الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“قلتها ذات مرّة وأكرّرها اليوم، قضاء مستقلّ خير من ألف دستور. رجال السياسة يريدون أن يجلسوا على أرائك القضاة”.

بهذه الكلمات كان أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية قيس سعيّد قبل انتخابه رئيسا للبلاد، يعبّر عن مواقفه تجاه عدد من الانحرافات التي حصلت في عدد من المحاكم وفي علاقة ببعض الملفات المنشورة أمامها، أهمها قضايا الإغتيالات السياسية وقضايا الفساد المالي والتي كانت غير مخفية على كل متابعي.ـات الشأن العام التونسي، بما أنّها كانت تحظى باهتمام اعلامي كبير.

وفي أوّل اجتماع له بالمجلس الأعلى للقضاء (تمّ حلّه لاحقا) في شهر ديسمبر من عام 2019 بُعيد فوزه برئاسة الجمهورية في انتخابات حرّة، كرّر الرئيس سعيّد ما كان يقوله في المنابر الإعلامية التي كان يحضرها بصفته خبيرا في القانون الدستوري قائلا:

“نحن حريصون على ألاّ تتسلّل السياسة ولا رجال السياسة تحت عباءة القُضاة إلى قصور العدالة حتى لا يجلس غير القاضي على أرائك القضاة”.

هذه المواقف الصادرة عن قيس سعيّد الأستاذ الجامعي والرئيس وجدت صدى كبيرا لدى الشارع التونسي الذي تزايدت شكوكه في عدالة قُضاته خاصة في الملفات التي تكون جهات نافدة مالية أو سياسيّة أو أمنية طرفا فيها على غرار ملف المُشجّع عمر العبيدي الذي توفّي غرقا بعد مطاردة أمنية في محيط الملعب الأولمبي برادس فضلا عن ملفات الاغتيالات السياسيّة.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“قلتها ذات مرّة وأكرّرها اليوم، قضاء مستقلّ خير من ألف دستور. رجال السياسة يريدون أن يجلسوا على أرائك القضاة”.

بهذه الكلمات كان أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية قيس سعيّد قبل انتخابه رئيسا للبلاد، يعبّر عن مواقفه تجاه عدد من الانحرافات التي حصلت في عدد من المحاكم وفي علاقة ببعض الملفات المنشورة أمامها، أهمها قضايا الإغتيالات السياسية وقضايا الفساد المالي والتي كانت غير مخفية على كل متابعي.ـات الشأن العام التونسي، بما أنّها كانت تحظى باهتمام اعلامي كبير.

وفي أوّل اجتماع له بالمجلس الأعلى للقضاء (تمّ حلّه لاحقا) في شهر ديسمبر من عام 2019 بُعيد فوزه برئاسة الجمهورية في انتخابات حرّة، كرّر الرئيس سعيّد ما كان يقوله في المنابر الإعلامية التي كان يحضرها بصفته خبيرا في القانون الدستوري قائلا:

“نحن حريصون على ألاّ تتسلّل السياسة ولا رجال السياسة تحت عباءة القُضاة إلى قصور العدالة حتى لا يجلس غير القاضي على أرائك القضاة”.

هذه المواقف الصادرة عن قيس سعيّد الأستاذ الجامعي والرئيس وجدت صدى كبيرا لدى الشارع التونسي الذي تزايدت شكوكه في عدالة قُضاته خاصة في الملفات التي تكون جهات نافدة مالية أو سياسيّة أو أمنية طرفا فيها على غرار ملف المُشجّع عمر العبيدي الذي توفّي غرقا بعد مطاردة أمنية في محيط الملعب الأولمبي برادس فضلا عن ملفات الاغتيالات السياسيّة.

غير أنّ المتمعّن في ما آلت إليه أوضاع القضاء التونسي منذ ما يزيد عن 3 سنوات يستنتج حتما أنّ السياسة لم تتسلل بالمرّة إلى قصور العدالة إنّما فتحت أبواب تلك القصور على مصراعيها أمام السلطة التنفيذية للسيطرة عليها بشكل كامل ومحكم وذلك عبر إجراءات تصفها جمعية القضاة التونسيين (أكبر هيكل مهني في الجسم القضاء التونسي) بـ”العبثية” والتّي لم تحصل حتّى في فترات حالكة سابقة تحت نظامي الرئيسين زين العابدين بن علي ومن قبله الحبيب بورقيبة، وفق وصفها.

هذا الاستنتاج توافقت حوله أكبر المنظمات الوطنية بما في ذلك التي عُرف عنها انحيازها إلى سياسات الرئيس سعيّد على غرار عمادة المحامين والتي اعتبرت في آخر بيان صادر عنها أنّ ما يحصل اليوم داخل القضاء التونسي “يمسّ من استقلاليته” و”يضرب حق الدفاع” و”يهدّد مكتسبات الدولة”. وقد قررت إثر ذلك الدخول في جملة من التحرّكات الإحتجاجية.

فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذه الأزمة المركّبة داخل السلطة القضائية؟ أي دور لوزارة العدل في ما آلت إليه الأوضاع؟ وهل مرّت السلطة التنفيذية من مرحلة السيطرة على القضاء العدلي إلى نسف القضاء الإداري؟ كيف يعمل القضاة في هذا الجو المشحون؟ وأي مستقبل للسلطة/الوظيفة القضائية في تونس؟

في هذا المقال نسعى الى الإجابة عن جملة هذه الأسئلة من خلال إعادة قراءة المشهد القضائي التونسي لاسيما منذ بداية أزمته في عهد الرئيس سعيّد وخاصة منذ أواخر العام 2021.

أوّل لقاء رسمي يجمع الرئيس سعيّد بُعيد انتخابه برئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

أوّل لقاء رسمي يجمع الرئيس سعيّد بُعيد انتخابه برئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

قضاء تحت مفعول المذكّرات

في مساء يوم الجمعة الموافق لـ 06 سبتمبر 2024، تفاجأت رئيسة المحكمة الإبتدائية بولاية منوبة القاضية آسيا العبيدي بمكالمة هاتفية تمّ إعلامها فيها بتجريدها من منصبها كرئيسة محكمة ونقلتها إلى محكمة الاستئناف بولاية الكاف (شمال غربي البلاد) في خطة مستشار بالدائرة الجنائية وعليها مباشرة مهامها الجديدة فورا.

لا تتعلّق مذكرة العمل الصادرة عن وزارة العدل في حقّ القاضية آسيا العبيدي بنقلة استوجبتها الظروف المهنية، فتجريدها من رئاسة محكمة وتعيينها في خطة مستشار بدائرة قضائية بمحكمة أخرى يعتبر وفق ما يشرحه عديد القضاة حطّا من رتبتها القضائية وهي على مشارف التقاعد وقد عُرفت تاريخيا بمصداقيتها وحرصها على الاستقلاليّة، وفق شهادات العديد من زملائها.

كما لم يكن تجريد القاضية آسيا العبيدي وفق ما صرّح به عدد من زملائها القضاة ومن بينهم رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي اعتباطيا، إنّما كان “قرارا جائرا” على حدّ وصفهم جاء على خلفية صدور حكم من إحدى الدوائر القضائية بالمحكمة التي تترأّسها القاضية العبيدي يقضي بالإفراج عن المترشح للانتخابات الرئاسية العياشي الزمال بعد أن تمّ إيداعه في وقت سابق السجن بقرار من وكيل جمهورية المحكمة ذاتها في قضية تتعلق بافتعال تزكيات شعبية والتدليس ومسك مدلّس.

وأمام تواتر مذكرات العمل الصادرة عن وزارة العدل القاضية بنقلة قضاة وترقية آخرين، أصدرت جمعية القضاة التونسيين في 09 سبتمبر 2024 بيانا حادّ اللهجة تحت عنوان “وزارة العدل تستحوذ بالكامل على صلاحيات مجلس القضاء العدلي وتتجاوز كل الخطوط الحمراء في السيطرة على القضاء”.

واستنكرت الجمعية في بيانها ما تصفه بـ”تعمّد وزارة العدل الاستحواذ بالكامل على صلاحيات مجلس القضاء العدلي المؤقت الذي أحدثه رئيس الجمهورية بموجب المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرخ في 12 فيفري 2022 كبديل لمجلس القضاء العدلي الشرعي والمنتخب وإقدامها، خارج كل اختصاص يخوّل لها ذلك وفي مخالفة واضحة وصريحة للنصوص القانونية المنطبقة، على نشر جداول الكفاءة لترقية القضاة وإصدارها لعدد كبير من مذكرات العمل بشكل متواتر وشبه يومي فيما يشبه الحركة القضائية الواسعة شملت عديد القضاة من الرتبة الأولى والرتبة الثانية والرتبة الثالثة ومن قضاة النيابة العمومية ومن القضاة الذين تعهدوا مؤخرا بملفات تتعلق بجرائم ذات طابع انتخابي تهم مرشحين للانتخابات الرئاسية”، وفق نص البيان.

في حديثه لموقع الكتيبة، وصف رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي ما يجري في القضاء العدلي بأنّة “يرتقي إلى جرائم فساد” وفق قوله، مشيرا الى أنّ “وزارة العدل وبعد تعمّدها إحداث الشغور في مستوى المجلس المؤقت للقضاء العدلي بما عطلّ أعماله، استحوذت بالكامل على صلاحيات الأخير وأحدثت ما يُشبه حركة قضائية لا يمكن لغير مجلس أعلى للقضاء القيام بها، ضاربة عرض الحائط ما ينص عليه الدستور رغم هناته”، وفق تعبيره.

تتواتر بشكل شبه يومي مذكرات عمل صادرة عن وزارة العدل تقضي بنقلة أو ترقية أو إعفاء قضاة وأصبح جرد عددها صعبا لكثرتها أين أشار رئيس جمعية القضاة التونسيين إلى أنّ “هذه المذكّرات أصبحت تصدر بشكل يومي وسرّي ولا يتم الإعلام بها” وهو ما يعتبره “ضربا لمبدأ الشفافية والإعلانية من طرف وزارة العدل.”

يقول الحمادي في متن عرض شهادته، بصفته قاض ورئيس لجمعية القضاة التونسيين، أنّ الأمر لا يتعلّق بالقاضية آسيا العبيدي وحدها، مشيرا إلى أنّ “مذكّرات العمل المتّصلة بتجريد قضاة من مناصبهم ونقلتهم إلى أماكن بعيدة عن مقرات سكناهم، طالت عددا لا بأس به من القضاة المباشرين لملفات تكون في الأغلب محلّ نظر من السلطة التنفيذية بالرغم من أنّ غالبيتهم مشهود لهم بالكفاءة والنظافة وحسن إدارة المحاكم”، وفق تعبيره.

أنا أبكي دما على حال محكمة التعقيب التي هي محكمة القانون (أعلى سلطة قضائية)، لأنّ ما قامت به السلطة التنفيذية من إفراغ المحكمة من الأغلبية الساحقة للكفاءات القضائية المرموقة وتعويضهم بقضاة آخرين دون مستواهم تمّ اختيارهم بناء على الولاء.

أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة

في سياق آخر، وخاصة بعد 25 جويليّة/ تمّوز 2021، نشطت على مواقع التواصل الإجتماعي عدّة صفحات مموّلة تتضمن اتهامات وتشهير بقضاة مباشرين لعدّة ملفات متصلة بالفساد المالي أو الأخرى ذات الصلة بملفات إرهابية، بما سلّط ضغوطا كبيرة على القضاة المباشرين لتلك الملفات.

وتمادت هذه الحملات التي انخرط فيها عدد من المنابر الإعلامية وفاعلون سياسيون من بينهم نواب بالبرلمان، لتطال قضاة المحكمة الإدارية ورئيسها بُعيد إصدارها لقرارات متعلّقة بإرجاع 3 مترشحين للسباق الانتخابي كانت الهيئة العليا المُستقلة للانتخابات قد أسقطت ملفاتهم.

يعلّق الحمادي على هذا الشأن قائلا انّ :

الإتهامات التي تطال قضاة بعينهم وتربط أسمائهم بأطراف سياسية هي صادرة عن بعض السماسرة والمرتزقة الذين يتلقّون تعليماتهم من بعض الجهات للقدح في القضاة دون تقديم أدلّة ملموسة في ذلك .. الجمعية رفعت قضايا ضدّهم وهي تراوح مكانها في أدراج المحاكم.

أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة

وشدّد الحمادي على أنّ “ما يُتّهم به عدد من القضاة النزهاء بولائهم لأطراف سياسية معيّنة، يأتيه عدد من القضاة الموالين للسلطة التنفيذية بشكل علني وفاضح وعلى صفحاتهم الخاصة بموقع فايسبوك بما ينزع عنهم صفة الحياد والموضوعية ويجعل منهم محلّ تتبعات تأديبية قد تصل إلى الإيقاف عن العمل وحتى العزل لكنّ الوزارة لا تحرّك ساكنا تُجاههم”، وفق قوله.

اليوم هناك قضاة بصورهم وبحساباتهم الخاصة على مواقع التواصل الإجتماعي يتبجّحون ويعلنون انخراطهم في الحملة الإنتخابية للرئيس سعيّد بما يمسّ من حيادهم ونزاهتهم والوزارة لا تتخذ أي إجراء تُجاههم.

أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة

على نقيض موقف جمعية القضاة التونسيين من مجريات الأمور داخل المحاكم التونسية، أصدرت نقابة القضاة التونسيين، وهي هيكل نقابي تمّ إحداثه بُعيد ثورة جانفي/ كانون الثاني 2011 نادرا ما يتفاعل مع الأحداث الوطنية، بيانا أكّدت فيه أنه تمّ تجسيد كلّ ما سبق التباحث بخصوصه مع وزارة العدل في جلسة سابقة عُقدت يوم 26 جويلية/ تمّوز 2024، ” لمزيد تحسين جودة المناخ القضائي وتكريس حقوق القضاة”.*

وأعربت النقابة في بيانها الذي نشرت مضمونه وكالة تونس افريقيا للأنباء، عن ارتياحها لاستجابة وزارة العدل لمطالب القضاة واستحقاقاتهم المهنية في علاقة بالترقيات والخطط الوظيفية والنقل بعد استحالة انعقاد جلسات المجلس الاعلى للقضاء.

من جانبها وفي ذات السياق سجّلت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بيانها الصادر عقب اجتماع مجلسها الوطني الأحد المنقضي 29 سبتمبر/أيلول 2024 وجود “توظيف للقضاء” بعد “حل المجلس الأعلى للقضاء وإصدار المرسوم عدد 11 لتركيز مجلس أعلى للقضاء مؤقت ومُعين والمرسوم عدد 35 لإعفاء عشرات القضاة ونقلة عدد كبير منهم/منهن خارج الأطر القانونية”، وفق ما جاء في نص البيان.

حقّ الدفاع في مهب الريح

في ظلّ هذا الجوّ المشحون الذي يعمل فيه القُضاة التونسيون.ـات و النزعة السلطوية للأجهزة التنفيذية للدولة في إحكام السيطرة على القضاء العدلي، وفق تأكيد العديد من الجهات الحقوقية والمهنّية، تحرّك الجناح الثاني في إقامة العدل، والحديث هنا عن المحاماة التونسية، للتنديد بما آلت إليه الأوضاع خاصة مع تزايد وتيرة الإعتداءات على حقّ الدفاع كما صرّح بذلك عميد المحامين التونسيين حاتم المزيو.

ردود فعل المحاماة التونسية جاءت بعد تسجيلها خروقات عديدة تتمثّل في الاعتداء على حقّ الدفاع في الملفات التي تحمل طابعا سياسيا أو تلك المتصلة بحرّية الرأي والتعبير، ومن أبرزها ما حصل في جلسة 10 سبتمبر/ أيلول 2024 بمحكمة الإستئناف بتونس بمناسبة محاكمة المحامية والمعلّقة الإعلاميّة سنية الدهماني والتي صدر ضدّها حكم يقضي بتأييد الحكم الإبتدائي بسجنها 8 أشهر دون تمكين محاميها من الترافع والدفاع عنها وفق تصريح إعلامي لرئيس هيئة الدفاع المحامي أنور الباسطي.

وجاء بيان الهيئة الوطنية للمحامين الذي تمّ إصداره مباشرة بعد تسجيل تلك الخروقات، حادّ اللهجة ساخطا على ما آلت إليه أوضاع القضاء التونسي بفعل “مذكّرات العمل الصادرة عن وزارة العدل القاضية بنقلة القضاة من أماكن عملهم وإعفائهم وتعيينهم بخطط قضائية بما أضفى مناخا يمس من استقلالية القضاء وسيادة القانون وتهديدا لمكتسبات الحقوق والحرّيات والسلم الإجتماعي والأمان القانوني”، وفق نص البيان.

في حواره مع موقع الكتيبة، يؤكد المحامي والعضو بأكثر من هيئة دفاع في ملفات قضائية ذات طابع سياسي أو متصلة بحرّية التعبير كريم المرزوقي، أنّ “هناك نسف لمقوّمات المحاكمة العادلة وذلك يعزى لانعدام تام لاستقلالية القضاء الناجم عن نسف مقوّمات استقلاليته الهيكلية والوظيفية”، وفق قوله.

وأضاف المرزوقي أنّه تمّت “استباحة” حقّ الدفاع في محطات كثيرة منذ فرض التدابير الاستثنائية في 25 جويلية/ تمّوز 2021، مشيرا إلى أنّ “المحامين الذين كانوا يباشرون مهامهم في علاقة بعدد من الملفات السياسية من بينها ملفات التآمر على أمن الدولة أصبحوا عرضة لملاحقات قضائية عديدة.”

ويتّفق المرزوقي مع ما ذهب إليه بيان الهيئة الوطنية للمحامين في علاقة بالشغور الذّي أصبح دائما على مستوى المجلس المؤقت للقضاء العدلي، قائلا إنّ “المجلس المؤقت للقضاء العدلي الذي وضعه رئيس الجمهورية مكان المجلس المُنتخب تمّ تجميده بطريقة مقصودة بعد نقلة عضوين منه خلال الحركة القضائية الأخيرة وإحالة اثنين آخرين على التقاعد بما أفقده النصاب القانوني.”

الفراغ المؤسّساتي المُفتعل فتح المجال أمام وزارة العدل للتصرف في القضاء العدلي عن طريق مذكرات عمل.

المحامي كريم المرزوقي

بصرف النظر عن مواقف رافضي السياسة المتبعة من طرف وزيرة العدل الحالية ليلى جفال كهيئة المحامين وجمعية القضاة التونسيين تُجاه المسارات المهنية للقضاة، وبين المساندين لها على غرار نقابة القضاة التونسيين، فإنّ أصل المُشكل بدا محلّ توافق بين كل الجهات المتدخلة ويكمن في عطالة المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي أحدثه الرئيس سعيّد قبل عامين بموجب مرسوم، فضلا عن عدم تركيز المحكمة الدستوريّة التي كان من الممكن إحداثها بجرّة قلم منذ مدّة، وفق تقديرات كل من تحدّثنا إليهم/هن.

الرئيس قيس سعيّد في لقائه رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوم بعد تفعيل التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

الرئيس قيس سعيّد في لقائه رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوم بعد تفعيل التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

المجلس الأعلى للقضاء: من سلطة إلى وظيفة مؤقتة

في فجر يوم الأحد 06 فيفري 2022 الذي يتزامن مع الذكرى التاسعة لاغتيال المعارض السياسي شكري بلعيد، ومن مقرّ وزارة الداخلية أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عن قراره حلّ المجلس الأعلى للقضاء داعيا أنصاره “للتظاهر والمُطالبة بتطهير القضاء وكنس الفساد.”

لم تكن تلك الخطوة مفاجئة بشكل كبير بالنسبة الى متابعي الشأن السياسي في تونس، فقبل ذلك بأسبوعين هيّأ الرئيس سعيّد الأرضيّة لقراره هذا بعد إصداره مرسوما يقضي بسحب جميع الامتيازات والمنح التي يتقاضاها أعضاء المجلس الأعلى للقضاء.

جاءت تلك القرارات تتويجا للعديد من الخطابات التي كان يلقيها الرئيس سعيّد بمناسبة لقاءاته بوزيرة العدل ليلى جفّال أو رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل يوسف بوزاخر أو خلال إشرافه على المجالس الوزارية، بُعيد فرضه “التدابير الاستثنائية” في 25 جويلية/ تمّوز 2021، عندما كان ينتقد بشكل لاذع تأخّر القضاء في إصدار الأحكام في قضايا الفساد والإرهاب، ومشيرا إلى وجود فساد داخل الجسم القضائي، قائلا إنّه “مصرّ على إصلاح القضاء وتطهيره.”

لن أسمح بأن تكون هناك دولة للقضاء بل هناك قضاء الدولة..القضاء هو وظيفة فقط داخل الدولة وليس سلطة.

الرئيس قيس سعيّد، 06 فيفري 2022

تأسّست السردية الرئاسيّة في علاقة بفساد الجهاز القضائي التونسي على معطيات مادية لا يمكن إنكارها، وكانت محلّ جدل كبير وتنديد واسع من مكوّنات المجتمع المدني بما في ذلك جمعية القضاة التونسيين (أكبر هيكل مهني قضائي)، وقد تجلّت خاصة في صراع أجنحة بين الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب آنذلك الطيب راشد ووكيل الجمهورية بتونس البشير العكرمي (هما الآن محلّ تتبعات قضائيّة).

في شهر ديسمبر من عام 2020 انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي تقارير تفقّد تعلّقت بالرئيس الأول لمحكمة التعقيب (أعلى سلطة قضائية) الطيب راشد الذي أعدّه بتكليف من مجلس القضاء العدلي القاضي بشير العكرمي بصفته وكيل الجمهورية والمشرف على كل من القطب القضائي لمكافحة الإرهاب والقطب القضائي المالي والإقتصادي.

وجّه تقرير التفقد المُنجز من طرف العكرمي مجموعة من الاتهامات للطيب راشد تتعلق بالارتشاء وتبيض الأموال في علاقة بكبار المهربين الذين كانوا على صلة بسياسيين وتحقيق منافع شخصية ومكاسب غير شرعية من قضايا متعلقة برجال أعمال متهمين بالفساد.

في المقابل تقدّم الطيب راشد بمكتوب إلى التفقدية العامة بوزارة العدل تضمّن اتهامات خطيرة متصلة بملفات الإغتيالات السياسية التي باشرها العكرمي كحاكم تحقيق من ذلك ملفَّا الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وأخرى تتعلق بأمن الدولة، كانت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي قد نشرت أجزاء كبيرة منه خلال ندوات صحفية عقدتها للغرض.

ودون العودة إلى تفاصيل “الفضيحة” التي هزّت أركان السلطة القضائية في ذلك الوقت، من المهم التذكير بأنّ المجلس الأعلى للقضاء كان قد اتّخذ قرارا بتجميد عضوية الطيب راشد من المجلس وإحالة ملفّه على النيابة العمومية مع إيقافه عن العمل واتخذت بعد مدّة قرارا مماثلا في علاقة بوكيل الجمهورية البشير العكرمي.

على الرغم من اتخاذه تلك القرارات وإحالة ملفات كل من الطيب راشد والبشير العكرمي إلى أنظار النيابة العمومية، إلاّ أنّ الإتهامات بالتقصير والتلكؤ في اتخاذ القرارات الحاسمة بقيت تلاحق أعضاء المجلس الأعلى للقضاء خاصة في ملف وكيل الجمهورية البشير العكرمي، أين اتّهمت جهات عديدة، أبرزها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، مجلس القضاء العدلي بمحاولة التستر على القاضي المذكور وطمس ملفه.

هذه الأجواء المشحونة التي سادت المشهد القضائي كان لها تأثير كبير في علاقة الرئيس سعيّد بالمجلس الأعلى للقضاء المنحل، وكشفت عن أفكاره في اعتبار القضاء وظيفة داخل الدولة ولا يرتقي إلى مرتبة السلطة.

في حواره مع موقع الكتيبة، يقول يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل أنّ النقاشات مع الرئيس سعيّد بعد فرضه “التدابير الاستثنائية” في 25 جويلية/ تمّوز 2021 وحتى قبلها، كانت تدور حول سبل إعادة تأسيس السلطة القضائية، مبرزا أنّ “الرئيس لم يكن راض عن الإطار القانوني الذي يعمل فيه المجلس الأعلى للقضاء وكانت رغبته شديدة في تغييره.”

كنّا نعلم أنّ الرئيس يريد إعادة صياغة قانون المجلس الأعلى للقضاء، لكن ما لم يكن ظاهرا أنّ يتمّ التغيير بهذا الشكل العنيف.

يوسف وزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل

طفح كيل الرئيس سعيّد من المجلس الأعلى للقضاء بعد رفض الأخير في جلسته العامة المنعقدة في 05 جانفي/ كانون الثاني 2022 إبداء الرأي في خصوص مشروع مرسوم يتعلّق بالصلح الجزائي وذلك لتضمنه اخلالات جوهرية لا تجعل من مسوّدة المشروع التي طُلب رأيه فيها وثيقة قانونية يُعتدّ بها وفق نص الردّ، وهو ما عجلّ بقرار سحب امتيازات أعضاء المجلس ومن ثم حلّه.

تجدر الإشارة إلى أنّ علاقة الرئيس سعيّد بالمجلس الأعلى للقضاء ساءت كثيرا بُعيد تكراره اتهامات طالت أعضاء من المجلس وقضاة من خارجه بالفساد والولاء إلى جهات سياسية بعينها، وهو ما استدعى من المجلس إصدار بيانات متتالية تطلب من القضاة وحدة الصف والدفاع عن مكانتهم كسلطة مستقلّة.

وعلى إثر قراره حلَّ المجلس الأعلى للقضاء، أصدر الرئيس سعيّد في 12 فيفري/ شباط من العام 2022، مرسوما جديدا أحدث من خلاله مجلسا أعلى بشكل وقتي للقضاء نصف أعضائه تمّ تعيينهم بالصفة والنصف الآخر يتوّلى الرئيس تعيينهم مباشرة من بين القضاة المتقاعدين.

لم تمض أسابيع عن مباشرة المجلس الجديد مهامه في 07 مارس/ آذار عام 2022 بعد أدائه اليمين الدستورية حتى بعث الرئيس سعيّد لأعضائه برسالة شكلت لهم صدمة وهم الذين مازالو يتحسّسون خطواتهم الأولى في طريق ترتيب البيت الداخلي للسلطة القضائية ودراسة الحركة القضائية المُزمع إجراؤها.

ففي غرّة جوان/ حزيران من نفس العام أصدر الرئيس سعيّد مرسوما جديدا نقّح من خلاله المرسوم المُحدث للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وقد تضمّن فصلا وحيدا جاء فيه:

“لرئيس الجمهورية، في صورة التأكّد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاض يتعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حُسن سيره. وتُثار الدعوى العمومية ضدّ كل قاض يتم إعفاؤه على معنى هذا الفصل. لا يمكن الطعن في الأمر الرئاسي المتعلق بإعفاء قاض إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة إليه.”

أدخلت التنقيحات الجديدة ارتباكا في سير أعمال المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والذي على ما يبدو كان يعيش ضغوطا من السلطة التنفيذية في علاقة بالحركة القضائية المزمع تنفيذها والتي سيكون لها استتباعات على ظروف عمله لاحقا.

بُعيد صدور المرسوم، أصدر الرئيس سعيّد أمرا رئاسيا يقضي بإعفاء 57 قاضي(ة) من بينهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل يوسف بوزاخر.

في نفس اليوم من صدور أمر الإعفاء، ترأّس سعيّد مجلسا وزاريا تعرّض فيه للأسباب التي دفعته لاتّخاذ هذا القرار، مشيرا إلى أنّ التهم الموجهة للقضاة المعفيين.ـات تتراوح بين “تعطيل التتبعات في ملفات إرهابية وعددها 6 آلاف و268 ملفا، وعدم الحياد وتجاوز الصلاحيات وتوجيه الأبحاث “، وفق ما جاء في خطابه.

ومن التهم أيضا، وفق سعيّد، “مساعدة مشتبه فيه بتهمة الإرهاب ومنها منحه الجنسية التونسية والتواطؤ في ما يُعرف بالجهاز السرّي (تُتّهم بامتلاكه حركة النهضة)” و”الارتباط بأحزاب سياسية”، إلى جانب “فساد مالي وارتشاء وثراء فاحش وفساد أخلاقي”.

لم يكن المجلس الأعلى المؤقت للقضاء المُنصّب حديثا على علم بأسباب إعفاء أغلب القضاة المعنيين كما لم تتمّ استشارته في ذلك وهو ما يتضح في ردوده على طلبات المحكمة الإدارية حول الملفات التأديبية للقضاة المعفيين الذين تقدّموا بطعون لوقف تنفيذ الأمر الرئاسي القاضي بإعفائهم.

ووفق ما توفّر للمحكمة الإدارية من ردود الجهات الرسمية ممثلة في المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ووزارة العدل، حول الأسباب التي أدت إلى إعفاء القضاة الـ 57، أصدرت قرارات بوقف تنفيذ أمر الإعفاء في حق 49 قاضي(ة)، بما يعني أنّ القضاة الـ 49 لم يكن في سجلهم أية ملفات قضائية أو تأديبية تؤدي إلى إعفائهم.

في تفاعل سريع مع قرارات المحكمة الإدارية أصدرت وزارة العدل بلاغا أشارت فيه إلى عدم امتثالها للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية، مؤكدة أنّ القضاة المعفيين هم محلّ إجراءات تتبع جزائية.

وبالتزامن مع الجدل الحاصل في خصوص إعفاء القضاة الـ57، واستبدال المجلس الأعلى للقضاء المنتخب بمجلس مؤقت والتحركات الاحتجاجية التي نادت إليها جمعية القضاة التونسيين من ذلك إضرابهم عن العمل لمدّة ناهزت الأربع أسابيع، تبلورت أسس الدستور الجديد الذي عرض على استفتاء التونسيين.ـات في 25 جويلية/ تمّوز عام 2022.

ومن بين أهم ما جاء به دستور جويلية/ تمّوز 2022، تغيير النظام السياسي للدولة من نظام جمهوري يقوم على سلط إلى نظام جمهوري يقوم على وظائف، وفقا لما تنص عليه التوطئة التي جاء فيها: ” نحن الشّعب التّونسي، صاحب السّيادة، نجـدّد تمسّكنا بإقامة نظام سياسي يقوم على الفصل بين الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى إرساء توازن حقيقي بينها.”

يعلّق يوسف بوزاخر في حديثه لموقع الكتيبة على ما جاء به الدستور الجديد في اعتبار القضاء وظيفة ونزع صفة السلطة عنه قائلا

“إنّ هذا التوجه التي توخاه الرئيس سعيّد كان منذ البداية معلوما وقد أعلنه بشكل واضح في خطاباته المتكرّرة أواخر العام 2021 وبدايات 2022، عندما أكّد مرارا على أنّ الدولة ليس بها سلط إنّما وظائف وهو ما لم يتنبه إليه الكثيرون.”

لم يقتصر دستور البلاد الجديد على اعتبار القضاء وباقي السلط وظائف، إنّما تخلّى عن عديد الفصول الواردة بدستور 2014 المُلغى من ذلك اعتبار “القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات”، كما جرّم الإضراب عن العمل بالنسبة الى الأجهزة الأمنية والقضائية.

وبهذا تمّ محو مشهد قضائي قديم وتشكلّ مشهد آخر مغاير تماما لما كان عليه وفق رؤية أحادية للرئيس قيس سعيّد في اتجاه ما يعتبره “نهجا إصلاحيا يؤسس لقضاء مستقلّ”، وفق تقديره.

شغور دُبّر بليل

بمجرّد مُعاينة الموقع الرسمي للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وصفحته الرسمية بموقع فيسبوك، يتضح أنّ هذا المجلس لم يكن له دور كبير في علاقة بتأسيس المشهد القضائي الجديد بُعيد إحداثه على أنقاض المجلس المُنتخب المُنحل.

أنشطة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد نشرها المجلس المؤقت على محامله الاتصالية، تتعلّق بأداء أعضائه لليمين الدستورية والمصادقة على نظامه الداخلي وتشكيله لجان العمل وأخرى متصلة بقرارات تتعلّق بشروط الترقية للقضاة والحركة القضائية التي تمّ نشرها في 30 أوت/ آب من سنة 2023.

ووفق المرسوم الخاص به، يتركّب المجلس الأعلى المؤقت للقضاء من 3 مجالس مؤقتة للأقضية الثلاث العدلي والإداري والمالي، ويرأس المجلس رئيس مجلس القضاء العدلي المعيّن بصفته رئيسا لمحكمة التعقيب وينوبه أوّلا رئيس المحكمة الإدارية بصفته رئيس المجلس المؤقت للقضاء الإداري ونائبه الثاني رئيس محكمة المحاسبات بصفته رئيسا للمجلس المؤقت للقضاء المالي.

هذه التركيبة المُكتملة كما تمّ إعلانها في 30 مارس/آذار من العام 2022، ستعرف شغورا في عدّة مناصب أدّت به إلى الشلل التام واستحالة انعقاده مكتملا.

في 30 أوت/آب من عام 2023، أي بعد سنة وبضعة أشهر من تركيزه، نشر المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الحركة القضائية للسنة القضائية 2023-2024، حيث جاء بها نقلة أكثر من 1000 قاض في مختلف محاكم الجمهورية، الشيء الذي اعتبرته جمعية القضاة التونسيين أكبر حركة قضائية في تاريخ القضاء التونسي.

ومن بين القضاة الذين تمّت نقلتهم من أماكن عملهم وفق الحركة القضائية التي أقرّها المجلس، عضوان من المجلس المؤقت للقضاء العدلي نفسه دون تعويضهم بآخرين، وهما كل من وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب فتحي عروم الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس القضاء العدلي ورئيس المحكمة العقارية أحمد الحافي بصفته عضوا بذات المجلس.

بعد سنة من نشر تلك الحركة، غادر رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء والرئيس الأول لمحكمة التعقيب منصف الكشو نحو التقاعد (تراجع عن طلب حظي فيه بالموافقة للتمديد له بالعمل بعد سن التقاعد)، من دون أن يتمّ تعويضه بما أحدث شغورا في هذه المناصب منذ 16 أكتوبر/ تشرين الأوّل من عام 2023.

ووفق مصادر مطلّعة، دخل مقرر المجلس عماد الدرويش المُعين بصفته وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية في إجازة تسبق مغادرته رسميا نحو التقاعد، وهكذا أضحى المجلس المؤقت للقضاء العدلي مشلولا بشكل تام بعد شغور مناصب الأعضاء الأربعة المعيّنين بالصفة منذ أكثر من سنة، بما استحال معه انعقاد المجلس للنظر في المسارات المهنية لقضاة القضاء العدلي وهو ما فتح المجال أمام الوزارة لممارسة صلاحيات الأخير عبر مذكرات عمل تقضي بنقلة وإعفاء وترقية القضاة.

يقول رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي في حديثه للكتيبة معلّقا على الشغور الحاصل منذ أكثر من سنة في مستوى مجلس القضاء العدلي،”إنّ السلطة السياسية في تونس تهتم كثيرا بالقضاء عموما وبشكل أكبر بالقضاء العدلي باعتبار أنّ هذا الأخير هو قضاء الحقوق والحريات وله الصلاحيات في إيداع المواطنين السجن وإخراجهم منه”، لذلك ووفق ذات المتحدّث “أصبحت الوزارة تتدّخل بشكل مباشر وغير مسبوق في المسارات المهنية لقضاة القضاء العدلي في مختلف المستويات عبر الإعفاء والنقل والترقية بشكل مباشر دون أن يكون لها الاختصاص في ذلك.”

نتائج هذه الممارسة التي تأتيها وزارة العدل هو بث الرعب والخوف في صفوف القضاة وبعث رسالة إلى القضاة مفادها أنهم ليسوا في مأمن من بطش السلطة التنفيذية.

أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة

يُضيف الحمادي أنّ “مجلس القضاء العدلي الذي يتكوّن من 7 أعضاء، أربعة منهم معيّنون بصفاتهم فقدوا مناصبهم إمّا عبر الإحالة على التقاعد أو عبر نقلتهم”، مشيرا في ذات السياق إلى أنّ “السلطة التنفيذية لديها كل الوسائل القانونية لتعويضهم لكنّها تتعمّد إحداث الشغور للسيطرة على القضاء العدلي.”*

كما أشار الحمادي إلى أنّ بقيّة المجالس الأخرى (الإداري والمالي) تعمل بشكل طبيعي ومكتملة النصاب وهو ما يخول للأخيرة السهر على مسارات القضاة في هذين الاختصاصين دون تدخل مباشر من السلطة التنفيذية كما يحصل في مستوى القضاء العدلي.

عدد من النواب المبادرين بمشروع تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب على فيسبوك

عدد من النواب المبادرين بمشروع تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب على فيسبوك

مبادرة برلمانيّة تكشف المستور

في ظلّ هذا “الجو غير الطبيعي” الذي يسود أروقة محاكم القضاء العدلي في تونس كما تُشير إلى ذلك هيئة المحامين وجمعية القضاة التونسيين وفي سلوك وصفه أغلب خبراء القانون الدستوري والإداري بالغريب والفاقد للذوق القانوني، تقدّم نحو 34 نائبا في البرلمان التونسي بمبادرة تشريعية لتنقيح القانون الإنتخابي -أسبوعان فقط قبل توجه التونسيين.ـات إلى صناديق الإقتراع- يرغبون من خلالها في سحب اختصاصات الرقابة الإدارية والمالية في المادة الانتخابية من القضاء الإداري (المحكمة الإدارية) والمالي (محكمة المحاسبات) وإلحاقها بالقضاء العدلي.

تأتي هذه المبادرة التشريعية في سياق انتخابي مشحون، خاصة بُعيد صدور قرارات من الجلسة العامة الإدارية وهي أعلى سلطة قضائية في الاختصاص الإداري يقضي بإرجاع ثلاثة مترشحين للانتخابات الرئاسية كانت الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات قد أسقطت ملفاتهم (وهم منذر الزنايدي، عبد اللطيف المكي وعماد الدايمي).

هذه القرارات كانت منطلقا لحملة شعواء قادها عدد من الصفحات على مواقع التواصل الإجتماعي ضدّ قضاة المحكمة الإدارية وصل فيها الأمر إلى المس من شرفهم المهني والعائلي واتهامهم بالخيانة وخدمة أجندات لا وطنية.

ولم تتوقف الهجمة الشرسة على أعضاء المحكمة الإدارية عند حملات التشويه، إنما وصل الأمر إلى رفض الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات تطبيق تلك القرارات الصادرة من أعلى جهة قضائية في الاختصاص الإداري والرمي بها إلى سلّة المهملات، الشيء الذي استنكرته أغلب مكوّنات المجتمع المدني والسياسي التونسي و وصفوه بـ”السلوك العبثي الذي يقوض أسس دولة القانون.”

في المقابل تتواصل الإنتقادات الموجهة للقضاء العدلي ووزارة العدل نفسها في خصوص الملفات القضائية المتصلة بأحد المترشحين للانتخابات الرئاسية وهو العياشي زمال الذي يواجه العديد من التتبعات الجزائية على علاقة بملفه الانتخابي.

فمنذ إعلان الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات قبولها ملف ترشح العياشي الزمال للسباق الانتخابي، فتحت النيابة العمومية عديد التحقيقات ضدّه في محاكم مختلفة من ولايات الجمهورية بتهم تتعلق بشبهات افتعال تزكيات شعبية (من شروط تقديم الترشح)، وتدليس وثائق رسميّة.

وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون العيّاشي زمّال بين أنصاره لخوض حملته الإنتخابية، تصدر في شأنه عدّة بطاقات إيداع بالسجن وأحكام قضائية ابتدائية ثقيلة تقضي بسجنه بمدد مختلفة.

“هيئة الدفاع عن المترشح للانتخابات الرئاسية العياشي زمال”

“هيئة الدفاع عن المترشح للانتخابات الرئاسية العياشي زمال”

ويتّهم فريق حملة العياشي زمّال السلطة التنفيذية بالسعي إلى التنكيل بمرشحهم خدمة لمنافسه الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد، “عبر استعمال القضاء العدلي وافتعال ملفات وابقائه بحالة إيقاف لمنعه من خوض حملته الإنتخابية.”

في نفس السياق نشر الفرع الجهوي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بالمهدية بلاغا يقول فيه إنّه “ورد عليها صبيحة يوم 17 سبتمبر 2024 شكاية من قبل مواطنين قاطنين بمنطقة النفاتية من معتمدية شربان، عرضا خلالها أنهما ومجموعة من مواطني الجهة قاموا بتكوين الشركة الأهلية للنقل بالقواسم الكبرى و قد كلفوا المشتكى به بالقيام بإجراءات التأسيس و الاكتتاب بالشركة المذكورة والذي اتضح حسب روايتهم أنه من أنصار رئيس الجمهورية بالجهة، وذلك بعد أن سلموه للغرض نسخا من بطاقات تعريفهم الوطنية، وقد تفاجأ الشاكون بورود إرساليات قصيرة من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ورد بها أنهم قد قاموا بتزكية المترشح رقم 03 (السيد قيس سعيد) وهو ما نفوه تماما مثلما نفوا تزكيتهم لأي من المترشحين للاستحقاق الانتخابي المذكور”.

وكان فرع الرابطة قد أدان ما أسماه “سياسة التعاطي بمكيالين” مع مختلف التتبعات الجزائية ذات العلاقة بشبهة تدليس التزكيات للانتخابات الرئاسية.

وكان زهير المغزاوي بصفته أحد المترشحين الثلاثة لخوض سباق الانتخابات الرئاسية، قد أعلن “تضامنه” و”تعاطفه الكامل” مع منافسه المترشح العياشي الزمال أمام ما يعتبره “سياسة تنكيل” تأتيها السلطة التنفيذية تجاهه، مؤكدا أنّ “مكان الزمال يجب أن يكون بين أنصاره وليس السجن” وأنّ “العدالة يمكن أن تأخذ مجراها بعد الحملة الانتخابية لأنّ القضاء فوق الجميع ولا يمكن لأيّ كان أن يفلت من العدالة”، وفق تقديره.

في هذا السياق، تتنزّل مبادرة النواب الـ 34 لتنقيح القانون الإنتخابي أسبوعين فقط قبل توجه التونسيين.ـات إلى صناديق الإقتراع، والتعجيل بتمريرها إلى الجلسة العامة للمُصادقة عليه، بالرغم من أنّ المعايير الدولية تنصّ بشكل صريح على عدم تنقيح القانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية نفسها.

في مثل هذه الظروف وبالرغم من شكوك طيف واسع من المجتمع المدني والأحزاب السياسيّة في استقلاليّة قرارات عدد من قضاة المحاكم العدليّة، يبدو أنّ النواب المبادرين أضحوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى أنّ النزاعات في المادّة الانتخابية يجب أن تُسحب من المحكمة الإدارية التي يصفونها بالمٌسيّسة وإحالتها إلى القضاء العدلي باعتباره مستقلا، وفق تقديرهم، على أمل استكمال مسار انتخابي شابته عدّة شوائب أهمّها قرارات المحكمة الإدارية “المُعلّقة” والتي قد تكون لها استتباعات على النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية المُزمع تنظيمها في 06 أكتوبر 2024.

وجاء في وثيقة شرح أسباب تقديم مقترح التنقيح أنّ النواب المبادرين “لاحظوا تصريحات من طرف قضاة إداريين تمسّ من مبدأ التزام الحياد والتحفّظ وتصريحات خطيرة توحي بإمكانية اتخاذ قرارات مسبقة ولما لاحظوه من اختلاف في الرؤى ينذر ببوادر أزمات محتملة وخطر داهم يهدد المسار الإنتخابي”، وفق نص الوثيقة.

خلال حضوره في أكثر من منبر إعلامي ذهب يوسف طرشون أحد النواب المبادرين بمقترح تنقيح القانون الإنتخابي إلى أبعد من ما تمّ تضمينه في وثيقة شرح الأسباب، حيث ذكر أنّ من بين السيناريوهات التي تقوم بها “غرف مظلمة” إحداث الشغور في منصب رئاسة الجمهورية وتعيين رئيس المحكمة الإدارية رئيسا مؤقتا مكانه، دون تقديم أية أدلّة ملموسة حول إدعاءاته تلك.

هذه الحجج الصادرة عن نواب بالبرلمان، أدانتها بشدّة جمعية القضاة التونسيين في بيان صدر عنها الاثنين 23 سبتمبر/ أيلول 2024 أين أشارت إلى أنّ “ما ورد بوثيقة شرح الأسباب المرافقة لمقترح تنقيح القانون الانتخابي من اتهامات مغلوطة وعارية عن الصحة موجّهة إلى قضاة المحكمة الإدارية بخرق مبدأ الحياد وواجب التحفظ والإفصاح عن قرارات مستقبلية في اتجاه معين قبل التعهد أصلا بأي قضية”، معربة عن “دهشتها من التجاء أصحاب المبادرة التشريعية لأسلوب التشويه وتزييف الواقع من أجل التسويق لمبادرتهم”، وفق نص البيان.

وفي نفس السياق، أصدر كل من فريق حملة المترشح للانتخابات الرئاسية العياشي زمال وفريق حملة المترشح زهير المغزاوي بيانا مشتركا أكّدوا فيه رفضهم لمبادرة النواب وحثوا فيها بقية النواب من غير الموقعين على المبادرة على التصدي لها.

ونبّه البيان المُشترك لزمّال و المغزاوي من “مشروع القانون المذكور الذي يشكلّ مسّا بمؤسسات الدولة و تجاوزا للقضاء الإداري المسؤول تقليديا عن النظر في النزاعات الانتخابية، وزجّا بالقضاء العدلي في نزاعات خارج اختصاصه”، فضلا عن كون “هذا المشروع يكشف عن نية مبيّتة للمس بنتائج الانتخابات و تغيير ما قد يفرزه صندوق الاقتراع “، وفق المصدر ذاته.

مجلس نواب الشعب يوم انعقاد جلسة التصويت على مشروع تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب على فيسبوك

مجلس نواب الشعب يوم انعقاد جلسة التصويت على مشروع تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب على فيسبوك

في غضون أسبوع التأمت لجان البرلمان التونسي وسارعت بالنظر في مقترح القانون وعيّنت جلسة عامة للتصويت عليه، كان تاريخها يوم 27 سبتمبر 2024 انتهت بتمريرها بأغلبية الأصوات.

وقد سادت الجلسة البرلمانية أجواء صاخبة وكانت أغلب الآراء فيها متجهة نحو استهداف قضاة المحكمة الإدارية والقدح في نزاهتهم واتهامهم بخدمة أجندات غير وطنية.

في اليوم الموالي لجلسة المُصادقة على مقترح التنقيح، استقبل الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة، أين نوّه بما أسماه موقفا وطنيا مسؤولا للمجلس.

وحمّل سعيّد رئيس البرلمان رسالة مفادها “إبلاغ تحياته الخالصة لأعضاء المجلس الذين استشعروا المخاطر التي يُمكن أن تحفّ بوطننا العزيز صادقوا على مشروع قانون يتعلّق موضوعه فقط بالنزاعات الانتخابية وذلك بنقل الاختصاص من جهة قضائية إلى أخرى، ولم يقع التعرّض إطلاقا لا لشروط الترشّح ولا إلى الحملة الانتخابية ولا إلى عتبة كما كان الشأن سنة 2019، وهو موقف تاريخي يعكس وعيا عميقا مفعما بالمسؤولية التاريخية”، وفق نص البلاغ الذي نشرته صفحة رئاسة الجمهورية بموقع فيسبوك.

الرئيس سعيّد في استقبال رئيس البرلمان بعد المصادقة على تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

الرئيس سعيّد في استقبال رئيس البرلمان بعد المصادقة على تنقيح القانون الإنتخابي
المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فيسبوك

يعيش القضاء التونسي في الفترة الأخيرة بمختلف اختصاصاته على وقع فترة عصيبة في ظلّ ما يتعرّض له من تشكيك متواصل ومستمر من مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين إن كانوا موالين للسلطة أو معارضين لها.

في المحصّلة، فإنّ العديد من الجهات المستقلّة المتابعة للشأن القضائي و لمرفق العدالة في تونس ترجح امكانية أنّ يؤدي هذا الوضع إلى التأثير سلبيّا على مكانة القضاء التونسي لدى عموم التونسيين.ـات ما قد يزيد في شكوك المتقاضين.ـات في عدالة قُضاتهم ومدى استقلاليتهم، كما يُمكن أن يفتح المجال أمام مزيد استشراء الفساد والمحسوبية بما يضرب مصداقية المؤسسة القضائية أمام الرأي العام المحلي والدولي في وقت تبحث فيه البلاد عن تحقيق استقرار سياسي نسبي بهدف استرجاع نسق النمو واستقطاب الاستثمارات الخارجية التي عمادُها قضاء مستقل وناجز يُضفي طمأنينة على مناخ الأعمال في تونس.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من المساعي الحثيثة التي قامت بها هيئة تحرير موقع الكتيبة بهدف الحصول على توضيحات رسميّة من قبل وزارة العدل سواء عبر مراسلة الكترونية أو مقابلة صحفيّة مباشرة إلاّ أنّ جميع المحاولات اصطدمت بغياب التفاعل والردّ.

كلمة الكتيبة:
على الرغم من المساعي الحثيثة التي قامت بها هيئة تحرير موقع الكتيبة بهدف الحصول على توضيحات رسميّة من قبل وزارة العدل سواء عبر مراسلة الكترونية أو مقابلة صحفيّة مباشرة إلاّ أنّ جميع المحاولات اصطدمت بغياب التفاعل والردّ.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
تصوير: سامي الشويخ
مونتاج: محمد علي المنصالي
غرافيك: منال بالرجب
غرافيك وتطوير تقني: بلال الشارني
تصوير: سامي الشويخ
مونتاج: محمد علي المنصالي
غرافيك وتطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك: منال بالرجب

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

wael