الكاتبة : راضية الشرعبي
صحفية وباحثة في مجال الصحافة الاستقصائية. خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة.
يعود “المكّي”، ذو 55 سنة، وهو متخصّص في أعمال التّرميم، بعد فترة الغداء إلى عمله وقد علقت بثيابه بقايا الأغبرة والدّهانات. يصعد فوق “السّرير المعدّ للبناء”، يمسك مجرفة صغيرة ويواصل تقشير الدّهانات القديمة بالمنزل لإعادة صيانته ودهنه من جديد.
تتطاير رقائق الطّلاء في كل اتّجاه، يتسابق حوله 3 فتية، أبناء صاحب المنزل، في جمع الرّقائق المتناثرة صحبة الأربعيني نبيل بالطّيب داخل الأكياس. لا أحد منهم يلبس قناعا واقيا. يقول نبيل “لم أفكّر يوما في زيارة الطبيب. ولم أرتدِ قناعا إلا عندما بدأت أشعر ببعض المشاكل في التّنفس وآلام على مستوى الصّدر ليلا، حينها أدركت أهمّيته، بعض العاملين في قطاع الدّهانات يلبسون أحيانا قناعات واقية والبعض الآخر لا يلتزم بها، أعلم أنها مواد كيميائية قويّة وقاتلة أحيانا”.
يسلّط هذا التّحقيق الضوء على الآثار الناجمة عن تعطّل إصدار مشروع القرار المنظّم لاستخدام الرّصاص في الطّلاء بسبب اعتراض غرفة الطّلاء باتّحاد الصّناعة والتّجارة وتخاذل وزارتي الصّناعة والبيئة وغياب دراسة علميّة حول مدى تعرّض السّكّان والأطفال للرّصاص ما ينجرّ عنه مشاكل صحّية لدى الأطفال والنّساء الحوامل وتلوّث بيئي.
الكاتبة : راضية الشرعبي
صحفية وباحثة في مجال الصحافة الاستقصائية. خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة.
يعود “المكّي”، ذو 55 سنة، وهو متخصّص في أعمال التّرميم، بعد فترة الغداء إلى عمله وقد علقت بثيابه بقايا الأغبرة والدّهانات. يصعد فوق “السّرير المعدّ للبناء”، يمسك مجرفة صغيرة ويواصل تقشير الدّهانات القديمة بالمنزل لإعادة صيانته ودهنه من جديد.
تتطاير رقائق الطّلاء في كل اتّجاه، يتسابق حوله 3 فتية، أبناء صاحب المنزل، في جمع الرّقائق المتناثرة صحبة الأربعيني نبيل بالطّيب داخل الأكياس. لا أحد منهم يلبس قناعا واقيا. يقول نبيل “لم أفكّر يوما في زيارة الطبيب. ولم أرتدِ قناعا إلا عندما بدأت أشعر ببعض المشاكل في التّنفس وآلام على مستوى الصّدر ليلا، حينها أدركت أهمّيته، بعض العاملين في قطاع الدّهانات يلبسون أحيانا قناعات واقية والبعض الآخر لا يلتزم بها، أعلم أنها مواد كيميائية قويّة وقاتلة أحيانا”.
يسلّط هذا التّحقيق الضوء على الآثار الناجمة عن تعطّل إصدار مشروع القرار المنظّم لاستخدام الرّصاص في الطّلاء بسبب اعتراض غرفة الطّلاء باتّحاد الصّناعة والتّجارة وتخاذل وزارتي الصّناعة والبيئة وغياب دراسة علميّة حول مدى تعرّض السّكّان والأطفال للرّصاص ما ينجرّ عنه مشاكل صحّية لدى الأطفال والنّساء الحوامل وتلوّث بيئي.
تنقّلنا إلى العديد من حضائر البناء والدّهان وعاينّا عدم التزام عمّال الدّهانات بإجراءات السّلامة الفرديّة أو الجماعيّة. ونفى الجميع قيامهم بالمراقبة الصحّية الدّوريّة، أو بأي تحاليل وكشوفات طبيّة في علاقة بنشاطهم في الدّهان.
وأكّد البعض منهم ارتدائه القناع الواقي في بعض الأحيان فقط لتجنّب رائحة الدّهانات أو الأغبرة غير واعين بالآثار الصّحّيّة للطّلاء المحتوي على الرّصاص وغيرها من المذيبات العضويّة. سألنا أيضا عن خطورة الدّهانات على الأطفال من حولهم ليتبيّن أنّ لا أحد يعلم سوى أنّ “لها رائحة قويّة ومزعجة”.
الدّهانات هي منتجات استهلاكيّة يوميّة تستخدم من قبل الأفراد والمهنيين. والطّلاء هو خليط مركّب من الراتنجات والأصباغ والموادّ المالئة والمذيبات والموادّ المضافة الأخرى. تباع الدّهانات الرصاصيّة والدّهانات المذيبة في الأسواق وتستخدم في المنازل دون معرفة كافية بالمخاطر التي تنطوي عليها المذيبات والأصباغ التي تحتوي على الرّصاص.
وصفت منظّمة الصّحّة العالميّة الرّصاص بالمعدن السّام. وصنّفت تونس التعرّض للرّصاص ضمن قائمة الأمراض المهنيّة بمقتضى قرار صادر من وزيري الشؤون الاجتماعية والصّحّة مؤرّخ في 29 مارس 2018. إذ يؤدي الطّلاء المحتوي على إضافات الرّصاص إلى التّسمّم، وخاصّة عندما يتدهور ويستنشقه الأطفال من خلال الغبار ورقائق الطّلاء أو التربة الملوّثة.
قامت عدّة دول بحظر الطّلاء المحتوي على الرّصاص وعملت الشّبكة الدّوليّة للقضاء على الملوّثات السّامة على وقف انتشاره. ومع ذلك وثّق “التّقرير العالمي عن الرّصاص في الدّهانات القائمة على المذييبات للإستخدام المنزلي” نشر سنة 2017 أنّ الطّلاء المحتوي على الرّصاص مازال يباع في البلدان النّامية ومنها تونس التي اعتبرت نقطة ساخنة، حيث تجاوزت 70% من كمّية الطلاء محلّ الدراسة المعايير الدوليّة بكثير.
وأشار التّقرير إلى أن مندوب من الحكومة التّونسيّة التزم بالتعاون من أجل التخلّص التدريجي من استخدام الرّصاص في الدّهانات بحلول عام 2020 واعتماد حدًا إجماليًا للرّصاص يبلغ 90 جزءًا في المليون لجميع الدّهانات. اثر مشاركته في ورش عمل بناء القدرات التي رعتها الأمم المتّحدة للبيئة في عامي 2015 و2016.
إلى حدود 16 جانفي 2024، وبحسب منظّمة الصّحّة العالميّة، صادقت 49% من دول العالم على قوانين منظّمة تضبط الحدود القصوى لمادّة الرّصاص في إنتاج الدّهانات وتحظر تصنيع وبيع واستيراد الدّهانات التي تحتوي على أكثر من 90 جزءا في المليون من الرّصاص، منها 7 دول على المستوى الإفريقي نذكر منها دولة الجزائر.
معدن سامّ وآثار صحّيّة فتّاكة
يحتوي الطّلاء على الرّصاص بسبب قيام الجهة المصنّعة، وبشكل مقصود، بإضافة مركّب واحد أو أكثر من مركّبات الرّصاص إلى الطّلاء كأصبغة لإعطاء الطّلاء لونا وحمايته من التآكل النّاجم عن التّعرّض لأشعّة الشّمس.
بدأ العمل على سنّ تشريع خاصّ بالطّلاء المحتوي على الملوّثات السّامة ومنها الرّصاص في تونس منذ سنة 2013 من قبل المجتمع المدني ووزارتي الصحّة والبيئة. وبدأ مشروع قانون منظّم للقطاع يتبلور منذ سنة 2018 إلى أن تمّت صياغة مسودّة الأمر الترتيبي سنة 2021 بمبادرة من وزارتي البيئة والصحّة بالتّشاور مع جمعيّة التّربية البيئيّة للأجيال القادمة والشبكة الدّولية للقضاء على الملوثات السّامّة “IPEN”.
ونظرا للوضع الصّحّي الخطير المرتبط بكمّيات الرّصاص في الطّلاء، انطلقت فعليّا ورشات مناقشة المسودّة إثر تحاليل قامت بها الجمعيّة تحت إشراف برنامج الأمم المتّحدة للبيئة شملت عيّنات من الطّلاء من بلدان عدّة، تناولت 30 عيّنة من تونس من أنواع مختلفة، أظهرت أن 75% من عيّنات الطّلاء سُجّلت فيها نسبة رصاص عالية جدّا تجاوزت المعدّلات العادية المحدّدة بـ 90 ألف جزء من المليون وبلغت حتى 170.000 جزء من المليون.
قالت رئيسة جمعيّة التّربية البيئيّة للأجيال القادمة سامية الغربي، إنّه، وفي إطار الحملة العالميّة للقضاء على الرّصاص في الطّلاء، تمّ قطع كل المراحل في انتظار سنّ القرار الخاصّ بتنظيم نسبة الرّصاص في الطّلاء، والذي يهدف وفق ما جاء في الفصل الأول من مسودّة المشروع إلى الوقاية والحدّ من المخاطر الصحّية والبيئيّة للأدهان المحتوية على مواد كيميائيّة خطرة من خلال ضبط حدود قصوى للرّصاص والكادميوم ومركّباتهما ولبعض المذيبات العضوية في الأدهان المصنّعة والمورّدة والموزّعة بالسّوق الدّاخلية.
وأقرّت سامية الغربي في لقائها مع موقع الكتيبة، أنّ الإشكاليّة تبقى على مستوى وزارة البيئة وأشارت إلى أنّ جميع الأطراف كانوا ممثّلين في الورشات الخاصّة بمناقشة مسودّة القرار ومنها غرفة الطّلاء.
الدّكتورة جيهان حسينات، الأخصائية في طبّ الشّغل بمستشفى الرّابطة، شدّدت من جهتها على أنّ:
مستوى امتصاص الرّصاص لدى الأطفال أعلى بكثير من البالغين ويؤثّر على مستوى التركيز مع فرط النّشاط واضطرابات في التعلّم.
وأشارت إلى تأثيراته الصّحيّة على الإنجاب وخاصّة في زيادة العقم والإجهاض وزيادة الوفيّات في فترات متفرّقة من الحمل بسبب تسرّب الرّصاص إلى الجنين عبر المشيمة ما يؤدّي إلى انخفاض وزنه وتلف الكلى والجهاز العصبي.
وكشفت الدكتورة جيهان حسينات أنّ 1% من التّونسيين يتعرّضون الى التّسمم بالرّصاص في الوسط المهني، داعية إلى ضرورة الوعي بمخاطر التعرّض للرّصاص وإلى أخذ كل السّبل الكفيلة بالوقاية الفرديّة في الوسط المهني والوقاية الجماعيّة عبر استبدال الرّصاص وإدارة النّفايات المجمّعة وسنّ قوانين منظّمة وفرض متوسّط التركيزات المسموح بها ومنع استخدام المواد الخطرة مثل كبريتات الرّصاص في أعمال الدّهانات.
يقرّ رئيس منظّمة إرشاد المستهلك لطفي الرّياحي في لقائه مع موقع الكتيبة، أنّ “المماطلة في إصدار القرار الخاصّ بالطّلاء تأتي بالأساس من عديد الصّناعيين والمهنيين” وبعد أكثر من عشر سنوات من المجهود الوطني والجمعياتي من أجل أن يرى القرار النّور، لا يزال الخطر يهدّد الأطفال والنّساء الحوامل وجميع السّكّان. “وقد حرموا حتى من حقّهم في التعرّف على قائمة المكوّنات الموجودة على علب الطّلاء وحقّهم في الاختيار وحماية أنفسهم”، وفق قوله.
ويطالب الرّياحي بضرورة ذكر مكوّنات الطّلاء المروّج في الأسواق، وهو “الخيار الوحيد الذي بقي للمواطن لحماية نفسه والوقاية والحدّ من تأثيرات الرّصاص على صحّته”، حسب تعبيره.
تحصّلت معدّة التحقيق على نسخة من التّقرير الخاصّ بالتّحاليل التي قامت بها الوكالة الوطنيّة لمراقبة المنتجات الصحّية والبيئية، والذي كشف وفق تحاليل قامت بها الوكالة في مخابرها على 12 علامة تجاريّة موجودة بالأسواق، أنّ 52 عيّنة من الطّلاء الزيتي من جملة 70 عيّنة من الدّهان الزيتي المروّج في السّوق التّونسية غير مطابقة للمواصفات وتحتوي على نسب عالية من الرّصاص.
وجاء في التّقرير الذي تحصّلت عليه بموجب مطلب نفاذ إلى المعلومة، بعد إلزام وكالة مراقبة المنتجات الصحّية والبيئيّة من طرف هيئة النّفاذ إلى المعلومة بتسليم التّقرير الخاصّ بتلك التّحاليل، أنّ علامتين تجاريّتين فقط تحترمان المعايير الدّولية المتعلّقة بمحتوى الرّصاص (90 جزءا في المليون) في الدّهانات الزيتيّة، وأنّ 74 % من جملة العيّنات المأخوذة لا تمتثل لهذه المعايير.
وبيّنت التّحاليل أنّ اللونين الأصفر والأخضر يحتويان على أعلى مستويات رصاص، يصل إلى 274 مرّة مقارنة بالمعايير المرجعيّة الدّوليّة. فقد سجّل اللّون الأصفر وجود نسبة رصاص تقدّر بـ 26 ألف جزء في المليون ( 25930 ملغ/ كغ).
تجدر الإشارة إلى أنّ 10 عيّنات تتعلّق بأربع علامات تجاريّة تتجاوز الحدود المرجعيّة للمركّبات العضوية المتطايرة. فضلا عن عدم ذكر التّركيبة على الملصق، خاصّة بالنسبة الى المركّبات العضوية المتطايرة.
كلّ هذه الحقائق تمّ توثيقها وعرضها في ورشة العمل التي عقدت بتاريخ 23 نوفمبر 2021 تحت عنوان”ورشة عمل حول مشروع النصّ التنظيمي للحدّ والقضاء على الملوّثات في الطّلاء في تونس”، بحضور جميع الأطراف المتداخلة في الموضوع. وتبعا لتوصيات الورشة تمّ يوم 4 أفريل 2022 دعوة جميع الأطراف إلى مناقشة النسخة المحيّنة من مشروع القرار المتعلّق بضبط الحدود القصوى للرّصاص والكادميوم ومركّباتهما وبعض المذيبات العضوية في الأدهان المصنّعة والمورّدة والموزّعة بالسّوق الدّاخلية. ومع ذلك، لم يتغيّر شيء.
وكانت وزيرة البيئة السّابقة، ليلى الشيخاوي، قد أكّدت في افتتاح الورشة، أنّ “رؤية الوزارة في ما يهمّ القضاء على الملوّثات السّامة في الطّلاء تتناغم مع أهداف التّنمية المستدامة للأمم المتّحدة، والتي تدعو إلى “الحدّ بدرجة كبيرة من عدد الوفيّات والأمراض النّاجمة عن التعرّض للمواد الكيميائيّة الخطرة وتلويث وتلوّث الهواء والتربة”، و”تحقيق إدارة سليمة بيئيّا للمواد الكيميائيّة والنّفايات طوال دورة عمرها بحلول عام 2030 “.
وتعليقا على هذه النتائج، قال مدير الرّقابة البيئيّة للمنتجات بالوكالة الوطنيّة لمراقبة المنتجات الصحّية والبيئيّة محمد وسيم الهاني لمعدّة التحقيق:
هناك شركات في تونس تعتمد المعايير الدّولية, ومشروع القانون جاهز، فقد صادقت عليه وزارتا البيئة والصحّة في حين يطالب الصناعيون بفترة إمهال ولم يتبقّ سوى إصدار مشروع القرار.
بالرّجوع إلى الأطر التّنظيميّة الدّولية المتعلّقة بوجود الرّصاص في الدّهانات، توجد اختلافات بين تلك التي تمنعه تماما وتلك التي تحدّ من استخدامه مثلما أشار الى ذلك تقرير الوكالة الوطنيّة لمراقبة المنتجات الصحّيّة والبيئيّة. على سبيل المثال، تفرض وزارة الصحّة الكنديّة قيودًا صارمة على محتوى الرّصاص في المنتجات المنظّمة، بما في ذلك الدّهانات الاستهلاكيّة والطّلاءات الأخرى، إذ يجب ألا يتجاوز محتوى الرّصاص 90 ملغ/ كغ.
وفقًا للوائح “ريتش REACH” الصّادرة عن المفوّضيّة الأوروبيّة، تم فرض قيود على استخدام الرّصاص في بعض المنتجات الاستهلاكيّة. تنصّ هذه القيود على أنه لا يمكن بيع أو استخدام هذه المنتجات إذا كان تركيز الرّصاص فيها يساوي أو يزيد عن 0.05% من وزنها (أي 500 ملغ/كغ)، خاصّة إذا كان من الممكن أن يضعها الأطفال في أفواههم في ظل الظروف العادية أو المتوقعة.
كشف تقرير صادر عن منظّمة الأمم المتّحدة للطّفولة “اليونيسيف”، وهو الأوّل من نوعه، أنّ ما يصل إلى 800 مليون طفل في العالم يعانون من مستويات الرّصاص في الدّم ، تبلغ 5 ميكروغرامات أو أكثر لكلّ عشر لترات.
رغم أنّه لا تظهر سوى أعراض قليلة مبكّرة للتّسمّم بالرّصاص إلا أنّه يحدث خرابا على نحو صامت بصحة الأطفال ونموّهم وقد يؤدّي إلى تبعات فتاكة.
المديرة التنفيذية لليونيسيف هنريتا فورانه
يشير التقرير ذاته «الحقيقة السّامة: تعرّض الأطفال لتلوث الرّصاص يقوّض جيلاً من الإمكانات» إلى أنّ الرّصاص مادّة سمّية قوية تؤثّر على الجهاز العصبيّ وتتسبّب بأذى لا يمكن إصلاحه لأدمغة الأطفال. وهو مدمّر بصفة خاصّة للرضّع والأطفال دون سنّ الخامسة، إذ يُلحق الضّرر بأدمغتهم قبل أن تتاح لها الفرصة لتتطوّر تطوراً كاملاً، ما يؤدّي إلى إعاقات عصبيّة وادراكيّة وبدنيّة تستمرّ مدى الحياة.
ويبرز تّقرير “اليونيسيف” علاقة التعرّض للتّلوث بالرّصاص في الطّفولة بالمشاكل السلوكيّة والمشاكل ذات العلاقة بالصّحة العقليّة، وارتفاع معدّلات الجرائم والعنف. ويعاني الأطفال الأكبر سنّا من تبعات شديدة بما في ذلك زيادة خطر تضرّر الكلى وأمراض القلب في مرحلة لاحقة من الحياة.
ويعرف مرض التسمّم بالرّصاص باسم ” الساتوريزم Saturisme ” . إذ يدخل الرّصاص إلى الجسم، لينتشر في أعضاء مثل الدّماغ والكلى والكبد والعظام، ويتمّ تخزينه في الأسنان والعظام، حيث يتراكم مع مرور الوقت وهو ما يزيد من خطر انتقاله إلى الدّم.
من ناحية أخرى، شدّد التقرير العالمي للقضاء على الرّصاص في الطّلاء على أنه كلّما كان الطفل أصغر سناً، كلما كان الرّصاص أكثر ضررا، وأنّ الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية يمتصّون الرّصاص المبتلع بمعدّل متزايد، لأنّ الجسم يمتصّ المزيد منه عندما يكون هناك نقص في العناصر الغذائية مثل الكالسيوم.
يمتصّ الأطفال الرصاص بنسبة 4 إلى 5 مرات أكثر من البالغين. وقد أوضح التقرير العالمي للقضاء على الرصاص أنّ “حتى الكميات الصّغيرة من الرّصاص يمكن أن تضرّ الجهاز العصبي للطفل، ممّا يزيد من احتماليّة مواجهته لمشاكل تعلّمية في المدرسة”.
إذا تعرّض الدّماغ والجهاز العصبي المركزي للطّفل للرّصاص بمستويات عالية، فيمكن أن يتضرّرا تضرّرا شديدا ما يسبّب الغيبوبة والتشنّجات بل حتى الوفاة. وقد يُصاب الأطفال النّاجون من التسمّم الشّديد بالرّصاص بإعاقة ذهنيّة واضطرابات في السّلوك بصفة دائمة.
منظمة الصحّة العالميّة
أعدّ معهد السلامة والصّحّة المهنيّة، بدوره، دليلا علميّا للاستئناس به من طرف أطبّاء التّشغيل لتلافي التعرّض إلى الرّصاص وعواقبه الصّحيّة الوخيمة. وكانت منسّقة إدارة الصّحة بالمعهد الدّكتورة سنية الفهري قد صرّحت لمعدّة التحقيق أنّ عنصر الرّصاص قد يسبّب السّرطان.
كارثة وتهديد بيئي
يجرّ نبيل بن الطّيب أكياس رقائق الطّلاء إلى خارج البناية حيث يساعد السّائق على حملها إلى الشّاحنة، والذي صرّح لمعدّة التحقيق أنه يقوم بالتخلّص منها إمّا ببيعها لمن يطلبها ويستعملها في التبليط أو بالتخلّص منها برميها في الأراضي البعيدة أو على ضفاف مصبّات الأنهار.
أدّى استخدام الرّصاص على نطاق واسع، وهو معدن سامّ موجود بشكل طبيعي في القشرة الأرضيّة، إلى تلوّث بيئي واسع النّطاق. وقد حدّدت منظّمة الصّحّة العالميّة الرّصاص باعتباره أحد المواد الكيميائيّة العشر التي تثير قلقًا كبيرًا على الصحّة العامة.
ويعتبر الرّصاص المنطلق في البيئة من أي مصدر، بما في ذلك الطّلاء المحتوي على الرصاص، سامّا لا فقط للصحّة العامّة للإنسان بل وأيضًا للنّباتات والحيوانات والكائنات الحيّة الدقيقة.
فقد ثبت، في كلّ الحيوانات التي تمّت دراستها، أنّ الرّصاص يسبّب آثارًا ضارّة على العديد من الأعضاء وأجهزة الجسم، بما في ذلك الدّم والجهاز العصبي المركزي والكلى والجهاز التّناسلي والجهاز المناعي.
فهو يتراكم بيولوجيًا في معظم الكائنات الحيّة. ونظرًا لكونه مادّة سامة بيئيًا فهو يشكّل أيضا تهديدًا لكلّ النّظم البيئية البرّية. إذ يؤثّر في مجموعة متنوّعة من الطّيور ويشكّل تهديدًا للتّنوع البيولوجي. وتقود كلّ من الاتّفاقية الدّولية للحفاظ على الطّيور المهاجرة ” CMS” واتفاقية الحفاظ على الطّيور المائيّة الأفريقيّة والأوراسيّة المهاجرة ” َُAEWA ” الجهود الدّولية لمعالجة تهديد التسمم بالرّصاص.
فيما أظهرت الدّراسات أنّ الغابات تعمل كمغاسل للجسيمات الجوّية، فبعد أن يترسّب الرّصاص الجوّي على أوراق الشجر ينتقل إلى التّربة عبر مياه الأمطار أو مع سقوط فضلات الأوراق. ونتيجة لذلك، فإنّ الكائنات الحيّة في النظام البيئي للغابات يمكن أن تتعرّض إلى تركيزات عالية من الرّصاص بشكل خاصّ.
كما تبيّن أنّ النّظم البيئيّة المائيّة، بما في ذلك النباتات المائيّة واللافقاريات والأسماك، تحتوي على الرّصاص عند وجودها في المياه الملوّثة. على سبيل المثال، يمكن أن يكون للرّصاص تأثيرات دمويّة وسميّة عصبيّة على الأسماك ويمكن أن يعطّل وظيفة الإنزيم، ما يقلّل من البقاء على قيد الحياة على المدى الطّويل وعلى دورة التّناسل.
ووفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يتمّ إطلاق الرّصاص من مصادر طبيعيّة وبشريّة مختلفة الى الغلاف الجوّي والبيئات المائيّة والبرّيّة ويمكن أن يتنقّل بسهولة عبر الهواء والماء والتربة ويؤثّر على النّظم. كما أنّه مادّة سامّة ينتقل إلى المواد الغذائيّة عبر السّلاسل الغذائيّة ويهدّد صحّة المخلوقات الحيّة في البحر والنّهر والبرّ.
فضلا عن كلّ هذا، تعتبر فضلات الدّهانات بجميع أنواعها نفايات خطرة وينطبق عليها قانون النّفايات الخطرة، وهو ما أوضحه المدير بالإدارة العامّة للبيئة وجودة الحياة بوزارة البيئة يوسف الزّيدي في لقائه مع معدّة التحقيق.
عبء اقتصادي واجتماعي وسط غياب دراسات للسّمّية
لمعرفة مدى انتشار التّسمّم بالرّصاص لدى السّكّان عامّة والأطفال والنّساء الحوامل خاصّة ولفهم الدّمار الذي يلحقه بالأفراد والمجتمعات، لا بدّ من وجود دراسات سمّية تبرز مدى تشريب السّكّان أو بعض الفئات للرّصاص في الجسم. ولكنّ في تونس تغيب مثل هذه الدّراسات. إذ لا يوجد إلى حدّ الآن أيّ دراسة مماثلة تحدّد مدى الضّررالصّحّي والاجتماعي والاقتصادي المتسبّب فيه وجود الرّصاص خاصّة في الدّهان. ومع ذلك، فقد ثبت الآن ممّا لا يدع مجالا للشّكّ أنّ الرّصاص سامّ للأطفال والنّساء الحوامل والبالغين حتّى عند التركيزات المنخفضة. ولا يمكن تشخيص التّسمّم به إلاّ من خلال اختبار الرّصاص بالدّم.
أشارت دراسة تحليلية للتّكاليف الاقتصادية للتعرض للرّصاص في مرحلة الطّفولة أجرتها جامعة نيويورك إلى أنّ التعرّض للرّصاص يساهم في الإعاقة الذهنية بما يعني تكلفة وخسائر اقتصاديّة تستنفذ 3.65% من النّاتج المحلّي الإجمالي في تونس.
يتمثّل أحد تأثيرات الرّصاص في انخفاض حاصل الذّكاء (IQ) وما يسبّبه من تراجع لفرص النّجاح والكسب مدى الحياة. وقد أثّر التّعرّض للرّصاص بالفعل في حياة العديد من الأطفال حول العالم وستستمرّ تأثيراته على العديد من الأطفال الآخرين ما لم تصبح تدابير الوقاية من التعرّض للرّصاص أولويّة.
تعليقا على هذه الارقام ولمعرفة الإجراءات التي تقوم بها وزارة الصحّة لتتبّع مثل هذه المنتجات، قال مدير الرّقابة البيئيّة للمنتجات بالوكالة الوطنية لمراقبة المنتجات الصّحيّة والبيئيّة محمد وسيم الهاني إنّ :
الأرقام المنشورة حول تونس تبقى مجرّد تقديرات نظرا إلى غياب دراسة علميّة بحثيّة خاصّة بتونس تقيّم مدى تعرّض السّكان وخاصّة الأطفال للرّصاص وتأثيرات ذلك على التّنمية.
وأضاف أنّه لا توجد دراسات للسّمّية لتقييم تشريب الأطفال بالرّصاص معتبرا أنّ إنجاز مثل هذه الدّراسات قد تأخّر كثيرا.
يفقد الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 5 سنوات 765 مليون نقطة (95% CI 443-1098) من نقاط معدّل الذكاء بحسب دراسة أجراها البنك الدّولي ونُشرت في مجلة لانسيت بلانيتاري هيلث تحت عنوان “العبء الصّحّي العالمي وتكلفة التعرّض للرّصاص لدى الأطفال والبالغين”.
وبيّنت الدّراسة أيضا أن 5.5 مليون بالغ ماتوا بسبب أمراض القلب والأوعية الدمويّة في عام 2019 بسبب التعرّض للرّصاص، وانّ 95% من إجمالي الخسارة العالميّة في معدّل الذّكاء و90% من إجمالي الوفيّات النّاجمة عن أمراض القلب والأوعية الدّموية بسبب التعرّض للرّصاص حدثت في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدّخل.
قُدّرت التّكلفة العالميّة للتعرّض للرّصاص بـ 6 تريليون دولار أمريكي في عام 2019 (6-9% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي).
دراسة العبء الصّحّي العالمي وتكلفة التعرّض للرّصاص لدى الأطفال والبالغين
وقطعت دول عدّة مراحل متقدّمة في محاربتها للرّصاص في البيئة القريبة من الأطفال مثل دور الحضانة والمدارس إذ قامت مدينة باريس الفرنسية بتدابير اضافية مواصلة منها لتعزيز فحوصات التّسمّم بالرّصاص عبر إجراءات الاتّصال والإبلاغ أو عبر التّحقّق من خلوّ مؤسّسات الطّفولة من وجود الرّصاص.
في الأثناء، يظلّ مشروع القرار الذي عُرض على النّقاش منذ سنة 2021، وهو مشروع يتعلّق بالحدّ من الطّلاء المصنّع والمورّد والموزّع في السّوق التّونسية المحتوي على الرّصاص والكادميوم والمذيبات العضويّة، بنزان وتولويان والقضاء عليه، والذي حدّد نسب الرّصاص في حدود 90 ميليغرام للكيلوغرام الواحد، حبيس الأدراج منذ ذلك الحين رغم ضغط المجتمع المدني والتذكير السّنوي للأمم المتّحدة عبر الاسبوع العالمي للتّخلص من الرّصاص في شهر أكتوبر من كلّ سنة.
وبعد قطع هذه الأشواط في تقنين مستوى تركيز مادة الرّصاص في الدّهانات المروّجة في تونس، كان لا بدّ من البحث في أسباب هذا التّعطيل.
وعن مصير مسودّة القرار قال المدير بالإدارة العامّة للبيئة وجودة الحياة بوزارة البيئة، يوسف الزيدي إنّه “بعد إعداد مشروع نصّ قانوني يعنى بتقنين ومنع استعمال هذا النّوع من الطّلاء، وعرض محتوياته والإشكاليات التي تحوم حوله على جميع الأطراف، طالبت منظّمة الأعراف ووزارة الصناعة بمهلة من أجل استعداد القطاع رغم التّنصيص على ذلك في نصّ القانون، وإنجاز دراسة يشرف عليها المركز الفنّي للكيمياء ولكن للأسف لم نحصل على الدّراسة وبقي المشروع لدى المصالح القانونية للوزارة”.
وفي ما يتعلّق بمدى استعداد القطاع لذلك، أكّد الزّيادي في حديثه لمعدّة التّحقيق أنه “فنّيا واقتصاديّا بإمكان الشّركات المصنّعة تغيير أسلوب الإنتاج والاستغناء النّهائي عن مادّة الرّصاص دون أي إشكال يذكر”.
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك شركات في تونس قد انخرطت فعليّا في المجهود العالمي من أجل طلاء دون رصاص وتقوم فعليّا بإنتاج طلاء وفق المواصفات العالميّة. كما تتوفّر المواد الأوّليّة لذلك كالأصبغة والمجفّفات والموادّ المضادّة للتّآكل الخالية من الرّصاص على نطاق واسع منذ عقود من الزّمن، ويقوم المصنّعون باستخدامها لإنتاج أصناف عالية الجودة من الطّلاء. وحتّى وإن اضطرّت إلى استعمال الموادّ المحتوية على الرّصاص فإنّها تقوم بإنتاج طلاء يحتوي على أقل من 90 جزء بالمليون من محتوى الرّصاص يمكّنها من بيعه في أي بلد من بلدان العالم.
رغم أنّ المركز الفنّي للكيمياء، وهو مؤسسة عموميّة تتبع وزارة الصناعة تعمل على تقديم المشورة والمساعدة والدّعم للمؤسّسات الصناعيّة في قطاع الكيمياء في تونس، أخذ على عاتقه إنجاز دراسة تقييم الانتقال إلى طلاء دون رصاص وفق المعايير الدّولية، إلاّ أنّه وبعد قرابة الثلاث سنوات لا تزال الدّراسة غير جاهزة.
في لقائنا به قال المدير المسؤول عن وحدة الطّلاء والحبر بالمركز المهندس محسن القبلي، “إنّ الدّراسة في طور الإنجاز” ورفض الإجابة عن مستوى تقدّمها أو عن أسباب تأخّرها أو تعطّلها داعيا إيّانا إلى الاتصال بالإدارة العامّة للمركز.
حاولنا الاتصال مرار وتكرار بالإدارة العامّة لكنها رفضت التّواصل معنا وعرضنا أسئلتنا على المكلّفة بالإعلام بوزارة الصّناعة وقمنا بتضمينها في مراسلة إلكترونية أولى في شهر ديسمبر الماضي والتذكير بمراسلة ثانية في شهر جويلية 2024 وقمنا إبلاغها بموعد النشر ولم يصلنا ردّ إلى حدّ الآن.
جاءنا الردّ الصّادم من المهنيّين الذين شاركوا في جلسات مناقشة مشروع النّص القانوني المطروح، على لسان رئيس الغرفة الوطنيّة لصانعي الطّلاء والغراء والحبر، التّابعة لمنظّمة الأعراف، عبد المجيد قسنطيني الذي بدا متناقضا مع تصريحاته السّابقة التي كانت تدعو إلى تنظيم القطـاع وإنفاذ سلطة القانون لتنظيم صناعة الدّهان ودعا الصّناعيين إلى الالتزام بذلك، غير أنّه في لقائه معدّةَ التحقيق قال قسنطيني إنّ الوزارة تريد المرور بالقوّة، معتبرا أنّ الإشكال غير موجود وغير مطروح في تونس وأنّ الدّراسات التي أثبتت تسمّم الأطفال بالرّصاص لم تقع في تونس وإنّما في أماكن أخرى من العالم.
وأضاف ” نحن لسنا ضدّ ذلك بل نريد إثباتات وحالات قد تضرّرت فعليّا ونحن على استعداد للمصادقة إذا كانت هناك حالات تسمّم حدثت في تونس”، مشيرا إلى أنّ القطاع يشكو من وجود الكثير من المصنّعين الدّخلاء وأنّ الدّولة غير قادرة على مراقبتهم.
في تجاهل صارخ لاتفاقية “روتردام” المتعلّقة بتطبيق إجراء الموافقة المسبقة المُستنيرة على موادّ كيميائية ومبيدات آفات معيّنة خطرة متداولة في التّجارة الدّوليّة المصادق عليها في 2015، والقانون المتعلّق بحماية المستهلك وقانون النّفايات ومراقبة التصرّف فيها وإزالتها، ما يزال مشروع القرار يراوح مكانه في أدراج قسم الصّياغة القانونيّة لوزارة البيئية ولم يصل إلى مسامع لجنة الصّناعة والتّجارة والثّروات الطّبيعيّة والطّاقة والبيئة بالبرلمان أي مشروع يخصّ الطّلاء المصنّع، بحسب ما أكّده النّائب بالبرلمان محمد علي فنيرة.
في المقابل يواصل نبيل بن الطيب وغيره من العمّال في حضائر البناء والدّهان عملهم غير مدركين بأنّ الرّصاص هو مادّة سمّية قوية تفتك باجهزة الجسم وأعضائه. ويتواصل تعرّض الأطفال والنّساء الحوامل إلى الرّصاص دون حماية قانونيّة أو إجراءات تنظيميّة تضمن الحقّ في الصحّة ودون حملات توعوية عبر وسائل الإعلام تلفت النّظر إلى إجراءات وقائية فردية في انتظار إصدار القانون المنظم للطّلاء.
أنجز هذا التحقيق في إطار الماجستير المهني في الصّحافة الاستقصائيّة بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار بمنوبة تحت إشراف الأستاذة حنان زبيس.
أنجز هذا التحقيق في إطار الماجستير المهني في الصّحافة الاستقصائيّة بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار بمنوبة تحت إشراف الأستاذة حنان زبيس.
الكاتبة : راضية الشرعبي
صحفية وباحثة في مجال الصحافة الاستقصائية. خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة.
الكاتبة : راضية الشرعبي
صحفية وباحثة في مجال الصحافة الاستقصائية. خريجة معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة.