الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

على خلاف ما صرّح به مساء يوم 17 سبتمبر/ أيلول 2019 لقناة فرنسا 24 حينما قال المرشح الرئاسي وقتها قيس سعيّد “إنّه يشكر كلّ من صوّت له ويشكر كل من لم يصوّت له واختار طريقا آخر”، شاكرا الجميع ومتعهدّا بـ” أن يكون رئيسا لكلّ التونسيين سواء الذين صوّتوا لفائدته أو الذين صوّتوا لمرشح آخر إن كتب له تولي رئاسة الدولة” بعد تقدّمه في نتائج الانتخابات، سارع هذه المرّة الرئيس المنتخب قيس سعيّد إلى التعبير عن فرحة الفوز بشكل آخر حتّى قبل أن تعلن هيئة الانتخابات عن النتائج الرسميّة الأوليّة.

كانت البداية بزيارة أداها إلى مقر إدارة حملته الانتخابية قبل أن ينزل إلى شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي في تونس العاصمة لكي يحتفل رفقة مناصريه الذين كانوا في انتظاره رافعين صوره و شعارات مساندة له.

صرّح قيس سعيّد ليلتها قائلا أمام عدسات الصحفيين.ات بنبرة واثقة وصارمة في الآن ذاته: “سنبني وسنشيّد كما يريد الشعب ذلك…وسنطّهر البلاد من الفاسدين والمُفسدين والمُشكّكين والمُتآمرين ولا أبالغ حينما أقول المُتآمرين”.

وبقطع النظر عن أهميّة الوقوف عند الرسائل التي تضمنّها هذا الخطاب الحادّ الذي يتناقض والتقاليد الديمقراطيّة في العالم ككلّ حيث يكون في العادة خطاب الرئيس الفائز مجمّعا بشكل دبلوماسي يتمّ خلاله تجنّب الحديث عن النقاط الخلافيّة، فإنّ الرئيس قيس سعيّد بدَا ليلتها أيضا غير مبال بكلّ ما أثير من انتقادات في علاقة بالمناخ الاستثنائي الذي يوصف بـ”غير الديمقراطي” الذي أجريت فيه الانتخابات الرئاسيّة في الأشهر الماضية وليس خلال الحملة الانتخابية فحسب، بعد استبعاد منافسين جدييّن له من السباق وسجن آخرين وتغيير القانون الانتخابي في المنعطف الأخير وخنق الفضاء العام و ضرب التعدّدية السياسيّة في الإعلام، فضلا عن شبه غياب أي مظاهر لمطارحات جديّة حول البرامج والمضامين التي تهمّ الجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحقوق والحريّات عموما.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

على خلاف ما صرّح به مساء يوم 17 سبتمبر/ أيلول 2019 لقناة فرنسا 24 حينما قال المرشح الرئاسي وقتها قيس سعيّد “إنّه يشكر كلّ من صوّت له ويشكر كل من لم يصوّت له واختار طريقا آخر”، شاكرا الجميع ومتعهدّا بـ” أن يكون رئيسا لكلّ التونسيين سواء الذين صوّتوا لفائدته أو الذين صوّتوا لمرشح آخر إن كتب له تولي رئاسة الدولة” بعد تقدّمه في نتائج الانتخابات، سارع هذه المرّة الرئيس المنتخب قيس سعيّد إلى التعبير عن فرحة الفوز بشكل آخر حتّى قبل أن تعلن هيئة الانتخابات عن النتائج الرسميّة الأوليّة.

كانت البداية بزيارة أداها إلى مقر إدارة حملته الانتخابية قبل أن ينزل إلى شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي في تونس العاصمة لكي يحتفل رفقة مناصريه الذين كانوا في انتظاره رافعين صوره و شعارات مساندة له.

صرّح قيس سعيّد ليلتها قائلا أمام عدسات الصحفيين.ات بنبرة واثقة وصارمة في الآن ذاته: “سنبني وسنشيّد كما يريد الشعب ذلك…وسنطّهر البلاد من الفاسدين والمُفسدين والمُشكّكين والمُتآمرين ولا أبالغ حينما أقول المُتآمرين”.

وبقطع النظر عن أهميّة الوقوف عند الرسائل التي تضمنّها هذا الخطاب الحادّ الذي يتناقض والتقاليد الديمقراطيّة في العالم ككلّ حيث يكون في العادة خطاب الرئيس الفائز مجمّعا بشكل دبلوماسي يتمّ خلاله تجنّب الحديث عن النقاط الخلافيّة، فإنّ الرئيس قيس سعيّد بدَا ليلتها أيضا غير مبال بكلّ ما أثير من انتقادات في علاقة بالمناخ الاستثنائي الذي يوصف بـ”غير الديمقراطي” الذي أجريت فيه الانتخابات الرئاسيّة في الأشهر الماضية وليس خلال الحملة الانتخابية فحسب، بعد استبعاد منافسين جدييّن له من السباق وسجن آخرين وتغيير القانون الانتخابي في المنعطف الأخير وخنق الفضاء العام و ضرب التعدّدية السياسيّة في الإعلام، فضلا عن شبه غياب أي مظاهر لمطارحات جديّة حول البرامج والمضامين التي تهمّ الجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحقوق والحريّات عموما.

أبعد من ذلك، فإنّ الرئيس قيس سعيّد حاول الظهور بمظهر “الرجل القوّي” المنتشي بما يعتبرها أنصاره “شرعيّة شعبيّة واسعة” على الرغم من أنّ الانتخابات سجّلت عدم مشاركة أكثر من 70 % من المسجّلين في قائمة المواطنين الذين يحقّ لهم الاقتراع سواء بسبب المقاطعة أو العزوف أو اللامبالاة وفقدان الأمل في العمليّة السياسيّة والانتخابيّة، زيادة عن تسجيل مشاركة 6 % فقط من الشباب (بين 18 و 35 سنة) الذي لعب دورا ملحوظا في فوزه في الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019.

بعد اعتراف منافسيه العيّاشي زمّال و زهير المغزاوي ولو ضمنيا بنتائج الانتخابات من خلال عدم الطعن فيها، يواصل الرئيس قيس سعيّد الجلوس على مقعده في قصر قرطاج لعهدة رئاسيّة جديدة ستكون حبلى بالتحديّات والصعوبات على المستوى الداخلي والخارجي نظرا للظرفية التي تمرّ بها تونس، فضلا عن التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم اقليميّا ودوليا.

في هذا المقال التفسيري الاستشرافي ، سنحاول الإجابة عن الأسئلة الكبرى المطروحة على أجندة السلطة والمعارضة والمجتمع المدني في المرحلة المقبلة التي لن تكون يسيرة على الجميع وذلك بحثا عن معالم رؤى استراتيجية من شأنها بلورة فرضيات حول وجهة البلاد التي تعيش على وقع انقسام سياسي ومجتمعي حاد يتجاوز نتائج الانتخابات التي فاز فيها حسب النتائج المعلنة من قبل هيئة الانتخابات أستاذ القانون المتقاعد صاحب 66 سنة والذي يدخل عهدة جديدة ولكن هذه المرّة بتجربة في الحكم قد يكون استخلص من خلالها بعض الدروس.

ألغام اقتصاديّة واجتماعيّة: ما العمل؟

بقطع النظر عن الهوّية السياسيّة لمن يحكم تونس، فإنّ الأزمة الاقتصاديّة والإجتماعيّة المستفحلة في البلاد والتي كانت محرّكا من محرّكات الثورة التي أسقطت نظام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليست بالجديدة.

ومن الملاحظ أنّ من أكثر النقاط التي أثارت انتقادات في علاقة بمرحلة حكم الرئيس قيس سعيّد لاسيما بعد منعرج 25 جويلية/ تمّوز 2021 تَواصُلُ حالة التيه والتعثّر الاقتصادي والاجتماعي وهو ما يفسّر تعيين 3 حكومات في 3 سنوات من الفترة الماضية ما يعني تواصل حالة عدم الاستقرار السياسي في القصبة وعموم الحقائب الوزاريّة وغياب رؤية واضحة يتمّ من خلالها اختيار الفريق الحكومي لتنفيذ برنامج يربط بين الآني/ اليومي والاستراتيجي.

يقول الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم في مقابلة مع موقع الكتيبة إنّ “المرحلة القادمة لن تكون نزهة لا لقيس سعيّد ولا للمعارضة نظرا لحجم الأزمة البنيوية والمُركبّة”، مضيفا “أنّ من يحكم تونس سيجد نفسه إزاء أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة ومؤسساتيّة كبيرة جدّا”.

ويرى الحاج سالم أنّ “ملفات كبرى ستكون محدّدة وهي الماء والطاقة والهجرة والمديونية وهي جميعها مرتبطة ببعضها البعض”، محذّرا من أنّ “السلطة الموجودة في السنوات الماضية (يقصد منظومة حكم قيس سعيّد) لم تُثبت حتّى بداية التفكير في حلحلة هذه الملفات من خلال وضع حلول ناجعة”، وفق تقديره.

يضيف جهاد الحاج سالم قائلا:
“على العكس ممّا يجب أن يحصل رأينا نزعات من الرئيس سعيّد نحو تعميق المشاكل فمثلا هل من المعقول أن يخرج ليقول إنّ الماء موجود في الوقت الذي يجمع فيه جميع المهندسين في الماء والمختصون في الفلاحة على أنّ هناك حقيقة علميّة دامغة وهي أنّ تونس تعيش حالة شحّ مائي خطير.”

أمّا بخصوص ملف الطاقة، يرى الحاج سالم أنّ “السلطات التونسيّة لم تقم بأيّ خطوات جديّة في علاقة بالطاقات المتجدّدة والتحوّل الطاقي، بل على العكس من ذلك قامت فقط بخطوة في علاقة بالهيدروجين الأخضر الذي ستكون تبعاته كارثيّة بحسب الخبراء”.

على صعيد آخر، يحذّر الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم من تداعيات السياسات الحالية المتبعة في مجال ملف الهجرة غير النظاميّة قائلا: “السلطات التونسيّة تقوم بإيقاف المهاجرين في البحر ثمّ تقوم بإعادتهم إلى تونس وهو ما خلق أزمات في مناطق مثل صفاقس والمهدية.”

وحذّر مُحدثّنا من خطورة تواصل هذه السياسة التي تقوم على “منع المهاجرين من الذهاب إلى أوروبا ومن جهة ثانية رفض إدماجهم في المجتمع التونسي من خلال منحهم صفة مهاجر أو لاجئ مقابل الحصول على الفتات من الاتحاد الأوروبي والدول الأوربيّة مثل إيطاليا”، منبّها إلى أنّ “أدفاق المهاجرين غير النظاميين سوف ترتفع في السنوات القادمة بفعل الصراعات العنيفة والتغيّرات المناخية وغيرها من الأسباب.”

في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنّ وزير الداخليّة الإيطالي ماتيو بيانتيدوزي كان قد نشر تدوينة على صفحته في الفيسبوك خلال شهر سبتمبر/ أيلول نوّه فيها بمجهودات السلطات التونسيّة في مجال مكافحة الهجرة غير النظاميّة، معلنا أنّ تونس “منعت منذ بداية سنة 2024 وصول أكثر من 61 ألف مهاجر غير نظامي من الوصول إلى السواحل الإيطاليّة”.

وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل من العام الحالي نشرت مجموعة من الجمعيات والمنظمات الناشطة في مدينة الشابّة الساحليّة (تتبع محافظة المهدية) من بينها اتحاد الشغل واتحاد الفلاحة والصيد والبحري بيانا مشتركا حذّرت فيه من “تواجد عدد كبير من المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء القادمين سيرا على الأقدام من صفاقس أو الذين يتمّ انزالهم في ميناء الشابة بعد انقاذهم في عرض البحر، معتبرين أنّ “هذا التواجد لأعداد كبيرة ساهم في تفاقم الخوف والرهبة لدى المتساكنين حيث تعرض بعضهم وبعض المحلات التجاريّة إلى الترهيب من قبل المهاجرين الذين يعيشون ظروفا غير انسانيّة في الكثير من الأوقات.”

وقد دعت المنظمات ذاتها المُوقّعة على البيان السلطات التونسيّة إلى رفع ما اعتبروه “استيطانا” قبل استفحاله في مدينة الشابّة مع احترام الحقوق الإنسانيّة لهؤلاء المهاجرين، وطالبوا بـ”حماية المحاصيل الزراعيّة قبل تفاقم استغلالها دون وجه حقّ وتحمّل وحدات الحرس البحري مسؤوليّة استخراج الجثث حيث أنّ عددا من البحّارة قاطع المهنة جرّاء كثرة الجثث المتعفنّة في المصائد التقليديّة والكيس”، وفق المصدر ذاته.

يشير تقرير صادر عن البنك الدولي في سنة 2021 إلى أنّ حوالي 216 مليونا من البشر قد يضطرون إلى الهجرة بسبب التغيّرات المناخية في حدود 2050. وكشف نفس التقرير أنّ الدول الواقعة في إفريقيا جنوب الصحراء ستشكّل 86 مليونا من أولئك المهاجرين بالإضافة إلى 19 مليونا في منطقة شمال إفريقيا.

أمّا بخصوص ملف المديونيّة والماليّة العموميّة، يشدّد الباحث جهاد الحاج سالم على أنّ “من يقول إنّ تونس قامت بسداد جميع ديونها هو يغالط جميع التونسيين وأنّ من يقول إنّ تونس قطعت مع سياسة الاقتراض هو أيضا بصدد مغالطة الرأي العام”، متسائلا “إلى أيّ حدّ يمكن أن تصمد الدولة في مجابهة ملف توفير المواد الغذائيّة الأساسيّة على المدى الطويل بعد أن نجحت في ذلك ظرفيا خلال المرحلة السابقة؟”.

في نفس السياق، يرى أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسيّة آرام بلحاج أنّ “شعار التعويل على الذات الذي يرفعه الرئيس قيس سعيّد إيجابي لكنّ تحقيق ذلك يتطلّب شروطا ومقوّمات من خلال إعادة تحريك عجلة الإنتاج في الفسفاط على سبيل المثال حيث يجب رفع الإنتاج في القطاع من 2.8 مليون طنّ إلى 8 مليون طنّ كما كان الوضع قبل 2011، فضلا عن القيام بالإصلاح الجبائي على إعتبار أنّ النظام الضريبي الحالي مجحف من جهة ويشجّع على التهرّب الجبائي من جهة ثانيّة، ومحاربة الاقتصاد الموازي وإدماج الفاعلين فيه في الاقتصاد المنظّم”، وفق قوله.

ويضيف محدّثنا أنّ “عدم التداين من صندوق النقد الدولي لا يعني التعويل فقط على الاقتراض الداخلي من خلال الضغط على البنوك متسائلا عن مصير العجز في الميزانية للسنة الحالية 2024 وسداد الديون الخارجية لو لم تقترض الدولة 7000 مليون دينار من البنك المركزي.”

على هذا الأساس، يدعو بلحاج إلى “ضرورة القيام بالإصلاحات الكبرى في علاقة بمنظومة الدعم وكتلة الأجور وتحسين الناتج المحليّ الإجمالي وإصلاح المؤسسات العموميّة وتحسين الحوكمة في الإدارة وتنقية المناخ الاجتماعي”.
.

ويوضح أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسيّة أنّ “ما كان مبرمجا اقتراضه داخليا في ميزانية الدولة لهذا العام تمّ اقتراضه خلال السداسي الأوّل فقط من سنة 2024″، محذرا من خطورة التمادي في هذا التمشي الذي “سيؤثر على حجم الادخار الوطني”، داعيا إلى “التكامل بين السياسة الاقتصاديّة للدولة وبين البنك المركزي الذي لا يمكن الاقتراض منه لسداد القروض الخارجية وتغطية عجز الميزانيّة”، بحسب رأيه.

وأفاد بلحاج أنّ “حجم الدين بالنسبة الى تونس الذي يجب سداده خلال السنوات القادمة يبلغ حوالي 140000 مليون دينار”، كما أنّ “توقّعات نسبة النمو لسنة 2025 تتراوح بين 2.1 بالمائة على الأقصى بالنسبة الى الحكومة و1.8 بالمائة بالنسبة الى صندوق النقد الدولي و 1.2 بالمائة بالنسبة الى البنك الأوروبي للإنشاء والإعمار وهو رقم ضعيف لن يحقّق أكثر من 40 ألف موطن شغل على أقصى تقدير في بلد يعاني من أزمة بطالة وفقر.”

وبحسب نفس المتحدّث فإنّ هذا الوضع “يتطلّب الانتباه لـ 3 تحديّات كبرى وهي إعادة الثقة في مناخ الأعمال للتشجيع على الاستثمار وهذا يستوجب بالضرورة حلحلة ملف رجال الأعمال” (بعضهم في السجن والبعض الآخر غادر من البلاد)، بالإضافة إلى “إعادة ربط العلاقات مع المؤسّسات الماليّة الدوليّة مثل صندوق النقد الدولي على قاعدة برنامج وطني اقتصادي واجتماعي يراعي الواقع التونسي، فضلا عن وضع استراتيجية لمحاربة الفساد بناء على مؤسّسات وسياسات ناجعة لا على قاعدة الشعارات فقط.”

ويخلص آرام بلحاج إلى ضرورة أن يكون كلّ هذا “متّسقا بنجاعة مع المحافظة على القدرة الشرائية للمواطن التونسي وتوفير المواد الأساسيّة لعموم الناس.”

ملفات سياسيّة وحقوقيّة عالقة: أيّ مصير؟

على الرغم من نسبة الأصوات التي كسبها الرئيس قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسيّة 2024، فإنّ طريق تسييره لشؤون الحكم خلال العهدة الجديدة ستكون على الأرجح شائكة من الناحيتين السياسيّة والحقوقيّة.

تكشف نسبة المشاركة الضعيفة عدم رضاء أو لا مبالاة جزء هام من الشعب التونسي (حوالي ربع الناخبين المسجلين فقط صوتوا للرئيس سعيّد وحوالي خمس المجتمع عموما) الذي يبدو أنّه فقد الثقة في العمليّة السياسيّة وقدرتها على تغيير الأوضاع نحو الأفضل.

كما أنّ الرئيس سعيّد سيدخل عهدة جديدة بتركة حقوقيّة تقول منظمات مستقلّة تعنى بحقوق الإنسان إنّها “ثقيلة” بالنظر الى الوضع الذي باتت عليه الحقوق والحريّات عموما في ظلّ سجون لا تخلو من “سجناء سياسيين” و”سجناء رأي” وفضاء عام بات مكبلاّ بالمرسوم 54 سيء الذكر، وقضاء مطعون في استقلاليته، وفق ما ورد في بيانات عدد من المنظمات الوطنية وفي تصريحات عدد من النشطاء وقيادات المجتمع المدني.

تقول الأستاذة الجامعيّة المتخصّصة في القانون العام والناشطة الحقوقيّة حفيظة شقير في مقابلة مع موقع الكتيبة إنّ “من أهم النقاط التي تسمح بتجاوز نقائص المدّة الرئاسيّة السابقة هي إرساء دولة القانون التي تشترط بالضرورة وجود سلط مستقلّة الواحدة عن الأخرى تراقب بعضها البعض مع ضرورة وجود محكمة دستوريّة تسهر على مراقبة دستوريّة القوانين وحماية حقوق الإنسان”.

وتضيف شقير “إنّ دولة القانون تقوم على المساءلة والمحاسبة فضلا عن انتخابات نزيهة وشفّافة لضمان التداول السلمي على السلطة”، داعية إلى “إلغاء المرسوم 54 المتعلّق بالجرائم الالكترونيّة الذي تصفه بأنّه غير دستوري ومكبّل للحريّات ويمسّ بشكل جوهري من حقوق الإنسان”، وفق قولها.

وترى المتحدثّة ذاتها أنّ “حماية الحقوق تتطلّب من المجلس التشريعي أن يلعب دوره في تفعيل باب الحقوق والحريّات ووضع قوانين متلائمة مع الدستور والاتفاقيات الدوليّة التي وقّعت عليها تونس في هذا الجانب.”

كما أكّدت على “ضرورة دعم الأجسام الوسيطة حتّى تلعب دورها في المناصرة ورفع الوعي لدى المواطنات والمواطنين”، معتبرة أنّ “الثورة التشريعيّة تتطلّب مراجعة القوانين التي أصبحت باليّة في مختلف المجالات والقطاعات”.

من المسائل التي تدعم دولة القانون إيجاد قضاء مستقلّ، ففي استقلالية القضاء تدعيم لحقوق الإنسان وإعادة للثقة في مؤسّسات الدولة، والمجلس الأعلى للقضاء يجب أن يلعب دوره في السهر على إصدار أحكام عادلة وموضوعية تلبي طلبات المواطنات والمواطنين.

أستاذة القانون بالجامعة التونسيّة حفيظة شقير

من المهم التذكير في هذا الإطار بأنّ الرئيس قيس سعيّد مازال لم يُركزّ بعد المحكمة الدستورية التي نصّ عليها دستور 2022 على الرغم من أنّ تعيين أعضائها يتمّ بالصفة وليس بالانتخاب في البرلمان على عكس ما كان ينصّ عليه دستور 2014، زيادة على أنّ المجلس الأعلى المؤقت للقضاء حاليا شبه معطّل منذ مغادرة رئيسه منصف الكشو (الرئيس السابق لمحكمة التعقيب) للتقاعد.

في المقابل، يرى الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدوليّة حمزة المؤدب أنّ “الانتخابات كانت منقوصة الشرعيّة ومجرّح فيها وهو ما يدعو إلى ترميم الاجتماع السياسي وفتح حوار وطني يتطلّب بالضرورة بوادر حسن نيّة مثل الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق مساحات الحريّة”.

و يستدرك قائلا: “حاليّا لا توجد بوادر لتنظيم حوار وحتّى ما صرّح به نوفل سعيّد (شقيق رئيس الجمهورية ومدير حملته الانتخابيّة) من دعوة للوقوف على أرضيّة 25 جويلية هو كلام مبهم وغير واضح حيث ربّما يتمّ استنساخ التجربة الجزائرية في حوار ما لكن لا يجب أن نغفل عن كون أنّ السلطة في تونس تاريخيّا ليست لها عادات وتقاليد في التحاور مع المعارضة.”

السلطة سوف تتجه نحو التصعيد وخنق الحريّات فهي تشعر بالقوّة رغم الشرعيّة المنقوصة لكنّها تعتبر نفسها نجحت في امتحان الانتخابات وهذا قد تكون له ارتدادات اجتماعيّة تدفعها لاحقا نحو العمل على التهدئة.

الباحث حمزة المؤدب

ويضيف حمزة المؤدب أنّ “المسألة السياسيّة حارقة وهو ما يعزّز الحاجة إلى تهدئة وخلق نوع من الحوار حتّى يقع الالتفات إلى القضايا الاقتصاديّة”، معتبرا أنّ “السلطة الحاليّة ليست لها القدرة على التنفيس واستباق الأزمات لا سيما وأنّ السنوات القادمة ستكون صعبة جدّا في ظلّ عجز الرئيس سعيّد عن بناء منظومة قادرة على الاستدامة رغم الاعتماد على الأجهزة الأمنية”.

وحذّر المؤدب من خطر “الانفجار الاجتماعي الذي قد يدفع منظومة الحكم الحالية إلى الزاوية”، مؤكدا أنّ ما وصفه “بحزب الادارة مجسدا في حكومة كمال المدوري سيكون دوره فقط حلحلة المشاكل اليوميّة في ظلّ غياب المرونة والذكاء والهندسة السياسيّة لأفق سياسي محوره سيكون انتخابات 2029”.

مخاطر منظومة حكم الرئيس سعيّد تكمن في الهشاشة وعدم القدرة على بناء منظومة قادرة على الاستدامة.

الباحث حمزة المؤدب

محدثنا علّل هذا الطرح بالقول “إنّ الدولة التونسيّة تعيش على وقع منظومة منتهية الصلوحيّة منذ الثمانينات حيث تمّ استنفاد كلّ أدوات إدارة الأزمة قبل وبعد الثورة في 2011 وهو ما يتطلّب اجتماعا وطنيّا من خلال مشروع قادر على الدخول بالبلاد إلى القرن 21 بعد إضاعة قرابة ربع قرن.”

في نفس السياق، شدّد محدثنا على أنّ “تونس تعيش حقيقة في الماضي بكلّ التفاصيل، اقتصاد فاشل وإدارة من القرن الـ20، وهذا ما يفسّر هجرة الشباب نحو الخارج وقد باتت هذه الظاهرة تمثّل كارثة على اعتبار أنّ البلاد التونسيّة رأسمالها الأهم هو البشري”، وفق تعبيره.

ويرى الباحث حمزة المؤدب أنّ “السلطة الحاليّة ليست لها قواعد اجتماعيّة بالمعنى الحقيقي للكلمة لكي تؤسّس لمشروع يقوم على التغيير السياسي فالعمود الفقري لهذا النظام هو الأجهزة الأمنيّة مع بعض الطامعين والمتمّلقين الذين قد يزداد عددهم في الفترة القادمة، فضلا عن بعض الشبكات الزبونيّة مثل الشركات الأهليّة التي بان بالكاشف أنّ تمثّل طرحا متهافتا لا غير.”

واعتبر المؤدب أنّ تونس تحتاج إلى “فتح ورشات تفكير في علاقة بالمستقبل لا للتهجّم على المعارضة ومن أسماهم الرئيس سعيّد بالمتآمرين والخونة والمشكّكين”، مؤكدا أنّ “التعامل بتعسّف مع المعارضة لن يحلّ مشاكل البلاد وأنّ على السلطة العمل على هضم المعارضات واستيعابها كما حصل في التجربة المغربية مع اليسار والإسلام السياسي وغيرها من التشكيلات السياسيّة.”

عزلة دوليّة: ماذا بعد؟

من خلال إلقاء نظرة على الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة التونسيّة، يلاحظ المتابعون للشأن السياسي والدبلوماسي التونسي شبه غياب لبرقيات أو مكالمات تهنئة معلنة صادرة عن دول أوروبيّة أو غربيّة عموما بمناسبة فوز قيس سعيّد بالانتخابات، وذلك رغم مرور أكثر من أسبوع على إعلان النتائج.

في الحقيقة، فإنّ فتور علاقة تونس في عهد الرئيس سعيّد بالشركاء الغربيين التقليديين خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدّة الأمريكيّة ليس بجديد خلال السنوات الأخيرة وهو ما يفسّر تقاربا بدأ يتعزّز في الفترة الماضية خاصة مع الصين وروسيا.

يقول المؤرخ والجامعي عبد اللطيف الحنّاشي في مقابلة مع الكتيبة “إنّ الوضع العام الذي تعيشه المنطقة قد يكون ساهم في تعطيل أو تغييب برقيات التهنئة الغربية للرئيس سعيّد وربّما قد يكون هناك البعض من عدم الرضا”.

ويشدّد المتحدّث ذاته على أنّه “لا يمكن الحديث عن قطيعة نهائيّة بين نظام سعيّد والقوى الغربيّة، كما أنّه من الصعب أن يقع اصطفاف كامل مع معسكر الصين وروسيا لأنّ المسألة مرتبطة بقدرات تونس وعلاقاتها التقليديّة”، لافتا النظر إلى ما أسماه بـ”المحور التونسي الايطالي الجزائري الذي أخلّ بالموقف التونسي من قضيّة الصحراء وهو ما أثّر على علاقة تونس بالمغرب”.

ويرى الحنّاشي أنّ “هناك تحوّلات حاصلة في الخليج العربي وهناك رغبة شديدة في أن تكون هناك خاصة استثمارات سعودّية في تونس وربّما إماراتيّة أيضا”، مذكرّا بأنّ “الاقتصاد هو رهين الاستقرار السياسي وأنّ علاقات تونس بمحيطها الخارجي ستكون مرتبطة أيضا بالأزمة في ليبيا على اعتبار وجود رهان كبير في علاقة بهذا الملف”، مضيفا أنّ “الاستثمارات ستكون رهينة النتائج التي ستفرزها الأزمة في ليبيا التي لها ارتباط وثيق بتونس”.

وأكّد عبد اللطيف الحنّاشي على أنّه “لا يمكن فصل تونس عن التحوّلات التي تجري في الشرق الأوسط وفي إفريقيا جنوب الصحراء حيث تبحث جميع القوى الكبرى عن موطئ قدم”، موضحا أنّه “من الصعب الحديث عن عزلة تونسيّة حيث لا يمكن أن تأخذ تونس مسافة عن علاقاتها التقليديّة بالقوى الغربيّة وذلك لأسباب عديدة تاريخيّة وثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أيضا.”

في المقابل، يرى الباحث حمزة المؤدب أنّ “العلاقات الدوليّة والجغراسياسيّة أصبحت تعيش حالة من التّوحش الكبير حيث انتهى عصر الخطاب المبني على الحقوق والحريّات والديمقراطيّة وجلّ الدول تقريبا انكفأت على نفسها بشكل جعل لغة المصالح فقط هي السائدة”، معتبرا أنّ “تونس من هذه الناحية فاقدة لمقوّمات السيادة وغير قادرة حاليا على فرض نفسها في هذا السياق الدولي المُتوّحش.”

ويضيف المؤدب أنّ “سؤال استقلالية القرار الوطني يجب أن يطرح على السلطة، فضلا عن سؤال النجاعة الاقتصاديّة وسؤال الأمن بمختلف أبعاده الطاقي والغذائي والسيبراني في عالم صار أكثر توحشا”، مبرزا أنّ “تونس تعيش تقريبا على وقع عزلة دوليّة حيث ألحقت بمحور جزائري إيطالي محوره الأمن والهجرة والطاقة وقد يحدّد مستقبل البلاد من هذه الناحية خاصة أنّ الأوروبيين سيركزّون في مقاربتهم في السنوات القادمة تقريبا على ملف الهجرة فقط”.

وذكّر الباحث في العلاقات الدوليّة والاقتصاد السياسي بأنّ “تونس هي شريك أساسي للمعسكر الغربي من خارج الناتو والجميع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة مهتم بألّا يحصل تقارب كبير بين تونس والصين وروسيا بحيث يقع إبقاء البلاد في مجالها الحيوي الجيو ـ استراتيجي مثلما هو الحال منذ أكثر من نصف قرن رغم التنافس الأمريكي الروسي الصيني الكبير الذي بلغ مداه شمال أفريقيا.”

كما وصف المؤدب خطاب السلطة في تونس بـ “النفاقي” في علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة التي باتت “قضيّة محوريّة حاليا في العالم”، مُشبّها الموقف التونسي بموقف “البعث وأنظمة الممانعة التي تحتكر خطاب نصرة القضيّة الفلسطينيّة دون خيارات سياسيّة واضحة ربّما فقط من أجل تنفيس الرأي العام المحليّ”، وفق تعبيره.

ونبّه المؤدب إلى “خطورة الوضع في ليبيا و ارتداداته الممكنة على تونس في حال حصول تدهور في الفترة القادمة ما قد يعطّل بداية التعافي الاقتصادي ويخلق تحدّيات أمنية مضاعفة”، مستبعدا فرضيّة أن تنزل دول الخليج مثل السعوديّة والإمارات بكلّ ثقلها لضخّ “دعم مالي سخيّ لنظام الرئيس سعيّد”، ومذكرّا بأنّ الدول الحليفة حاليا بقوّة لتونس وهي إيطاليا والجزائر “غير قادرة من الناحية الماليّة على دعم الدولة التونسيّة بأموال ضخمة فهي بدورها تعاني من مشاكل وصعوبات وإمكانياتها الذاتيّة لا تسمح بذلك،” وفق تقديره.

أزمة المعارضة وشبح الفراغ السياسي: هل من بديل؟

منذ منعرج 2021، بان من الكاشف أنّ نظام قيس سعيّد السلطوي لا يستمد قوته فقط من شعبيّة الرئيس في حدّ ذاته، وثقة فئات من الشعب فيه وفي خياراته السياسيّة التي جاءت على أنقاض فشل تجربة الانتقال الديمقراطي، بل إنّ جزءا من مصدر هذه الشوكة يكمن في غياب أحزاب قويّة ومعارضة قادرة على التعبئة الشعبيّة ضدّه، دون نسيان المحاكمات السياسيّة طبعا التي ألقت بعدد من القيادات في السجون.

تقول أستاذة القانون حفيظة شقير في حديثها لموقع الكتيبة “إنّ العهدة الماضية التي أنتخب فيها قيس سعيّد كانت على أساس دستور سنة 2014 الذي ألغي، موضحة أنّ “انتخاب سعيّد في 2024 كان على أساس دستور 2022 الذي ينصّ في الفقرة الأخيرة من الفصل 90 على أنّه لا يجوز لرئيس الجمهوريّة أن يجدّد ترشحه إلا مرّة واحدة ما يعني من حيث المنطق القانوني والدستوري أنّه يحقّ له الترشح مجدّدا في سنة 2029.”

يطرح سيناريو إمكانية بقاء الرئيس قيس سعيّد في سدّة الحكم وفق الدستور إلى غاية 2034، أسئلة عديدة على قوى المعارضة في تونس التي تعيش بدورها أزمة عميقة تنذر بشبح فراغ سياسي في الضفة المقابلة لرئيس الدولة الحالي، لا سيما في حال اهتراء منظومة الحكم بسبب المصاعب الاقتصاديّة والاجتماعيّة المستعصية، وبروز فرصة للتغيير الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسيّة القادمة.

في هذا الإطار، يرى الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم أنّ سؤال آفاق المعارضة في تونس يعدّ “سؤالا حارقا” حيث أنّه “لا يجب أن ننسى أنّ جزءا من المعارضة حاليا في السجن ومن المهم أن نعرف مآلات القضايا بعد الانتخابات خاصة أنّ العديد منهم دون أحكام باتة”.

ويعتبر الحاج سالم أنّ “تجربة جبهة الخلاص التي تمحورت حول حركة النهضة بعد 2021 انفرط عقدها وتقريبا انتهت”، متسائلا “أين سيذهب جمهور المعارضة الإسلامية في المستقبل؟”.

ويشدّد محدثنا على أنّ “حزب العمل والإنجاز بقيادة الوزير الأسبق والقيادي السابق في حركة النهضة عبد اللطيف المكيّ يقوم بعمل جيّد وقد يكون له مستقبل في قيادة المعارضة الإسلاميّة في تونس”.

أمّا بخصوص من أسماها بـ”المعارضة الديمقراطية”، فيرى الباحث في علم الاجتماع أنّ “مستقبلها غامض في ظلّ تشكلّها حول الشبكة التونسيّة للحقوق والحريّات التي تشكلّت أساسا من جمعيات”، مشيرا إلى أنّ “العديد من الجمعيات المكوّنة للشبكة مهدّدة بالتجميد أو بمنع التمويل الأجنبي في حال تغيير القانون أو وضع رقابة قبليّة”.

كما اعتبر أنّ “تجربة القوميين انتهت نهاية سلبيّة بعد فشل زهير المغزاوي في الانتخابات”، متسائلا عن “مستقبل هذا التيّار السيّاسي الذي تقوده خاصة حركة الشعب التي تضمّ جناحا مساندا لقيس سعيّد وآخر يساند مسار 25 جويلية ولكنّه مع فكرة أخذ مسافة من نظام سعيّد.”

وفي علاقة بالعائلة الدستوريّة التي وصفها بـ”اللغز الكبير”، يرى الحاج سالم أنّ “الرئيس قيس سعيّد نجح في استقطاب جزء هام منها يتجلى خاصة في البرلمان”، مؤكدا “أنّ عبير موسي لو تخرج من السجن يمكن أن تتزعمّ هذا التيّار ولكنّ سؤال القدرة على التجميع يبقى مطروحا عليها”.

وبخصوص اليسار، يقول الحاج سالم “إنّ اليسار في تونس يسارات” وأنّ جزءا من اليسار هو الآن مع السلطة والجزء الآخر في المعارضة، غير أنّ فكرة توحيد اليسار تبدو صعبة حيث يوجد “يساريون دون يسار حاليا.”

الطبيعة تأبى الفراغ. من المؤكد ستكون هناك قوى سياسيّة معارضة في المستقبل تملأ هذا الفراغ. بدائل التوحيد بالطرق التقليديّة لن تثمر شيئا. حاليا قيس سعيّد في طريق مفتوح لكنّه لن يكون في نزهة. والمعارضة أمامها فرصة لكي تعيد التشكلّ بطرق جديدة وهذا يتطلّب بعض الوقت.

الباحث جهاد الحاج سالم

من جهة ثانية، يرى الباحث حمزة المؤدب أنّ “تونس اليوم تشهد نهاية للمشاريع السياسيّة والأيديولوجيات الكبرى التي هيمنت على المشهد السياسي طيلة نصف قرن أو أكثر حيث انتهى الإسلام السياسي إلى الفشل، كما انتهى التيّار الدستوري الذي حكم البلاد طيلة عقود فصار مجرد شبكات زبونيّة دون أي قدرة على إعطاء معنى لمجتمع تائه واليسار بدوره يعيش أزمة منذ عقود”.

ويضيف في نفس السياق قائلا: “الاجتماع السياسي التونسي في تجاربه التي عرفناها طيلة عقود انتهت كما انتهت البورقيبيّة والديمقراطية دون تغيير اقتصادي يؤسّس لتوزيع عادل للثورة لا يمكن أن تصمد لهذا تونس تحتاج إلى كسر كلّ أشكال الريع والاستيلاء على الثروة من قبل الأقليّة مع ضرورة حلحلة الأزمة الهيكليّة في منوال التنمية”، مشدّدا على أنّ “الشعبويّة تقدّم إجابات سهلة وبسيطة على أسئلة صعبة وهو ما يؤكد فرضية عدم قدرتها على الاستدامة وتوطيد أركانها.”

ويرجح المؤدب أن تتمّ إعادة فتح قوس الديمقراطية عاجلا أو آجلا على اعتبار أنّ الأزمة الهيكليّة الحالية تؤكد أنّ غلق القوس سيكون أقصر هذه المرّة في ظلّ النظام المأزوم الذي يحكم تونس.”

وقد دعا القوى المعارضة إلى “تقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي دون القفز على التجربة بسرعة بكلّ نجاحاتها وإخفاقاتها وانكساراتها وخطاياها”، فمن المهم حسب رأيه “القيام بقراءة نقدية بعيدا عن جلد الذات لمعرفة أسباب صعود غول الشعبويّة الذي أكل الجميع”، وفق تقديره.

كما أكّد أنّ التقييم بالنسبة الى المعارضة “يجب أن يشمل أيضا تجربة ما بعد2021 خاصة أنّ النظام الحالي نجح في إعادة انتخابه بصفر إنجازات”، داعيا إلى ضرورة التركيز بعد هذا على سؤال “ما العمل؟”.

ويضيف الباحث حمزة المؤدب قائلا: “هناك جمهور للمعارضة خاصة أنّ أكثر من 70 بالمائة من الناخبين لم يشاركوا في الانتخابات وهذا يدلّ على وجود جمهور توّاق إلى بدائل لكنّ المشكل يكمن في كيفية بلورة هذه البدائل وإيجاد مساحة للالتقاء، كما أنّ هذه البدائل تحتاج إلى بعض الوقت لتصنع خطابا وتقدّم طرحا”.

ويرى المؤدب أنّ “كلّ الأحزاب تقريبا تمّت تصفيتها تنظيميا وحتّى شبكاتها التي مازالت موجودة هي الآن مقموعة وفاقدة للأمل”، مؤكدا “أنّ هناك جيل أو جيلان على الأقل من السياسيين أنهاهم فشل تجربة الانتقال الديمقراطي وصعود الشعبويّة حيث لم تعد لهم القدرة على تجديد الطرح السياسي والتصدّي للرئيس سعيّد.”

على هذا الأساس، يقول محدثنا إنّ “السنوات الخمس القادمة تتطلّب الابتكار وصعود وجوه جديدة بالنظر إلى أنّ هناك وجوها سياسيّة أُستهلكت ونحو جيلين وقعت تصفيتهما سياسيا ما يتطلب بروز قيادات جديدة ومنصات جديدة وصيغ تنظيميّة بديلة تكون مرنة ومفتوحة لأنّ السياق سيكون قمعيّا والحركة ستكون أصعب”، مضيفا أنّ “هناك بوادر لبروز سياسيين جدد أربعينيين أو خمسينيين في تونس، لكن هناك محدّدان أساسيان لدور المعارضة في المرحلة القادمة هما السياق الذي ستتحرّك فيه والقدرة على العمل الجماعي.”

كما يتوّقع المؤدب أن تكون “المعارضة موجودة في النقابات والقطاعات مثل المحاماة حيث أنّه في كلّ مراحل القمع في تاريخ تونس كان هناك التجاء إلى الأطر القطاعيّة للاحتماء بها أوّلا ومواصلة العمل السياسي من ناحية ثانية وذلك بسبب غياب فضاء عام سياسي مفتوح،” وفق تقديره.

ويخلص حمزة المؤدب إلى أنّه “في السنوات الخمس القادمة على الجميع أن يفكّر في سنة 2029 من اليوم حيث ستكون هناك ورشة كبرى مفتوحة أمام الجميع في علاقة بمستقبل البلاد لاسيما وأنّ قيس سعيّد ليست له القدرة على بناء نظام يدوم أكثر من عهدته دون نسيان الأزمة الهيكليّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتنمويّة والتحوّلات الاقليميّة والدوليّة.”

المجتمع المدني وأزمة اتّحاد الشغل: أيّ آفاق؟

يوفّر قطاع الجمعيات (حوالي 25 ألف جمعيّة متحصّلة على التأشيرة من بينها أكثر من 7000 جمعيّة ناشطة فعليا حسب السجل الوطني للمؤسّسات) حوالي 40 ألف موطن شغل بشكل مباشر في تونس. ويساهم المنتظم الجمعياتي بزهاء 1.7 % من الناتج المحلّي الخام في البلاد، وفق دراسة لمركز الكواكبي، وذلك بفضل مناخ الحريّة في تأسيس الجمعيات والعمل المدني الذي أتاحه المرسوم عدد 88 لسنة 2011.

وكان الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس (اتحاد الشغل، رابطة حقوق الإنسان، عمادة المحامين، ومنظمة الأعراف) قد تحصّل على جائزة نوبل للسلام في سنة 2015 وهو ما يبرز الدور البارز للمجتمع المدني في المعادلة الوطنيّة والسلم الاجتماعية.

غير أنّ العديد من المكاسب التي تحقّقت بعد الثورة في علاقة بالمجتمع المدني تبدو في طريقها للقضم وربّما التلاشي بفعل الوضع السياسي الذي فرضه الرئيس قيس سعيّد الذي لا يتردّد في اتّهام المنظمات والجمعيات غير الحكومية والناشطين.ات في المجال المدني بـ “العمالة” و”الخيانة” و”خدمة أجندات أجنبية” و”الارتماء في أحضان السفارات”.

وتعدّ نقطة التمويل الأجنبي من أكثر النقاط إثارة للجدل في علاقة بعمل الجمعيات والمنظمات، حيث تمّ الكشف عن أكثر من مبادرة تشريعيّة حكوميّة أو برلمانيّة خلال السنوات الأخيرة لإلغاء المرسوم عدد 88 وتعويضه بقانون جديد قد يلغي نهائيا إمكانية الحصول على تمويل خارجي بالنسبة الى منظمات المجتمع المدني أو يفرض على الأقل رقابة قبليّة وتضييقات على حرّية تكوين الجمعيات حتّى تصبح العمليّة برمتها رهينة قرار من السلطة سواء كان سياسيا أو أمنيا أو قضائيا.

جدير بالذكر أنّ العديد من الشخصيات القيادية الناشطة في المجتمع المدني تقبع منذ فترة في السجن في علاقة بموضوع التمويلات والأنشطة، كما أنّ عددا من الجمعيات بات يخضع لملاحقة قضائيّة وأمنيّة.

تؤكد أستاذة القانون بالجامعة التونسيّة والناشطة الحقوقيّة حفيظة شقير أنّ “الجمعيات في حاجة إلى التمويل على اعتبار أنّ التطوّع لوحده غير كاف”، مبرزة “ضرورة الترافع لدى البرلمان في المرحلة القادمة من أجل إقناعه في حال ما قرّر سنّ قانون جديد بعدم إلغاء مسألة التمويل الأجنبي لا سيما وأنّ العديد من الجمعيات لها صبغة تنموية وهي توفر مواطن شغل وتساهم في بعث مشاريع”، داعية “إلى عدم التعميم وعدم وضع المجتمع المدني برمتّه في سلّة واحدة خاصة أنّه يمكن اتخاذ إجراءات قانونيّة في حقّ الجمعيات التي قد تكون استغلت التمويل لأغراض أخرى غير العمل المدني”.

بدوره، يرى أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسيّة آرام بلحاج أنّ “موضوع التمويل الأجنبي يجب ألّا يكون تعلّة لقتل المجتمع المدني الذي يمثّل قوّة اقتراح حيث يجب ألّا يتمّ اعتباره عدوّا للسلطة الحاكمة بل هو مكمّل للنشاط الحكومي وعمل الدولة خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي”.

التمويل الأجنبي حينما يكون مؤطرا ومراقبا لا يطرح أيّ إشكال. منع مصادر التمويل سيقتل المجتمع المدني. الدولة بدورها تتحصّل على تمويلات أجنبية وقروض وهبات خارجيّة. يجب ترك الباب مفتوحا مع فرض الرقابة.

أستاذ الاقتصاد آرام بلحاج

لاشكّ في أنّ التحدّيات التي ستعترض المجتمع المدني في تونس خلال الفترة القادمة لن تقتصر فقط على الحريّات والحقّ في التنظّم والنشاط والحقّ في الولوج إلى تمويل المشاريع التي يعمل عليها، بل ستشمل أيضا مسألة التقييم والنقد الذاتي والمراجعات لحلحلة بعض الأزمات الداخلية كما هو الحال بالنسبة الى الاتحّاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمّاليّة تضمّ قرابة 700 ألف منخرط) الذي يعيش على وقع أزمة مركبّة تسبّبت في الحدّ من تأثيره وفاعليته خاصة في ظلّ تعطّل الحوار الاجتماعي وبرود العلاقة بالسلطة الحاكمة.

تقول حفيظة شقير وهي نقابيّة سابقة في قطاع التعليم العالي وقطاع المرأة العاملة في المنظمة الشغيلة بأنّه “حينما يكون إتّحاد الشغل قويّا يكون المجتمع المدني مزدهرا”، داعية إلى ضرورة تجاوز الصعوبات والنقائص والتفكير في تطوير العمل النقابي مثل العمل المدني من أجل بناء ثقة بين المواطنات والمواطنين والمجتمع المدني خاصة في ظلّ أزمة الثقة في الأحزاب.”

ويرى الباحث حمزة المؤدب أنّ “التلاعب الذي حصل بقوانين المنظّمة عمّق الأزمة في اتحاد الشغل ومنع فرصة تصعيد جيل قيادي جديد صلب الإتحاد”.

يذكر أنّ المؤتمر الاستثنائي لاتحاد الشغل في سنة 2021 أفرز تنقيحا طرأ على القانون الأساسي في فصله الـ20 الذي كان يمنع على أعضاء المكتب التنفيذي تولّي هذا المنصب لأكثر من دورتين وهو ما خلق شرخا كبيرا تصاعدت على إثره المعارضة النقابيّة التي يقودها تيّار في جزء هام منه مساند للرئيس قيس سعيّد.

من هذا المنطلق، دعا المؤرخ الجامعي المتخصّص في التاريخ المعاصر عبد اللطيف الحنّاشي (وهو أيضا ناشط نقابي وحقوقي) إلى “تشكيل لجنة حكماء تضمّ مسؤولين قدامى من المكتب التنفيذي للمنظمة مع بعض الخبراء والناشطين النقابيين من أجل الخروج من هذه الأزمة الهيكليّة لا سيما وأنّ هذا الوضع أثّر على الدور الاجتماعي والوطني للمنظمّة التي يجب أن تلعب دورها أمام غلاء الأسعار المشطّ والتجاوزات المرتكبة في حقّ العمّال”.

واعتبر الحنّاشي أنّ “على الاتحاد مراجعة البعض من مواقفه تجاه السلطة كما أنّ السلطة يجب أن تراجع بعض القرارات والأوامر التي أصدرتها والتي مسّت من الحقّ النقابي”، داعيا إلى ضرورة “حصول نوع من التوافق والانفتاح بين الاتحاد والحكومة لأنّ القطيعة لا تخدم رئيس الجمهورية ولا المنظمة الشغيلة ولا الوضع العام في البلاد”، مؤكدا أنّ “هذا التمشي يجب أن ينسحب أيضا على منظمة الأعراف التي تعيش هي الأخرى على وقع أزمة حيث لم يتمّ عقد مؤتمرها الانتخابي إلى حدّ الآن”.

كما شدّد الحنّاشي على ضرورة “محافظة الاتّحاد على مبادئه الكبرى المتمثّلة خاصة في الدفاع عن الحريّات العامّة و حقوق العمّال والدور الاجتماعي للدولة.”

في انتظار أداء اليمين الدستوريّة أمام مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، يبدو أنّ المرحلة القادمة لن تكون مفروشة بالورود بالنسبة للرئيس قيس سعيّد الذي سيكون نظام حكمه أمام تحديّات جمّة ليس من السهل تجاوزها دون تقوية للجبهة الداخليّة ومحاولة استباق الأزمات والتقليل من خطورتها على الوضع العام في البلاد.

غير أنّ ما يمكن التأكيد عليه في الختام أيضا هو المسؤولية الكبرى التي ستكون ملقاة على عاتق القوى المعارضة والمجتمع المدني من أجل القيام بالمراجعات اللازمة وتحديد أطر موضوعية للصراع السياسي والاجتماعي بشكل يدفع البلاد نحو تجنب انهيار السقف على الجميع.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من المحاولات العديدة التي قامت بها هيئة التحرير في موقع الكتيبة من أجل تمكين ممثلين عن السلطة أو شخصيات مقربة منها للتفاعل مع جملة التساؤلات المطروحة في هذا المقال، فإنّ جميع المساعي ارتطمت بعدم الردّ.

كلمة الكتيبة:
على الرغم من المحاولات العديدة التي قامت بها هيئة التحرير في موقع الكتيبة من أجل تمكين ممثلين عن السلطة أو شخصيات مقربة منها للتفاعل مع جملة التساؤلات المطروحة في هذا المقال، فإنّ جميع المساعي ارتطمت بعدم الردّ.

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة

تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب
مونتاج: محمد علي منصالي
تطوير تقني: بلال الشارني
مونتاج: محمد علي منصالي
تطوير تقني : بلال الشارني
تدقيق: وليد الماجري
غرافيك: منال بن رجب

الكاتب : محمد اليوسفي