الكاتب : غفران حسايني
باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.
لسنا نقول شططا إن اعتبرنا أنّ أزمة المسلمين اليوم لا تكمن بالدرجة الأولى في تنكّرهم للدين بل في كيفية فهمهم له، إذ الجمود الفكري والعقلي ليس أزمة دين أو أزمة وحي، بقدر ما هي إشكالية تديّن وقضية عقل وأزمة فهم ، فقد انحدر تفكيرنا العقلاني في الإسلام منذ قرون وأصابه الخمول والدروشة والتسطيح والتعويم والتقليد، وأخرج مدلول الفقه واقعا من كونه فهما وبحثا وتدقيقا واستنباطا للأحكام، إلى الترديد لما سبق من المؤلفات والشروح على الشروح والحواشي منذ القرن السابع للهجرة كما ذكر ذلك الدكتور كمال عمران رحمه الله في كتابه “الإبرام والنقض في الثقافة الإسلاميّة”… والمعلوم أنّ كل ترديد لكلام السابقين دون تفكير يعيد نفس النتائج السابقة الخاصة بالعصر الذي دونّت فيه خاصّة في ما يعرف ” بالنوازل” والمستجدات.
فعجز العقل الإسلامي المعاصر عن إنتاج المعرفة طال مختلف العلوم الدينية حتى التي تعلّق منها بالقرآن وتفسيره، فقد انتقد الشيخ الطاهر بن عاشور، أغلب كتب التفاسير الموجودة التي اعتمدت المنهج السلفي في التفسير، واقتصر غالب المفسرين على الإحالة على كلام سابق لا حظّ لأغلب المؤلفين فيها إلا جمع كلام الأقدمين على تفاوت بين الاختصار والتطويل. وقد ساهم هذا المنهج القائم على نقل القديم وإعادة انتاجه وترويجه والعمل به، في تشظي المنظومة الفكرية الإسلامية المعاصرة وعجزها في غالب الوقت عن مجابهة زخم المتغيرات المعاصرة والنوازل المتتابعة التي شعّبت القضايا والرهانات بدرجة غير مسبوقة.
الكاتب : غفران حسايني
باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.
لسنا نقول شططا إن اعتبرنا أنّ أزمة المسلمين اليوم لا تكمن بالدرجة الأولى في تنكّرهم للدين بل في كيفية فهمهم له، إذ الجمود الفكري والعقلي ليس أزمة دين أو أزمة وحي، بقدر ما هي إشكالية تديّن وقضية عقل وأزمة فهم ، فقد انحدر تفكيرنا العقلاني في الإسلام منذ قرون وأصابه الخمول والدروشة والتسطيح والتعويم والتقليد، وأخرج مدلول الفقه واقعا من كونه فهما وبحثا وتدقيقا واستنباطا للأحكام، إلى الترديد لما سبق من المؤلفات والشروح على الشروح والحواشي منذ القرن السابع للهجرة كما ذكر ذلك الدكتور كمال عمران رحمه الله في كتابه “الإبرام والنقض في الثقافة الإسلاميّة”… والمعلوم أنّ كل ترديد لكلام السابقين دون تفكير يعيد نفس النتائج السابقة الخاصة بالعصر الذي دونّت فيه خاصّة في ما يعرف ” بالنوازل” والمستجدات.
فعجز العقل الإسلامي المعاصر عن إنتاج المعرفة طال مختلف العلوم الدينية حتى التي تعلّق منها بالقرآن وتفسيره، فقد انتقد الشيخ الطاهر بن عاشور، أغلب كتب التفاسير الموجودة التي اعتمدت المنهج السلفي في التفسير، واقتصر غالب المفسرين على الإحالة على كلام سابق لا حظّ لأغلب المؤلفين فيها إلا جمع كلام الأقدمين على تفاوت بين الاختصار والتطويل. وقد ساهم هذا المنهج القائم على نقل القديم وإعادة انتاجه وترويجه والعمل به، في تشظي المنظومة الفكرية الإسلامية المعاصرة وعجزها في غالب الوقت عن مجابهة زخم المتغيرات المعاصرة والنوازل المتتابعة التي شعّبت القضايا والرهانات بدرجة غير مسبوقة.
ولعلّ ما فاقم من أزمة العقل المعاصر في فهمه للإسلام نفسه وتفاعله الإيجابي مع واقعه، هو ذلك التوظيف الغليظ للشريعة الإسلامية من قبل تنظيمات متطرّفة اتخذت من مرجعيات الفقه التقليدية مبررات واهية للتصادم مع الواقع المعاصر بطريقة عنيفة وغير مسبوقة، فنحن نحتاج اليوم إلى محاولة الفهم لمدارس تفكيرنا الديني أولا ثم البحث ضمنها عن مسلك وسط يلبي حاجة المجتمع المسلم اليوم ويسير على صراط معتدل لا ينتكس إلى الجمود على القديم أو يساير هدمه بالكلية، ونجد في فكر الإمام ابن عاشور ومضة معرفية في فلسفة الفكر المقاصدي التي يحاول من خلالها عقلنة التفكير الديني في الإسلام حتى يكون مواكبا للعصر ومجيبا عن أسئلته ودافعا لتطور المجتمعات المسلمة حتى لا تظل مستكينة إلى التقليد والاغتراب في الزمان بأن تعيش بفكر قديم في واقع حي ومتغير.


الفهم الأعرج للشريعة وعبثية التطبيقات
اشترط العلماء منذ القديم شرط الأهلية في الفتوى وفي كل من يعمل بعقله على الإجابة على نوازل العصر ومتغيراته انطلاقا من الشرع والدين، حيث ورد في الدورة الحادي عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدّة في موضوع العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة ” أن الفتوى متوقفة على الأهلية التي يجب أن تتوفرّ في العالم العارف بنصوص الشرع والقواعد الفقهية ومطّلعا على العلوم الموصلة إلى فهم ذلك وطرق استنباط الأحكام العامّة بواقع العصر الذي يعيشه”.
ففهم الشريعة وفق هذه القاعدة، مبني على قواعد أساسية أوّلها المعرفة بنصوص الشرع وقواعده الفقهية، إذ لا يمكن أن يصدر أحد حكما شرعيا وهو جاهل بالدين ونصوصه وقواعده، ثم ثانيا اشترطوا الاطلاع على العلوم الموصلة إلى فهم الدين وهي علوم متعددة من لغة وأدب وشعر وفقه وأصوله وقرآن وتفسيره ونزوله وقراءاته فضلا عن شمولية الاطلاع في تخصصات مختلفة حسب الحاجة، وثالثا الاطلاع على واقع العصر الذي يعيشه المسلمون إذ لا يمكن أن يتكلم أحد باسم الشرع ويصدر أحكامه وهو جاهل بالواقع المعيش ومتغيراته، إذ لا يمكن من خلال هذه القاعدة أن تكون هناك فتوى شرعية، يقتصر صاحبها أو الجهة التي صدرت منها على فهم الشرع والعلوم الموصلة إليه، إلا أنه يجهل جهلا تاما أو جزئيا للواقع.
وإنّ من أزمات تنزيل الأحكام الشرعية في عصرنا أن كثيرين ممن اكتسبوا القدرة على استيعاب العلوم الشرعية القديمة، هم غائبون تماما تماما عن استيعاب قضايا مجتمعاتهم المعاصرة، فتجد حكما شرعيا قديما ومدونة في الكتب الفقهية ويجد فيها صاحبها سندا ودليلا من المدونة القديمة إلا أنه يغيب فيها تماما استيعاب تطورات الواقع ونوازله ورهاناته وهو ما ولّد اغتراب الفتوى الشرعية في الزمان ، وهي أن تكون أحكامها من زمن قديم وهي صادرة في زمن راهن وسبب ذلك اطلاع صاحبها على المدونة القديمة مع جهل بالواقع، وقد تجد أيضا اغتراب الحكم الشرعي في المكان، وهو أن يكون الحكم صالحا في بلد ولكنه لا ينسجم من واقع بلد آخر.


فتجد مثلا من ما زال يفتي بحرمة خروج المرأة من دارها بلا محرم وهو يعيش في مجتمع نصفه تقريبا من النساء العاملات والطالبات في الجامعات، ويرد حمل الناس على فهمه دون فهم للواقع، أو تجد من ينادي بالزواج العرفي دون توثيق مدني في المحاكم، بالرجوع إلى المدونات الفقهية القديمة ما قبل التدوين والكتابة في عقود الزواج وما تراكم في الذهنيات العامة والقوانين والإجراءات والاستتباعات القانونية في الأنساب والمواريث والحقوق المدنية والشرعية ويغيب عن ذهنه تماما ما أصبح بمرور الزمن قانونا عاما ملزما ومتداولا بين عموم المسلمين.
لقد أقر الفقهاء المجتهدون المقولة التالية “وهي أنه لمّا كانت الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصحّ دخولها تحت الأدّلة المنحصرة”، فمن يتخذ دليلا قديما على واقعة معاصرة لا يستوعب فيها متغيرات العصر وتشعّب حاجات المسلمين فيه، فقد بنى رؤيته على فهم أعرج للدين متعسّف على النص بتنزيله على الواقع دون واسطة العقل الاجتهادي المقاصدي، اقتصارا على اطلاع على المدونة التراثية الشرعية دون استيعاب للواقع ودون فهم لمقصد الشارع من أحكامه، ومن هنا تنشأ التيارات الدينية أو الفقهية التي تحل قضاياها المعاصرة ترديدا لفتاوى ومقولات فقهية سابقة مبتورة عن واقعها المعاصر وهو ما حذّر منه العلماء المجتهدون كالإمام شهاب الدين القرافي بقوله في كتاب الفروق ” أن الجمود على المنقولات ضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين” . وهو ما يحتاج إلى عقلنة التفكير الديني والبحث المقاصدي، نبذا للتشدد والتعصب ووضعا للبنات السير على خطى العصر وقضاياه مستمسكين بالدين الدافع إلى التنوير والتطوير.


عقلنة المقاصد عند الإمام ابن عاشور
لم يترك الإمام محمد الطاهر بن عاشور مجالا في العلوم الدينية إلا وجاس خلاله سابغا علينا من فيض علمه وقوة فهمه الشيء الكثير محاولا تجديد الفكر الإسلامي بمؤلفاته القيمة في التفسير والشروح وتبيان المعاني السامية للإسلام كدين قال عنه الإمام بأنه حقيقة وليس أوهاما”.
ومن بين مؤلفات ابن عاشور التي تعد مرجعا في العالم الإسلامي وسيرا على خطوات علماء سابقين مجددين ومجتهدين يعرفون أمراض الأمّة ودواءها في آن واحد، كتابه القيم: «مقاصد الشريعة الإسلامية”. والبحث في علم المقاصد مجال من مجالات أصول الفقه الإسلامي التي اشتغل عليها العلماء منذ تأليف الإمام الشاطبي في علم المقاصد، لتصبح منزلة البحث في مقاصد التشريع في الأحكام الفقهية، بمنزلة البحث في العلة من الحكم الشرعي عند بقية الأصوليين على خلاف بينهم وهذا موضوع يطول في القول والتبيين.
ولعل الإمام الجليل محمد الطاهر ابن عاشور لا يطيل السرد والتطويل ليستهل مقدّمته بالقول أنه قصد من كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية ” أن يكون نبراسا للمتفقهين في الدين ومرجعا بينهم على اختلاف الأنظار وتبدّل الأعصار وتوسّلا إلى إقلال الاختلاف بين الفقهاء …حتى يستتب نبذ التعصّب والفيئة إلى الحق”. فكل فهم للدين وفق هذا المعنى والسياق لا يراعي مقصده وفلسفته التي تتصف بالشمولية والرحابة واليسر وانتفاء العبث عنه، ينتج عنه خلل في الفهم ويتبعه اخلال في المنهج وينتهي إلى العبثية في الفتوى وعدم تقدير لمآلاتها التي قد تكون في الغالب صداما مع الواقع وتفريقا بين الناس وتغريبا للمسلمين عن واقعهم وعصرهم. وهذا ما سيثمر فكرا متعصبا وقاصرا عن استيعاب مستجدات الواقع والحسم فيها.
لذلك عمل العلاّمة ابن عاشور منذ بداية كتابه إلى تثبيت علم المقاصد وتبيان مدى احتياج الفقيه إليه في طرق إثباتها ومراتبها ، ولعلّ أجّل ما استدل به الإمام ابن عاشور هو إخراج الحكم الشرعي من بوتقة التسليم ومعرفة العلة من الحكم وهو سببها إلى إثبات وجود مقصد لهذا الحكم وغاية ربّانية إلاهية غير متصفة بالعبث والنقصان. يقول الإمام ابن عاشور في كتابه. بأنه قد ثبت بالأدلة القطعية أن الله لا يفعل الأشياء عبثا. وأن كل شريعة شرعت للناس ترمي إلى مقصد لمشرعها الحكيم تعالى، فنسبة الشريعة إلى الله في فكر الامام ابن عاشور يجعلها ضرورة تتصف بالحكمة البالغة التي لا تتعارض مطلقا مع مصلحة الإنسان والمجتمع وهذا ما خلصت إليه الأبحاث الفقهية الجماعية المعاصرة بوجوب مراعاة المقاصد في جلب المصلحة ودفع المفسدة.


وقد قسم ابن عاشور كتابه إلى ثلاث أقسام كبرى كل قسم متفرع إلى عناصر وجعل القسم الأول في إثبات مقاصد الشريعة سعيا منه إلى إثبات وجود هذا العلم بالأدلة القطعية سواء في النقل أو بالعقل نظرا لكون جمهور كبير من الفقهاء وعلماء الأصول تجاهلوه قرونا طويلة بما حوّل عددا كبيرا من الأحكام الفقهية والفتاوى إلى صرخات في واد سحيق لأنها لم تراع مقاصد الإسلام ولت تلبي حاجات المجتمع لأنّها ببساطة غير متفاعلة مع الواقع وكلا كلام عبثي في الدين هو بمثابة التجذيف ضد التيار بمخالفة فلسفة التشريع جملة وتفصيلا.
وقد ذكر ابن عاشور أن الآيات القرآنية التي نفت العبثية عن مقصد الخلق الأوّل كقوله تعالى :”أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وانّكم إلينا لا ترجعون” يقود المتفكّر أو العالم إلى قاعدة أساسيّة جوهريّة، وهي أنّ انتفاء العبث عن علّة الخلق ينفي مطلقا العبث عن شريعة الخالق، لذلك يعرض الإمام ابن عاشور آيات تؤكد وجود المقصد الإلهي في تنزيل الكتب والتشريع بأنها لأجل صلاح البشر كقوله تعالى :”لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” وقد كان الإسلام خاتم الشرائع وهو أعظمها وأكثرها دقّة لهيمنته على كتب من سبقنا من أهل الكتاب وشرائعهم ووضعه لشريعة حيّة جدليّة في تفاعلها مع الواقع المتغيّر وهذا ما يحتاج العقل لاستنباطها لذلك قال الله ” إنّ الدين عند الله الإسلام”.
التشريع للواقع: الأسس والرؤية
ذكر ابن عاشور أنّ الشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت لغاية صلاح البشر في العاجل والآجل أي في حاضر الأمور وعواقبها. وذكر أنه ليس المراد بالآجل أمور الآخرة، لأنّ الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة بل إنّ الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد في الدنيا في تحقيق أهداف سامية ترقى بالإنسان والبشر، فكل فعل في هذا المعنى منتسب إلى الشريعة وموصوف بالعبث والفساد والافساد وعدم مراعاة المصالح العامّة والخاصّة يتصف ضرورة بالشذوذ والانحراف.


أكد ابن عاشور على ضرورة احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة وأبان طُرقا ثلاثة في إثباتها وأولها وأعظمها كما وصف “استقراء الشريعة في تصرفاتها من خلال استقراء الاحكام المعروفة في عللها ومن ثمّ استقراء أدلّة الاحكام المشتركة في العلّة” وهو ما يمكّن من استخلاص الحكمة منها. أمّا الطريق الثاني فهو الأدلة الواضحة في القرآن في دلالتها الظاهرة كقوله تعالى : “والله لا يحب الفساد” فإنه يتسنى أن يؤخذ منها مقصد شرعي واضح بأن شريعة الإسلام لا يجب أن تؤول إلى الفساد والافساد أما الطريق الثالث فهي السنة المتواترة معنويا الحاصلة في مشاهدة الصحابة لعمل النبي صلى الله عليه وسلم أو المتواترة عمليا وهو تكرار مشاهدة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم من آحاد الصحابة.
ثم يأتي القسم الثاني في الكتاب في مقاصد التشريع العامة وذكر الإمام ابن عاشور ما أضحينا نحتاجه اليوم في مجتمعنا سواء في بناء الفتاوى الشرعية أو حتى في القوانين الوضعية التي لم تعد تراعي المقاصد السامية للإنسان كمفهوم وقيمة، حيث انبنت الشريعة على المقصد الأعظم في فكر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وهو الفطرة البشرية التي أضحت اليوم تتبدّل وتتغيّر بمبررات متعددة وأفهام قاصرة وذلك انطلاقا من قوله تعالى “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت لله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” ، حيث قال الإمام ابن عاشور بأن الفطرة في الخلقة هو النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق.
وما أنزل الشرع إلا لأجل دعوة أهله إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها حتّى لا تتفسّخ خصوصية الإنسان وتندرس معالم وجهه وتفضيله عن سر الخلق حيث قال الإمام ابن عاشور: «إذا أجدنا النظر في المقصد العام في التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر في خرقها واختلالها، ليؤسس الإمام لسماحة الشريعة في حقل المعرفة الإنسانيّة ككل ويسحب هذه الرؤية بعد ذلك إلى النظام الاجتماعي والعمران البشري من خلال مقصد حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان فضلا عن مقاصد أحكام العائلة والنكاح والأنساب والتصرفات المالية والصحة والفساد والقضاء والشهادة وغيرها التي تؤوب إلى ستة مقاصد كبرى وهي حفظ الدين وحفظ النفس والعقل والنسب والمال والعرض وكلها تحتاج على تفصيلات واجتهادات يجعل من فلسفة التشريع منسجمة مع حاجة المجتمع المسلم إلى مواكبة عصره وتوقه إلى التقدّم على ضوء الوحي ومقاصده الإنسانيّة ودون أن يجد نفسه في تعارض ناتج عن خلل منهجي وإخلال تطبيقي يقود إلى العبث.
إنّ ما كتبه الإمام ابن عاشور في هذا المبحث جليل وله فائدة عظيمة أمام ما نعيشه اليوم في واقعنا المعاصر من رهانات وقضايا مستجدّة لا يجب أن يجد لها العقل التونسي حلولا جاهزة في كتب الأقدمين دون أن يواكب عصره ويحمل على عاتقه عبء قضاياه وقد تجاذبتنا المتناقضات بين التشدد والتفسّخ حتّى أضحينا نعيش ونفكّر للحاضر والمستقبل بعقول أجدادنا نلتفت بأيدنا إلى الخلف لنسحب إجابة قديمة عن واقع معاصر، وهذا سير أعجر بلا مقصد ولا هدي إلى سواء السبيل الذي أراده الله في القرآن الكريم.

الكاتب : غفران حسايني
باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.


الكاتب : غفران حسايني
باحث جامعي وكاتب متخصص في الدراسات الحضارية وفلسفة التأويل. جامعة منوبة.
