئات الاجتماعية والعمريّة والجندريّة. فهي تساهم في الاقتصاد التونسي بشكل هامّ وتتجاوز أحيانا مساهمتها قطاعات تعتبرها الدولة التونسيّة مهمّة وتعطيها الأولويّة في استراتيجيّاتها الاقتصاديّة.

تكشف دراسات صادرة عن مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطيّة أنّ عائدات قطاع الجمعيّات من العملة الصّعبة يبلغ حوالي 180 مليون دينار. فيما تقدّر قيمة الضرائب التي تدفعها سنويّا بـ23 مليون دينار، إلى جانب مساهمة سنويّة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تقدّر بـ91 مليون دينار.

وتوفّر المنظّمات والجمعيّات حوالي 38 ألف موطن شغل مباشر، وما بين 40 و60 ألف موطن شغل غير مباشر.

تعتمد غالبيّة الجمعيّات والمنظّمات، من أجل تحقيق أهدافها وتنفيذ مشاريعها وأنشطتها، على التمويل الأجنبي وذلك لصعوبة الوصول إلى التمويل العمومي لعدّة أسباب أبرزها غياب الشفافية في إسناد التمويل العمومي وعدم اعتماد على المعايير التي نصّ عليها المرسوم 88 لسنة 2011 والمتعلّقة بالكفاءة والمشاريع والنشاطات.

هذا فضلا عن غياب الحياد لدى أعضاء اللجنة الفنية المتعهّدة بالتمويل العمومي بسبب غياب ممثّلين عن المجتمع المدني ووجود تضارب مصالح لدى أغلب الأعضاء باعتبارهم مسيّرين في جمعيّات غير حكوميّة، بالإضافة إلى تعدّد الوثائق المطلوب توفيرها والمكوّنة لمطلب التمويل العمومي، علاوة على أنّ نشر طلبات العروض في بعض الأحيان يكون غير رسمي، وفق الدراسة المعنونة بـ “حرّية التنظّم في تونس بين المرسوم 88 وواقع الممارسات”.

ويعدّ التمويل الأجنبي للجمعيّات والمنظّمات حقّا مكفولا تنصّ عليه المواثيق الدوليّة و المرسوم عدد 88 لسنة 2011. وهو حقّ أمميّ تطبّقه عدد كبير من الدّول باستثناء بعض الدّول التي بالإضافة إلى كونها قمعيّة تتميّز بمؤشرات تنمية ضعيفة جدّا.

يقول مدير مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطية أمين الغالي، في حوار مع موقع الكتيبة، إنّ المرسوم 88 يكفل حقّ الجمعيّات في الوصول إلى تمويل خارجي أو دولي بضوابط، أوّلها الشفافية إذ يتعيّن على كلّ جمعيّة تحصلّت على تمويل أجنبي أن تنشر ذلك في موقعها الالكتروني وفي جريدة وأن تعلم رئاسة الحكومة.

كذلك، جلّ التحويلات المالية تمرّ عبر البنوك التي لديها حقّ الرقابة، فضلا عن لجنة التحاليل الماليّة التي تستطيع النظر في التمويلات والإشعارات التي تصلها من البنوك في هذا الشأن.

كما تخضع الجمعيّات والمنظّمات غير الربحيّة في تونس إلى رقابة ما لا يقلّ عن 17 هيكل رسمي تابع للدولة وفق ما تنصّ عليه التشريعات، من بينها 12 أو 13 هيكلا لديه رقابة مباشرة على تمويل الجمعيّات.

لم تحل الضوابط والرقابة التي تفرضها القوانين التونسية على التمويل الأجنبي للجمعيّات دون توجيه اتهامات لهذه الأخيرة سواء بتمويل الإرهاب أو العمالة وتنفيذ أجندات أجنبيّة. وبناء على هذا الخطاب، تمّ طرح أكثر من مبادرة من أجل تغيير المرسوم 88.

يعتبر الناشط المدني أمين الغالي أنّ “التخوّف” من التمويل الأجنبي هو في الحقيقة محاولة تضييق على الجمعيّات، باعتبار أنّ التمويل العمومي ضعيف جدّا وجمع التبرّعات والمساهمات أمر نادر في تونس، وبالتالي فإن منع التمويل الدولي يعني خنق الجمعيّات التي ستعجز عن القيام بأنشطتها دون تمويل.

ويؤكّد الغالي أنّ مثل الإجراء لا “يقطع الأرزاق” فحسب بل يعدّ ضربة للاقتصاد التونسي، مشيرا إلى أنّ مساهمة قطاع الجمعيّات في الناتج الوطني الخام تتراوح بين 1,6 و1,7%، وهي تعادل تقريبا نسبة مساهمة قطاع الفسفاط التي تبلغ 1,7%، فضلا عن مواطن الشغل التي توفّرها والخدمات والأنشطة والمشاريع التي تنجزها.

وأردف بالقول:

تقريبا كلّ هياكل الدولة تحصل على تمويل خارجي في شكل قروض وهبات وتبرّعات ودعم لميزانية الدولة، الشركات في تونس تحصل على تمويلات أجنبية وكذلك كافّة مؤسسات الدولة وتلك التي تحوم حولها، لماذا اتهمنا الجمعيّات فقط بالخيانة؟”

يؤكّد أمين الغالي تمسّك المجتمع المدني بمبدأ الشفافية وبأن تقوم الدولة بدورها في مراقبته للقطع مع هذا “البعبع” والاتهام بغياب الشفافية والاختلاس وغيرها من الاتهامات، مبيّنا أن المرسوم 88 وغيره من القوانين التونسية – على غرار قانون مكافحة الرشوة وقانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال وقانون مكافحة الإثراء غير الشرعي والمجلّة الجزائية ومجلّة الإجراءات الجزائية – كلّها تكفل مراقبة الجمعيات وضمان الشفافية.

ويشدّد على أنّ هياكل الرقابة موجودة وكذلك قوانين الرقابة وضرورة تطبيقها بشكل جيّد باعتبار أنّ المجتمع المدني يفتح أيديه للتعاون والتحسين من آليات الرقابة، معتبرا أنّه إذا ما وجد خلل في الرقابة على الجمعيّات من قبل الـ17 هيكلا المعنيّين بذلك فلا بدّ من أن يقع التنسيق بين هذه الهياكل وتطبيق القوانين.

ويذكّر الغالي بالتجربة الناجحة في التعاون بين المجتمع المدني والدولة، وتحديدا لجنة التحاليل المالية، والتي أدّت إلى إزالة تونس من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي حتّى أن الدولة التونسية أصبحت تصنّف على أنّها ممتثلة للتوصية عدد 8 من توصيات مجموعة العمل المالي.

تتناول التوصية عدد 8 تنظيم المنظمات غير الربحية لمنع إساءة استخدامها في تمويل الإرهاب. وهي تنصّ على ضرورة حماية هذه المنظمات من تمويل الإرهاب دون تعطيل الأنشطة المشروعة

من جهتها، تعتبر أستاذة القانون العامّ حفيظة شقير أنّ محاولات تنقيح المرسوم 88 تندرج في إطار تكثيف الرقابة وأنّ المعركة سياسية وليس لها أيّ علاقة بالجمعيات بل بالخطاب السياسي الداعي إلى إزالة الأجسام الوسيطة من أحزاب وجمعيّات.

وذكّرت شقير أنّ الرقابة بدأت تعود شيئا فشيئا منذ سنوات حيث تمّ في البداية التأخير في آجال الإعلان ومن ثمّ تمّ اتهام الجمعيات بتمويل الإرهاب مع وقوع عمليّات إرهابية وعمليّات التسفير إلى سوريا في فترة حكم الترويكا، لتبدأ الرقابة على التمويل وتمّ تغيير قانون مكافحة الإرهاب لفرض قواعد مسبقة على التمويل، وشيئا فشيئا بدأت قوانين مقيّدة لحرّية الجمعيّات تظهر على غرار القانون المتعلّق بالسجلّ الوطني للمؤسسات.

وتشير شقير إلى وجود مشروع قانون تقدّم به 10 نوّاب من البرلمان مؤخّرا، فضلا عن مشروع قانون أعدّته الوزارة الأولى (رئاسة الحكومة) منذ سنتين وفيه تكثيف للرقابة على العمل الجمعياتي، في الوقت الذي يوجد فيه نصّ دستوري يقول إنّ حرّية الجمعيّات مضمونة.

وتدعو شقير إلى ضرورة تطبيق المرسوم 88 على الجميع عوض تنقيحه، قائلة:

“لا بدّ من تطبيق المرسوم قبل التركيز على نقائصه، هم ركّزوا على النقائص قبل تطبيقه”.

على صعيد آخر، يقول الناشط المدني أمين الغالي إنّ النقاش مع مؤسسات الدولة حول المرسوم 88 يتجاوز التمويل الأجنبي ويشمل في جزء كبير منه حق التنظّم لأن مشاريع القوانين الجديدة تحدّ من حقّ تكوين الجمعيّات، إلى جانب دور الإدارة التي تعطي لنفسها سلطة واسعة بعض الشيء في تقرير مصير الجمعيّات والأنشطة التي تقوم بها.

ويوضّح أنّ كافّة مشاريع القوانين المطروحة اليوم تعطي للسلطة حقّ غلق الجمعيّات دون التدرّج في العقوبات – كما ينصّ على ذلك المرسوم 88 – ومن ثمّ يمكن للجمعيّات التوجّه للمحكمة الإداريّة، الأمر الذي يعني أن أيّ جمعيّة صدر قرار في حلّها يتعيّن عليها أن تنتظر من 6 إلى 7 سنوات حتّى يصدر حكم المحكمة الإدارية ومن ثمّ لا تلتزم الإدارة بتنفيذه خاصّة وأنّ السلط العمومية لم تعد تنفّذ قرارات القضاء الإداري، وذلك في ظلّ غياب المحكمة الدستورية التي من شأنها النظر في مدى دستورية مشاريع القوانين المطروحة لتعويض المرسوم 88، وفق تأكيد أمين الغالي.

ردّا على الخطاب المتواتر الذي يتحدّث عن وجود عدد كبير من الجمعيّات في تونس، يقول أمين الغالي إن 25 ألف جمعيّة عدد ضعيف بما أنّه يعني وجود جمعيّة لكلّ 500 مواطن في تونس، في حين أنّه في المملكة المغربية على سبيل المثال توجد جمعيّة لكلّ 230 مواطن. أمّا في الدول الديمقراطية فيصل الأمر إلى وجود جمعيّة لكلّ 80 أو 90 مواطنا.

ويبين أنّ الدراسات الميدانية أظهرت أنّ عدد الجمعيّات الناشطة فعليا في تونس يتراوح بين 7000 و8000 جمعيّة ممّا يعني أنّ هناك جمعيّة لكلّ 1500 أو 1600 مواطن، وهو عدد ضئيل جدّا.

أدّى هذا التضييق على الجمعيّات إلى موجة هجرة للمنظمات الدولية خلال السنوات الأخيرة. وتشمل هذه الهجرة صعيدين على أقلّ تقدير، وفق تصريح أمين الغالي. الصعيد الأوّل يتعلّق بالمنظمات التي جاءت واستثمرت في تونس كما وجدت مناخا ديمقراطيّا منفتحا تستطيع القيام فيه بأنشطتها والمساهمة في بناء تونس جديدة، واليوم العديد من هذه المنظمات بصدد المغادرة.

من جهة أخرى، تخسر تونس فرصة الاستثمار في صورتها كوجهة للمنظمات التي تعمل في المنطقة العربية بعد أن أصبحت وجهة لقطاع المؤتمرات وبات لدى عدد كبير من النزل والفنادق اختصاص سياحة المؤتمرات، إلّا أنّ هؤلاء اليوم توقّفوا عن التوجه إلى تونس وذهبوا إلى دول أخرى مثل المغرب ولبنان، بحسب المتحدّث ذاته.

واعتبر أمين الغالي أنّ هذا الأمر يجعل تونس تعود إلى سنوات 1990 و2000 2010 عندما كان هناك تضييق على المجتمع المدني الذي كان مخترقا من الدولة وفي أحيان كثيرة امتدادا للدولة، مؤكّدا أن ذلك سيكلّف تونس خسارة عملة صعبة ومواطن شغل وخدمات للمواطنين.ـات وسيكلّف صورة تونس التي يُنظر إليها في الخارج كدولة عادت إلى مجتمع منغلق.

مغالطات إعلاميّة: محنة الحقيقة في زمن التخوين والشيطنة

ممّا لا شكّ فيه أنّ الخطاب المشيطن للمجتمع المدني شهد تناميا في حدّته خلال السنوات الأخيرة، إلّا أنّه ليس بظاهرة جديدة وقد بدأ منذ السنوات التي برزت فيها العمليّات الإرهابية وتسفير الشباب إلى سوريا.

إلّا أنّ بعض وسائل الإعلام تبنّت في الآونة الأخيرة خطابا متشنّجا ضدّ المجتمع المدني وتبنّت حتّى الخطاب الرسمي الذي يخوّن الجمعيّات، وذلك بشكل خاصّ من خلال من يسمّون بـ”الكرونيكورات” (المعلّقون) الذين يحتلّون النصيب الأكبر من المشهد الإعلامي الحالي.

يقول الباحث في المجال الإعلامي ثامر الزغلامي، في حديثه مع موقع الكتيبة، إنّ حالة الإعلام في تونس تشهد انحدارا و انهيارا لا سابق له، ممّا انعكس على التعاطي الإعلامي مع مختلف القضايا الأساسيّة من بينها القضايا المتعلّقة بالمجتمع المدني والجمعيّات.

أنتج هذا التعاطي الإعلامي مضامين إعلاميّة تتّسم بالسطحيّة والاستسهال والشعبويّة، كما أفرز مغالطات للرأي العامّ في علاقة بموضوع المجتمع المدني. هذه المغالطات تأتّت من جملة من الممارسات الإعلاميّة خاصّة في علاقة بالمعلّقين “الكرونيكورات” وكذلك في علاقة بالعمل الصحفي لمقدّمي هذه البرامج، على حدّ قول الزغلامي.

وبيّن الباحث في المجال الإعلامي أنّ هذه المضامين الإعلامية تقول إنّ هناك تدفّقا لأموال من الخارج للجمعيّات التونسية والسبب في ذلك هو غياب الصحافة التفسيرية والصحافة الاستقصائية مع غياب معطيات دقيقة من مصادر موثوقة حول هذا الموضوع، معتبرا أنّ كلّ ما يقال في هذا الشأن مجرّد شعارات يردّدها السياسيون وتجد صداها لدى بعض الصحفيين.ـات والمعلّقين ووسائل التواصل الاجتماعي.

وأكّد وجود فراغ في علاقة بمسألة التعديل والتعديل الذاتي في المشهد الإعلامي، ممّا أنتج انفلاتا إعلاميا، مبرزا أنّ أغلب المؤسسات الإعلاميّة لا تطبّق المواثيق الأخلاقية والمهنيّة. علاوة على أنّ المضمون الإعلامي هو دائما ذو رأي واحد ولا يلعب الصحفي فيه دور المساءلة لبعض الضيوف والخبراء والمعلّقين في هذا الموضوع.

ويضيف ثامر الزغلامي:

“في الحقيقة الإعلام لا يقوم بدوره وهو ينقل خطابا موجودا في وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك خطابا رسميّا يرفع مجرّد شعارات واتهامات. لا توجد تحقيقات ومساءلة وتفسير في علاقة بقضايا المجتمع المدني وأنشطته وتمويله”.

ويشير الزغلامي إلى وجود ارتباك للخطّ التحريري في بعض المؤسسات الإعلامية، حيث تتحدّث في التغطيات الإخبارية بإيجابية عن بعض الأنشطة التي تقوم بها جمعيّات خاصّة في المناطق الداخلية، في المقابل يقع طرح الشعارات المتداولة من قبل الخطاب الرسمي وفي وسائل التواصل الاجتماعي المخوّن للمجتمع المدني في الفضاءات والبرامج الحوارية.

وأعرب عن اعتقاده أنّ خطاب التخوين والكراهية ضدّ المجتمع المدني موجود في بعض وسائل الإعلام وبعض من وصفهم بـ”الفرقعات السياسية” والمعلّقين إلّا أنّه يستبعد أن تكون صورة تخوين الجمعيات والمنظمات واتهامها بالعمالة موجودة بشكل واسع خاصّة نتيجة الأثر الكبير الذي خلقته في الجهات.

من جهة أخرى، يعتبر ثامر الزغلامي أنّ غلق أبواب التمويل أمام المؤسسات الإعلامية الاجتماعية سيكون له انعكاسات على 3 مستويات. يتعلّق المستوى الأوّل باندثار النقاش المحلّي الذي توفّره وسائل الإعلام الجمعياتية في الجهات.

ويهمّ المستوى الثاني التشغيل داخل الجهات الداخلية باعتبار أنّ هذه المؤسسات تشغّل عددا لا بأس به من الشباب بصفة قارّة وعرضيّة. أما المستوى الثالث فيرتبط بتعطيل المسألة التنموية.

“لا لوضع الجمعيّات في سلّة واحدة”

لعب المجتمع المدني في تونس بعد الثورة دورا هامّا شمل مختلف جوانب المجتمع التونسي، فساهم في بعث المشاريع لفائدة النساء والشباب والفئات المهمّشة، ونظّم حملات مناصرة لعديد القضايا العادلة. وكان له دور بارز في المصادقة على عدد كبير من القوانين الثوريّة على غرار القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بمناهضة العنف ضدّ النساء والقانون عدد 50 لسنة 2018 المتعلّق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.

ولا يمكن لأحد إنكار أنّه لولا المجتمع المدني التونسي لكانت البلاد التونسية قد سارت نحو صراع أهلي، وقد نال الرباعي الراعي للحوار الوطني، المتكوّن من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين، جائزة نوبل كتقدير لجهوده في الخروج من الأزمة السياسية الخانقة التي عاشتها تونس بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013.

إلّا أنّ الادّعاء أنّ المجتمع المدني “مثالي” وأنّه لم يشهد إخلالات خطيرة في بعض الأحيان وقد تمّ في هذا السياق حلّ جمعيّات واتخاذ إجراءات أخرى ضدّ منظمات أخرى.

تفيد دراسة “واقع المجتمع المدني في تونس” أنّه تمّ، بحسب بعض المصادر، الوقوف على وجود 4 جمعيّات خيرية جرى تكييفها على أنها “مشبوهة” من قبل الكتابة العامة للحكومة. وقد تحصّلت خلال الفترة الممتدّة من 2012 إلى 2019 على مبلغ قدره 27,7 مليون دينار، وتواصل حصولها على تمويلات أجنبية قدرها 23,9 مليون دينار رغم شروع الكتابة العامّة للحكومة في إجراءات تسليط العقوبات القضائيّة عليها، ممّا من شأنه أن ينجرّ عنه تنامي مخاطر استعمال التمويل الأجنبي للجمعيّات في أنشطة غير شرعيّة.

وتولّى أيضا الكاتب العامّ للحكومة طلب تعليق نشاط 439 جمعيّة منها 251 جمعيّة ذات نشاط مشتبه في ارتباطه بالإرهاب وغسل الأموال. كما طلب حلّ 197 جمعيّة خيريّة بسبب تماديها في مخالفة الفصلين 3 و4 من المرسوم عدد 88.

في السياق ذاته، أعلن الكاتب العام للجنة التحاليل الماليّة في البنك المركزي أنّ القضاء قام بحلّ 47 جمعيّة تورّطت في تلقّي تمويلات أجنبية مشبوهة، مبيّنا أنّ قيمة الأموال المجمّدة من العملات التونسية والأجنبية في شبهات غسل الأموال بلغت نصف مليار دينار، وفق ما جاء في الدراسة ذاتها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد الجمعيّات التي تمّ إدراجها بالقائمة الوطنية للأشخاص والتنظيمات والكيانات المرتبطة بجرائم الإرهاب لم تتجاوز الاثنتين، الجمعية القرآنية ابن عمر في منطقة الرقاب من ولاية سيدي بوزيد، وجمعيّة الإيمان في منطقة طبرقة من ولاية جندوبة.
وتمّ إدراج شخصين، أحدهما بصفته ممثلّا قانونيّا لجمعية اليقين لتعليم القرآن الكريم، والآخر له شبهة استعمال جمعية لأغراض تمويل شباب في في عمليّات إرهابية.

تبرز نفس الدراسة أنّه في 2014 صدرت عن خليّة الأزمة التي تكوّنت في عهد حكومة مهدي جمعة قرارات بحلّ 150 جمعيّة بدعوى مساندتها للإرهاب. وفي مرحلة ثانية، تمّ اتخاذ إجراءات قضائية لحلّ عشرات الجمعيّات.

رغم ذلك، لم تقم الدولة التونسية باتخاذ التدابير اللازمة لإنشاء قاعدة بيانات للجمعيّات النشطة في البلاد خصوصا وأن بعض الناشطين في المجتمع المدني صرّحوا بوجود جمعيّات نشطة غير مسجّلة ونشاطاتها مريبة.

في الإطار ذاته، تكشف محكمة المحاسبات في تقريرها السنوي العام الثاني والثلاثين، عن عدم توفّر معطيات شاملة ودقيقة حول حجم التمويلات الأجنبيّة التي استفادت منها الجمعيّات، مرجعة ذلك إلى ضعف متابعة برامج التعاون الدولي من قبل وزارة الشؤون الخارجية والوزارة المكلّفة بالتعاون الدولي ومحدودية التنسيق بينهما.

وأفادت أنّ 566 جمعيّة لم تلتزم بإعلام الكتابة العامة للحكومة بتلقّيها تمويلات أجنبية المصدر ونشر التفاصيل المتعلّقة بها بإحدى وسائل الإعلام. كما لم تتلقّ الكتابة العامة للحكومة تقارير مراقبي الحسابات لما عدده تباعا 84 و88 جمعيّة من بين 93 و90 جمعيّة ثبت لمحكمة المحاسبات تجاوز تمويلاتها الأجنبيّة 100 ألف دينار خلال سنتي 2017 و2018.

يقول الناشط المدني أمين الغالي إنّ اللجنة الوطنيّة لمكافحة الإرهاب علّقت إلى اليوم نشاط أو جمّدت أرصدة 4 جمعيّات فقط من جملة آلاف الجمعيّات وهذا عدد ضعيف جدّا، مشيرا إلى أنّ تصريح الكاتبة العامة لرئاسة الحكومة في نوفمبر/ تشرين الثاني في البرلمان حول غلق أو حلّ 180 جمعيّة يعني أنّ هناك آليّات في الدولة ومؤسساتها وقوانينها لمتابعة الجمعيّات المخالفة ومعاقبتها وتعليق نشاطها فلا توجد بالتالي حاجة إلى قوانين جديدة وصفها بـ”القمعيّة والتسلّطية”.

يعتمد الخطاب المشيطن للمجتمع المدني في جزء كبير على الإخلالات التي قامت بها بعض الجمعيّات، إلّا أنّ هذه الأخيرة لا تمثّل في الحقيقة إلّا جزءا بسيطا من مكوّنات المجتمع المدني ولا تعكس المجهودات التي تبذلها غالبيّة المنظمات لتحقيق أهدافها ومشاريعها والقيام بدورها في النهوض بالمجتمع والدفاع عن بناء مجتمع ديمقراطي منفتح مؤمن بحقوق الإنسان وحفظ كرامة المواطنين.ـات ومكافحة الفساد ومحاسبة الدولة.

وقفة احتجاجية لأهالي قفصة الشمالية احتجاجا على تواصل استنزاف الماء على هامش زيارة ميدانية قام بها المرصد التونسي للمياه

وقفة احتجاجية لأهالي قفصة الشمالية احتجاجا على تواصل استنزاف الماء على هامش زيارة ميدانية قام بها المرصد التونسي للمياه

تقول الكاتبة العامّة لجمعيّة المدنية دلال المحرزي، بتأثّر تعجز عن إخفائه لدى ردّها على سؤال حول حملات الشيطنة التي يتعرّض لها المجتمع المدني:

“أتمنّى لو أنّ الناس الذين يقومون بشيطنة عملنا يرافقوننا إلى الميدان لينظروا عن قرب للعمل الجبّار الذي تقوم به عديد الجمعيّات. من المعيب أن يقع وضع المجتمع المدني في سلّة واحدة و شيطنته”.

تتحمّل الدولة التونسية مسؤوليّة ممارسة الرقابة على الجمعيّات والمنظّمات غير الربحيّة. وتوفّر لها جملة القوانين والتشريعات الموجودة كلّ الآليات لممارسة هذه الرقابة واتخاذ الإجراءات العقابيّة تجاه المنظّمات المخالفة، بدءا من التنبيه وصولا إلى الحلّ.

وتوصي دراسة “واقع المجتمع المدني في تونس” الحكومة التونسيّة بضرورة وضع نصوص ترتيبيّة واضحة تمكّن الهياكل المتداخلة من تنفيذ أحكام المرسوم 88 حتّى لا يقع المساس واقعيّا بصيغته التحرّرية، فضلا عن ضرورة تفعيل صلاحيّات الإدارة العامّة للجمعيّات وتعزيزها بفريق يختصّ في الشؤون القانونية والنزاعات حتّى يتسنّى له تلقّي ما ترصده إدارة الجمعيّات من مخالفات.

تتحمّل منظّمات المجتمع المدني بدورها مسؤوليّة تفادي ارتكاب المخالفات مهما بلغت درجة خطورتها. وعليها الالتزام بتقديم قائماتها المحاسبيّة والنشر والإعلام بالتمويلات الأجنبيّة التي تتلقّاها. ويتعيّن على الجمعيّات، وفق الدراسة المذكورة، العمل على تنوّع مصادر التمويل لضمان استقلاليّتها وعدم ارتباط وجودها بمموّل دون آخر والعمل على ديمومة عملها بتوفير الموارد الماليّة من مصادر تمويل متعدّدة تضمن استدامة هذه الأخيرة بما في ذلك ممارسة أنشطة مولّدة للدخل.

ويتعيّن أيضا على الجمعيّات والمنظّمات غير الربحيّة أن تلتزم بالشفافية وتنشر البيانات حول التمويلات الأجنبية وكيفيّة صرف هذه الأموال، وأن تحرص على تنفيذ المشاريع التي تتعهّد بها إزاء حصولها على التمويلات حتّى تكون لها فاعليّة في المجتمع.

كما ينبغي أن تعمل على ترسيخ بيئة مجتمعيّة تحترم الاختلاف والتنوع وحرّية الاعتقاد والرأي الآخر وتلتزم بالديمقراطية صلبها ونبذ عقلية الانغلاق والتّحريم.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من المحاولات العديدة لهيئة التحرير في موقع الكتيبة التواصل مع مسؤولين رسميين في الدولة للاستيضاح حول مشروع القانون الذي يهدف إلى إلغاء المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم لعمل الجمعيات، إلاّ أنّنا لم نتلق أي ردّ أو تعليق.

كلمة الكتيبة:
على الرغم من المحاولات العديدة لهيئة التحرير في موقع الكتيبة التواصل مع مسؤولين رسميين في الدولة للاستيضاح حول مشروع القانون الذي يهدف إلى إلغاء المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم لعمل الجمعيات، إلاّ أنّنا لم نتلق أي ردّ أو تعليق.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
تصوير : سامي شويّخ
مونتاج:محمد علي منصالي
غرافيك: محمد معتز نجيم (متدرّب)
مونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: محمد معتز نجيم (متدرّب)
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
فيديو : سامي شويّخ

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

rahma