الكاتب : غفران حسايني

باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.

أتى كتاب الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية في أوان ليس بالمتأخّر نسبيّا في الفكر الإسلامي المعاصر، فبالقياس إلى مسار تطوّر الحضارة الإسلامية بمختلف معارفها وعلومها وإنجازاتها الفكريّة في مختلف حقول المعرفة الإنسانيّة طيلة خمسة عشر قرنا، يعتبر هذا الكتاب محرّكا لسواكن راكدة وأسئلة لم تطرح بالقدر الكافي في الثقافة الإسلاميّة، فرغم ما نراه من إنجازات وكتابات تعكس حجم الاهتمام بما يعرف اليوم بنظام الاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية والمعاملات الإسلامية والمالية الإسلامية والتمويل الإسلامي، فإن القارئ المسلم لا يكاد يجد في مكتبتنا الإسلامية مدوّنة تراثيّة مستقلّة في الفكر الإقتصادي تمكّنه من فهم هذا النموذج الإسلامي بتتبع لحظة تأسيسه ومراحل تطوّره في العصور المختلفة.

فالكتابات التراثية في موضوع الاقتصاد لا تكاد تذكر مقارنة بما نجده في حقول معرفية أخرى، مثل علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام والفلسفة والتصوّف والتاريخ والأدب والرحلة والجغرافيا، وهذا ما يشير إليه صاحب الكتاب الدكتور الباجي القمرتي في مقدمته بأنّه لم يجد في مدوّنتنا التراثية كلّها حديثا عن الفكر الاقتصادي في الإسلام إلا ما ينقله البعض من فقرات كتبها عبد الرحمان بن خلدون (732 هـ/808) وهي لا تفي بالغرض، أو عرضا مقتضبا لما كتبه تقي الدين المقريزي (764 ه/845ه). وتأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا في اهتمامه بهذا الجانب المفقود في الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية وهو في الأصل أطروحة دكتوراه دولة بالجامعة التونسية تحت عنوان “الاقتصاد ومنزلته في الفكر الإسلامي حتى القرن العاشر للهجرة” للدكتور الباجي القمرتي نشرها في تونس سنة 2010 تحت عنوان “الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية”.

الكاتب : غفران حسايني

باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.

أتى كتاب الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية في أوان ليس بالمتأخّر نسبيّا في الفكر الإسلامي المعاصر، فبالقياس إلى مسار تطوّر الحضارة الإسلامية بمختلف معارفها وعلومها وإنجازاتها الفكريّة في مختلف حقول المعرفة الإنسانيّة طيلة خمسة عشر قرنا، يعتبر هذا الكتاب محرّكا لسواكن راكدة وأسئلة لم تطرح بالقدر الكافي في الثقافة الإسلاميّة، فرغم ما نراه من إنجازات وكتابات تعكس حجم الاهتمام بما يعرف اليوم بنظام الاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية والمعاملات الإسلامية والمالية الإسلامية والتمويل الإسلامي، فإن القارئ المسلم لا يكاد يجد في مكتبتنا الإسلامية مدوّنة تراثيّة مستقلّة في الفكر الإقتصادي تمكّنه من فهم هذا النموذج الإسلامي بتتبع لحظة تأسيسه ومراحل تطوّره في العصور المختلفة.

فالكتابات التراثية في موضوع الاقتصاد لا تكاد تذكر مقارنة بما نجده في حقول معرفية أخرى، مثل علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام والفلسفة والتصوّف والتاريخ والأدب والرحلة والجغرافيا، وهذا ما يشير إليه صاحب الكتاب الدكتور الباجي القمرتي في مقدمته بأنّه لم يجد في مدوّنتنا التراثية كلّها حديثا عن الفكر الاقتصادي في الإسلام إلا ما ينقله البعض من فقرات كتبها عبد الرحمان بن خلدون (732 هـ/808) وهي لا تفي بالغرض، أو عرضا مقتضبا لما كتبه تقي الدين المقريزي (764 ه/845ه). وتأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا في اهتمامه بهذا الجانب المفقود في الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية وهو في الأصل أطروحة دكتوراه دولة بالجامعة التونسية تحت عنوان “الاقتصاد ومنزلته في الفكر الإسلامي حتى القرن العاشر للهجرة” للدكتور الباجي القمرتي نشرها في تونس سنة 2010 تحت عنوان “الفكر الاقتصادي في الثقافة الإسلامية”.

يلفت البروفيسور كمال عمران أستاذ الحضارة بالجامعة التونسية النظر في تقديمه للكتاب، إلى ندرة الدراسات العربية والإسلامية في مبحث الفكر الاقتصادي ويعتبر هذا العمل نسغا زكيا لتاريخ الأفكار في الثقافة الإسلامية، بذل فيه المؤلف من عقله وقلبه ووجدانه ليكون معينا يهدي السبيل إلى دراسات تجري على أثره وتسعى إلى الاجتهاد في التأسيس لمدونة اقتصادية جديدة في سياق إسلامي يستمد الجذور من نزعة تتميز بالموضوعية وبالمنهج العقلاني بعيدا عن الحقائق المسطرة المفروضة وبعيدا عن التسليم المفعم بالتقليد (ص 7).

ثغرة جوزيف شومبيتر الكبرى

يطرح الباجي القمرتي منذ المقدّمة مفهوما إشكاليّا يسميه ” ثغرة جوزيف شومبيتر الكبرى” التي تفيد بغياب أي أثر لأفكار إقتصادية أنتجها الفكر الإسلامي طوال العصر الوسيط في كتاب ” تاريخ التحليل الاقتصادي” لعالم الاقتصاد والعلوم السياسيّة الأمريكي جوزيف شومبيتر في غمرة الحديث المعاصر عن وجود نظريّة في “الاقتصاد الإسلامي”، مع توفّر طاقات مالية هائلة في العالم الإسلامي تبحث عن مسالك تبدو بكرا للاستثمار، إلا أنها ظلت تبحث عن شرعيتها الدينية في ظل مؤسسات اقتصادية عالمية مُعَلمنة بحكم الواقع، تتعامل بما قد يتعارض مع ضوابط الشريعة الإسلامية، فانتقل البحث المعاصر عن تعامل جديد أطلق عليه اسم “الاقتصاد الإسلامي”، كان في البداية مبادرات لأشخاص ثم تحوّل إلى مستوى البحث المؤسسي محاولة لخلق هوية للاقتصاد في ضوء الوعي بغياب “نظرية اقتصادية إسلامية”.

وقد أفضت هذه الجهود إلى حدود موفى القرن العشرين حسب ما ذهب إليه الباحثون إلى نتائج لم تتجاوز رسم معالم للاقتصاد الإسلامي في شكل منظومة مثالية مختلفة عن الإشتراكية والرأسمالية، إلا أن هذه الجهود انتهت بالمشروع إلى “مأزق معرفي وإجرائي” (ص15-17)، يشير إليه الباجي القمرتي بالقول أنه لا يمكن أن نتحدث عن نظرية إقتصادية لم تتمثل بعد أولويات إرجائها حتى يستدل بتطبيقها على سلامتها مع التسائل الملح عن طبيعة أسس طرحها المعرفي ومدى شرعيتها، ويفترض أن يكون الحديث عن “ثقافة إقتصادية في الإسلام” أسلم معرفيا من الحديث عن “إقتصاد إسلامي”، والمقصود بالثقافة الإقتصادية هو التعبير عن ” السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتضمن الأنشطة والمؤسسات الاقتصادية” وفق ما حدده عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برجر Peter Berger.

الأفق المعرفي لمفهوم الاقتصاد الإسلامي

ينتقل الكاتب بالرهان البحثي من الطرح السوسيولوجي إلى أفق معرفي صرف، فيقر بعلمية طرح الموضوع الاقتصادي ويفتح بابا للبحث في وجوه أثر الثقافة الإسلامية في الاقتصاد ومدى تأثيرها والأسس النظرية التي تضفي على الأنشطة والمؤسسات الاقتصادية شرعيتها. ويخصص الباجي القمرتي الباب الأول من الكتاب في تحديد الإطار التاريخي لفهم الأفكار الاقتصادية في الثقافة الإسلامية وإدراك الواقع الذي تبلورت فيه.

فأوّل الأطر التاريخية هو ظهور الإسلام نفيه وانتشاره في الجزيرة العربية ثم خروجه منها إلى العالم، وقد كان لظهوره دلالات اقتصادية رغم رسالته الإيمانية، وذلك بالنظر إلى أن الجزيرة العربية كانت مجال صراع اقتصادي بين الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، بالإضافة وجود شبكة للأسواق وروزنامة إقامة المواسم التجارية والدينية وشبكة الطرقات التجارية التي تعتبر من العوامل المنبئة بأن السوق، هو المجال الذي تنعقد فيه الروابط المادية بين الناس مع تداخل الأنشطة الاقتصادية بالحياة الدينية والطقوس والشعائر، ثم ظهر الإسلام ليعيد ترتيب الأنساق الفكرية ويبلور منظومة القيم ويحدد منزلة الإنسان الروحيّة والماديّة ويواجه تجليات الحياة الجاهلية على المستوى الاقتصادي وكان أشدها وقعا الربا واكتناز الذهب والفضة والترف التي كان يعيشها عرب ما قبل الإسلام ( ص 35-50)

فأسس الإسلام معالم مدينته الجديدة ليبلور رؤيته على ثلاث مفاهيم أساسية وهي (الله والأمة والجهاد(التوسع))، فكان أساسه الروحي هو عبادة الله الواحد وأساسه الاجتماعي أن تصبح الأمة واقعا ماديا بتوفير المقومات الضامنة لمعاش الأفراد على احترام قواعد السلوك في المعاملات والبيع والشراء، ثم أساس التوسع الجغرافي بالجهاد الذي كان أحد وجوه الاسثمار المالي في طور نشوء الأمة بمقياس اقتصادي، فالجهاد في أحد وجوهه كان موردا وطريقا للثراء وأضحى على الصعيد الاقتصادي مصدر رزق للأفراد المجاهدين ومصدر تمويل للجماعة عبر الجزية والخراج (ص 50-62) وعلى هذه المرتكزات كانت أسس النهوض الاقتصادي في الإسلام مع نشوء دولة الخلافة التي كان لها الدور المرجعي في التشريع السياسي والاجتماعي والإداري ثم الطور الأموي في أسلمة الفضاء الجديد وتعريبه وبناء المؤسسات ووضع أسس السياسة المالية والشروع في تشكيل مجال اقتصادي ونقدي في مجال النفوذ الإسلامي.

معالم الفكر الاقتصادي الإسلامي

يخلص الباجي القمرتي في استقرائه لمرحلة بناء الدولة إلى ثلاث أسس انطلقت منها عملية البناء وهي الدين والمال والسياسة، فقامت الدولة الإسلامية على حقيقتين أساسيتين المادية والروحية، وتبلورت الرؤية إلى المجتمع على قاعدة التلازم العضوي بين تجارتي الدنيا والآخرة، وحددت ضروب الملكية ووظائفها وضبطت أهم موارد الدولة الثابتة من المال، فظهر التنظيم الاقتصادي بشكل واضح المعالم في العهد الأموي من خلال خمس أحداث اقتصادية هامة وهي :

1- الإصلاح النقدي الذي أجراه عبد الملك بن مروان بتعريب العملة وتوحيدها وطبعها بطابع إسلامي، ثم قامت الدولة بتطوير

2- نظام الملكية الذي كان تعبيرا عن توجه في استصلاح الأراضي استجابة لحاجات اقتصادية ومقتضيات سياسية وضغوط اجتماعية، وظهور

3- النظام الجبائي المرتبط بالإصلاح النقدي لضبط مقادير الخراج والجزية والرسوم الإضافية ووضع سلم المكاييل والموازين لتحديد الأسعار وقيم التبادل

4- النظام الإداري كأحد أشكال حضور جهاز الدولة في الاقتصاد بحكم اتساع نطاقها الجغرافي

5- الإعمار الذي ساهم في ظهور حركة اقتصادية نشطة وحركة فكرية هامة في المدن الكبرى، فكانت هذه الأحداث الاقتصادية الخمسة قاعدة النهوض الاقتصادي بسياسة اقتصادية مزجت بين السياسة والتشريع والأخلاق(ص ص67-121).

من هذا المنطق يعمق الباجي القمرتي البحث في أثر الثقافة الإسلامية على الاقتصاد بالتأكيد على معطى مهم، وهو أن الاقتصاد في الفكر الإسلامي بقي مشدودا إلى الشخصية الثقافية القاعدية للمجتمع الإسلامي على تعدده العرقي والمذهبي والفلسفي، وقد تطوّر المقاربة القيميّة للمسألة الاقتصادية على ثلاثية (الدين والفلسفة والعمران) وبدى فكرنا الاقتصادي ينحو بالتدرج من المثالية إلى الواقعية التي لم تخل من تبرير ديني أو فلسفي أو أخلاقي في تدبير المعاش.

القيم الاقتصادية في الثقافة الإسلامية

تناول الفكر الاسلامي على اختلاف مصادره مسائل الاقتصاد ضمن محددات أساسية أهمها ( الإنسان والاجتماع والمال والعدل)، لتتبلور ضمنها معالم القيم التي ستشكّل أهم الأفكار الاقتصادية في ثلاث محاور أساسية. وهي الإنسان الذي وهبته الحكمة الإلهية مسؤولية تدبير شؤون الطبيعة والمجتمع الذي يخلق الترابط الوثيق بين الفرد والمجموعة ضمن محددات الخطاب الأخلاقي وكان العدل أساس الاجتماع ليجترح الكاتب من خلال عناصره ما يسميه “الاقتصاد العادل” وأسسه القيمية ومن أهم معالمه تحريم الربح غير المشروع وتحريم الربا وأداء الزكاة وتوزيعها فكان الإحسان روح هذا النظام وسمته ( انظر ص ص 143-237).

ينتقل بنا الكتاب إلى البحث في أهم المفاهيم الاقتصادية التي سادت في الفكر الإسلامي الوسيط، وهما مفهوما الحاجة والملكية، فالحاجة وإن عدت ظاهرة طبيعية في الإنسان، فإنها أصل تدبير معاشه وقد وردت في السياق الإسلامي وفق مقاربتين اثنتين إحداهما مثالية أخلاقية منشودة وثانيتهما واقعية تاريخية متصفة بالحركة التي كانت مدار الاجتماع الإنساني ومطلب سعادة البدن ورغبة الإنسان في الدنيا. وقد كانتا الحاجتان الأخلاقية والواقعية في الفكر الإسلامي محركتان أساسيتان في تحقيق الثروة ودافعتان إلى التنافس وتوفير القدر الكافي من الحاجة للفرد والمجتمع الإسلامي، أما الملكية فهي المفهوم الثاني في الاقتصاد، وإن كان أصلها في الفكر الإسلامي يؤوب إلى الملكية الإلهية للكون، فقد انبثق منها مفهوم الملكية الإنسانية وشروط عمارة الأرض. ونشأ عنها مفهوم ديني أساسي، هو العصمة في الملكية، واتخذت صبغة دينية ترفع حرمة التعدي عليها إلى منزلة حرمة الدم والعرض، وقد تنوعت أقسامها من ملكية الدولة إلى الملكية الشخصية وملكيات الوقف، ولكل قسم منها ارتباط وثيق بالحركية الاقتصادية (ص ص 241-350).

أسس الاقتصاد الإسلامي

يعتبر الباجي القمرتي أن الحركية الاقتصادية في الثقافة الإسلامية الوسيطة تلخصت في ثلاث أسس هي (الكسب والعمل) ورأس المال والسوق، ونظر المفكرون المسلمون القدامى إلى الكسب باعتباره أحد شروط بقاء نظام العالم، إذ الإنسان كائن محتاج لضمان قوته ويسعى بالفطرة نحو الطبيعة ويبتغي من فضل الله، وكان لهذه المعاني حضور هام في الإسلام، وقد حثت الآيات والأحاديث الإنسان على العمل الذي ذكر في القرآن الكريم 359 مرة، ولفظ السعي 30 مرة ولفظ الكسب 67 مرة، فالمعطى الديني يرغب في العمل والكسب من الناحية الأخلاقية الدينية، بالإضافة إلى كونه عنصرا مركزيا في المنظومة القيمية التي وضعت أطر السلوك الاقتصادي العامة في المجتمع، فتحوّل الكسب إلى مفهوم اقتصادي، ولم يغب عن المدونة الفقهية البحث في طُرُقُه الشرعية وأصنافه التي تحدد مراتب الناس في المجتمع، فمنها ما هو مرتبط بالعمل في الفلاحة والصناعة والتجارة ومنها ما هو علمي متصل بالفكر والعلوم ومنها ما هو معاش غير طبيعي مثل الكسب بالإمارة والرياسة، وقد ساهمت جميعها في نشأة العنصر الاقتصادي المركزي وهو رأس المال في المجتمع الإسلامي ( ص ص 357-388).

عرف رأس المال في الفكر الإسلامي وفق ما نقله الباجي القمرتي عن أبي بكر السرخسي “بأنه جزء من المال يقطع عن تصرف صاحبه ويجعل فيه التصرف للعامل ينميه على أن يكون لكل منهما نصيب من الربح بشروط مخصوصة”، أما الأموال فهي جملة المكاسب ويبقى رأس المال لدفع العمل في النماء وهو ثلاث أشكال:

العقار من مزارع أو دور ودكاكين وما شابهها

الأعراض من أقوات وبضائع مصنوعة وأحجار كريمة ويتحقق نماؤها بالصناعة أو التقليب أو بالإيجار

ما هو مشترك وهو إما ملحق بالمزارع أو المسقف من الدكاكين أو ما شابهها أو هو ملحق بالأعراض ويتمثل المشترك في الحيوان أساسا.

وارتبط رأس المال في الثقافة الاقتصادية الإسلامية بالنماء في اقتران وثيق بين نماء مال الدولة ونماء أموال رعاياها، وقد كان الفقهاء يأكدون على لزوم العدل في المبادلات وفققواعد الأحكام الموضوعة في الشريعة حتى لا تُأكل أموال الناس بالباطل، وأما طرق تنمية رأس المال في الفكر الإسلامي فهي ثلاث صيغ:

الصيغة الأولى الائتمان: الذي استعاذ به المسلمون عن الربا المحرم في القرآن والسنة وقام مقامه وهو أحد وجوه المداينة المباحة وتتجلى في أربعة أقسام هي:

1- السًلَم وهو احد اوجه البياعات وهو بيع الدين بالعين وشراء آجل بعاجل مثل أن يعطى الواحد ذهبا أو فضة في سلعة معلومة إلى أمد معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلم أو السلف

2- البيع بالنسيئة وهو بيع العين بالدين وبيع الشيء بالثمن المؤجل وكان له شأن هام في في الوسط التجاري

3- الحوالة وهو نقل الدين من ذمة إلى ذمة أخرى بدين مماثل فتبرأ بذلك النقل الذمة الأولى، واقترن أمرها بالصيرفة ويقوم بها الصيارفة (أهل الصرف) وبالوديعة ولها شروط ضبطها الفقهاء.

4- الوديعة وهي ما وضع عند غير مالكه ليحفظه واشترط فيه الفقهاء عدم الاستعمال أوالخلط إلا بضمان أو بإذن المالك.

الصيغة الثانية الشَرِكَةُ: وهي من أطر تنمية رأس المال ووضع لها الفقهاء قواعدها القانونية الملزمة وجعلوها أصنافا

1- شركة مفاوضة: وتتضمن الوكالة والكفالة واشترطوا في المتعاقدين أن يكونا حرّين بالغين وتصرفهما في أموالهما مطلق واشترط فيها الأحناف أن تقصر مادتها على النقد والتساوي في رأس المال، أما الاجتهادات الفقهية المالكية في هذا النوع من الشراكات فإنها تفتح أفقا متسعا للإستثمار في الحالات التي قد يعز فيها النقد لأنهم أباحوا أن يكون رأس المال نقدا لأحد الشريكين وعرض تجارة للطرف الثاني .

2- شركة العنان: ومادة رأس مالها النقد لدى فقهاء أهل السنة ويبيح البعض أن يكون رأس المال من عروض التجارة القابلة للتقويم ويقيدون التصرف في هذه الشركة إلا بإذن الشريك لشريكه ويجيزون إجازة كراهة شراكة المسلمين للكافرين مخافة تعامل الكافر فيها بالربا، فيستحب بعدها تصدق المسلم بنصيبه من الربح إن شك في ذلك.

3 – شركة أبدان : وتكون في العمل والمهارة وهي منشأ لرأس المال بحث فيها الفقهاء على الأطر المفضية إلى تحقيق العدل في الربح.

-الصيغة الثالثة الشراكة: وتختلف عن الصيغتين السابقتين في أن الطريق إلى نماء المال عقد بين رأس المال والعمل وعقد الشراكة من أجل تحقيق الربح والاشتراك فيه بين مالك رأس المال وصاحب العمل، وتتجلى الشراكة في:

1- المضاربة أو القراض وهي صيغة من صيغ تنمية رأس المال يدفع بمقتضاه الإنسان إلى غيره ما يتجر به ويكون اقتسام الربح حسب ما يشترطانه.

2- المزارعة والمساقاة والمعاملة والمغارسة: وما يجمع بينها أن تكون الأرض أصل النماء من جهة مالك الأرض إضافة إلى البذر في المزارعة والشجر في المساقاة والغراس في المغارسة وان يكون العمل ووسائله رأس مال العامل. ( ص ص 391-430).

اقتصاد السوق في الثقافة الإسلامية

لقد كانت تلبية حاجات الاجتماع البشري في الحضارة الإسلامية الوسيطة، من خلال السعي إلى الكسب الذي لا يتم إلا بتقاسم الأعمال المفضية إلى تحقيق الفائض الذي يسمح بالتبادل الاقتصادي وفق القيم الجامعة للمجتمع المسلم، ولن يكون مجال هذا التبادل الاقتصادي إلا فضاء السوق الذي تحكمه منظومة القيم الإسلامية، حيث يتقصى الباجي القمرتي خصائصها وآلياتها في سياق القيم والقواعد والأحكام التي تقام عليها المعاملات، فانتشرت الأسواق التي تديرها الدولة ضمن نظامها الاقتصادي وانقسمت إلى أسواق للبادية وأخرى للحضر وفق شروط معتبرة، فأسواق البادية يشترط أن تتوسط أمصار الريف وتقرب من بلاد المتاجر فلا يبتعد عن طالبه، والثاني أن تسهل مسالك السوق ويمكن نقل الأثقال إليه إما عبر النهر أو على الظهر، والثالث أن يكون مأمون السبل لأهل الطرقات والعابرين إليه ومنه.

أما أسواق الحضر فإنها مرتبطة بعمران المدينة وكثرة سكانها وآلاتها وأصحاب المهن والصنائع فيها، وعليها أن تختص بقاعدة سكانية مستقرة تكون سوقا استهلاكية نافقة وتحشد كمية هائلة من قوة العمل المنتجة وتوفر كمية نقدية متداولة تيسر جريان المعاملات ولتكون قاعدة إنتاج الرفاه والترف، وكان معاوية بن أبي سفيان أنشأ مبنى اتخذه سوقا سنة 40 ه/ 660 م وتبعه في تشييد الأسواق عبد الملك بن مروان، وتضمن الأسواق في الثقافة الاقتصادية الإسلامية حرية التبادل والمنافسة على قاعدة أخلاقية بما يضمن الربح، وقد مثل الدينار والدرهم وحدتين تقوم بهما الأشياء بعد أن استقر النقد وسيلة للتبادل وتحديد القيمة وضبط الأسعار.

وبعد أن يستجلي الكاتب مواطن تدخل الدولة في الحياة الإقتصادية من خلال مركزية الإدارة وانتشار الدواوين والجباية يخلص إلى أن الاقتصاد في الإرث الإسلامي له بعد سياسي لكونه أحد مباحث العمران البشري ويتنزل ضمن أجناس العلوم الرياضية وخاصة في ما يتعلق بالتشريع والأحكام في باب العبادات والمعاملات وهو إنباء بتعدد منزلة الاقتصاد في شتى المباحث الإنسانية والشرعية والعلمية، ويعتبر الباجي القمرتي أن الأفكار الاقتصادية في الفكر الإسلامي تشكلت في المدونة الفقهية من خلال واقعية تقعيدية في المدونة الفلسفية والنظر الصوفي من خلال مرتبة الإحسان فقد تبلورت في علم العمران الخلدوني متعددة المناهل.

الكاتب : غفران حسايني

باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.

تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : غفران حسايني

باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.

ghofran