الكاتب : عبدالله الزين الحيدري

أستاذ باحث علوم الإعلام والاتصال، بجامعة قطر (سابقا). خبير لدى المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني.

إنّ مهنة الإيمان تقود بلا ريب إلى قوّة الإبصار حيث المستحيل يظلّ ممكنا. إنّه المسار الذي سلكته حماس منذ وقبل طوفان الأقصى، لتتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة موسومة بطابع الجهاد كقوّة فعليّة منبجسة من قوّة رمزية أطاحت بعقيدة جيوستراتيجيّة عمّرت أكثر من نصف قرن في المخيال السياسي والثقافي العربي.

لقد تجرّأت حماس في السّابع من أكتوبر تشرين الأوّل على اقتلاع جذور هذه العقيدة المترهّلة لترى بمنظار الإيمان ما لم يُبصر بمنظار التطبيع السّرّي والعلني. فالإيمان، من منطلقه الفلسفي بما هوّ مبدأ العمل والقوة، مَنَح حماس سلاح القوّة الذي لم يَحسب له الكيان الإسرائيلي حسابا، أو أنّه استخفّ بذلك من حيث هو قوّة، بدونها لا يمكن أبدا الحصول على الأشياء العظيمة. إنّ امتهان الإيمان كقوّة، بات لدى حماس عُرفا جاريا، لم تقدر عليه الآلية العسكريّة الصهيونيّة، بل نراها تدمّر جميع البنى التحتية لغزّة بأطفالها ونسائها وشيوخها، معتقدين بقّوة السلاح، مَحوَ المقاومة بعتادها وعُرفها.

إنّهم في الواقع يقاتلون بنية لا توجد في الأنفاق ولا في المباني التي حوّلوها إلى ركام. إنّهم، باختصار، يقاتلون شيئا عالقا بالزمن لا تناله الذخيرة العسكريّة. وإنّهم لواهمون في البحث عن قادة حماس ومطاردتهم أينما حلّوا، لأنّ هؤلاء، في صيرورتهم الإنسانيّة، ملتزمون بعُرف أدركوه كمعطى فطري عالق بالزمن، فحيث ما نال الحلف الصهيوني العربي الأمريكي منهم، فإنّ هذا الحلف سيظل بتفوّقه التكنولوجي والعسكري وبإنجازاته التدميريّة عاجزا على تدمير العُرف بوصفه كيفيّة وجود، متشكّلة، متحوّلة في الزمان، محصّنة بقبّة إيمانيّة.

الكاتب : عبدالله الزين الحيدري

أستاذ باحث علوم الإعلام والاتصال، بجامعة قطر (سابقا). خبير لدى المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني.

إنّ مهنة الإيمان تقود بلا ريب إلى قوّة الإبصار حيث المستحيل يظلّ ممكنا. إنّه المسار الذي سلكته حماس منذ وقبل طوفان الأقصى، لتتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة موسومة بطابع الجهاد كقوّة فعليّة منبجسة من قوّة رمزية أطاحت بعقيدة جيوستراتيجيّة عمّرت أكثر من نصف قرن في المخيال السياسي والثقافي العربي.

لقد تجرّأت حماس في السّابع من أكتوبر تشرين الأوّل على اقتلاع جذور هذه العقيدة المترهّلة لترى بمنظار الإيمان ما لم يُبصر بمنظار التطبيع السّرّي والعلني. فالإيمان، من منطلقه الفلسفي بما هوّ مبدأ العمل والقوة، مَنَح حماس سلاح القوّة الذي لم يَحسب له الكيان الإسرائيلي حسابا، أو أنّه استخفّ بذلك من حيث هو قوّة، بدونها لا يمكن أبدا الحصول على الأشياء العظيمة. إنّ امتهان الإيمان كقوّة، بات لدى حماس عُرفا جاريا، لم تقدر عليه الآلية العسكريّة الصهيونيّة، بل نراها تدمّر جميع البنى التحتية لغزّة بأطفالها ونسائها وشيوخها، معتقدين بقّوة السلاح، مَحوَ المقاومة بعتادها وعُرفها.

إنّهم في الواقع يقاتلون بنية لا توجد في الأنفاق ولا في المباني التي حوّلوها إلى ركام. إنّهم، باختصار، يقاتلون شيئا عالقا بالزمن لا تناله الذخيرة العسكريّة. وإنّهم لواهمون في البحث عن قادة حماس ومطاردتهم أينما حلّوا، لأنّ هؤلاء، في صيرورتهم الإنسانيّة، ملتزمون بعُرف أدركوه كمعطى فطري عالق بالزمن، فحيث ما نال الحلف الصهيوني العربي الأمريكي منهم، فإنّ هذا الحلف سيظل بتفوّقه التكنولوجي والعسكري وبإنجازاته التدميريّة عاجزا على تدمير العُرف بوصفه كيفيّة وجود، متشكّلة، متحوّلة في الزمان، محصّنة بقبّة إيمانيّة.

الخطأ في السياسة هو عدم الإيمان بما هو غير محتمل وعدم توقع ما لم نره من قبل.

غابرييل تارد

تمهيد .. روايات الحقّ والباطل

في الفضاء الإقليدي للتاريخ، إنّ أسرع مسار من نقطة إلى أخرى هو الخط المستقيم، خط التقدّم والديمقراطية. لكنّ هذا ينطبق فقط على الفضاء الخطّي للتنوير. فضاؤنا نحن، فضاء غير إقليدي، فيه يعرج انحناءٌ شرّير يحوّل كلّ المسارات بشكل لا يُقهر ( Baudrillard, 1992. p23).

من منظار هذه الاستعارة الفيزيائيّة كان بودريار يرصد درب الزّمنيّة الرّاهنة كحالة معبّرة عن فوضى الزّمن، حالة يغمرها العماء ويسودها الاضطراب وعدم الاستقرار، حالة تبتلع فيها الرّاهنيّة التاريخ، حالةُ تفكّك وتشظي تناثرت على سطحها قيم الحداثة في مشهد مثير، مزدحم بالنهايات، فضلا عن الخطابات الصّاعدة حول البعديات التي صدّع هديرها الفلسفي آذان العالم حين اتّخذ من الحداثة قِطْرًا لنحت صنم فكري يُدعى ما بعد الحداثة، فصنمٌ آخر اسمه الحداثة الفائقة أو ما فوق الحداثة، ذلك أنّ الأوّل سرعان ما ترهّل، وينبغي بأيّة حال التصرّف حتى لا تندثر سلالة الحداثات هذه.

والحاصل هو مزيد من الضجيج الفلسفي ومن التدهور الحادّ لمعنى الحياة أصلا. ويبدو أنّ السؤال الذي طرحه كانط منذ ما يناهز ثلاثة قرون: “ما هو الإنسان؟” لم يجد جوابا إلى يومنا هذا، أو أنّ الإجابة عنه كانت معتلّة، وحتّى فوكو الذي أمسك بتلابيب فلسفة كانط وتسلّق شعابها ليزرع بذور التفكير في أنطولوجيا الحاضر كمدخل مبشّر بحداثة فلسفيّة تُحدّد وظيفة الفلسفة ومعانيها انطلاقا من تشخيص الحاضر، لم تكن راهنيّته بالمناعة الفكريّة والفلسفيّة المتماسكة لتقاوم ضروب الطغيان المادّي والسياسي المعاصر وألوان التفسّخ الأخلاقي.

ولو عدنا لفحص ما طرحه فوكو من أسئلة استهلّ بها فصول فلسفة جديدة في الانشغال بالحاضر، لكرّرنا طرح الأسئلة ذاتها، وهي أسئلة قيّمة من الدرجة الأولى، من قبيل :”أيّ معنى للاشتغال بالفلسفة اليوم؟” ولمّا كان الانشغال بالرّاهن أي الانشغال بالحدث هو المحدّد للتفلسف، وهذا جواب فوكو على أسئلته، كان لا بدّ من تحديد أنطولوجي للحدث. ما هو الحدث اليوم؟ في سياق اتّسم بالإفراط في كلّ شيء، الإفراط في الاستهلاك، الإفراط في اللّذة، الإفراط في السلطة والتسلّط، الإفراط في القوّة والإفراط في القتل ومنه حديثنا عن الإفراط في الإبادة الجارية في غزّة والذي يقابله إفراط في الفرجة وإفراط في الصمت، وإفراط في الخذلان. هذا هوّ الحدث اليوم. حدث بالمعنى التاريخي، وهو أبعد من أن يكون حدثا ميدياتيكيّا تصنعه الميديا بمقارباتها الدراماتورجيّة، تبتلعه لتجترّه متى أرادت. الحدث اليوم، خلافا لما سبق، هو من ابتلع الميديا لتظلّ الميديا بذاتها موضوع الحدث، طارحا بذلك مشكلة هيجلية بحتة مركزها علاقة الفكر بالواقع. فتحوّل بمقتضى المعادلة الجديدة اهتمام العالم من متابعة ماذا يحدث عبر الميديا، إلى متابعة كيف يُنقل ما حدث عبر الميديا. ومن الطبيعي في تقديرنا عندما يكون الرّهان الأعظم في الحدث محوره الحق والباطل تتحسّس العقول سُبلها، لا لمعرفة ما في الحق وما في الباطل، لأنّ ما في الحقّ حقّ وما في الباطل باطل، ولا وجود لمنطقة رمادية بين هذا وذاك، وإنّما تقوم بذلك لمعرفة كيف يُقال الحقّ وكيف يُقال الباطل للقبض على مقاصد السياقات السّرديّة لروايات الحقّ والباطل.

من الحدث الصّحفي إلى الحدث التاريخي

عندما يكون الحدث تاريخيّا فإنّ الإشارة إلى التاريخ تظل أساسيّة لإعطاء توضيح فعلي للحدث بوصفه ظاهرة مركّبة، ظاهرة تقول عنها أرلات فارج Arlette Farge مُنشئة لزمن يَعقبها، ولعلاقات وتفاعلات ومواجهات ظاهرة تخلق اللّغة والخطاب، وتخلق الضوء الذي يكشف فجأة عن آليات غير مرئيّة سابقا ((Farge, 2002, p67-68. والواقع أنّ فصول الدمار المستمرّ على غزة، منذ السابع من أكتوبر تشرين الأوّل ألفين وثلاثة وعشرين، أبانت ما كان مستترا في دهاليز الدبلوماسيات الإقليمية والدولية، وعرّت ما تستّر بالمواثيق والمعاهدات الدوليّة من تخطيط استراتيجي عميق لاحتواء القضيّة الفلسطينيّة والمضي باتجاه أن تصبح إسرائيل الدولة الإمبريالية في الشرق الأوسط. والإشارة إلى التاريخ، بقدر ما تخبرنا عن منابع الفكر الاستعماري، المسترسل في الاستيطان والقتل والتهجير، فإنها تقودنا بلا ريب إلى فهم معادلة المقاومة والصّمود من الجانب الفلسطيني، والمقصود هنا حركة حماس، التي أطاحت بعقيدة جيوستراتيجيّة عمّرت أكثر من نصف قرن في المخيال السياسي والثقافي العربي، وهذا ما سنوضّحه ضمن دراسة الحال.

ونرى من المفيد ونحن نُقدم على كشف الآليات غير المرئيّة في الحدث التاريخي، التذكير بأنّ الحدث التاريخي هو غير الحدث الصّحفي من حيث خصائصه المتمثلة أساسا في الرّهان والضخامة من ناحية، ومن حيث قيمه الأنتروبيّة التي يمكن قياسها اعتمادا على مبادئ نظرية شانون Shannon الرّياضيّة.

وإنّ ما يهمّنا هنا هو هذا الجانب الأنتروبي الذي سيقودنا بلا شك إلى رؤية حدث تاريخي مفرد، ولكنّه مزدوج في الآن ذاته مهما كانت زاوية النظر. مفرد بالمعيار الفلسفي لاعتبار الرّاهنيّة في حدثنا فارقا في الوجود بين الأمس واليوم. ومزدوج لأنّنا في واقع الأمر أمام حدثين متزامنين متضادين في المكان والزمان، حدث عمليّة السّابع من أكتوبر العسكريّة وما عقبها من صمود ومقاومة، يقابله حدث المجازر المتكرّرة على المدنيين في غزة بالخصوص. فأمّا الأوّل فقيمته الأنتروبيّة منخفضة جدّا بما يعني أنّ احتماليّة الحدوث في أدنى درجاتها، فلا أحد كان يعلم أو حتى يتوقّع، في العالم، أو في فلسطين المحتلّة حيث التفوّق التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي، أنّ ما حدث سيحدث. لماذا؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي كان على الميديا بأطيافها وألوانها المختلفة طرحه لاستخراج جوابه من بواطن النظريّة الرّياضيّة للمعلومات.

ومن السذاجة الظنّ أنّ السّريّة المطلقة التي أحاطت بالعمليّة كانت وراء نجاحها فهذا معطى بديهي ومعلوم، وقيمته الأنتروبيّة بلغت أقصاها حين لم يعد في “السريّة المطلقة” أيّ معنى إضافي يكون حاسما في النجاح أو الفشل، إنّما الحسم يتحقّق في وجود معلومات في مكان آخر هيّ نقيض للمجهول.

والمجهول في مضمارنا هو القدرات القتاليّة المستجدّة لحماس، العسكريّة والرّمزيّة. فحماس بات لديها من عتاد منهجي وعسكري ما ليس لها بالأمس، وهذا غير معلوم بتفاصيله، كما بات لديها، ما لم يقم له حساب، بركان متحرّك من الرموز تستمدّ منه الحركة قوّتها الفعليّة في المقاومة. الحديث حينئذ عن أنتروبيا منخفضة أو صفر يعني في المقام الأوّل غيابا كلّيّا لقدر من المعلومات الأساسيّة ممّا تقدّم ذكره، التي، إذا توفّرت، حلّ اليقين، أو لنقل، أصبح بالإمكان توقّع ما يمكن أن يحدث.

فحالة الحدّ الأدنى للأنتروبيا، في عمليّة السابع من أكتوبر هي بلا ريب الحالة الوحيدة المفتوحة على جميع احتمالات النجاح. نفهم من ذلك أنّ حماس “انتظرت” الدرجة صفر للأنتروبيا لفتح فصل جديد في المقاومة يتوافق مع وجودها ومستقبلها من ناحية كونه حدثا تاريخيّا ذا مغزى بالمعنى الذي ذهب إليه هوسرل في تعريفه للحدث التاريخي. وأمّا الحدث الثاني المتمثّل في المجازر المتساتلة على غزة، فقيمته الأنتروبيّة مرتفعة جدّا ذلك لأنّ التاريخ يُخبرنا أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى في الإقدام على ارتكاب المذابح، فماضيه غارق برمّته في ركام المجازر من هذا القبيل.

ونودّ هنا استحضار واقعة استشهاد محمّد الدرّة بقطاع غزّة في الثلاثين من سبتمبر سنة ألفين كحادثة تاريخيّة يجب إعادة تحليلها لِما لها من دلالات قويّة تفسّر بما لا يدع مجالا للشك النيّة القصدية بالقتل. وظلّ من الثابت في دفاتر التاريخ أنّ السلوك الطبيعي للكيان المحتلّ هو القتل في أبشع صوره أيّا كان الظرف بنوعيه الزماني والمكاني(1)، بما يعني، في صيغة معكوسة، أنّ الامتناع عن التقتيل بات هو الحدث غير المرتقب. وقد كتبنا في ذلك الزمن أنّ صورة محمد الدرّة قد تهاوت مرّتين: الأولى على الجدار، في مشهد القنص، والثانية على الشاشات العربيّة في مشهد الفرجة حين عُرضت بأسلوب يحكمه زمن الميديا المضغوط وتتجاوزه الذاكرة الجماعيّة. التهاوي الأوّل واقع سياسي، أمّا الثاني، وهو الأخطر، فواقع ثقافي (الحيدري، 2004 ص 236). والسّؤال هذه المرّة لماذا بات اليقين، كنسبة احتماليّة بلغت أقصاها في سلوك الكيان الإسرائيلي، هوّ فعل القتل المفتوح، المتحرّر من جميع ضغوط الرّقابة الدولية.

الجواب هنا بحاجة لتتبّع مراحل التوسّع الأمبراطوري القديم الذي انخرطت فيه الولايات المتحدة الأمريكيّة وأقامت حصونه بعد أكثر من قرن بقوّة السلاح متجاوزة أحكام ميثاق الأمم المتحدة بشأن سيادة الدول مُخلخلة بشدّة النظام السّياسي والقانوني العالمي المُنشئ إبّان الحرب العالميّة الثانية، لتتغيّر بذلك نحويّة السياسة العالميّة تغييرا جذريّا.

أصبحت أمريكا، بتعبير ماكس فيبير في تعريفه للدّولة، التجمّع الأكبر المهيمن الذي يحتكر العنف المشروع كمنهج استراتيجي مؤمّن لأنشطتها العسكرية والاستخباراتيّة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة. ولضمان تمدّد هيمنتها، سارعت الولايات المتحدة إلى بسط شبكات من التبعيّة بين حلفائها في المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، راسمة في الآن ذاته “حدودًا خارجية للعمل السيادي للدول الإمبراطورية الأوروبية، والتي لا تزال حيّة، ولكنها تضاءلت بشكل كبير، مع دمجها في المجالات الإقليمية لنظام حكم كوكبي”(Golub, 2004, p29.  بعد الحرب الباردة وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام عدوّ من عجينتها السياسيّة اسمه “الإرهاب” بوّءها وضعيّة هيمنة غير مسبوقة في تاريخ وجودها بالشرق الأوسط تحت مسمّيات عدّة أبرزها التصدّي لمحور الشر والحرب على “الإرهاب” لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسيّة والعسكريّة، والأهمّ من ذلك، حماية الكيان الإسرائيلي ممّا توحي به الإدارة الأمريكيّة، وتروّج له على أنّه مدّ شيعيّ خطر يخترق الهلال الخصيب باتجاه تغيير الخارطة المذهبية والسّياسية في الشرق الأوسط، حيث تقدّم هذا المدّ كواجهة إيديولوجيّة تُستخدم لتحقيق أهداف جيوسياسيّة واستراتيجيّة.

 لذلك نجد أنّ الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا الوسطى والخليج العربي، تارة للقضاء على “الإرهاب” كما حدث في أفغانستان، وأخرى لتدمير ما تعتبره الإدارة الأمريكيّة مخزونا لأسلحة الدمار الشامل في العراق، كانت في جزء كبير منها هبّة لتدمير عقيدة الجهاد والمقاومة كسلاح يهدّد الحضور الأمريكي بأغنى موقع استراتيجي في العالم، ويُهدّد الكيان الإسرائيلي في وجوده أصلا. فحين يُنظر بعين التاريخيّة للتوسّع الأمبراطوري الأمريكي، والغربي أيضا، الذين يلتقيان، فيتفقان على تجفيف منابع “الإرهاب”، سيُشاهد الارتباط العلّي بين الكيان الإسرائيلي والغرب الأمريكي، كما سيُشاهد فصول الحرب على الإسلام والمسلمين.

هكذا نفهم كيف يحظى الكيان الإسرائيلي بالدعم اللوجستي والدبلوماسي المتدفق بسخاء إقليميّا، من بعض دول الشرق الأوسط، ودوليأ من أمريكا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا… وهكذا نفهم كيف تكون المجازر في سلوكه السياسي والعسكري إملاءً تاريخيّا وراهنيّة ثابتة. ونرى من الصّواب عدم التغافل عن الدعم الرّمزي للكيان الإسرائيلي، القديم منه والحديث، وقد دخل ساحة الحرب منتصف القرن الماضي مع الفصل الأوّل من زرع الكيان في فلسطين كأعتى سلاح يستهدف البنية الثقافيّة والنفسيّة.

ونقتصر في مضمارنا على ذكر ما يستحقّ النظر في منبعه، ذلك لأنّ مقدارا كبيرا من هذه الذخيرة قادم من الحقول الفلسفيّة وحقول علم الاجتماع. فهذا نيتشه Nietzsche، “الديناميت الفلسفيّ” كما يُعرّف نفسه في إحدى السّير الذاتيّة السّاخرة (Nietzsche, 1908, p68) ، لطالما مجّد اليهود واعتبرهم العرق الأنقى والأقوى والأكثر مرونة، الموجود في أوروبا اليوم (Nietzsche, 1886)، فالشعب اليهودي، من منطلقه، “شعب يتمتّع بقوة حيوية مرنة بشكل مذهل” (Nietzsche, 1895 p22)، مُؤهّل أن يكون نموذجا للإنجاز بالنسبة للشعوب الأخرى، الشعب الألماني على وجه الخصوص، إذ يمكنه تعليمهم فنّ أن يصبحوا أوروبيين ممارسين للهيمنة على أوروبا (Nietzsche, 1881 p128). وفي موضع آخر نراه ينظّر لموارد اليهود الفكريّة والروحيّة بعين الإعجاب فيقول إنّها موارد غير عاديّة.

ما من شكّ أنّ احتفاء نيتشه بالعرق اليهودي كرمز للقوّة، وهو الألماني الذي شهد اليقظة العنيفة لمعاداة السامية في بلاده، سيزيد من عقدة القوّة والتفوّق “للشعب المختار”، النابعة من التوراة، وسيمنح عقيدتهم الدينيّة أجنحة فلسفيّة، وهي العقيدة المعتمدة لتبرير استعمار فلسطين. ولا ينبغي النسيان أنّ المعايير النيتشوية معايير ثقيلة من حيث نبعها المكتنز بالثراء المصطلحي والمفاهيمي، ومن حيث الاستقطاب كتراث فلسفي مثير ألهم الفكر الغربي، الفرنسي بالذات، واستقرّ، وهذا هوّ الأهمّ، كمرجع ميديولوجي في الفضاء العمومي الإسرائيلي، ناطق بنظريّة الكائن الأعلى، يستحضره اليهود في مجالسهم الفكريّة والسياسيّة. فلا عجب أن نرى زرادشت يتكلّم في القدس.

لقد تسلل تأثير نيتشه بشكل علني أو سرّي إلى التيارات الرئيسية للفكر اليهودي وإلى الأفكار السياسية والنقاش الثقافي، بالإضافة إلى الأدب والشعر العبري المعاصر” Ohana, p100)). وعندما يتكلّم زرادشت في القدس فإنّه يُحيي في ذاكرة اليهود ما كان يردّده نيتشه من أنّهم من اخترعوا الأخلاق بالفعل، وأدخلوا مفهوم العدالة في تاريخ الإنسانية (Giuseppe, 2005, p131) . لذلك، فإنّ اكتساب هذه السوابق الفلسفيّة النيتشويّة، يُضفي مبرّرا وهميّا يُجيز للكيان المحتلّ تصوير قتل الفلسطينيين كفعل أخلاقي مشروع.

جون بودريار Baudrillard، الفيلسوف الفرنسي، يرى في الفدائيين الفلسطينيين إرهابيين (Baudrillard, 2001) لا يختلفون، من منظوره، في شيء عن تنظيم القاعدة. ميشال فوكو Foucault، الفيلسوف الذي صدّع الأوساط الثقافيّة والفكريّة في العالم بفلسفة المقاومة، خلخل أركان مقاومته لضروب الهيمنة والاضطهاد والتعذيب، في دعمه العميق لإسرائيل، ومن أغرب ما وصلنا في أمر هذا الدّعم ما رواه المفكّر والناقد إدوارد سعيد عن ميشال فوكو، حين دُعي لحضور ندوة حول السلام في الشرق الأوسط التأمت ببيت هذا الأخير(Said., 2000, p 4,5).

يقول إدوارد سعيد: ” كان ميشال فوكو حاضرا لكنه سرعان ما جعلني أفهم أنّه ليس لديه ما يقوله حول موضوع الندوة وأنه سيغادر بسرعة كبيرة، كما هو الحال كل يوم، للانغماس في عمله البحثي بالمكتبة الوطنية (…) أخبرني جيل دولوز (لاحقا) أنّه وفوكو، كانا قريبين جدًا، وانفصلا بسبب خلافاتهما حول فلسطين، فوكو يدعم إسرائيل، ودولوز الفلسطينيين. لا عجب أنه، (في ذلك اليوم) لم يرغب في مناقشة موضوع الشرق الأوسط معي أو مع أيّ شخص آخر”.

تعزّز الشعور لدى إدوارد سعيد آنذاك بأنّ موضوع الندوة الحقيقي هو “توطيد إسرائيل، ما يُسمى الآن «التطبيع»”(Said, 2000, p4,5) وأنّ القضيّة الفلسطينية تمّ تجاهلها خصوصا وأنّ منظّمَي الندوة وصاحبَي الدعوة التي كان لها وقع خاصّ على إدوارد سعيد، وكيف لا يحدث ذلك وهي موقّعة من قبل “شخصيّتين أسطوريّتين”، جون بول سارترSartre، وسيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir، لم يتطرّقا ولو بإشارة لمسألة الاحتلال الإسرائيلي، فالأوّل، وهو فيلسوف الوجوديّة الذي يعتبر الحرية فكرة أساسية في حياة الإنسان، انغمس كليّا في خطاب مفعم بالثناء على الرّئيس أنور السادات ثمّ اختفى. وأمّا الثانية، وهي المنظّرة النسويّة الكبرى صاحبة القول: “أن تريد الحريّة، هو أيضا إرادتها لغيرك”، “أثبتت أنّها خيبة أمل خطيرة” (Said, 2000, p 4,5) حين تحدّثت لمدّة ساعة عن الإسلام وارتداء الحجاب ثمّ غادرت.

المفكّر والناقد الأدبي الفلسطيني ادوارد سعيد

المفكّر والناقد الأدبي الفلسطيني ادوارد سعيد

هؤلاء الفلاسفة، هم من تأبّطوا قيم الحريّة وأعلنوا حقّ التمرّد ضدّ السّلط القمعيّة، نراهم في لحظة تاريخيّة ينسلخون من المبادئ التي شيّدوا بها صروحا فلسفيّة، مقابل الاصطفاف بين أعمدة قادة الرّأي كخيار أخلاقي لدعم سياسة الكيان الإسرائيلي. لم يتردّد جون بول سارتر، وكذلك سيمون دي بوفوار، غداة حرب الأيّام الستة من توقيع بيان دعم لإسرائيل نُشر بصحيفة لوموند الفرنسيّة (2)، وهو الذي ساند الثورة الجزائريّة ضد المستعمر الفرنسي، وكان له موقف من الحركيين الجزائريين (3) مناسبا لعقيدته الفلسفيّة حين وصف هؤلاء (أي الحركيين) بـ “الخونة الذين أنقذوا شرف فرنسا”، موقف لا يقلّ أهميّة عن مواقفه من حرب فيتنام والهند الصينيّة.

ويظلّ في تقديرنا من الصّعب فهم مواقف هؤلاء الفلاسفة إزاء القضيّة الفلسطينيّة على أنّها مجرّد زلاّت أخلاقيّة يحدث أن يعيشها العالم أو المفكّر، بقدر ما نراها تعبيرا عن عقيدة إيديولوجية حاملة لبعد ثقافي للمجتمع الفرنسي، والأوروبي بشكل عام. فعندما يتعلّق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تغيب الفلسفة ويغيب العلم لتحلّ الإيديولوجيا كمعيار هيكلي للتفكير.

ولننظر إلى لبنيتز Leibniz الفيلسوف وعالم الرّياضيات الألماني، كان سعى لإقناع الملك الفرنسي لويس الرّابع عشر بغزو مصر، حيث الجغرافيا المناسبة للسيطرة على بحار العالم، وهو الذي كان يدعو إلى بناء مشروع متعدّد الأديان والثقافات لإنشاء نظام عدالة عالمي. هكذا، “عندما تبدأ الإيديولوجيا يتوقّف التساؤال الفلسفي” (G. Larochelle, 1995, p13) فإذا كان هذا حال العلم، فكيف بحال السّياسة. جميع مؤتمرات السلام حول الشرق الأوسط، من جينيف إلى أنابوليس، كانت على شاكلة ندوة جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار التي نظّمتها المجلّة الفلسفيّة “الأزمنة الحديثة” (Temps Modernes).هكذا يتضح أنّ سقوط الأخلاق في سبيل التواطؤ الممنهج بين العلم والسياسة، يُفضي إلى إعادة تعريف الشرعيّة الدوليّة  بما يخدم مصالح القوى المهيمنة، ما يحعل الانتهاكات المدروسة، كجرائم الكيان الإسرائيلي، متيقة مع بنية نظام دولي صُمّم لضمان تفوّق دول المركز.

الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر

الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر

المقاومة بالقوّة الرمزيّة

يُفترض إذن أن تكون الغطرسة الإسرائيليّة التي وَجدت في النظام الدولي تُربة صالحة لغراسة الباطل، الدّرج الأخير، بالنسبة الى حماس، لاستخلاص إجازة مرور صارمة لمرحلة الحسم في صناعة الحدث التاريخي بعد حصار على غزّة عمّر زهاء العقدين. والحدث هذه المرّة، هو، من حيث البعد السّياسي، تعزيز لفرض استراتيجيّة المقاومة كحقّ مشروع يمنحها وجها أكثر واقعيّة لدحر الاستعمار الإسرائيلي، وعزم لاحتواء هدير التطبيع الذي سرى سريان الطنين في المنطقة العربيّة.

وهو من حيث البعد الميدياتيكي دفع متزايد لتجذير “حماس”، كفكر عالق بالزمن، في الذاكرة التاريخية والسياسية، حاضر في ذاته، مستمرّ في وجوده. أمّا من حيث كونه عمليّة عسكريّة، محصّنة ضد الانشقاق والفشل، بدأت من أنتروبيا صفر لتكون من أكبر العمليات نجاحا في تاريخ النضال الفلسطيني، فأمرٌ مردّه التخطيط المبني والإعداد المدروس للحدث الذي لم تُعطَ الفاعليّة فيه كلّها للسلاح المادّي، رغم أهميّته كبنية أساسيّة للقتال، إنّما تمّ الزّج بالبنية الرّمزية في ميدان المعركة كسلاح مطلق ضدّ كيان يعيش على وهم عقيدة “الجيش الأخلاقي الذي لايُقهر” من ناحية، وكشكل من أشكال الكفاح ضدّ المدّ الإسرائيلي لمحو التاريخ الفلسطيني والدعاية المعادية للعرب والمسلمين من ناحية ثانية.

فالرّمزيّة كما يراها لاكان Lacan هي المكوّن للواقع البشري، وهي من منظور باسكال أوري Pascal Ory منطقة الإيمان بالقوّة والفاعليّة، ونجدها عند بورديو Bourdieu قوّة يمكن الاعتراف بها، للحصول على الاعتراف، وعند فوكو Foucault سلطة ماديّة، حتى أنّ الماركسيّة كفكر وكنظريّة سياسيّة، لم تتجرّأ على عدّ اللغة بوصفها نظاما رمزيّا، بناءً فوقيّا لا ارتباط له مباشرة بالإنتاج، وهي الموغلة في الماديّة التي منها ينبع تفسير تطوّر التاريخ، بل إنّها اعتبرت الخلط بين اللغة والبناء الفوقي خطأ جسيما بما يعني أنّ اللغة كنظام رمزي، لها من الأهميّة الوظيفيّة ما يجعلها أوسع الدوائر فاعليّة في الماديّة الجدليّة. وقبل هؤلاء جميعا، كان ابن خلدون أوّل من اعتبر الأنظمة الرّمزيّة من مقوّمات العمران البشري. والبنية الرّمزيّة في سياقنا طبقات، طبقة يسكنها الإيمان بالمعنى المطلق للكلمة، وأخرى تحتلّها السيمياء كمنظومة مفسّرة لكيفيّة صناعة المعنى وتمثيل الواقع، والطبقتان إنّما تتحدان في ما ينبغي أن ينحو باتجاه نشأة المعنى، فالإيمان، كما يتبيّنه باسكال، يقول ما لا تقوله الحواسّ.

لقد اتخذت حركة حماس من الإيمان بمعانيه الدينيّة والفلسفيّة محرّكا جوهريّا مولّدا للقول والفعل، محقّقة بذلك معادلة ابن رشد في التوفيق بين العقل والإيمان حين كان يردّد “إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة” (ابن رشد، د.ت، ص18) ومع أنّ الإيمان مسألة قلبيّة باطنيّة لا أمل البتّة في الإحاطة به، فإنّ ما تُبينه الجوارح يكشف عن أنّ إيمان حماس، وإن كانت حدوده اللّه جلّ جلاله، واليوم الآخر والقضاء والقدر، فإنّه يَتصيّرُ، بيقين حدود الله واليوم الآخر والقضاء والقدر، فلسفةً في الفعل والإنجاز تقود، وفقا لأطروحة ديفيد أويديبو David O. Oyedepo، إلى التجرّؤ على المستحيل ورؤية ما لا يُرى.

وهذا بالضبط ما حدث حين عَلَت حماس عن ذاتها باتجاه وعي جديد يفكّ عقدة “الجيش الذي لا يُقهر”، المتجذّرة في الذهن العربي، عقدةٌ تَفجّر منها التطبيع كسلوك سياسي وجب أن يخضع لنموذج القوّة المرسوم، وإنّ أفضل طريقة لفهمه هيّ تصوّره دائما كبديل لعقيدة استعظام قوّة الكيان الإسرائيلي.

لقد تجرّأت حماس، بالفعل، في السّابع من أكتوبر تشرين الأوّل على اقتلاع جذور هذه العقيدة المترهّلة لترى بمنظار الإيمان ما لم يُبصر بمنظار التطبيع السّرّي والعلني. والرّؤية هنا، فضلا عن كونها إبصارا لمكامن العزيمة القادرة على التصدّي لمشروع الغزو الصهيوني لفلسطين، رغم عدم التكافؤ في موازين القوى، فإنّها أنثروبولوجيّة بامتياز، استحضرت الزمان والمكان كحصون منيعة شاهدة على التاريخ والجغرافيا. فالإيمان، من منطلقه الفلسفي بما هوّ مبدأ العمل والقوة، والقول هنا لجوزيف سميث Joseph Smith، مَنَح حماس سلاح القوّة الذي لم يَحسب له الكيان الإسرائيلي حسابا أو أنّه استخفّ بمنطق الإيمان، من حيث هو قوّة، بدونها لا يمكن أبدا “الحصول على الأشياء العظيمة” حسب تعبير هيغ. براون Hugh B. Brown. والشيء العظيم في مضمارنا شيئان: تحطيم صنم “الجيش الذي لا يُقهر”، وتحرير الأرض، وهذه مسؤوليّة يُمليها الإيمان في بعديه الديني والفلسفي.

الفيلسوف وعالم النفس كارل جاسبارج Karl Jaspers له قول بليغ في هذا السياق عندما ذكر أنّ الفلسفة تساعد على اتباع هذا المسار لأنّ غايتها الحقيقة، وأنّ الإنسان لا يتهرّب من المسؤولية من خلال مهنة الإيمان (K. Jaspers, 1964, p475). إنّ مهنة الإيمان تقود بلا ريب إلى قوّة الإبصار حيث المستحيل يظلّ ممكنا. وإنّه المسار الذي سلكته حماس لتتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة موسومة بطابع الجهاد كقوّة فعليّة منبجسة من قوّة رمزية.

والفهم الأفضل لامتهان حماس الإيمان، رهنٌ أيضا باتباع معنى الإيمان خارج غلافه الفلسفي، أي مفهوم الإيمان في الاصطلاح الشرعي عند أهل السّنة والجماعة. يقول ابن قدامة إنّ “الإيمان قول وعمل، والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان”( ابن قدامة، د.ت، ص26)، ويزيد سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَن “القول والعمل”، “النِيَّةٌ وَالسُنَّةٌ”، ذلك لأنّ الإيمان “إِذَا كَان قولا وعملا بلا نيّة فهو نفاق، وإذا كان قولا وعملا ونيّة بلا سنّة فهو بدعة” (ابن تيمية، د.ت، ص407).

والمُتصفح لكتب الحديث سيجد أنّ مركز الإيمان هوّ القول والعمل، لا ينفكّان. فأمّا القول فقول بالقلب واللسان، وأمّا العمل فعمل بالقلب والجوارح. لقد اتخذت حماس من هذه المبادئ منهجا حياتيّا وشريعة في المقاومة. كلّ شيء يتغيّر عندما تضع هذه المبادئ أوزارها في ساحة الحرب، وهو ما حدث بالفعل حين قفز فعل الدفاع عن الأرض من مستوى الفطرة والحياة إلى مستوى الجهاد، لتتضاعف القدرة القتاليّة، يُصبح بمقتضاها الموت شهادة في سبيل الله، والنّصر نصر من اللّه. فحين نقرأُ قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ “(محمّد 7)، فإنّنا سنفهم كيف يكون امتهان الإيمان سلاحا له من المناعة الرّمزيّة ما لا تقدر على تدميره وسائل الحرب الحديثة، ذلك لأنّ قصّة الامتهان تبدأ فصولها بعقد مُبرم، وهو في هذه الحالة مُبرم مع الله عزّ وجلّ، ويُفترض مُسبقا أن يكون الوصول إلى إبرامه مباشرة، دون وساطة، محمّلا بالاعتقاد والتصديق والإقرار.

ولمّا كان الإبرام مع الخالق، اعتقادا وتصديقا وإقرارا، شريعة متجذّرة في النفوس، كان النصر وعدًا لا محالة قادمٌ، بما يعني هنا تغيّرُ مفهوم القوّة حيث تصبح القوّة ما هوّ كامن في النفس. والارتقاء بالنفس لتكون القوّة في النفس، مُرادٌ حقّقته حماس حين بدا لها أنّ الكيان الإسرائيلي، بما يمتلكه من قوّة عسكريّة، عدّة وعتادا، جعلته يرتع في الشرق الأوسط ويُعربد كيف يشاء، إلا أنّه مجرّدٌ من قوّة النفس التي لا تُقهر، لأنّه، ببساطة، امتهن الاستيطان والتواطؤ، فعقده مُبرمُ مع أمريكا والغرب الأوروبي، وقد رأينا هبّة أساطيلهم لاحتواء ضجيج المقاومة في المنطقة وتدمير القوّة القتاليّة لدى حماس. كانوا يعتقدون أنّ تفوّقهم العسكري كفيل بحسم المعركة في ظرف وجيز، وقد استثنوا من حساباتهم مكامن القوّة في الإيمان، وهي القوّة العاتية غير القابلة للإحصاء المجرّد التي دأبت عليها حماس. يتحدّث باسكال عن قوّة العُرف كمقدرة مكمّلة لقوة العقل والجسم. إنّ امتهان الإيمان كقوّة، بات لدى حماس عُرفا جاريا، لم تقدر عليه الآلية العسكريّة الصهيونيّة، بل نراها تدمّر جميع البنى التحتية لغزّة بأطفالها ونسائها وشيوخها، معتقدين بقّوة السلاح، مَحوَ المقاومة بعتادها وعُرفها.

إنّهم في الواقع يقاتلون بنية لا توجد في الأنفاق ولا في المباني التي حوّلوها إلى ركام. إنّهم، باختصار، يقاتلون شيئا عالقا بالزمن لا تناله الذخيرة العسكريّة. وإنّهم لواهمون في البحث عن قادة حماس ومطاردتهم أين ما حلّوا، لأنّ هؤلاء، في صيرورتهم الإنسانيّة، ملتزمون بعُرف أدركوه كمعطى فطري عالق بالزمن، فحيث ما نال الحلف الصهيوني العربي الأمريكي منهم، فإنّ هذا الحلف سيظل بتفوّقه التكنولوجي والعسكري وبإنجازاته التدميريّة عاجزا على تدمير العُرف بوصفه كيفيّة في الوجود، متشكّلة، متحوّلة في الزمان، محصّنة بقبّة إيمانيّة للذين أبرمو عقدهم مع اللّه جلّ جلاله. على أنّ ذلك لا يعني أنّ العُرف وحده كاف لتكون القوّة، قوّة امتهان الإيمان، موضع اطمئنان في ظروف الحرب وغيرها. ينبغي، كما يشير إلى ذلك باسكال، أن يكون هنالك ارتباط وظيفي بين القوّة الرّمزيّة والقوّة الماديّة، يشكّل ما يشبه إلى حدّ مّا ظاهرة القوّة الكهرومغناطيسيّة في مجال الفيزياء المؤلّفة من التوحيد بين الكهرباء والمغناطيسيّة كإحدى القوى الأساسية المتحكّمة في بناء العالم المادي. إنّها المعادلة التي أدركتها حماس وحقّقتها ميدياتيكيّا لتسري في شرايين أكثر الوسائل الإعلاميّة والاتصاليّة استقطابا في العصر الحديث حين دبّغت قوّة الإيمان بكثافة سيميائيّة.

الغلاف الميديولوجي للمقاومة

الظهور الإعلامي لأحداث غزّة كان على درجات مختلفة في نقله ومعالجته بما يناسب الخط التحريري لكل قناة، وهذا أمر بديهي. وسوف لن نهتمّ في هذا الجزء من الدراسة بتحليل كيفيّة عرض الأحداث إعلاميّا بقدر ما سنتوقّف عند طبقات المعنى التي حدّدتها حماس تحديدا سيميائيّا في روايتها للمستجدات الميدانية للحرب. وينبغي قبل ذلك الإشارة إلى ضرورة تطهير الأذهان من كذبة “موضوعيّة الخبر” أو “استقلاليّة الخبر” أو “الحياد”، التي لا تزال تُدرّس بأقسام الإعلام والاتصال العربيّة.

إنّ هذه المفاهيم العالقة بالخبر كإحدى خصائصه، والتي يتمّ حشو أذهان الطلاب بألفاظها ومعانيها، أعمق من أن تكون مجرّد صفات إعلاميّة في الإخبار، وقد تاهت في أغوارها مقاربات فلسفيّة امتدت من سقراط إلى كانط ومن تسلّق شعابه، فضلا عن كون هذه “الخصائص” مرتبطة أشدّ الارتباط بمفهوم فلسفي آخر، أكثر غموضا وتعقيدا، وهو “الواقع”. نحاول بيان هذا باختصار شديد. إنّ مجرّد النظر إلى “الواقع”، إذا افترضنا وجوده بطبيعة الحال، يُنشئ تغييرا في الواقع، بل ويصل إلى تحريفه، ذلك لأنّ الناظر، في مرحلة أولى، حين ينظر، إنّما ينظر من زاوية يحدّدها تلقائيّا أو قصديّا، ثمّ إنّه ينظر بمنظار إطاره المرجعي المؤلّف من معارفه وتجاربه وثقافته، حيث تدخل هذه العناصر مجتمعة، مختبر النظر، فتلوّن الواقع بلون آخر. وتزداد كثافة التلوين في مرحلة ثانية، حين ينتقل الواقع المنظور، ليدخل من جديد مختبر الميديا المهيّأ للمعالجة الإخباريّة وما يستدعيه العمل من أدوات التحليل والتركيب ومن التزام بسياسات التحرير والقيم السائدة في المجتمع. عندها يتحوّل الواقع إلى مشهد. هذا المسار المستقيم باتجاه المشهديّة يُعمّمه جي ديبورد Guy Debord على جميع مظاهر الحياة للمجتمعات التي تسود فيها ظروف الإنتاج الحديثة، حيث “تبدو وكأنها تراكم هائل للمشاهد. فكلّ ما كان واقعا مَعيشا بشكل مباشر، ينتقل بعيدًا ليظلّ تمثيلا” (Debord, 1967, p3) ونستحضر في هذا السياق قول ألفراد كورزيبسكي Alfred Korzybski “الخارطة ليست الميدان” في إشارة إلى أنّ التمثيل لا يسمح أبدا برؤية الواقع كما هوّ واقع. فقصّة الحياد والموضوعيّة والاستقلاليّة في برامج الإعلام لا تخلو من مغالطات علميّة.

إنّ واقع الأحداث في الحرب على غزّة، من حيث هو مادة خاضعة بشكل أو بآخر للتكرير بالمعنى الفيزيائي، سنتناوله في هيئته المشهديّة كما رسمتها حماس، من جانبين: جانب التصوير بالكلام في معنى الكلام المتكلَم، وجانب المتكلَّم بالصّورة في معنى الكتابة بالصّورة. فأمّا الأوّل فيجوز اعتباره إخبارا وفي الوقت ذاته إطارا فكريّا – سياسيّا يتشكّل منه المعجم المفاهيمي الذي أصبح مألوفا في سيرة المقاومة. وأمّا الثاني فهو الإنشاء المرئي المستعصي عن التأويل. ولنبدأ بالكلام المتكلَّم كقوّة عمل يدفع بها إلى الظهور الحضور التلفزيوني للمتحدّث الرّسمي الإعلامي لكتائب القسّام “أبو عبيدة”.

تؤشّر محرّكات البحث العالميّة على ارتفاع شهرة هذا الرّجل وتزايد شعبيّته إقليميّا ودوليّا. ونفسّر ذلك أوّلا، لكونه الناطق باسم الجناح العسكري لحماس وهي التي شنّت عمليّة “طوفان الأقصى” كأبرز حدث في تاريخ النضال الفلسطيني. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يظلّ ظهوره موضوع استقطاب واسع، خصوصا لمّا نعلم أنّ السّرد الميدياتيكي للأحداث، محكومٌ، في جزء كبير منه، بمنظار دول المركز الداعمة للكيان الإسرائيلي، منظار خصوصي له عدسات تُبصر “الإرهاب” في التاريخ والجغرافيا كلّما تعلّق الأمر بالمقاومة. ثانيا لأنّ البيانات العسكريّة المطلّة من حين لآخر بصوت “أبو عبيدة”، تبدو كاشفة لواقع حرب مجهول يتشكّل من الأنفاق، فأضحت بذالك في مقام المصدر الذي يمكن الإطمئنان لدقّة معلوماته وصحّتها، إذا اعتبرنا الخطاب الإعلامي لدول المركز وضواحيها ضجيجا ميدياتيكيّا يحجب الحق الفلسطيني في الدفاع عن الأرض. والأمر، مثلما أشرنا من البداية مُختَصَرٌ في الصّراع بين الحقّ والباطل، غير أنّ الأجهزة الإيديولوجيّة الأمريكيّة والغربيّة، بالدّعم المادّي والرّمزي اللامحدود التي تغدقه على الكيان الإسرائيلي، لا ترى في الحقّ حقّا ولا في الباطل باطلا. وهنا تتجلّى شخصيّة أبو عبيدة في هيئة الصوت النّاطق بالحقّ حيث لا مجال لوجود منطقة غموض يختلط فيها هذا بذاك. والصّوت من جهة الدلالة هوّ بصمة الفرد وعلامته المميّزة. ويسود هذا المعنى في أوساط علم النفس الذي يرى في الصّوت الدليل الفردي الرّابط بين اللفظ والوعي كما هو الشأن بالنسبة لفرويد Freud، أو بالنّسبة للاكان Lacan حيث الصّوت حلقة وصل اجتماعيّة. وإنّه المستوى الذي يعنينا.

إنّ صوت أبو عبيدة المنبجس من راهنيّة الأحداث، لم يكن مجرّد ظاهرة تردّديّة محمّلة ببيانات عسكريّة تختزل مستجدّات الميدان. إنّه عُبور من اهتزاز ينتشر كموجات صوتيّة إلى اللّغة والآخر، مُستبطن لما يُمكن أن يكون تمييزا بين الصّوت والكلام، تمييزٌ نجده عند جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben مدخلا للبعد السّياسي نفهم من خلاله وجود أكثر من سجلّ بلاغي مُحدث لنسق تفاعلي سانكروني، يعبّر عنه أرسطو في تفكيره السياسي ضمن بنية مفاهيميّة تجمع الصّوت والكلام وصورة الجسم الموحّد الذي يُمثّل الأمّة.

فالصّوت من حيث كونه ظاهرة فيزيائيّة، هوّ أيضا ظاهرة بلاغيّة يتجاوز فائضها بلاغة الكلام. يَذكر فيلهلم لانغاغل Wilhelm Langhagel أنّه، بعد حضور اجتماع في لايبزيغ، خرج من القاعة مع الانطباع بأنّ هتلر ألقى خطابًا ناريًا، “كان الجميع متحمّسين بشكل خاص. كنتُ نفسي متحمّسا. ومع ذلك، في اليوم التالي، عندما قرأت نص الخطاب الذي سمعته في اليوم السابق، لم أجد شيئًا مذهلاً بشكل خاص”(Guido Knopp, 1997, P42)، ممّا يفيد بأنّ الصّوت ليس فكرة، إنّما هوّ كيفيّة عابرة للأفكار، ارتبطت “وظائفها الإيقاعيّة” بالسّياسة منذ أقدم العصور. وإنّ لكبار الزعماء السّياسين في التاريخ روابط ذات قوة استثنائية مع الصوت، أدّت في ألمانيا، على سبيل المثال، إلى إعطاء زخم غير مسبوق لتطوير الإذاعة، و”يمكن للمرء أن يقول إنّ الإذاعة كانت واحدة من الأدوات الرئيسية للسيطرة النازية، ليس فقط من خلال دورها في البث الجماهيري، ولكن أيضًا من خلال الرّهانات الخيالية للصوت” (Fessaguet, 2015, p28). وقد تمّ رصد هذا جيّدا في الفلسفة السّياسية.

جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy كان يقول إنّ “الصوت هو القانون”، لا لكونه ناطقا بالقانون بل لأنّه قانون في ذاته (Poizat, 2002, p10). ونصل هنا لنقول إنّ الصّوت قانونُ قوّة، تُستخدم تحديدا كمَا القوّة، في المفيد والضارّ، في العدل والظلم، في الحقّ والباطل. فصوت أبو عبيدة، تجلّى في تردّداته قوّة أصيلة مستقرّة في مناطق العدل والحقّ مولّدة لقوّة متحرّكة جارية على اللسان. فالقوّة الأولى عالقة بالزّمن من حيث هي صيغة وجود، والقوّة الثانية عالقة بالرّاهنيّة من حيث كونها تعبيرا عن أحداث متغيّرة، والقوّتان كلتاهما إنّما تشكّلان ما وُصف به صوت العبّاس ابن عبد المطلب، يوم حُنين، من أنّه ألمع مظاهر “السكينة والاستبسال”. خاصّيتان جمعهما صوت أبو عبيدة حين تحوّلت الذبذبات من ظاهرة فيزيائيّة إلى ظاهرة وجوديّة.

وصوت أبو عبيدة من حيث كونه تردّدا محمّلا براهنيّة فاصلة في التقابل بين الأمس واليوم، أضحى بمثابة الغلاف الميديولوجي للإطار الفكري والسياسي والمعجم المفاهيمي لحركة حماس المتشكّل من بواطن الكتاب والسنة. فالبدءُ في الخطاب بالبسملة واستحضار الذات الإلهيّة المُلهمة والمُرشدة للفكر والجهاد، إنّما هو إرساء لقواعد الثبات والصّبر ودعوة لإدراك الحقائق الإيمانيّة الواردة في هذا الباب، ومنها مشروعيّة الجهاد بل ووجوبه، عند الاقتضاء، في قوله تعالى، من سورة التوبة: “قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ”. فالجهاد، بمختلف مراتبه ومعانيه، لا يتحقّق ولا يصمد من دون ثبات. وقد تبدّى صوت أبو عبيدة مثقّلا بعقيدة الثبات والصّبر في كل مرّة يكون فيها حضوره التلفزيوني حدثا من باطن الحدث متخذا من قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (آل عمران 200)، حصنا حصينا من الوهن المُحدق بالنفوس، خصوصا لمّا تكون قوّة العدّة والعتاد من جانب العدوّ، قوّة غالبة بالمعايير العسكريّة.

هذا المطلب القرآني الذي يدعمه أبو عبيدة بقول الله عزّ وجلّ من سورة آل عمران: “إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ”، ومن سورة الأنفال: “وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إنّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، معناه أنّ النصر ليس فقط بقوّة العدّة والعتاد، إنّما بقوّة الإيمان، الإيمان بوعد اللّه سبحانه وتعالى، واليقين بالمرجع إليه. وتزداد كثافة هذه المعاني في استحضار قوله تعالى من سورة البقرة: “قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”.

فغرسُ الاعتماد على الله في النفوس هوّ القاعدة الأساسيّة للعمل والتدبّر، المحقّقة لمعادلة النصر والمُلهمة لإرادة الثبات. هكذا، من النصّ القرآني ومن الحديث النبوي تشكلّ جهاز مفاهيمي عميق، عالق بالزمن، نُحتت منه صيغة وجود، ومنه انبجست شعارات ذات صيرورة ثابتة متحرّكة، يختزلها شعارٌ واحد متعدّد السطوح يقطنه الديني والإيديولوجي والسّياسي في تظافر مثير للحشد والحرب والقتال: »إنّه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد «. ونجد أنّ العلاقة بين الشعار والحشد أصيلة في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة، فالشعار له القدرة على الإقناع والتحريض وهو في لغة الاقتصاد هويّة وتسويق وأسلوب في الاستقطاب والجذب.

وهذا صحيح بالنسبة للشعار الإعلاني والشعار الأيديولوجي حيث بلاغة الكلمة في أدائها لوظائف الإظهار والإشهار والتعبئة كقوّة لتوجيه السلوك. فالشعار من هذا الجانب قوّة فاعلة، ضابطة للتوجّهات الفكريّة والاتجاهات النفسيّة، لأنّه باختصار شديد “عمل لفظي” من المنظور الفلسفي لأوليفيي ربول (Reboul, 1975). لذلك نرى جاك لاكان لا يفصل بين السّلطة والكلام، لأنّ السلطة في جوهرها، كما يُبيّنها، لا تستند أبدًا إلى قوة خالصة وبسيطة، إنّها مرتبطة دائمًا بالكلام وما يُنشئه من روابط اجتماعية (Lacan, 1975, p22) ولكن الشعار، في ذاته، لا يمثّل قوّة بتشكيلته البلاغيّة، الصّوتية واللّفظيّة، إنّما تنشأ تلك القوّة من الظروف التي أُطلق فيها. فحين نتلقّف شعار المقاومة »إنّه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد «، نَفهمُ الشعار بشكل أفضل كلّما فهمنا بشكل أفضل ظروف إصداره والتي تعود إلى الشيخ عزالدين القسّام في نضاله ضد الجيش البريطاني وقد أبى الاستسلام وهو مُحاصر. يَرفع اليوم، بعد ما يُناهز قرن من عمر الزمان، أبو عبيدة وأبو حمزة الشعار ذاته يقينا بأنّ النصر قادمٌ لا محالة، إذ كيف لفئة تَنحتُ شعارها من القرآن والسّنة ألاّ تنتصر.

نعود إلى جانب المتكلَّم بالصّورة حيث الوجه الآخر للحدث في هيئته المشهديّة كما رسمته حماس عبر إنشاء مرئي مُستعص عن التأويل، بما يعني في معجم علوم الإعلام والاتصال، اجتماع القصود ائتلافا وفقا للسياق بين قصد الباث وقصد الرّسالة وقصد المتلقي. فكلّما تطابقت هذه القصود تطابقا صارما، كان المعنى دالاَ، مُدركا لقصد الباثّ، وكلّما تعدّدت القصود اختلافا، دخلت الرّسالة سيرورة التأويل لتستقرّ معانيها في مدار التشويش غير المقصود، وهو أخطر أنواع التشويش التي تصيب القصد الاتصالي. لقد عمل القائمون بالاتصال في حركة حماس على أن تكون رسائلهم السّمعية المرئيّة خالية من تعدّدية المعاني. ونجدها تجلّت في هيئة ما أسميناه “التصوير باللهجة الدّارجة” أو “التصوير بالعامّية”( الحيدري، 2012، ص 97) المتحرّر من الضبط اللّساني والتقني ومن القواعد المنظّمة لبناء المعنى بمختلف الوسائط الإعلاميّة، ليظلّ الفعل الإعلامي فعلا عاميّا، شعبيّا “دارجا” ناقلا لواقع محض.

وكما أنّه يُوجد تعبير لساني بالدّارجة أو العامّيّة، فطبيعيّ من منظورنا وجود تصوير بالدّارجة. فالعاميّة هيّ السّجل اللّساني الأساسي المعتمد، في حلقات التواصل الاجتماعي لارتباطها الوثيق بواقع النّاس. إنّها رمز للواقعيّة، لا من حيث قدرتها البلاغيّة على تصوير المألوف في حياة عامّة الناس، فالفصحى تُخبرنا في مواضع كثيرة أنّها الأصل في تحقيق حُسن البيان، ولا من حيث قوّة التزامها كذلك بالقضايا والمضامين الشّعبيّة، لأنّ قضيّة الالتزام تعود إلى تقدير يحدث في مستوى القرار الحرّ للفرد، يترتّب عنه سلوك معيّن يحكم مواقف الفرد وآرائه. ولكن اللّغة الشعبيّة، بتغلغلها المثير في مفاصل المجتمع، تجسّد الحالة المتميّزة التي يتطابق فيها فكّ التشفير مع التشفير داخل حلقات التواصل. ومسألة التطابق هذه مهمّة للغاية في الاتصال اللّساني وغير اللّساني، لاعتبارها الشرط الأوّل والأساس لتحقيق القصد الاتصالي. لذلك غمرت “الدّارجة”، هذه اللّغة “السّهلة”، غمرت مساحات التدوين والمواقع الإخباريّة التي استقطبت جيلا بأسره، ونراها لا تختلف في عاميّتها وبنيتها المبسّطة، عن لغة الأدب الرومانسي. بودلير Baudelaire في تصويره للخطيئة ونزعة الشّر، كان يلجأ إلى السّجلاّت اللّغوية المتحرّرة، المتنوّعة، الجامعة بين الدارج والغريب، والرّاقي، والفظّ من الألفاظ، ومن ينظر في “البؤساء” تشدّه لعبة الاختلافات والتضاد اللّفظي والأسلوبي في الرّواية، ممّا حدا بشاعر مثل لامارتين Lamartine إلى اعتبار “البؤساء” أثرا مزدوج الخطورة، فهو من ناحية، يبثّ الهلع في السّعداء، ويزرع، من ناحية ثانية، الأمل في البؤساء(الحيدري، 2012، ص93).

الصّور التي أنتجها الإعلام العسكري لحركة حماس وبثّها للعالم، هي صور بـ”اللهجة الدّارجة”، صورٌ ضعيفة فنّيا وفاقدة للجودة، وهذا بالذات ما يجعلها قويّة من جهة القصد والدلالة حيث كثافة الصّدق في الواقع الذي تنقله كخاصيّة إخباريّة من أهمّ خصائص الإعلام المحقّقة للاستقطاب، فوراء الجودة تختفي الحقيقة. إنّها صور ذات فينومينولوجيّة فائقة لأنّها ببساطة لا تُعيد إعادة بناء الواقع بالعودة إلى الأشياء والظواهر ذاتها كما يحدث في عمليات الإنتاج الإعلامي والدرامي المُسنيرة، بل تَنتزعُ الواقعَ من الواقع انتزاعا، وتقتلعه براهنيّته حيث يتحوّل المنتزَعُ من الواقع إلى حقيقة حيّة مستعصية عن التأويل. فالصّور “الدّارجة” لا تلوّن ما تنقله بألوان البلاغة الفنيّة والتقنيّة لأنّها انغراس مباشر في الأحداث.

ولنفكّر بما عرضه الإعلام العسكري لحماس، ورحى الحرب تدور. وذكرُ السّياق مهمّ هنا، حين تُطلّ مشاهد المعركة البريّة من الشاشات بنسب أنتروبيّة ضعيفة جدّا في مجال خال تماما من القيم الجماليّة والتشكيليّة، حيث المشهد واللقطة أمر واحد يتحدّد من زاوية تصوير أفقيّة، متحركة بوتيرة قابلة للفوضى في معناها الرّياضي. وهذان، أي (النسبة الأنتروبيّة الضعيفة، ووتيرة الحركة القابلة للفوضى)، عاملان أساسيان لقياس واقعيّة الحدث في الصّور المنقولة، أو لنقل قياس صور الواقعيّة في الحدث المنقول، وقد استحكم فيها ما يُعرف في اللّغة السينمائيّة بالتوتر الدرامي. ما الذي يُرى وما الذي يُفهم من إعراب هذه الصّور التي تطالعنا في هيئة جمل فعليّة مفيدة، غالبا من يكون التركيز فيها على الفعل والمفعول به.

فأمّا الفعل فيبدأ مع ظهور القذيفة واحتلالها لخطوط القوّة في الشاشة باتجاه هدفها وهو المفعول به المُؤشّر عليه بحركة المثلّث الأحمر الانتقاليّة من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى (مثلّث الموت). وأمّا المفعول به فهو بمثابة القفلة في البناء الإخباري حيث نهاية القصّة الخبريّة التي غابت فيها نحويّة الصورة غيابا جزئيّا شمل أساسا اختيار سلّم اللّقطات وحركة الكاميرا وضبط الرّموز. ومن الطبيعي عندما يكون “التصوير بالعاميّة”، تختفي هذه العناصر ليقتصر التصوير على الإضاء الطبيعيّة، وعلى الزاوية الأفقيّة قصد التحكّم في عمق الحدث، وعلى الحامل المتحرّك للكاميرا، وهو الفاعل في مضمارنا، لأنّ مدار الأمر كامن في القبض على راهنيّة الحدث بصرف النظر عن أبعاده الأيديولوجيّة والسياسيّة التي يُبرزها التحكّم التام في نحويّة الصّورة.

B6Rmx

لقد أضحى “المثلث الأحمر” في صور الإعلام العسكري لحماس علامة بارزة من علامات التحدّي والتجلّي للقوة الحقيقية المنبحسة من القوّة الرّمزية، وباتت وحداته التصويرية، خلافا لما يعرضه الكيان الإسرائيلي من مشاهد تتعدّد فيها أحجام اللقطات وزوايا التقاط الصّور ومصادر الإضاءة وحركة الكاميرا كعناصر مدروسة تعمل على “تحريف” الواقع، باتت المرجع الميدياتيكي المثير في توصيف روح المقاومة. لقد عرّت هذه الوحدات حقيقة الجيش “الأخلاقي” الذي لا يُقهر، وكشفت مكامن العدوان لكيان غاصب يتجوّل بدبّاباته ومسيّراته الحربيّة بين أحياء شعبيّة يُقتل فيها اثنتان من الأمّهات(4)، وخمسة أطفال كلّ ساعة (5) وهي إذ تبدو مجرّد تغطية إعلاميّة لأحداث ميدانيّة فإنّها الدلالة على تأبّد إرادة المقاومة. يتحدّث باسكال عن قوّة العُرف، التي أشرنا إليها سابقا، كقوّة مرتبطة بالقوى العقلية والماديّة، محرّكة للإرادة. ونرى أنّ حركة حماس جعلت من المقاومة عُرفا جاريا وعادة متجذّرة، شكّلت عبر تاريخها قوّة رمزيّة أضحت، كما يقول بيرس Peirce في تعريفه للعادة، مبدأ عامّا يعمل في الطبيعة البشريّة لتحديد كيفيّة في التصرّف.

فالوحدات التصويريّة لإعلام حماس العسكري هيّ حينئذ ترجمة مرئيّة للعُرف، عُرف المقاومة الممتدّ من انتفاضة الحجارة إلى مسيّرات الزواري وقذائف الياسين والذي يمثّل صيغة وجود مشتركة متماسكة. تُقدّم لنا سلسلة الأبحاث التي أجراها دومس Doms وموسكوفيتش Moscovici(Doms, Moscovici, 1984, p86) نتائج حاسمة فيما يتعلّق بقدرة الأقليّة في مقاومة الأغلبيّة بشرط أن يكون لمجموعة الأقليّة بديل عرفي متماسك يعملون على إظهاره وبيانه، ويسعون بنشاط ليكونوا مرئيين ومعترفين بسلوك ثابت. ويمكن للذين يواجهون الصّراع مع الأغلبية، أو حتى يسعون إليه من خلال تحدّي الرأي السائد أن يقودوا هذه الأغلبية إلى تغيير وجهة نظرها من أجل التوصل إلى توافق جديد في الآراء. هذا الكلام معناه، أنّ القوّة الحقيقيّة إنّما هيّ رؤيةٌ كيفيّةٌ للعالم تولد وتحيا في امتهان الإيمان بمعانيه الدينيّة والفلسفيّة، وتتأبّد في العرف المتماسك للحقّ. ولئن لاحت القوّة اليوم في العُدّة والعتاد، شاهرة لسيف الباطل، فلأنّ خللا حادّا أصاب ديار الإيمان وزيّن عُرف الباطل ليكون “الحقّ” في النهاية محكوم عليه باتباع سنّة الغالب. هذا الذي هبّت لمقاومته حركة حماس بأسلحة لا يقدر عليها من لا يفهم معنى امتهان الإيمان. لذلك يكون من الوهم، بل من العبث، الاعتقاد بالقضاء على حماس، لأنّ حماس ليست “قسّاما” ولا “ياسينا” ولا “سنوارا”، وإن كانت كلّ هذا، فإنّها أكثر وأبعد من هذا، إنّها عرف، وكيفيّة وجود عالقة بالزمن.

الهوامش

  1. نورد على سبيل الذكر: مجزرة خان يونس (1956) ، مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) ، مجزرة “حمّام الشط” في تونس (1985) ، مجزرة المسجد الأقصى (1990) ، مجزرة الحرم الإبراهيمي (1994) ، مجزرة جنين (2002) مجزرة رفح (2022)…
  2. نشرت صحيفة لوموند الفرنسيّة في الأوّل من يونيو 1967، بيانا يدعم إسرائيل كان من بين الوقّعين عليه جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار، ممّا أثار موجة واسعة من الغضب في العديد من البلدان العربيّة، في الجزائر أحرق الطلاب كتبهم لجون بول سارتر.
  3. الحركيون هم الجزائريون الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير الجزائريّة من 1954 إلى 1962.وتُطلق كلمة حركي على الخونة والعملاء.
  4. CNN Arabic, https://arabic.cnn.com › 2024/01/20
  5. موقع الصّحفيين التونسيين بصفاقس، https://journalistesfaxien.tn

المصادر والمراجع

  • ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.
  • ابن قدامة، لمعة الاعتقاد.
  • ابن تيميّة، مجموع الفتاوي، 7/171.
  • عبد الله الزين الحيدري، الإعلام الجديد، النظام والفوضى، سحر للنشر، تونس، 2012.
  • عبد الله الزين الحيدري، الصّرة والتلفزيون، بناء المعنى وصناعة المضمون، عمادة البحث العلمي جامعة البحرين، 2004.
  • Baudrillard. J, (1992), L’Illusion de la fin, ou la grève des événements, Galilée, Paris, p23.
  • Baudrillard. J, L’esprit du terrorisme, Le Monde, 3 Nov, 2001.
  • Debord Guy, (1967), La société du spectacle, Paris, Gallimard.
  • Edward. W. Said, Ma rencontre avec J. Paul Sarte, Le Monde diplomatique, Sept, 2000. P4,5.
  • Farge Arlette, (2002), Penser et définir l’événement en histoire, Terrain, n⁰38, p67-78.
  • Dominique Fessaguet, L’autorité de la voix dans le discours politique, Topique, N° 133, v.4, 2015, p23,32.
  • Doms Machteld, Moscovici Serge, (1984), Innovation et influence des minorités, in: Psychologie sociale, P.U.F, p86.
  • Golub. Philip S, De la mondialisation au militarisme: la crise de l’hégémonie américaine, A contrario, vol 2.  2004, p29, pp9-33.
  • Giuseppe Lissa, Deux modèles philosophiques de l’antijudaïsme: Hegel et Nietzsche, Pardes, No38,1 ⁄ 2005, p131, pp117-137.
  • Jaspers Karl, (1962), Der philosophische Glaube angesichts der Offenbarung, München: Piper, p75, cite par Leyvraz Jean-Pierre, Revue de Théologie et de Philosophie, v.14. issue1, 1964, p34.
  • Knopp Guido, (1997), Hitler, eine Bilanz, Munich, Goldmann, p42.
  • Lacan. J, Le séminaire livre XX, Encore, Paris, Le Seuil, 1975. P22.
  • Larochelle Gilbert, (1995) Philosophie de l’idéologie, théorie de l’intersubjectivité, P.U.F, 1995.
  • Nietzsche, (1908), Ecce homo, Paris, Mercure de France, p68.
  • Nietzsche, (1886), Par-delà le bien et le mal.  Leipzig, C. G. Naumann.
  • Nietzsche, (1895), L’Antéchrist, Leipzig, C. G. Naumann, p22.
  • Nietzsche, (1881), Aurore (Morgenröte), Leipzig, C. G. Naumann, p128.
  • Ohana David, Zarathustra à Jerusalem, L’influence de Nietzsche sur la pensée sioniste, Controverses, vol.8. 2008, pp 99-116, p100.
  • Poizat Michel, (2002), Pouvoir de la voix et voix du Pouvoir, Inst Français de Barcelone, p10.
  • Reboul Olivier, (1975), Le Slogan, éd. Complexe et Paris, Presses Universitaires de France,

الكاتب : عبد الله الزين الحيدري

أستاذ باحث علوم الإعلام والاتصال، بجامعة قطر (سابقا). خبير لدى المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني.

تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني : بلال الشارني

الكاتب : عبد الله الزين الحيدري

أستاذ باحث علوم الإعلام والاتصال، بجامعة قطر (سابقا). خبير لدى المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني.

zin