الكاتب : ناجي البغوري

نقيب الصحفيين التونسيين الأسبق

تواجه حرية الصحافة والتعبير في تونس خلال السنوات الأخيرة ضغوطا لم تشهد لها مثيلا منذ سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي الاستبدادي في 14 جانفي 2011. ولأول مرة في تاريخ البلاد يقبع في السجون عشرات الصحفيين والناشطين المدنيين والسياسيين على خلفية آراء عبروا عنها. كما يواجه عشرات من الصحفيين والمدونين الاخرين أحكاما قضائية قد تقودهم إلى سلب حرياتهم على خلفية مواقف معارضة أو غير مقبولة للسلطة السياسية في تونس، وفي أسوأ الحالات بسبب أخطاء مهنية مجالها التعديل الذاتي والمرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.

لا خلاف حول الإخفاقات التي رافقت مرحلة ما بعد الثورة وما أدت له من فشل في عملية الانتقال الديمقراطي، والانتقال الإعلامي، والذي سيأتي الحديث عنه في موضع آخر من هذا المقال، لكن لا أحد يمكنه نكران أنّ عشرية 2011 إلى 2021 مثلت ربيعا حقيقيا لحرية الصحافة وحرية التعبير، وأنّ سنوات ما بعد 2021 كانت خريفا قاحلا في مجال الحريات العامة، وأساسا حرية الصحافة والتعبير.

لقد تزامن هذا الخريف مع عواصف واجهتها الصحافة التقليدية في كل أنحاء العالم، وليس أقلها منافسة شرسة لشركات التكنولوجيا العملاقة، أو ما أطلق عليه بعمالقة الانترنت (القافام: قوقل، آبل، فايس بوك، آمازون و ميكروسفت).

الكاتب : ناجي البغوري

نقيب الصحفيين التونسيين الأسبق

تواجه حرية الصحافة والتعبير في تونس خلال السنوات الأخيرة ضغوطا لم تشهد لها مثيلا منذ سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي الاستبدادي في 14 جانفي 2011. ولأول مرة في تاريخ البلاد يقبع في السجون عشرات الصحفيين والناشطين المدنيين والسياسيين على خلفية آراء عبروا عنها. كما يواجه عشرات من الصحفيين والمدونين الاخرين أحكاما قضائية قد تقودهم إلى سلب حرياتهم على خلفية مواقف معارضة أو غير مقبولة للسلطة السياسية في تونس، وفي أسوأ الحالات بسبب أخطاء مهنية مجالها التعديل الذاتي والمرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.

لا خلاف حول الإخفاقات التي رافقت مرحلة ما بعد الثورة وما أدت له من فشل في عملية الانتقال الديمقراطي، والانتقال الإعلامي، والذي سيأتي الحديث عنه في موضع آخر من هذا المقال، لكن لا أحد يمكنه نكران أنّ عشرية 2011 إلى 2021 مثلت ربيعا حقيقيا لحرية الصحافة وحرية التعبير، وأنّ سنوات ما بعد 2021 كانت خريفا قاحلا في مجال الحريات العامة، وأساسا حرية الصحافة والتعبير.

لقد تزامن هذا الخريف مع عواصف واجهتها الصحافة التقليدية في كل أنحاء العالم، وليس أقلها منافسة شرسة لشركات التكنولوجيا العملاقة، أو ما أطلق عليه بعمالقة الانترنت (القافام: قوقل، آبل، فايس بوك، آمازون و ميكروسفت).

عالميا، وخلال السنوات الماضية بدأت الصحافة التقليدية، في التراجع لصالح مواقع التواصل الاجتماعي، واقتصاديا مثلت هذه الفترة، وأساسا مع بداية أزمة كورونا، وليمة لهذه المواقع مقابل مجاعة حقيقية للصحافة التقليدية، وازداد الأمر سوءا بالنسبة الى الصحافة المستقلة التي تنتهج خط صحافة خدمة المنفعة العامة في مقابل الأجندات السياسية أو التجارية. واقتلعت هذه العواصف شواهد في مجال الإعلام التقليدي، ويكفي ذكر مثال واحد هنا مثل إذاعة البي بي سي بالعربية التي أغلقت أبوابها بعد 84 عاما من البث، في حين تحوّل بعض عمالقة الصحافة المكتوبة إلى مجرد مدونات يتابعها عدد قليل من المشتركين، ويستعد تلفزيون بي بي سي إلى الأسوأ خلال فترة أقل من عشرة سنوات.

في تونس استطاعت وسائل الإعلام أن تتعايش خلال فترة الانتقال المذكورة مع الأزمة العالمية، وعلى الرغم من أزماتها الهيكلية الداخلية، على غرار سوء الحوكمة، وغياب الشفافية، وفقدانها لشروط الاستدامة، إلا أنّ المناخ السياسي العام وحاجة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين الجدد إلى أصوات تدعم تأثيرهم ووجودهم، في الديمقراطية الوليدة، ساهم في تأقلم عديد وسائل الاعلام التونسية واستمراريتها في ظل الأزمة العالمية.

دعوات لإصلاح الإعلام

اتجهت السلطة بعد 2021 نحو تجاهل الاتصال التقليدي بشكل كامل. فالاتصال الرئاسي والحكومي أصبح يعتمد على مجرّد صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك. كما ألغيت خطة مكلف بالإعلام والاتصال في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وقلصت الوزارات تواصلها مع وسائل الإعلام إلى الحد الأدنى. ومنذ 25 جويلية 2021 لم يظهر رئيس الجمهورية ولا أي من رؤساء الحكومات المتعاقبين في حوارات مع وسائل الإعلام التونسية، وأصبحت المعلومة الصحفية صيدا ثمينا.

إنّ تزايد عدد الصحفيين المسجونين، وتزايد عدد المحالين في قضايا نشر، وتصاعد التحريض والتهديد ضد أصحاب الرأي المخالف، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وتغييب الهيئة التعديلية، خلق وضعية استثنائية في قطاع الإعلام، وأدّى إلى حالة من الخوف والرقابة الذاتية والهرولة الطوعية لإعلان الطاعة. أمّا الاعلام العمومي فقد عاد إلى دوره التقليدي الذي كان يقوم به قبل الثورة وهو الدعاية للسلطة الحاكمة، مع تقديم منتوج إعلامي رديء لا يستجيب لأبسط مواصفات المهنية والجودة، وتغييب كامل للنقاش التعددي.

في المقابل، تواصلت “حركة مقاومة” سواء من منظمات مدافعة عن حرية الصحافة والتعبير أو من بعض وسائل الإعلام وخاصة الاعلام البديل والجمعياتي. حيث واصلت هذه المنظمات رفضها لتدجين الاعلام ورفضها لعودة التضييق خاصة من خلال المرسوم 54 وقادت حملات من المناصرة وتجميع القوى المؤمنة بحرية الاعلام، كما واصلت بعض وسائل الاعلام البديل والجمعياتي تقديم منتوج إعلامي جيد وواصلت دورها في مسائلة السلطة على الرغم من محاولات الهرسلة. في هذه الظروف ومن خلال حركة المقاومة المشار إليها برزت دعوات إصلاح الإعلام.

وهنا يطرح السؤال التالي: هل من جدوى اليوم للحديث عن اصلاح الاعلام، وخاصة في ضوء كل ما تقدم ذكره؟ نعتقد أنّ الإجابة الموضوعية عن هذا السؤال تقتضي قبل ذلك الإجابة عن الأسئلة التالية:

ما المقصود بإصلاح الإعلام؟ ومن المنوط بعهدته مهمة الإصلاح؟ ومن هم الفاعلون في عملية الإصلاح هذه؟

إصلاح الإعلام وفق المعايير الدولية

يُقصد بإصلاح الإعلام وفق المعايير الدولية، وخاصة وفقا لمبادئ منظمة اليونسكو، إرساء نظام إعلامي حر، تعددي، مستقل ويخدم المصلحة العامة، في مقاربة تعتبر حرية الصحافة والتعبير ركيزة من الركائز الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان ومؤسسة من مؤسسات الديمقراطية. بمعنى أنّ الشرط الأساسي لعملية الإصلاح هو توفر مناخ عام وظروف سياسية تعترف للصحافة كسلطة مضادة بدورها الرقابي على بقية السلطات وخاصة السلطة التنفيذية، وقبول هذه السلطة وخضوعها لمساءلة الصحافة ورقابتها.

تستند هذه الإصلاحات إلى مجموعة من المبادئ والمعايير التي تضمن حرية الصحافة وحماية حقوق الصحفيين، مع تعزيز التنوع والاستقلالية. يمكن تلخيص هذه الإصلاحات في المحاور التالية:

1- الإطار القانوني والتنظيمي

يقتضي الإطار القانوني الذي يرافق أي عملية إصلاح ضمان حرية الصحافة والتعبير وفقًا للدستور والمواثيق الدولية، أي إلغاء أو تعديل القوانين التي تقيد حرية الصحافة والتعبير، مثل قوانين العقوبات التي تتضمن أحكامًا بالسجن للصحفيين وأساسا الفصول الزجرية المتناثرة في المدونة القانونية التونسية على غرار المجلة الجزائية ومجلة المرافعات العسكرية ومجلة الاتصالات وقانون الإرهاب فضلا عن المراسيم المحدثة على غرار المرسوم 54.

أمّا تنظيميا، فإنّ أولى شروط الإصلاح هو إنشاء هيئات تنظيمية مستقلة للإشراف على وسائل الإعلام، مثل هيئة تعديلية مستقلة لتنظيم الإعلام السمعي البصري، وهيئة تعديل ذاتي تتوفّر لديهما كل الإمكانيات والاستقلالية.

2- استقلالية و تعدّدية وتنوّع الإعلام

يُقصد باستقلالية وسائل الإعلام المختلفة، بما في ذلك الإعلام المموّل من الدولة، ضمان عدم الخضوع لتأثيرات وتوجيه المصالح المالية والسياسية، خاصة الإعلام العمومي، والالتزام بالمصلحة العامة، حيث يكون في خدمة المواطن وليس السلطة ومنع الرقابة الحكومية أو الحزبية على وسائل الإعلام.، فضلا عن تنظيم ملكية وسائل الإعلام لمنع الاحتكار وضمان التعددية. كما يُقصد بدعم التنوع الإعلامي تشجيع وسائل إعلام مستقلة وصحافة مجتمعية، وضمان تغطية إعلامية عادلة ومتوازنة لجميع الفئات الاجتماعية والسياسية. فضلا عن تعزيز الإعلام المحلي والثقافات المختلفة.

3- جودة الصحافة وأخلاقياتها

تقتضي جودة الصحافة أو صحافة الجودة الالتزام بالمعايير والقيم الأخلاقية للصحافة، وهذه القيم والمعايير يقع تعزيزها عبر دعم هيئات التعديل الذاتي على غرار مجلس الصحافة وتمكينه من كل الإمكانات باعتباره يقدم خدمة مجتمعية عامة تتعلق بجودة النقاش العام والديمقراطية، ودعم التعديل الذاتي لوسائل الإعلام لضمان الدقة والموضوعية فضلا عن تعزيز المهنية عبر التكوين المستمر والتدريب للصحفيين. ومكافحة الأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي.

4- التمويل والاستدامة

كما أسلفنا الذكر في بداية هذا المقال، تواجه مؤسسات الصحافة التقليدية في العالم أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها. وتتعمّق هذه الازمة كلّما توجّهنا إلى البلدان ذات الاقتصادات الهشة والمأزومة مثل تونس. فالمشاريع الإعلامية بشكل عام أصبحت محدودة الجدوى من الناحية الاقتصادية، فما بالك إذا تعلق الأمر بالإعلام التونسي الذي يعيش أزمة بنيوية منذ عقود.

وحدها السياسات العمومية التي تعتبر الإعلام خدمة عامة في علاقة بالديمقراطية والتي تستوجب الدعم حتى لا تكون عرضة للتأثيرات السياسية أو التجارية. بيد أنّ هذا الدعم لابد أن يكون وفق مقاييس معلومة وموضوعية وشفافة ووفق شروط الالتزام بصحافة الجودة وأخلاقيات المهنة الصحفية. فضلا عن التزام المؤسسات الإعلامية بالشفافية لضمان عدم التأثير السياسي أو التجاري عليها.

يواجه الإعلام التونسي تحديات اقتصادية تهدد استدامته واستقلاليته، ولا بد من تطوير نماذج اقتصادية جديدة تضمن تمويلًا مستدامًا، سواء من خلال الدعم العمومي المستقل، أو تعزيز الإعلانات بشفافية، أو دعم الابتكار الرقمي.

5- سلامة وحماية الصحفيين

تؤكد المعايير الدولية على ضرورة حماية الصحفيين من العنف والتهديدات، وضمان عدم الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضدهم. إنّ وجود عدد كبير من الصحفيين داخل السجون التونسية، وخضوع البعض الآخر للملاحقة القضائية على خلفية عملهم، وتواصل التفقير والتهميش الاقتصادي بالنسبة للصحفيين المحترفين والعاملين في وسائل الإعلام، كلها دلائل تشير إلى أنّ بيئة العمل الصحفي في تونس هي بيئة خطرة وغير آمنة، ما يبرز الحاجة إلى إجراءات أقوى لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، ولضمان بيئة آمنة للعمل الصحفي.

والأسئلة التي تطرح هنا: هل السلطة السياسية لها مصلحة في إلغاء التشريعات الزجرية وبلورة بيئة تشريعية ضامنة لحرية الصحافة والتعبير وحامية لها؟ وما هي رؤيتها لمهام وأدوار الإعلام؟ هل هو إعلام الخدمة العامة الذي يحتضن النقاش العام التعددي والذي يعكس التنوع السياسي والثقافي في المجتمع؟ وهل لديها القناعة بصحافة الجودة ودعم النقاش الديمقراطي التعددي في المجتمع ومقاومة التضليل الإعلامي؟ وأخيرا هل تلتزم السلطة الحالية بحماية الصحفيين من التهديدات الأمنية والقضائية والاقتصادية؟

إنّ الإجابة عن مختلف الأسئلة الفرعية المطروحة أعلاه في غاية البساطة وهي: غياب سياسة عمومية للإعلام في تونس. تلتزم هذه السياسة بكل ما تقدّم الإشارة إليه من شروط ومعايير لإصلاح الإعلام وفي مقاربة تعتبر الإعلام مرفقا وخدمة عامة في علاقة بالنقاش العام وبالديمقراطية. وعلى العكس من كل ذلك وخلال لقائه بمدراء وسائل الإعلام المملوكة للدولة عبّر رئيس الدولة قيس سعيد بكل وضوح عن رؤيته لدور الإعلام وخاصة الإعلام العمومي حيث “أكّد رئيس الدولة، خلال هذا الاجتماع، على دور الإعلام العمومي في هذه المرحلة بالكلمة الحرّة المُعبّرة عن مشاغل المواطنين، والكلمة لا تكون بالفعل حرّة إلاّ انطلاقا من فكر حرّ يقوم على أفكار جديدة ومفاهيم بدورها جديدة. كما تعرّض رئيس الجمهورية مطوّلا إلى مسار التحرّر الوطني ودور الإعلام العمومي في هذا المجال، مشيرا إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بدعاية لهذه الجهة أو تلك، بل بالوطن والدولة”.

يتضح ممّا تقدّم أنّ رؤية رئيس الدولة والسلطة الحاكمة، للإعلام وخاصة العمومي هو إنجاح ما أسماها بمعركة التحرر الوطني أي المعركة ضد الخصوم والمعارضين. وأنّ طرح مسألة إصلاح الإعلام في تونس في ظل المناخ السياسي الحالي يبدو وكأنه مغامرة مبنية على أوهام قد تقود إلى نسف ما تحقّق من إنجازات تشريعية على غرار المرسومين 115 و116 والقانون الأساسي عدد 22 المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة.

لكن هل يعني ذلك الصمت وقبول الأمر الواقع؟ بالطبع لا، بل بالعكس، من المؤكّد فتح ملف اصلاح الاعلام وتحريك مياهه الراكدة وذلك عبر تسليط الضوء على الفرصة الحقيقية للانتقال الإعلامي التي أتيحت بموازاة الانتقال الديمقراطي، على الأقل للتقييم واستخلاص الدروس، وهو ما سنحاول القيام به في الجزء الثاني من هذا المقال.

مسار إصلاح الإعلام في تونس خلال فترة الانتقال الديمقراطي

إنّ عملية إصلاح الاعلام، مثلما تشير إلى ذلك التجارب الدولية التي شهدت انتقالا ديمقراطيا، تحتاج عملية هدم وبناء مركبة، تتداخل فيها العديد من العناصر التشريعية والمؤسساتية، والسياسية والمهنية الصحفية. لقد عرفت تونس، بعد الثورة، ثماني محطات انتخابية ديمقراطية، وهي انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 والانتخابات الرئاسية في دورتين سنة 2014 ودورتين سنة 2019 والانتخابات التشريعية في مناسبتين 2014 و2019 والانتخابات البلدية سنة 2018.

ولأنّ القانون الانتخابي السائد آنذاك لم يكن يسمح لأيّ حزب بمفرده بتحقيق أغلبية برلمانية مريحة تمكّنه من المصادقة على مشاريع القوانين وتشكيل الحكومات، اضطرّت الأحزاب التي فازت بالمراتب الأولى في المحطّتين الانتخابيّتين التشريعيّتين إلى القيام بتوافقات سياسية من أجل ضمان الأغلبية التي تمكّن من تشكيل حكومات والمصادقة على القوانين. وهو وضع أدّى إلى صراع سياسي محتدم وعدم استقرار في الحكم. وسنتناول هذه الفترة بالبحث والدرس.

تاريخيّة الإعلام والدولة

تاريخيا، ومنذ الاستقلال عن فرنسا، ارتبط الإعلام التونسي، إلى حد كبير، بمؤسسة الدولة. فالدولة هي التي بعثت أوّل مؤسسة للإعلام السمعي البصري (مؤسسة الإذاعة) والتلفزة في ما بعد، والدولة أيضا أمّمت و”تَونستْ” أهم صحيفة (جريدة لابراس). وكان الحزب الحر الدستوري، الذي كان يناضل من أجل الدولة الوطنية، وراء بعث أوّل صحيفة خاصة (جريدة الصباح). ويعتبر الباحث العربي شويخة أنّه “منذ استقلال البلاد في مارس 1956 إلى غاية 14 جانفي 2011، تاريخ هروب الرئيس السابق بن علي، كان تطور الدولة التونسية وهندستها الوراثية يكيّفان دوما المجال الصحفي. هيئة الصحفي وإنتاجه وهيكلة المؤسسات الصحفية كانت إلى حد كبير، رهينة عالم السياسة الذي تجسده مؤسسة الدولة”.

كانت نشأة (أو تونسة) وسائل الاعلام الاولى بعد الاستقلال، تندرج في إطار بناء الدولة التونسية الحديثة وكان ينظر إلى الإعلام باعتباره إحدى أدوات البناء الوطني وخدمة الدولة. وبناء عليه لم تكن السلطة السياسية لدولة الاستقلال متقبّلة لمفاهيم حرية الإعلام واستقلاليته ودوره الرقابي لبقية السلط وخاصة السلطة التنفيذية. كما استبطنت السلطة السياسية دور الراعي والمتحكم في وسائل الإعلام، بدورها تمثلت المجموعة الإعلامية لهذا الدور.

بشكل عام كان الإعلام التونسي قبل 14 جانفي 2011 إعلاما سلطويا، إذ كان قطاع الإعلام خاضعا بالكامل للحكومة، وكانت الدولة تتحكم بشكل تامّ في قطاع الإعلام، من خلال نظام قانوني زجري وتضييقي وهو مجلة الصحافة الصادرة سنة 1975. هذه المجلة التي تمعن السلطة السياسية في تأويلها باتّجاه مزيد التضييق. كما كانت وزارة الاتصال تدير وسائل الإعلام المملوكة للدولة، فهي تعيّن مدراءها ورؤساء تحريرها وترسم سياستها التحريرية، أمّا مصالح الإعلام بقصر الرئاسة بقرطاج فقد كانت مهمتها مراقبة جميع وسائل الإعلام المختلفة ومدى التزامها بالسياسة الدعائية للنظام.

وتشرف وكالة الاتّصال الخارجي، إلى جانب دورها الدعائي في الداخل والخارج، على توزيع الإشهار الصادر عن مؤسسات الدولة، وهي لا تضع شروطا واضحة وشفافة لتوزيع الإشهار وإنّما تعتمد سياسة الثواب والعقاب في عملية التوزيع، وذلك حسب التزام المؤسسات الإعلامية بسياسة البروباغاندا لزين العابدين بن علي ونظامه.

تجربة الإصلاح الأولى

لقد مثلت التحولات السياسية التي شهدتها تونس في نهاية سنة 2010 وأوائل سنة 2011، بداية لمسار اتّسم بتغيير مؤسّساتي وتشريعي في مختلف مناحي الحياة العامة بما يؤشّر للخروج من الحكم الفردي التسلطي إلى نظام ديمقراطي. وينظر إلى حرية التعبير وحرية الإعلام باعتبارهما المنجز الأساسي لهذه التحولات، الأمر الذي جعل من تونس محلّ اهتمام في عديد المجالات في علاقة بالانتقال الديمقراطي، وخاصة في مجال الانتقال الإعلامي ومختلف الإصلاحات والتغييرات التي شهدها قطاع الإعلام في فترة الانتقال الديمقراطي.

الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي

اندلعت عديد الاحتجاجات والاعتصامات في بداية شهر فيفري 2011 للمطالبة بحل اللجان التي شكلتها حكومة محمد الغنوشي، وهو ما أدى إلى إحداث مجلس وطني لحماية الثورة متكون من منظمات وهيئات وجمعيات وأحزاب سياسية. وفي 18 فيفري 2011 قررت الحكومة المؤقتة إحداث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

ويتكوّن مجلس هذه الهيئة حسب ما جاء بنص المرسوم المحدث لها من شخصيات سياسية وطنية وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني المعنية بالشأن الوطني في العاصمة والجهات ممن شاركوا في الثورة وساندوها يتمّ تعيينهم بقرار من الوزير الأول باقتراح من الهياكل المعنية، وتتولى ضبط التوجهات الكفيلة بملاءمة التشريعات المتصلة بالحياة السياسية بما يتوافق مع متطلبات تحقيق الانتقال الديمقراطي ولها اتخاذ ما تراه من اقتراحات لضمان استمرارية المرفق العمومي وتجسيم أهداف الثورة ومطالبها. ويترأس هذه الهيئة أستاذ القانون عياض بن عاشور.

هيئة الخبراء التابعة للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة

تفرعت عن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي هيئة من الخبراء المختصين في مجال القانون. وتتكون هيئة الخبراء من 20 مختصا في المجالات القانونية المختلفة. وعملت هذه اللجنة على إعداد مشاريع المراسيم المنظمة للحياة السياسية والجمعياتية. وقد تم تقسيم لجنة الخبراء داخل الهيئة إلى أربع لجان فرعية، عهد لإحداها مهمّة إطلاق عملية إصلاح قطاع الإعلام.

وكانت اللجنة الفرعية للصحافة والإعلام مكلفة، بعد التشاور مع الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال، بإعداد النصوص الجديدة التي تنظم وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية والبصرية، وقسمت بدورها إلى فريقين، فريق مكلف بإعداد مشروع مرسوم يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر برئاسة أستاذ القانون رضا جنيح، وفريق معني بإعداد مشروع مرسوم حول حرية الاتصال السمعي البصري وبعث هيئة مستقلة تعديلية للاتصال السمعي البصري برئاسة أستاذ القانون مصطفى بن لطيّف.

هيئة إصلاح الإعلام والاتصال

بعد أقل من شهرين على التغيير السياسي في تونس تمّ الإعلان عن حل وزارة الاتصال والمجلس الأعلى للاتصال ووكالة الاتّصال الخارجي، وتمّ في المقابل إنشاء الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال، بموجب مرسوم رقم 10 لسنة 2011 بتاريخ 02 مارس 2011. حين بعثت في 02 مارس 2011، كان دور الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام، التي اقتصرت صلاحياتها على الجانب الاستشاري، “إبداء مقترحات بشأن إصلاح قطاع الإعلام والاتّصال مع احترام المعايير الدولية لحرية التعبير“. أي أنّ الدور الأساسي للهيئة هو تحسين الإطار القانوني للإعلام والاتصال بهدف الارتقاء بهذا الإطار إلى مستوى البلدان الديمقراطية، وكذلك إبداء الرأي بشأن التعيينات على رأس مؤسسات الإعلام العمومي والعمل على إرساء ثقافة جديدة لمفهوم المرفق العمومي.

قبل أول انتخابات شهدتها تونس سنة 2011، وتحديدا في 30 سبتمبر 2011، حدث أول تصادم بين الهيئة والحكومة الانتقالية التي كان يقودها الوزير الأول الباجي قايد السبسي، وأثناء رئاسة فؤاد المبزع للبلاد، حول إصدار المرسومين المنظمين لقطاع الصحافة، حيث خرجت الهيئة عن دورها الاستشاري وعبرت صراحة عن رفضها استمرار الفراغ القانوني في المجال الإعلامي. ودعت الحكومة ورئاسة الدولة إلى إصدار المرسومين المتعلقين بتنظيم العمل الإعلامي من أجل ضمان حق التونسي في إعلام نزيه، وذلك لأنّه من غير المعقول تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي دون وجود قوانين منظمة لقطاع الإعلام.

إطار تشريعي ملائم منظومة تعديل جديدة

لئن كان إصدار المرسوم 115 قد ألغى نهائيا وصاية الدولة على حرية الصحافة والطباعة والنشر، وأساسا من خلال إبعاد أيّ دور لوزارة الداخلية التي كانت تتحكم في إصدار الصحف والنشريات عبر وصل الإيداع الذي تحوّل إلى عملية ترخيص مقنّع، فإنّ صدور المرسوم 116 كان بمثابة إنهاء لعملية الاحتكار التي مارستها الدولة على النشاط السمعي البصري منذ نشأته في تونس. إنها المرة الأولى التي يقطع فيها حبل السرّة بين الإعلام والسلطة، لا سيما بعد إلغاء وزارة الاتصال ووكالة الاتصال الخارجي.

ومن أهم ما جاء في المرسوم 116 هو التنصيص على بعث هيئة لتنظيم الإعلام السمعي البصري وتعديله لأول مرة في تاريخ تونس. على الرغم من أنّ الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري جاءت في المرسوم 116 الصادر في 02 نوفمبر 2011 إلا أنّ ولادتها جاءت متأخرة كثيرا عن هذا التاريخ. ورأت النور في ظروف صعبة جدا، كما لم يخل الإعلان عن قيامها من اعتراضات، خاصة في ما يتعلق بطريقة تعيين أعضائها خلال مرحلة الانطلاق.

وقد واجهت الهيئة منذ انطلاقتها معركة مفتوحة وعلنية مع أصحاب المؤسسات السمعية البصرية بقيادة مالك قناة نسمة آنذاك ورجل الأعمال المثير للجدل نبيل القروي وأيضا مع الحكومة حول التسميات في وسائل الإعلام العمومي. إلا أنّ الهيئة عرفت مصاعب وقصورا في إدارتها الداخلية بشكل ديمقراطي، حيث تواصل مسلسل الاستقالات التي بلغت خمس استقالات.

الترويكا وتواصل نفس السياسة بشعارات جديدة

بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 والتي أدت إلى انتخاب غالبية أعضائه من حزب النهضة الإسلامي وبعض المكونات السياسية المقربة منه، تمّ تشكيل حكومة الترويكا التي ترأستها حركة النهضة. رفضت الحكومة الجديدة تفعيل المرسومين 115 و116 وتعطل تكوين الهيئة التعديلية. لم يتم تنصيبها إلا في 03 ماي 2013، بعد إضراب عام للصحافيين دعت إليه النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وشهد نسبة مشاركة عالية جدا. وإثر ذلك واجهت الهيئة مقاومة شديدة وتحديا صريحا من قبل بعض أصحاب القنوات التلفزية.

في بداية حكم الترويكا كان الخطاب الرسمي وغير الرسمي (القريب من الحكم) هو تقسيم وسائل الإعلام والصحفيين إلى إعلام الثورة وإعلام الثورة المضادة، ويقصد بإعلام الثورة بالإعلام المساند والداعم لحكومة الترويكا وللإسلام السياسي بشكل عام، والعكس بالنسبة الى ما سمي بإعلام الثورة المضادة.

وخلال لقاء بين أعضاء المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والرئيس المنصف المرزوقي سنة 2014 قال لنا المرزوقي “لدي ميزانية ببعض ملايين الدينارات المفروض أنّها مخصصة للإعلام، ولكنّني لن أسلّم هذا الاعلام التونسي سنتا واحدا لأنه إعلام الثورة المضادة.”

لقد مثلّت تجربة الحكم الأولى بعد الثورة (حكومة الترويكا) صدمة لكثير من التونسيين الذين خابت آمالهم في التشغيل والحياة الكريمة، لاسيما بعد تنامي العنف السياسي والاغتيالات. وانجرّ عن هذه الخيبة عزوف التونسيين عن الشأن السياسي، الأمر الذي أدى بالأحزاب والقوى السياسية إلى مزيد الاستثمار في الاتّصال السياسي والصراع على التموقع في وسائل الإعلام.

فترة الانتقال الإعلامي الثانية: الفرصة المهدورة

مثّل دستور سنة 2014 خطوة أساسية ونوعية في مسار إصلاح الإعلام، حيث قام بمأسسة ودسترة الصحافة الحرة واستكمال ما تمّ بدأُه في المرسومين 115 و116. كان من المنتظر بعد المصادقة على دستور 2014 البدء في خلق البيئة (écosystème) الملائمة لدولة ديمقراطية تحترم بحرية الصحافة والتعبير وتلتزم بها، مثل إرساء مفهوم دولة القانون، واستقلال القضاء، وإطلاق المحكمة الدستورية، ومراجعة التشريعات التي كانت قد صدرت في شكل مراسيم وأساسا المرسومان 115 و116 وإلغاء الترسانة القانونية الزجرية المنتشرة في المدونة القانونية والمجرمة لحرية الصحافة والتعبير، وغير الملائمة للدستور الجديد.

لقد انتقل الإعلام التونسي بعد 14 جانفي 2011، بسرعة إلى وضع يتّسم من ناحية بالتراجع العلني للدولة ومن ناحية أخرى باقتحام الفضاء العمومي من قبل فاعلين جدد، وأهمهم المجتمع المدني، والفاعلين السياسيين وهو ما خلق فراغا وضبابية في إدارة الشأن الإعلامي.

هذه الضبابية سببها الرئيسي عدم التزام مؤسسات الدولة باستكمال الإصلاح، وغياب رؤية عامة واضحة للدولة يتمّ بلورتها مع الفاعلين للنهوض بالإعلام، أي أنّ عملية الإصلاح تبقى عرجاء في غياب سياسة عمومية للإعلام، تضمن شروط التعددية والاستقلالية وأيضا لحقوق العاملين في مجال الإعلام، والحقيقة هي أنّه لم يكن لدى أيّ من الحكومات التي تداولت على تونس منذ 2011 أيّة رؤية للإصلاح الإعلام، وللمحافظة على التعددية الإعلامية وعلى تنوّع وسائل الإعلام وحرية الصحافة والتعبير.

بعد انتخابات 2014 لم يفض الصراع بين المنظمات المهنية ومنظمات المجتمع من ناحية وحكومات الحبيب الصيد ويوسف الشاهد و الياس الفخفاخ والبرلمانات المرتبطة بهم من ناحية أخرى إلى أي عملية إصلاح في المنظومة الإعلامية. وفي 2020 أطلقت كتلة ائتلاف الكرامة بدعم من حركة النهضة وحزب قلب تونس مبادرة “لتحوير” المرسوم 116، هي في الحقيقة محاولة ترقيع للمرسوم بغرض إفراغ الهيئة من مهامها وتهميش مجلسها، والسيطرة على مجال السمعي البصري. وتتضمن المبادرة ثلاثة فصول تتعلق بطريقة اختيار أعضاء الهيئة، وحذف التراخيص لإحداث القنوات التلفزية، حيث ينص الفصل الثالث من نص المبادرة على إضافة الفصل 17 مكرر جاء فيه “لا يخضع إحداث القنوات الاذاعية والتلفزيونية الفضائية لأيّ ترخيص.”

لقد خلق هذا الوضع مشهدا إعلاميّا هجينا واختزل دوره في أن يكون وسيلة للتوجيه. وساهم في وجود مؤسسات مارقة وخارج القانون. وأدّى تعطل الإصلاح خلق إعلام غير مهني لا يلعب دوره الأساسي كسلطة مضادة في تجربة ديمقراطية.

نهاية الفسحة وغلق قوس الانتقال

في 25 جويلية 2021، قام الرئيس قيس سعيد بإحداث تغيير جذري في هيئة الدولة. حيث قام بحل الحكومة وتجميد مجلس النواب وحله في ما بعد، وتجميع كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين يديه، ولم يعد الحديث عن انتقال ديمقراطي واعلامي ممكنا.

لا يؤمن الرئيس قيس سعيد بالأجسام الوسيطة، ولا يعترف بدورها في المجتمع، فهو لا يتعامل مع الأحزاب، بل يهمشها ولا يؤمن بالمنظمات والنقابات والجمعيات ووسائل الإعلام، وهو أيضا لا يتعامل معها. إذ لم يدلِ بحوار صحفي واحد منذ توليه (عدا حوار وحيد هو التزام أثناء المناظرة التلفزية بالعودة بعد مائة يوم). ولا يرى الرئيس أيّ جدوى من التوجه إلى وسائل الإعلام فهو يتّصل مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك). وهو يرفض أن يسائله الصحفيون ويريد أن تكون سياسته الاتّصالية قائمة على الاتصال في اتّجاه واحد يكون فيه هو المتكلم الأوحد دون مقاطعة أو نقاش.

ولئن حافظ دستور 25 جويلية 2022 على الضمانات التي جاءت في دستور 2014 المتعلقة بحرية الصحافة والتعبير والحق في النفاذ إلى المعلومة، فقد أنهى وجود الهيئة التعديلية للاتّصال السمعي والبصري كهيئة دستورية، ثم تم تجميد أعمالها في ما بعد.

وبعد أقل من شهر من نشر هذا الدستور وقّع قيس سعيّد المرسوم عدد 54 في 13 سبتمبر 2022 وعلى سبيل المثال، جاء في الفصل 24 من هذا المرسوم “يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار، أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان… وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه.” ومنذ ذلك الوقت تحول المرسوم المذكور إلى التشريع الأساسي في التعاطي مع قضايا الرأي والتعبير، وأحيل بموجبه العشرات من الصحفيين والناشطين والسياسيين، يقبع العديد منهم في السجن إلى حد الآن.

مع تقلّص النقاش العام، وتراجع تأثير السياسيين، دخلت وسائل الإعلام التقليدي في أزمات اقتصادية خانقة ووضعت استمرارية وجودها على المحك، وفعلا أغلقت عديد الإذاعات والمواقع والصحف، وبرزت مظاهر الأزمة على البعض الآخر بشكل واضح من خلال مزيد تردي جودة منتوجاتها، وتقليل الاعتماد على الصحفيين المحترفين وعلى الكفاءات وهو ما عمق حالة البطالة والفقر في أوساط الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام.

لقد تمت بموجب هذا المرسوم إحالة العشرات من الصحفيين والناشطين الحقوقيين والسياسيين على المحاكمات، وتم سجن البعض منهم. وهو ما يجعل من المنطقي الحديث عن غلق قوس حرية الصحافة والتعبير في تونس المنبثق عن ثورة 2011 في سياق سياسي سمته التسلّط ونهاية الفسحة الديمقراطية.

خاتمة الكلام

كما أشرنا سابقًا في هذا المقال، فقد ارتبط الإعلام التونسي تاريخيًا بمؤسسة الدولة ارتباطًا دراماتيكيًا تتخلله الكثير من المفارقات. فمن الناحية المؤسسية، نشأ الإعلام في كنف الدولة، التي كانت الراعية لوجوده واستمراريته. غير أن هذا الإعلام، من الناحية الوظيفية، كان في كثير من الأحيان يُدرك استقلاليته، ويؤدي دوره الأساسي في التعبير الحر والنقد، ويستبطن دور “السلطة المضادة” كلما ضعفت قبضة الدولة المتسلّطة وتمرّد عليها.

فبعد الاستقلال، كانت الدولة القوية تتحكم بالإعلام وتُوجّهه، وبلغ هذا التحكم ذروته في بداية السبعينات، مع تعديل الدستور وإقرار رئاسة بورقيبة مدى الحياة، حينها أصدرت السلطة “مجلة الصحافة” سنة 1975، وهي تشريع قمعي هدفه إحكام السيطرة على القطاع الإعلامي.

لكن مع بداية الثمانينات، ومع دخول نظام بورقيبة مرحلة الوهن نتيجة صراع خلافته، وبروز حراك مدني متصاعد، شهدت حرية الصحافة والتعبير انتعاشة ملحوظة، عاش خلالها الإعلام التونسي بوادر أول ربيع حقيقي، سرعان ما تحوّل إلى خريف قاسٍ مع تولّي زين العابدين بن علي الحكم، وتشديد قبضته على الدولة والمجتمع منذ أوائل التسعينات. أما الربيع الحقيقي للصحافة التونسية، فقد بدأ مع سقوط الدولة الاستبدادية في مطلع عام 2011، حين عاشت حرية التعبير أزهى فتراتها، إلى أن بدأت الدولة المتسلطة تلملم شتاتها من جديد، مستعيدة دورها التقليدي في محاولة إسكات الصحافة مرة أخرى.

إذن تبقى فرصة تحرر الإعلام وإصلاحه رهينة ضعف الدولة المتسلّطة وتراجعها عن احتكار الفضاء العام، ورهين إصلاح مؤسسات المجتمع ليأخذ دوره في تأثيث وملء النقاش العام الذي ترعاه صحافة حرّة ومستلقة عن أي ضغوط أو تأثيرات.

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتب : ناجي البغوري

نقيب الصحفيين التونسيين الأسبق

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : ناجي البغوري

نقيب الصحفيين التونسيين الأسبق

neji