الكاتب : فؤاد غربالي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة قفصة. كاتب وباحث له إسهامات صحفيّة وبحثيّة في العديد من المُؤسّسات الإعلاميّة التونسيّة والعربيّة.
لطالما شكّلت الدراما في تونس، كغيرها من الفنون السمعيّة البصريّة، أداة أساسيّة للهيمنة الرمزية، حيث لم تكن مجرد مساحة للسرد والتخييل مثلما يروّج لذلك دائما، بل أداة تستخدم لإعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية وترسيخ رؤية النخب المهيمنة عن المجتمع. فالهيمنة لا تُمارس فقط من خلال أدوات القمع المباشر، بل عبر إنتاج المعاني وإعادة تشكيل التصوّرات الجماعية بطريقة تجعل السلطة وكأنها طبيعيّة وبديهيّة.
في هذا السياق، لعبت الدراما منذ الاستقلال دورا مزدوجا، فمن جهة ساهمت في صياغة صورة رسميّة عن الهويّة الوطنية والقيم الجماعية، ومن جهة أخرى أعادت إنتاج التفاوتات الاجتماعيّة من خلال تنميط بعض الفئات و وصمها.
الكاتب : فؤاد غربالي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة قفصة. كاتب وباحث له إسهامات صحفيّة وبحثيّة في العديد من المُؤسّسات الإعلاميّة التونسيّة والعربيّة.
لطالما شكّلت الدراما في تونس، كغيرها من الفنون السمعيّة البصريّة، أداة أساسيّة للهيمنة الرمزية، حيث لم تكن مجرد مساحة للسرد والتخييل مثلما يروّج لذلك دائما، بل أداة تستخدم لإعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية وترسيخ رؤية النخب المهيمنة عن المجتمع. فالهيمنة لا تُمارس فقط من خلال أدوات القمع المباشر، بل عبر إنتاج المعاني وإعادة تشكيل التصوّرات الجماعية بطريقة تجعل السلطة وكأنها طبيعيّة وبديهيّة.
في هذا السياق، لعبت الدراما منذ الاستقلال دورا مزدوجا، فمن جهة ساهمت في صياغة صورة رسميّة عن الهويّة الوطنية والقيم الجماعية، ومن جهة أخرى أعادت إنتاج التفاوتات الاجتماعيّة من خلال تنميط بعض الفئات و وصمها.
يمكن فهم هذا التنميط عبر مفهوم “الوصم” كما طوّره إرفينغ غوفمان حيث تصبح الشخصيات الدرامية انعكاسا لتصوّرات مسبقة ترسخ نظرة دونيّة تجاه بعض الفئات، سواء كانت المرأة، الفئات المهمّشة، سكان الأرياف أو الطبقات الفقيرة.
فالمرأة في الدراما التونسية، على سبيل المثال، غالبا ما تُقدّم ضمن ثنائيات جاهزة: إما ضحيّة سلبيّة تحتاج إلى الإنقاذ، أو فاعلة داخلة منظومة العنف، ما يجعلها سجينة لمخيال ذكوري يعيد إنتاج صورتها داخل منظومة السلطة القائمة. أمّا الفئات الفقيرة، فتظهر، إما كفضاء للانحراف والجريمة أو كضحايا مجتمع فاشل، ممّا يعزّز الصور النمطيّة التي تربط الفقر بالانحراف الأخلاقي.


لكن ما يجعل هذه الهيمنة أكثر تعقيدا هو أنّ الدراما لا تكتفي بنقل الواقع، بل تخلقه من جديد بطريقة تجعله يبدو أكثر “حقيقيّا” من الواقع نفسه. فالدراما كوسيط لا تعكس الحقيقة بل تنتج واقعا فائقا، حيث تصبح التمثيلات الدرامية بديلا عن الواقع نفسه.
إنّ العنف على سبيل المثال لا يُقدّم في الدراما التونسية كظاهرة اجتماعيّة، بل يعاد إنتاجه بطريقة تجعله يبدو وكأنّه جزء من الحياة اليوميّة، بل وربّما ضرورة درامية لا غنى عنها.
هذا العنف لا يعرض فقط كأداة سردية، بل يُجَمّل ويُبَرّر داخل سياقات دراميّة تجعله يبدو طبيعيا أو مشروعا. وهكذا، نجد أنفسنا أمام مشهديّة متكرّرة حيث يعاد تدوير العنف داخل سرديات درامية تدّعي أنها تعكس الواقع لكنّها، في الحقيقة، تخلقه بطريقة تجعل العنف ذاته يبدو كحتميّة اجتماعية لا كإشكاليّة تستوجب المساءلة.
ضمن هذا السياق، تتحوّل الدراما الرمضانية في تونس إلى محاكاة، حيث تصنع واقعا موازيا يبدو أكثر “واقعية” من الحياة اليوميّة. وهنا تكمن خطورة الدراما، ليس فقط في إعادة إنتاج القوالب النمطية، بل في جعلها وكأنّها تمثّل الحقيقة الموضوعية. هذا الواقع الفائق الذي تصنعه الدراما يجعل الجمهور متقبّلا لهذه التمثيلات وكأنّها معطى اجتماعي غير قابل للنقاش، مما يرسّخ أنماط التفكير السائدة بدل تفكيكها.
في ظلّ هذه الاعتبارات، يصبح من الضروري مساءلة الدور الذي تلعبه الدراما التونسية اليوم: هل مازالت مجرّد انعكاس للنظام الرمزي القائم، تعيد إنتاج الهيمنة عبر تكريس الصّور النمطية والوصم الاجتماعي؟ أم أنّها قادرة على تجاوز منطق إعادة الإنتاج والدخول في أفق نقدي يفتح المجال لإعادة التفكير في القوالب الجاهزة؟


من دراما البروباغندا إلى دراما السوق
خطاب التحديث القسري وتدجين المجتمع
لطالما كانت الدراما التلفزيونية في تونس أكثر من مجرّد وسيلة ترفيهيّة، لقد شكلت امتدادا للسلطة السياسية التي أدركت باكرا أهمية التلفزيون في إعادة إنتاج التصوّرات وتثبيت شرعيّة النظام. حيث تظهر الدراما كفضاء للصراع الرمزي حيث لم تكن الأعمال الدرامية مجرد انعكاس محايد للمجتمع، بل كانت إعادة تشكيل للمخيال الجماعي وفق منظور النُخب الحاكمة.
منذ الاستقلال، فرضت الدولة التونسيّة احتكارا على الإنتاج التلفزي، ولم يكن ذلك مجرّد احتكار مادّي بل احتكارا رمزيّا، حيث صمّمت المسلسلات لتعكس رؤية السلطة للمجتمع وليس العكس. فالدراما في زمن بورقيبة وبن علي لم تكتف بعكس السرديّات الرسميّة، بل عملت على هندسة الوعي الجمعي عبر إنتاج صور نمطيّة حول فئات اجتماعية معيّنة، وقمع أيّ تمثيل يمكن أن يكون تحدّيا للنظام القائم.
كان نظام بورقيبة يعتمد على سرديّة التحديث والعلمنة كإطار أيديولوجي لشرعنة سلطته، وهو ما انعكس بوضوح في الأعمال الدرامية التي أنتجت في تلك الفترة. لم تكن المسلسلات مجرّد قصص تُروى، بل كانت تمثّل جزءا من مشروع الدولة لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية وفق رؤيتها الحداثية.


على سبيل المثال، لم تكن الشخصيات النسائية في المسلسلات النسائية مجرّد انعكاس للمرأة التونسيّة، كما هي في الواقع، بل كانت تمثّل “المرأة النموذجية” التي أراد النظام إنتاجها: متحرّرة ومتعلّمة، ولكن دائما في إطار أبويّة الدولة التي تضع حدودا واضحة لتحرّرها. يمكن أن نرى ذلك في مسلسلات مثل “محلّ شاهد”، حيث ظهرت المرأة كجزء من مشروع بورقيبة لتحريرها، لكن هذا التحرّر لم يكن إلّا في الحدود التي رسمتها السلطة، فلم تكن هناك نساء معارضات أو مستقلّات خارج الإطار الرّسمي للدولة.
أمّا على مستوى العلاقة بين الرّيف والمدينة، فقد كانت المُسلسلات الأولى تقدّم الريف التونسي على أنّه فضاء متخلّف يحتاج إلى تدخّل الدولة لتحديثه. هذا التنميط خلق قطيعة رمزيّة بين ” المركز العصري” و”الهامش التقليدي”، ممّا ساهم في إضفاء شرعيّة على السياسات القمعية تجاه الفئات الريفية، باعتبارها غير قادرة على إدارة نفسها وتحتاج دائما إلى وصاية الدولة وهو ما جعل من الدراما أداة رسميّة لإنتاج صورة رسمية عن المجتمع عبر إخفاء التناقضات الاجتماعية الحقيقية واستبدالها بسرديّات السلطة وصناعة مجتمع وفق رؤية النخبة حيث كانت الأعمال التلفزيونية تصوّر التحديث على أنّه مشروع تقوده النخبة الحداثية في مقابل أوساط شعبيّة تُقَدّم كعائق أمام التقدّم.


بروباغندا الاستقرار وتطبيع الطاعة
مع وصول بن علي إلى السلطة سنة 1987، تغيّر خطاب الدولة، لكن لم يتغيّر دور الدراما في خدمة النظام. فإذا كان نظام بورقيبة قد استخدم الدراما لتمرير مشروع التحديث القسري، فإن بن علي استغلّها لإنتاج سرديّة الاستقرار وتطبيع الطّاعة السياسيّة. يمكن أن نرى ذلك في مسلسل “الخطّاب على الباب” الذي صُوّر في التسعينات، وهي فترة شهدت أزمة سياسيّة كبيرة نتيجة قمع الإسلاميين والتضييق على الحرّيات. لكنّ المسلسل لم يعكس هذه التحوّلات العنيفة، بل قدّم صورة نوستالجية عن تونس القديمة، حيث كانت العلاقات الاجتماعية متماسكة، وكانت السلطة تُمارس بسلاسة دون أيّ مقاومة.
هذا النمط من الدراما كان أداة لصناعة “الإجماع الاجتماعي”. فالدراما التلفزيونية لا تعكس فقط القيم السائدة، بل تعيد إنتاجها بطرق تجعلها طبيعية وغير قابلة للنقاش. في هذا السياق لم يكن ممكنا إنتاج مسلسلات حول البطالة أو الفقر أو عن المعارضة السياسية.


لم تكن هناك أعمال تناقش الصّراعات العائلية بشكل حقيقي لأنّ التلفزيون كان مطالبا بإظهار صورة المجتمع المتناغم. ظهر هذا الأمر بشكل جلي في السلسلة الكوميدية “شوفلي حل” (2005 – 2009) الذي يعتبر من أبرز الأمثلة على كيفية استخدام الدراما في زمن بن علي لإعادة إنتاج الوضع القائم و”تخدير” الطبقة المتوسطة والفئات الشعبية.
لقد كان هذا العمل أكثر من مجرّد سلسلة هزلية، حيث كان انعكاسا دقيقا للمنطق الإعلامي الذي تبناّه النظام: تجنّب السياسة وتحييد الصراعات الاجتماعية وتقديم صورة مبسّطة للمجتمع تعزل الأفراد عن واقعهم الحقيقي. فسلسلة “شوفلي حل” كانت أداة لصياغة “واقع مواز” حيث تبدو مشاكل الطبقة المتوسطة وكأنها مجرّد نكات يوميّة يمكن تجاوزها بالسخرية، بدل أن تكون أزمات بنيوية مرتبطة بسياسات اقتصادية واجتماعية فاشلة.
فشخصيّة “سليمان”، الطبيب النفسي، التي أدّاها باقتدار كبير الممثل “كمال التواتي” كان شخصيّة تائهة بين مشاغلها العائلية ومرضاها الطريفين. هذه الصورة عزّزت فكرة أنّ الطبقة المتوسطة، رغم ذكائها وتعليمها، ليست فاعلا سياسيّا أو اجتماعيّا، بل مجموعة أفراد منشغلين بذواتهم، وهو ما يعكس أوجه الترويض الإعلامي الذي مارسه النظام حينها.
في المقابل قُدّمت شخصيات مثل “السبوعي” في قالب كاريكاتوري، يكرّس الصورة النمطية عن الفئات المهمّشة كأشخاص لا يملكون أيّ وعي سياسي أو قدرة على التغيير، بل هم مجرد أفراد يتعاملون مع واقعهم بالسخرية والتهريج. هذا النوع من التنميط ساهم في ترسيخ الفكرة القائلة إنّ الفئات الشعبيّة غير قادرة على قيادة أيّ تغيير اجتماعي، وهو ما كان يتماشى مع الخطاب الرسمي لنظام بن علي حينها الذي كان يسعى إلى تحييد أيّ إمكانية للإحتجاج الشعبي.
لكنّ المثير للإهتمام هو أنّ “شوفلي حل” لم يختف مع سقوط نظام بن علي بل استمرّت إعادة بثّه لسنوات، وأصبح أكثر المسلسلات متابعة حتى بعد الثورة. هذا يطرح سؤالا مهمّا حول استمرار شعبيّته رغم تغيّر السياق السياسي.


يمكن تفسير ذلك من خلال النوستالجيا الإعلامية حيث تتحوّل بعض الأعمال التلفزيونية إلى أدوات لخلق حنين لحقب سابقة، حتّى لو كانت هذه الحقب غير عادلة وقمعيّة. فإعادة بثّ “شوفلي حل” لم يكن استجابة لرغبة الجمهور في الضحك، بل كان انعكاسا لرغبة خفيّة لدى جزء من التونسيين في العودة إلى “زمن الاستقرار”، حتّى لو كان هذا الاستقرار مُصطنعا.
بعد الثورة، وبينما دخلت البلاد في دوّامة من الأزمات السياسية والاقتصادية، أصبح “شوفلي حل” رمزا لفترة يبدو أنها كانت أكثر هدوءا، حتى لو كان هذا الهدوء في الواقع مجرّد قناع يخفي قمعا سياسيّا اقتصاديا شديدا. لقد كان “شوفلي حل” نموذجا دقيقا للكيفيّة التي استخدم بها نظام بن علي الدراما لصياغة وعي زائف لدى الطبقة المتوسطة والفئات الشعبية.
من خلال تحييد السياسة، تبسيط المشاكل الاجتماعية، والتنميط الممنهج للفئات المهمشة، ساهم هذا المسلسل في تحويل الجمهور إلى متلقّ سلبي، يتعامل مع الأزمات بالسخرية بدل التفكير النقدي أو الفعل السياسي. وقد نجح فعلا هذا المسلسل في ترسيخ خطابات الهيمنة حتى بعد زوال النظام الذي كان يخدمه وهو ما يطرح تحدّيا حقيقيّا حول دور الدراما في تشكيل الوعي الجماعي في تونس ما بعد الثورة.


صعود الدراما التجارية
سلعنة العنف
إذا كانت الدراما في عهد بورقيبة وبن علي خاضعة لمنطق الدولة، حيث كانت تُستخدم كأداة لرؤية السلطة حول المجتمع، فإنّ مرحلة ما بعد الثورة شهدت تحوّلا جذريّا في طبيعة الإنتاج الدرامي. مع تراجع الدولة في تمويل الإنتاجات التلفزيونية وظهور فاعلين جدد في السوق الإعلامي، دخلت الدراما التونسية في عصر “التجاري”، حيث أصبح المنطق الربحي هو المحدّد لما يتمّ إنتاجه.
في هذا السياق، برزت أسماء لإنتاج الدراما مثل سامي الفهري وسوسن الجمني وعبد الحميد بوشناق، الذين قدّموا أعمال تعكس هذا التحوّل، ليس فقط على مستوى الإنتاج، ولكن أيضا على مستوى المضمون، حيث أصبحت هذه الأعمال تُروّج لمنظور جديد أكثر فردانية، يطبّع مع العنف، ويعيد إنتاج تنميطات اجتماعية جديدة بدل تفكيكها، ذلك أنه في ظلّ منطق السوق لم تعد الدراما تقيّم بناء على دورها في مساءلة الواقع الاجتماعي أو تقديم رؤية نقدية للمجتمع، بل أصبحت خاضعة لمؤشّر وحيد: نسب المشاهدة و المردود المالي للإعلانات الإشهارية.


هذه النزعة أدت إلى إنتاج أعمال تعتمد بشكل أساسي على الإثارة، والعنف والصراعات العائلية والنوستالجيا ووصم الطبقات الشعبية. في هذا السياق برزت أعمال مثل مسلسل ” أولاد مفيدة” لسامي الفهري الذي قدّم صورا نمطية عن الأحياء الشعبيّة، من خلال اختزال سكّانها في شخصيّات تمثّل الجريمة والعنف والانحراف، ممّا جعله من الأكثر الأعمال الدرامية إثارة للجدل إذ مثّل قطيعة مع الدراما التقليدية التي كانت تمثّلها الدولة، ليكرّس نموذجا جديدا مرتبطا بمنطق السوق والمنافسة على نسب المشاهدة من خلال شخصيّاته وسرده الدرامي، عمل المسلسل على إعادة إنتاج العنف بوصفه جزءا من الحياة اليومية، مع تقديمه في قالب مشهدي جذّاب يخفي البعد البنيوي الذي ينتج العنف والتفاوت الطبقي في المجتمع، حيث اعتمد هذا المسلسل على تحويل العنف إلى عنصر درامي أساسي، ممّا جعله منتجا دراميا بامتياز.
في ذات السياق، يتمّ تقديم الفقر كقدر لا مفرّ منه، حيث تصبح الخيارات المتاحة للشخصيّات إما الانخراط في عالم الجريمة أو محاولة النجاة عبر الالتواء على القانون. في المقابل، يتمّ تصوير شخصيات الطبقة الوسطى أو الثريّة بوصفها أكثر ذكاء وقوّة، ممّا يعزّز الخطاب الطبقي الذي يظهر الأحياء الفقيرة كمناطق ينتج عنها العنف، بدل أن تكون فضاء لمقاومة الظلم الاجتماعي.


من ناحية أخرى، تظهر النساء في مسلسلات سامي الفهري كعناصر مكمّلة للصراعات الذكورية بدل أن تكون فاعلة في السرد الدرامي، فشخصيّة مفيدة التي يحمل المسلسل اسمها يتماهى دورها فقط مع فكرة “الأم القويّة التي تحمي أبناءها بأي ثمن”، وهو نموذج نسائي تقليدي يتمّ تكراره في الإنتاجات الدرامية، لكنه لا يعكس تحرّرا حقيقيّا.
في ذات السياق، قدّم مسلسل “فلّوجة ” لسوسن الجمني تصوّرا آخر للعنف وذلك داخل المؤسسات التعليمية، ورغم الجدل الذي أثاره المسلسل حول تصويره لعنف المراهقين في المدارس، إلّا أنّ المنطق السردي الذي تبناّه لم يقدّم قراءة درامية عميقة، بل اكتفى بتوظيف العنف كمادّة درامية مثيرة لشدّ انتباه الجمهور ما حوّله إلى عنف معلّب يُستهلك كأيّ منتج آخر في السوق التلفزيوني.


إعادة كتابة التاريخ وفق منطق السوق
على عكس سامي الفهري، يُقدّم عبد الحميد بوشناق كصانع دراما ذات بعد فني أعمق، لكنّ قراءة نقدية لأعماله تظهر أنها تخضع أيضا لمنطق السوق، حيث يتمّ إعادة إنتاج “الروايات التاريخية” والاجتماعية وفق رؤية انتقائية تهدف إلى خلق الإثارة أكثر من إنتاج خطاب فنّي نقدي.
ففي مسلسل “نوبة” مثلا، يعيد بوشناق تقديم فترة التسعينات في تونس من خلال تصوير مشهدية ثقافية مكثّفة من الناحية السينمائية تتراوح بين الجريمة والموسيقى والصراعات العاطفية. لكنّ الرؤية التي يقدّمها للماضي ليست محايدة، بل تخضع لمنطق إعادة إنتاج التاريخ وفقا لمنطق حاجيات السوق التي تتماشى مع حاجيات الاستهلاك التلفزيوني وذلك عبر تنميط لمجموعات وفئات اجتماعية، كأن يتمّ مثلا تقديم موسيقى المزود فقط كملاذ للفئات المهمّشة وكأن الثقافة الشعبية قادرة على امتصاص التوتّرات الاجتماعية، دون مساءلة حقيقيّة لبنية التهميش ذاتها.
رغم أنّ أعمال عبد الحميد بوشناق من نوبة إلى رقوج تشكّل فضاء دراميّا يعكس تحوّلات المجتمع التونسي، لكنّه في الوقت ذاته يعيد إنتاج أنماط معيّنة و”كليشهات درامية” معيّنة في تمثيل المرأة والعلاقة بين الريف والمدينة، إذ أنه ورغم اشتغاله على العوالم الشعبيّة والهامشية عبر جماليات سينمائية جديدة، لم يتمكّن من أن يخرج عن التمثيلات النمطية التي سادت في الدراما التونسية، خصوصا فيما يتعلّق بالمكان والهوية الجندرية.
فالنساء في أعمال بوشناق يظهرن كعنصر مهمّ لكنّه غير مستقلّ داخل البناء السردي. ففي “نوبة”، كانت الشخصيات النسائية تدور أساسا حول الرجال وهو ما يزداد وضوحا في مسلسل “رقوج” حيث تبدو النساء إمّا موضوعا للرغبة، أو ضحايا العنف، أو عناصر داعمة داخل القصّة لكن دون امتلاك فاعلية حقيقيةّ.
كما يحافظ بوشناق على نفس الرؤية الدرامية المتعلقة بمركزيّة المدينة التي يقدّمها في نوبة كفضاء للحداثة والإبداع الموسيقي، في حين يظهر “الهامش الريفي” كمكان بعيد، غير ممثّل داخل الأحداث، وكأنّه غير معني بالتحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي عصفت بالبلاد في فترة التسعينيّات.


إضافة إلى هذا، يقدّم في ذات الوقت رؤية للمدينة لا تنفصل عن منطق “الفلكرة”، حيث تصبح المدينة مسرحا لطقوس متكرّرة، تعيد إنتاج تصور ثابت عن “المدينة العتيقة ” وعن “الربط” كفضاء للهوية الموسيقية والانحراف الاجتماعي في آن واحد.
هذه الرؤية تجعل المدينة في أعمال بوشناق كأنها “مكان خارج الزمن” حيث يعاد إنتاج أحداث متشابهة دون تطوّر حقيقي، ممّا يجعلها إطار سحريّا أكثر منه فضاء ديناميكيا للعيش والتحوّلات الاجتماعية وهو ما يبرز، في مسلسل نوبة، من خلال استحضار الماضي عبر جمالية بصريّة قوية لكن دون مساءلة عميقة للتحولات التي عرفتها المدينة وهو ما يؤسس لدراما فلكلورية يثبت المدينة ويجعلها أشبه بموقع أثري، يتمّ تصويره بعدسات الحنين بدل التعامل معه ككيان حيّ يتحوّل باستمرار.


دراما تدوير القوالب الجاهزة: إرث الدراما السُلطوية
لكن مع تفكّك دور الدولة كمنتج رئيسي للدراما، لم يؤدّ ذلك إلى قفزة نوعية نحو دراما أكثر تحرّرا، بل بالعكس، تمّ استبدال منطق السلطة بقبضة السوق، الذي وإن بدا أكثر تنوّعا من حيث الموضوعات، إلا أنه ظلّ خاضعا لقواعد جديدة لا تقلّ قيدا عن تلك التي فرضتها الدولة. فشركات الإنتاج الخاصة، التي أصبحت تهيمن على المشهد الدرامي، ليست معنيّة بطرح قضايا اجتماعية عميقة بقدر ما تسعى إلى تحقيق نسب مشاهدة عالية، تضمن لها عقود الإعلانات و العائدات المالية و تحويل المضمون الدرامي إلى مضمون عاطفي يباع كسلعة، ذلك أن العواطف في النظام النيوليبرالي ليست مجرّد تجارب شخصية بل يتم تسليعها و تحويلها إلى منتج يباع إلى الجمهور.
في هذا السياق، نجد أن الدراما التونسية أصبحت تميل إلى إثارة مشاعر الصدمة والعنف والمأساة الاجتماعية ولكن دون مساءلة حقيقيّة للبنى التي تنتج تلك الأوضاع. هذا ما نلاحظه في أعمال مثل أولاد مفيدة وحرقة وفلّوجة، حيث يتمّ تقديم صور عن الهامش من خلال قضايا الجريمة والفقر ولكن بطريقة تستثمر في الإثارة البصرية بدل التحليل العميق.
إنّ إستمرار الدراما التونسية في تدوير القوالب الجاهزة، حتّى بعد الانتقال من دراما الدولة إلى دراما السوق، ليس محض صدفة أو كسل إبداعي، بل هو نتاج بنية اقتصادية وثقافية تحكم الإنتاج السمعي البصري. هذه البنية تفضي إلى الجزم بأنّه من شبه المستحيل تقريبا إنتاج دراما نقدية جذريّة قادرة على تفكيك التمثيلات النمطية بدل إعادة تدويرها.
ففي زمن بورقيبة وبن علي، مثلما أشرنا، كانت الدراما تعمل كأداة دعائية تخدم خطاب السلطة. المسلسلات الشهيرة مثل الخطّاب على الباب والدّوار، لم تكن مجرّد أعمال دراميّة بل كانت مرآة لرؤية الدولة تجاه المجتمع، حيث تمّ الترويج لقيم العائلة والانضباط والاستقرار الاجتماعي، مع تغييب كلّ ما قد يشكّل تهديدا لهذه الصورة الرسميّة.
إنّ الدراما في ذلك الوقت لم تكن مجالا لطرح الأسئلة، بل كانت وسيلة لتكريس سرديّة السُّلطة حول الهويّة الوطنية والتقدّم والحداثة التونسيّة.


الإعلام والدراما: تحالف المهيمنين الجُدد
إذا كان الانتقال من دراما الدولة إلى دراما السوق قد منح الدراما التونسية هامشا أكبر في اختيار المواضيع، فإنّه لم يؤدّ إلى تحرّر فعلي من القوالب التي فرضتها السلطة لعقود. بل يمكن القول إنّ الدراما اليوم تواصل لعب الدور نفسه الذي كانت تلعبه في السابق، ولكن بأدوات مختلفة تتماشى مع متطلّبات الإعلام التجاري.
لم تعد السُلطة السياسيّة هي التي تفرض التوجهات الدرامية، ولكن السلطة الاقتصادية والإعلامية تقوم بالدور نفسه، من خلال خلق منتج يتماشى مع متطلّبات السوق دون أن تسكر فعلا أيّا من القوالب التي رسختها الدولة في السابق. والنتيجة أن الدراما التونسية، حتى عندما تبدو جريئة أو نقدية، تظلّ في نهاية المطاف وسيلة لإعادة إنتاج النظام القائم بدل مساءلته وذلك من خلال العمل على الحفاظ على التراتبيات الاجتماعية القائمة.
ولعلّ الخطير في كلّ هذا أنّ التحول الذي عرفته المنتجات الدرامية في تونس أنّه امتدّ إلى النظام الإعلامي ككلّ، حيث نجد تحالفا واضحا بين صنّاع الدراما وبرامج “التوك شو” التي باتت تُسيطر على القنوات التونسية. هذه البرامج لا تطرح قضايا الدراما من زاوية نقدية، بل تعمل كمنصّات لترويج هذه الإنتاجات، حيث يتمّ التركيز على الفضائح والمشاهد الصادمة والصراعات بين الممثلين، بدل مساءلة هذه الأعمال من منظور نقديّ جادّ.


مع تراجع الصحافة الفنية والنقد الثقافي، أصبحت الدراما محميّة من أيّ تفكيك حقيقي، حيث يتمّ التعامل معها باعتبارها مُنتجا ترفيهيّا، وليس خطابا ثقافيا يعيد إنتاج السلطة والتراتبية الاجتماعية.
هنا يمكن استحضار الفيلسوف ميشال فوكو في تحليله لعلاقات القوّة، حيث لم يعد القمع يأتي من الرقابة المباشرة، بل أصبح يمارس من خلال آليات السوق والإعلام التي تفرض على الدراما خطابا محدّدا يجعل من التسلية غاية في حدّ ذاتها، ويمحو أيّ محاولة للمساءلة النقدية.
ضمن هذا السياق، لم تعد الدراما التونسية مجرّد مجال فنّي مستقلّ، بل تحوّلت إلى حقل خاضع لمنطق التحالفات الإعلامية الكبرى التي تتحكّم في الإنتاج والتوزيع والترويج، ممّا أدّى إلى خلق نوع من “الكارتل الثقافي” الذي يحتكر الساحة الدرامية ويقصي الأصوات النقدية أو البديلة.
هذا التحالف بين الفاعلين الدراميين والإعلام التجاري لا يهدف فقط إلى تحقيق نسب مشاهدة عالية، بل يكرّس هيمنة شبكة المصالح الاقتصادية الإيديولوجية التي تعيد إنتاج خطاب معيّن حول المجتمع والسياسة والثقافة.


في الماضي، كانت الأعمال الدرامية تفرض نفسها نسبيّا بناء على جودتها الفنّية أو قوّتها السرديّة، لكن في السياق الحالي، أصبح الإعلام التجاري هو الفاعل الأساسي في خلق الطلب على منتج معين وإقصاء المنتجات المنافسة. تتولّى القنوات التلفزيونية الخاصّة، التي تمتلكها مجموعات مالية وإعلامية، مهمّة الترويج المكثّف لبعض المسلسلات، بينما تتجاهل أو تهمّش الأعمال التي لا تتماشى مع توجّهاتها أو مصالحها.
تجلّى هذا الأمر بوضوح في العلاقة بين منتجي المسلسلات وصنّاع برامج “التوك شو”، حيث كثيرا ما تتحوّل هذه البرامج إلى مساحة تسويقية محضة للأعمال الدرامية الأكثر استثمارا، من خلال استضافة الممثّلين وخلق الجدل حول المسلسل وتضخيم ردود الفعل الجماهيرية وإثارة النقاشات المصطنعة التي تزيد من نسب المشاهدة.
لم يعد النقد الفني قائما على معايير جمالية أو سرديّة، بل على مدى القدرة على خلق الجدل والتفاعل الإعلامي، ممّا يجعل الأعمال الأكثر ضجيجا هي الأكثر انتشارا، بغضّ النظر عن قيمتها الفنية والنقدية. فما يشهده الحقل الدرامي والفني في تونس هو إعادة إنتاج لنظام مغلق من النفوذ، حيث يتحكّم عدد محدود من المنتجين والمخرجين والفاعلين الإعلاميين في المجال الدرامي، ممّا يؤدي إلى نوع من الاحتكار داخل الحقل الفني نفسه. هذا الاحتكار يمكن تفسيره أنّ مجال الدراما في تونس لا يشكّل مجالا حرّا للإبداع، بل أصبح خاضعا لمنطق “الرأسمال الرمزي” الذي تحدّده المجموعات الأكثر نفوذا في الوسط الفني والإعلامي. من يملك القنوات والمنصّات الإعلامية، يملك القدرة على تحديد ما يشاهد وما ينسى، وما يقدّم كإنتاج ناجح وما يحكم عليه بالفشل.
لم يؤدّ تحالف الدراما والإعلام فقط إلى هيمنة مجموعة من الفاعلين على المجال الدرامي، بل أدى إلى إقصاء الرؤى النقدية والجريئة. فالأعمال التي تتبنّى مقاربة سياسية نقدية أو تطرح قضايا إجتماعية من زاوية غير استهلاكية نادرا ما تحظى بالدعم الإعلامي، بل يتمّ تهميشها أو اتهامها بعدم ملاءمتها “لذوق الجمهور”.
كما أنّ تحالف الدراما والإعلام التجاري في تونس ليس فقط مجرّد مسألة إقتصادية، بل هو جزء من نظام ضبط اجتماعي يحدّد إطار النقاشات الممكنة، ويدفع الجمهور نحو استهلاك مضامين درامية محدّدة ترسّخ منظومة الهيمنة بدل أن تفكّكها. وبالتالي ففهم هذا التحالف بين الدراما والإعلام ضروري لكسر احتكار السرديات المسيطرة، وإعادة الدراما إلى دورها النقدي.
ما نحتاجه اليوم في تونس ليس فقط إنتاجات بديلة، بل أيضا منصّات إعلامية نقديّة قادرة على كسر هيمنة السوق والتحليل السطحي. إنّ مساءلة هذا النظام ليس مجرّد ضرورة فنّية، بل مسألة سياسيّة واجتماعية تمسّ طبيعة الخطاب العامّ والتمثّلات الجماعية التي تشكّل وعي التونسيين بمشاكلهم وقضاياهم.
يندرج هذا المقال ضمن ركن أكاديميا الذي يتيحه موقع الكتيبة للجامعيين والباحثين كمساحة حُرّة للتفكير والنشر حول مُختلف القضايا التي تهمّ الشأن العام بما في ذلك الشأن الإعلامي وقضايا المُجتمع.
يندرج هذا المقال ضمن ركن أكاديميا الذي يتيحه موقع الكتيبة للجامعيين والباحثين كمساحة حُرّة للتفكير والنشر حول مُختلف القضايا التي تهمّ الشأن العام بما في ذلك الشأن الإعلامي وقضايا المُجتمع.

الكاتب : فؤاد غربالي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة قفصة. كاتب وباحث له إسهامات صحفيّة وبحثيّة في العديد من المُؤسّسات الإعلاميّة التونسيّة والعربيّة.




الكاتب : فؤاد غربالي
أستاذ علم الاجتماع بجامعة قفصة. كاتب وباحث له إسهامات صحفيّة وبحثيّة في العديد من المُؤسّسات الإعلاميّة التونسيّة والعربيّة.
