الكاتبة : د. سهير لحياني

أستاذة مساعدة في علوم الإعلام والاتصال، معهد الصحافة وعلوم الإخبار، جامعة منوبة

يقوم المشهد الإعلامي على التعدد والتنوع، فهو يضم الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون مرورا بالمواقع الإلكترونية، وصولًا إلى آخر منتجات تقنيات التواصل الحديث أي المنصات الرقمية والبودكاست. وأدى هذا التطور إلى خلق منافسة شديدة على المستويين الإخباري والمعلوماتي من ناحية والاقتصادي من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك اتسم اقتصاد الإعلام في الفترة الحالية بأزمة هيكلية عميقة. وهي أزمة تستوجب إصلاحات عميقة وجريئة.

وسنحاول من خلال هذا المقال تقديم مقاربات الإصلاح الممكنة. وسيتعيّن علينا قبل ذلك أن نقترح محاولة لفهم وتفكيك واقع الإعلام وأهمّ التحديّات المطروحة وذلك من خلال استقراء الواقع التونسي والاستئناس بالتجارب المقارنة خاصة في أوروبا وفرنسا.

ففي ظل تحوّلات رقمية متسارعة وأزمة اقتصادية تهدّد استمرارية الإعلام التونسي، يبرز السؤال حول كيفية إعادة صياغة نموذج اقتصادي مستدام يضمن استقلالية الصحافة ودورها كركيزة ديمقراطية. من خلال استقراء الواقع التونسي والاستلهام من التجارب العالمية، يستعرض هذا المقال التحديات الهيكلية التي تواجه القطاع، من هشاشة مالية وفقدان ثقة الجمهور إلى هيمنة المنصات الرقمية، مقترحًا مسارات إصلاح تجمع بين الابتكار التكنولوجي، تنويع مصادر التمويل، وتعزيز الجودة. الفكرة المحورية تتمثل في أنّ التكيّف مع هذا الواقع المتغير ليس خيارًا بل ضرورة استراتيجية، حيث يمكن للإعلام أن يتحوّل من أزمة إلى فرصة لانطلاقة جديدة، مستندًا إلى الإبداع والتكنولوجيا كمحركين للنمو والاستدامة.

الكاتبة : د. سهير لحياني

أستاذة مساعدة في علوم الإعلام والاتصال، معهد الصحافة وعلوم الإخبار، جامعة منوبة

يقوم المشهد الإعلامي على التعدد والتنوع، فهو يضم الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون مرورا بالمواقع الإلكترونية، وصولًا إلى آخر منتجات تقنيات التواصل الحديث أي المنصات الرقمية والبودكاست. وأدى هذا التطور إلى خلق منافسة شديدة على المستويين الإخباري والمعلوماتي من ناحية والاقتصادي من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك اتسم اقتصاد الإعلام في الفترة الحالية بأزمة هيكلية عميقة. وهي أزمة تستوجب إصلاحات عميقة وجريئة.

وسنحاول من خلال هذا المقال تقديم مقاربات الإصلاح الممكنة. وسيتعيّن علينا قبل ذلك أن نقترح محاولة لفهم وتفكيك واقع الإعلام وأهمّ التحديّات المطروحة وذلك من خلال استقراء الواقع التونسي والاستئناس بالتجارب المقارنة خاصة في أوروبا وفرنسا.

ففي ظل تحوّلات رقمية متسارعة وأزمة اقتصادية تهدّد استمرارية الإعلام التونسي، يبرز السؤال حول كيفية إعادة صياغة نموذج اقتصادي مستدام يضمن استقلالية الصحافة ودورها كركيزة ديمقراطية. من خلال استقراء الواقع التونسي والاستلهام من التجارب العالمية، يستعرض هذا المقال التحديات الهيكلية التي تواجه القطاع، من هشاشة مالية وفقدان ثقة الجمهور إلى هيمنة المنصات الرقمية، مقترحًا مسارات إصلاح تجمع بين الابتكار التكنولوجي، تنويع مصادر التمويل، وتعزيز الجودة. الفكرة المحورية تتمثل في أنّ التكيّف مع هذا الواقع المتغير ليس خيارًا بل ضرورة استراتيجية، حيث يمكن للإعلام أن يتحوّل من أزمة إلى فرصة لانطلاقة جديدة، مستندًا إلى الإبداع والتكنولوجيا كمحركين للنمو والاستدامة.

في السابق، كانت وسائل الإعلام محدودة العدد وتوفّر فضاءات إشهارية ضيّقة نسبيا وهو ما منحها نفوذًا اقتصاديًا كبيرًا على المستشهرين، وكانت بذلك قادرة على تحقيق أرباح مستقرة. أمّا اليوم، فقد انقلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب مع تزايد الفضاءات الإعلامية المتوفرة للمستشهرين بشكل غير مسبوق ما أضعف حصّة السوق للمؤسسات الاعلامية الخاصة، سواء في استقطاب الجمهور والمستشهرين الذين تحوّل تركيزهم نحو المنصّات الرقمية التي تجلب أكبر عدد من المتابعين. ونتيجة لهذا الوضع تقلّص عدد وسائل الإعلام ذات المضمون الجاد والجيد، والقادرة على الاستمرار والديمومة ونذكر هنا مثال لو موند Le Monde و”ميديابارت” Mediapart في فرنسا، التين نجحتا في استهداف شريحة النخبة المثقفة والميسورة المهتمة بالشأن السياسي، بينما يكتفي الآخرون بالتسابق على الجزء الذي تبقّى من السوق.

واضافة الى ذلك يظهر تحدٍ آخر، لا يقل خطورة، كما أوضح راسموس كلايس نيلسن وهو فقدان الثقة في الصحافة. ورغم وجود استثناءات مثل الدول الاسكندنافية وألمانيا …، فإنّ هذه الظاهرة باتت ذات طابع عالمي، وتتفاقم بشكل خاص في سياقات سياسية متشددة كالولايات المتحدة وفرنسا. يستغل بعض السياسيين هذا التراجع في المصداقية، موجهين هجماتهم نحو الإعلام باعتباره رمزًا لـ”النظام” المنفصل عن مشاغل الناس، ما يعمّق هوة انعدام الثقة. وهذا الانفصال يغذّي ذاته في حلقة مفرغة، فكلما ابتعد الجمهور عن الإعلام، قلّت معرفته بدوره وقيمته، ليصبح أكثر اعتمادًا على الخطابات الشعبوية السائدة، والتي تشكّل لديه وعيا مغلوطا وفهما سطحيا للأحداث.

و يرى راسموس كلايس نيلسن، أنّ “المشكلة لا تكمن في رفض الجمهور لما تقدمه الصحافة، بل في عدم إدراكه لما يمكن أن تقدمه. فالطلب موجود بالفعل، وهو ما يبعث على التفاؤل. لكنّ التحدي الحقيقي يتمثل في القدرة على تلبية هذا الطلب بطريقة مستدامة اقتصاديًا، مع البقاء و التكيف في الفوضى التي تتميز بها البيئة الإعلامية الحالية”.

الإعلام التونسي بين تحوّل رقمي ناقص وهشاشة مالية

يعاني الإعلام التونسي منذ الاستقلال من مشاكل لا حصر لها ما يعيق تطوّر وسائل الإعلام. فقد أبدت الحكومات التي تعاقبت على الحكم ترددًا كبيرًا تجاه حرية التعبير والإعلام، بل وعداءً لمبدأ الإعلام الحر والمستقل. ومع ذلك، فإنّ هذه الحريات كانت مذكورة صراحةً في المادة الثامنة من دستور 1959. وقد كانت دولة ما بعد الاستقلال تحمل مشروعا تحديثيا واعتبرت أنّ الإعلام مكوّن أساسي من مكوناته وهو ما جعلها تسعى الى السيطرة المطلقة عليه حتى يكون صوتَها والمعبّرَ عن توجهاتها وخياراتها.

الان وبعد مرور14 عام على الثورة التونسية مازال المشهد الإعلامي في تونس لم يعرف بعدُ طريقه إلى الاستقرار، بل إنّ أهمّ ما يميّزه هو حالة التغيير المتواصلة التي يشهدها خصوصا مع اتّساع رقعة استعمال الشبكات الاجتماعية وارتفاع وتيرة نشر الأخبار الزائفة و تداولها.

ومن الطبيعي ألّا يكون المشهد الإعلامي في تونس بمعزل عن بيئة اقتصادية تتسم بالاضطراب المستمر لعدة اعتبارات أهمها:

  • الاستحواذ التدريجي لمنصات التكنولوجيا الرقمية، وخاصة شركة “ميتا” بشكل مستمر على العائدات الإشهارية
  • ضعف تنظيم قطاع الإعلام، فعلى الرغم من الحريات المكتسبة بعد ثورة جانفي 2011، وخاصة حرية التعبير والصحافة، فإنّ تنظيم قطاع الإعلام ما يزال يعاني من العديد من أوجه القصور.

يقف الإعلام التونسي الآن، في سنة 2025، عند مفترق طرق بين تحوّل رقمي ناقص، وهشاشة مالية، وفقدان ثقة الجمهور. ورغم المحاولات لتحديث القطاع، يبقى التقدم بطيئًا. يمرّ قطاع الإعلام في تونس بأزمة متفاقمة تعكسها التحديات المالية الخانقة التي تواجهها المؤسسات الإعلامية الكبرى، تلك التي كانت في السابق تُعدّ من المؤسسات الراسخة في القطاع إضافة الى الصعوبات التي تواجه المؤسسات الناشئة. يعود هذا الوضع المأزوم إلى تراجع حاد في مبيعات الصحف الورقية، وانخفاض ملحوظ في أعداد القراء سواء للصحافة المطبوعة أو الإلكترونية، فضلاً عن تقلّص عائدات الإشهار وتحوّل اهتمامات الجمهور نحو وسائل جديدة. ويستحوذ عمالقة الإنترنت مثل “جوجل” و”فيسبوك” على الإيرادات الإشهارية، ما يضعف وسائل الإعلام التقليدية. ورغم وجود استثمارات، تبقى العروض غير كافية ويبرز هذا الاتجاه بشكل واضح لدى الشباب، الذين يتّجهون نحو المحتوى الرقمي.

وبالنسبة الى العلاقة السلبية بين الإعلام والجمهور فقدت تغذّت من انتشار الأخبار الزائفة التي تضعف مصداقية وسائل الإعلام وتبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز الشفافية. ولعكس هذا الاتجاه، يصبح من الضروري الارتقاء بجودة المحتوى من خلال صحافة دقيقة وملتزمة بمعايير الأخلاق المهنية، لاستعادة ثقة المتلقين وتعزيز دور الإعلام في المجتمع.

أزمة النماذج الاقتصادية التقليدية في مواجهة التحوّل الرقمي

تعتمد المؤسسات الإعلامية التونسية على نماذج اقتصادية تقليدية تظهر عجزها أمام تسارع الاقتصاد الرقمي. وتتصاعد أرقام الإشهار في شبكات التواصل الاجتماعي في تونس. وتجعل منافستها من قبل وسائل الإعلام التقليدية في تحقيق موارد مستقرة عملية صعبة ما يُهدّد استقلالية الإعلام، بل وديمومته.

وتجدر الإشارة في هذا الإطار الى أنّ ثقافة الاشتراكات الرقمية غائبة تقريبا (باستثناء وكالة أفريقيا للأنباء والصحيفة الالكترونية البورصة)، لتتعزز بذلك الأزمات المالية خاصة مع تراجع مبيعات الصحف المطبوعة.

بالرغم من أهمية الدّعم العمومي لوسائل الإعلام، إلّا أنّه يثير العديد من التساؤلات حول مدى تأثيره على الاستقلالية التحريرية واستدامة القطاع الإعلامي على المدى البعيد. وتمنح الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الإشهار لمختلف وسائل الإعلام، سواء كانت عمومية أو خاصة، غير أنّ هذا الدعم يظل محدودًا. وبالنسبة الى وسائل الإعلام الخاصة، فإنّ الهيئة تمرّ عبر وكالات شراء المساحات الإشهارية، والتي تقتطع نسبًا من قيمة هذه الإشهارات، ما يؤدّي إلى تقليص العائدات الفعلية التي تحصل عليها هذه الوسائل، ولا سيما وسائل الإعلام الإلكترونية، مقارنة بما تحصل عليه وسائل الإعلام العمومية.

ويُبرز هذا الوضع هشاشة النظام الحالي للدعم و للإشهار. ويطرح تساؤلات جدّية حول مدى فعاليته في تعزيز استقلالية وسائل الإعلام وضمان استمراريتها، خاصة في ظل التحديات المالية المتزايدة التي يواجهها القطاع.

وقد أدّت التكنولوجيات الرقمية الحديثة الى ارباك النمو الاقتصادي لوسائل الإعلام حيث تواجه الصحافة التونسية اليوم أزمة غير مسبوقة بفعل التحولات الرقمية. تعود هذه الأزمة إلى هيمنة الإشهار الرقمي على المنصات الرقمية الكبرى وتحول عادات الجمهور نحو المضمون المجاني والفيديو وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي التي عزّزت انتشار المعلومات المجزّأة والمنفصلة عن سياقاتها décontextualisés. وقد قلبت المنصات الرقمية، بسبب الخوارزميات، النماذج الاقتصادية التقليدية رأسًا على عقب، حيث سادت بين عامي 2010 و 2020 مرحلة “المحتوى المثير للنقر” clickbait التي رجّحت المضامين سريعة الاستهلاك على حساب الجودة.

ضاعف الإعلام الرقمي من ظاهرة تفتيت المحتوى إلى أدقّ تفاصيله (تغريدات، مقاطع فيديو قصيرة، عناوين مثيرة)، وتخصيص الرسائل حسب ميولات الأفراد، وانحسار السلطة التحريرية التقليدية.

7.24 مليون تونسي نشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يمثل 58.4% من إجمالي السكان. بالإضافة إلى ذلك، كان 73.9% من جميع مستخدمي الإنترنت التونسيين يستخدمون منصة واحدة على الأقل من منصات التواصل الاجتماعي.

أزمة الإعلام التقليدي وتحديات الإذاعات الخاصة في تونس

لا يمكن مناقشة واقع الإعلام دون الوقوف عند الأزمة العميقة التي يكابدها، والتّي تتجلّى في أرقام مقلقة. ففي فرنسا، توقفت ثلاث صحف يومية عن الصدور بين عامي 2012 و2014، وهي “فرانس سوار”، “لا تريبون” و”نيس ماتان”، مع تسريح أربعة آلاف موظف في القطاع. وفي إسبانيا، اختفت أكثر من مئتي وسيلة إعلامية خلال الفترة من 2008 إلى 2012. أمّا في الولايات المتحدة، فقد خسر 3000 صحفي وظائفهم في 2022، وانقرض ثلث الصحف خلال عقدين، إذ توقفت نحو 12 صحيفة يومية محلية عن الصدور منذ عام 2007. وفي تونس، لم تسلم المطبوعات من هذا التراجع، إذ تقلّص عدد الصحف والمجلات من 220 إلى 50 فقط في أقل من عشر سنوات، (مثل جريدة الصريح ، جريدة التونسية، جريدة الإعلان، جريدة أخبار الجمهورية، و غيرها…) ما يعكس تراجعا مثيرًا للقلق.

من جهتها، لم تعد العديد من الإذاعات التونسية قادرة على تحمّل نفقات رسوم البث وأجور العاملين لديها، مع تآكل عائدات الإشهار ما يجعلها عرضة للإغلاق.

وكانت النقابة التونسية للإذاعات الخاصة قد أكدّت أنّ عديدًا من هذه المحطات تواجه خطر الإغلاق بسبب أزمة مالية خانقة، ناتجة عن تراجع إيرادات الإشهار وارتفاع تكاليف البث. وقد تراكمت الديون لدى الكثير من الإذاعات الخاصة، مع عجزها عن السداد أو دفع أجور موظفيها. وحسب رئيس النقابة، فإنّ بعض الإذاعات لم تدفع أجور الصحفيين والعاملين لديها منذ أكثر من ثمانية أشهر، نتيجة انخفاض مداخيل الإشهار التّي لم تعد كافية لتغطية التكاليف، لا سيما مع ازدياد عدد الإذاعات الخاصة بعد الثورة.

وتعتمد الإذاعات الخاصة بشكل شبه كلّي على الإشهار، ما يمنعها من تحقيق التوازن المالي. ورغم ذلك، تسعى بعض الإذاعات الخاصّة مثل الإذاعات المحلية الخاصة و الإذاعات الجمعياتية وإذاعات الواب، حسب إمكانياتها، إلى تعزيز خطاب تعددي ديمقراطي بفتح المجال لمختلف الأصوات الفكرية والسياسية.

هيمنة رجال الأعمال على الإعلام وتحديات الاستقلالية

يصف آلان واكرا، باحث في الإعلام والاتصال، النموذج القائم على الاعلانات (الإشهار) بأنّه “غير كافٍ لتحقيق التوازن بين التكاليف والإيرادات. من جهتها، تؤكد جوليا كاجي، باحثة في علم الاقتصاد، أنّ “الإشهار ليس نموذجًا اقتصاديًا مستدامًا على المدى الطويل، وهو أمر بات اليوم جليًا”. لذا، يتعيّن على المؤسسات الإعلامية الرقمية، بما فيها التونسية، استكشاف مصادر تمويل جديدة ومتنوعة وإتقان آلياتها لضمان استدامتها في ظل التحديات الراهنة.

في تونس وفرنسا وفي العديد من البلدان الأخرى، يهيمن رجال الأعمال، وليس الصحفيون، على قطاع الإعلام الخاص في المجال السمعي البصري، وهو واقع يشكل تهديدًا لاستقلالية الأخبار. وحتى البرامج الرياضية في تونس تخضع لسيطرة الأندية الرياضية الكبرى. وقد استثمر رجال الأعمال في هذا المجال، متحكّمين في مجموعات اختلط فيها النفوذ الاقتصادي بالأجندات السياسية. هذا التركيز يعزّز توجّهًا نحو إرضاء المستشهرين ما يؤدّي إلى تماثل في المضامين الإعلامية، ويفرز منتجًا يخدم مصالح المالكين في أجواء من الرقابة الذاتية، وغياب الروح النقدية، وتنميط المحتوى، وتراجع الجودة بفعل قوانين السرعة وصناعة الفرجة الرخيصة.

تعترف الهيئات التعديلية للقطاع السمعي البصري عالميًا بأهمية التعديل في إعداد بيئة مواتية لحرية التعبير. ولكنّ ذلك يتطلّب استقلاليتها قانونيًا وعمليًا لضمان الكفاءة والشفافية والمسؤولية.

وفي كثير من الأحيان تظل التشريعات الحالية هشّة، ما يضرّ بالصحفيين ويُكره الكثيرين على التخلّي عن مهنتهم. وتبرز حالة مجلة “سيانس إيه في” Science et Vie كمثال جيد، إذ استحوذت عليها “ريوورلد ميديا” Reworld Media، التّي استبدلت الصحفيين بصنّاع محتوى، ما أدّى إلى تدهور الجودة ونشر معلومات غير دقيقة، وانتهى برحيل معظم فريق التحرير. أرجع المستقيلون قراراتهم إلى خلافات مع المالك الجديد، واعتبروها السبب الرئيسي وراء مغادرتهم.

أثارت هذه الاستقالات الجماعية قلقًا كبيرًا بين القراء والمهنيين في القطاع، الذين تساءلوا عن مصير جودة المجلة واستقلاليتها.

ورغم تنوّع الخطوط التحريرية، فإنّ وسائل إعلام مثل تلك التي يملكها فنسون بولوري Vincent Bolloré تميل نحو اليمين، بل وأحيانًا أقصى اليمين، مع ضغوط تُقيّد استقلال الصحفيين. أظهر استطلاع “لا كروا” لعام 2023 أنّ 57% من الفرنسيين يرون ضرورة الحذر من الأخبار، و60% يعتقدون أنّ الصحفيين عاجزون عن مقاومة التأثيرات السياسية والمالية.

ويرى المفكر الفرنسي آلان تورين أنّ وسائل الإعلام اليوم، خاصّة التلفزيون الجماهيري، لا تدعم الفعل الديمقراطي، بل تُفقّر الفضاء العام أمام هيمنة الإشهار.

يقوّض تركيز الإعلام بأيدي قلة من الأثرياء وظيفته الأساسية: مراقبة السلطة. تصبح الصحافة سلعة تخضع لمنطق الربح تقتل التنوّع وتهدّد المسار الديمقراطي. ويختصر رجل الصناعة الإعلامية الأولى في العالم كيث روبرت مردوخ هذا الواقع بعبارته “الاحتكار شيء سيّء… إلاّ إذا حاز المرء شيئًا منه”.

الإعلام التونسي: نموذج اقتصادي هش يهدد إستمراريته ومصيره

كان المشهد الإعلامي التونسي في عام 2011 “مزدهرًا” كميا نسبيًا، حيث ضمّ 17 صحيفة يومية، و5 نشريات نصف أسبوعية و103 أسبوعيات، و11 نصف شهرية، و69 شهرية، و9 تصدر كل شهرين، و12 ربع سنوية، و2 نصف سنوية، وصحيفة سنوية واحدة، من بينها 15 صحيفة حزبية. لكن بحلول 2015، انحسر هذا العدد إلى 11 صحيفة يومية، و22 أسبوعية، و11 نصف شهرية، و8 شهريات، و2 تصدر كل شهرين، وصحيفة فصلية واحدة، مع تراجع الصحف الحزبية إلى أربع فقط.

وتعمل في تونس حاليا 51 محطة إذاعية موزعة كالآتي : 12 إذاعة رسمية حكومية، و17 إذاعة خاصة مملوكة بالكامل للقطاع الخاص، و22 إذاعة جمعياتية، أي تملكها جمعيات من المجتمع المدني . ومقابل هذا العدد ، فإنّ سوق الإشهار لا يتجاوز سنويا 40 مليون دينار حوالي 13 مليون دولار.

هذا التقلص يكشف عن أزمة متفاقمة تعاني منها المؤسسات الإعلامية بسبب هشاشة نموذجها الاقتصادي ما يعرّض استمراريتها واستقلاليتها للخطر. وعلى الرغم من تركيز النقاشات غالبًا على الجوانب السياسية والمهنية، يبقى العامل الاقتصادي الركيزة الأساسية في هذه الأزمة، حيث تعاني معظم المؤسسات من ضائقة مالية تهدد وجودها.

الاعتماد المفرط على الإشهار: غياب نموذج اقتصادي متوازن

تعتمد وسائل الإعلام التونسية بشكل رئيسي على الإشهار الذي يُعتبر أهم مصدر لتمويل وسائل الإعلام. ويعاني هذا النموذج من اختلالات بنيوية نتيجة تقلص السوق المحلية وتحوّل المستشهرين نحو المنصّات الرقمية العالمية مثل فيسبوك وغوغل، ما يحرم المؤسسات التونسية من مصادر دخلها الأساسية. كما أنّ ضعف القدرات التسويقية يحدّ من قدرتها على ابتكار مصادر تمويل جديدة تضمن استدامتها.

وتعاني الصحف الورقية، الإذاعات والقنوات التلفزيونية الخاصة من غياب نموذج اقتصادي يجمع بين الاستقلالية المالية والاستدامة، فبعضها يعتمد على دعم رجال الأعمال، ما يضرّ بمصداقيتها، بينما تواجه المؤسسات العمومية تحديات ناجمة عن ضعف الدعم الحكومي وتراجع عائدات الإشهار.

نماذج عالمية ناجحة: دروس يمكن الاستفادة منها

اتّخذت الصحف في العديد من الدول مثل الولايات المتحدة، ألمانيا، بريطانيا، وإيرلندا أشكالًا أكثر ابتكارًا، حيث ظهرت العديد من شركات الصحافة غير الربحية، ما ساهم في تعزيز الاستقلالية الإعلامية وضمان استدامة المؤسسات الصحفية.

لمواجهة هذه التحديات، تمّ تأسيس “كووب-ميديا” Coop-Médias ككيان تعاوني ذو مصلحة جماعية، la coopérative citoyenne des médias indépendants ، حيث يُعدّ الأعضاء مُلّاكًا مشتركين ويعملون وفق مبادئ الحوكمة الديمقراطية التي تتضمّن نظام “شخص واحد/هيكل واحد = صوت واحد”، ومبدأ “اللا-ربحية” non-lucrativité الذي يفرض إعادة استثمار الأرباح في المشروع، إضافةً إلى مبدأ “الشمولية” الذّي يفتح الباب أمام الجميع للمشاركة.

تضمّ هذه المبادرة في رأسمالها عشرين وسيلة إعلامية مستقلة مثل “بلاست” Blast ، و”باستا” Basta ، و”بوليتيس”، إلى جانب عشر مؤسسات ناشطة في الاقتصاد الاجتماعي مثل “أتاك” و”إنيركوب”.

أمّا في فرنسا، فإنّ معظم الصحف الكبرى تأخذ شكل شركات مساهمة Société à participation، بينما نجد في دول أخرى تنوعًا في الأنظمة القانونية التّي تحكم وسائل الإعلام. على سبيل المثال، فانّ مجموعة “برتلسمان” Bertelsmann، وهي أكبر مجموعة إعلامية ألمانية ومن بين الأكبر عالميًا، مملوكة لمؤسسة “برتلسمان فاونديشن”، ما يعكس نموذجًا فريدًا في إدارة المؤسسات الإعلامية.

في شهر أكتوبر من عام 2024، أعلنت شركة “كووب-ميديا” الفرنسية Coop Media تبنّيها مفهومًا جديدًا يعتبر المعلومات “ملكا مشتركًا”، bien commun ينبغي أن يكون متاحًا للجميع ولا يُترك تحت سيطرة قلة قد تستغله لتحقيق مصالح اقتصادية أو سياسية خاصة. ويُعدّ هذا الإعلان ردّ فعل مباشر على بعض التحوّلات في المشهد الإعلامي الفرنسي، مثل التأثير الذي مارسه الملياردير “فنسون بولوري” Vincent Bolloré على شبكة “سي نيوز” CNews وإذاعة “أوروبا واحد” وصحيفة “جورنال دو ديمانش”، حيث قام بتوجيهها نحو توجّهات يمينية متطرفة. كما استحوذ “رودولف سعادي” على صحيفتي “لا بروفانس” و”بي إف إم” BFM ، ما أثار مخاوف حول استقلالية الإعلام.

الإعلام مُلكا عاما والحاجة إلى نموذج مستدام

يشدّد كلّ من، “بِنوا هوي”، وجوليا كاجي على أنّ المعلومات لا ينبغي أن تُعامل كمجرّد سلعة اقتصادية تخضع لمتطلبات المساهمين، بل يجب اعتبارها “مُلكا عامًا” يُحمى لضمان أحد أسس الديمقراطية. ومن أبرز المخاطر التّي تهدّد التعدّدية الإعلامية، نجد هشاشة الوضع الاقتصادي لوسائل الإعلام، حيث تعاني العديد من غرف التحرير من نزيف في الموارد البشرية بسبب تراجع عائدات الإعلانات، ما يدفعها إلى الاعتماد بشكل متزايد على نقل تقارير وكالات الأنباء مثل “فرانس برس”، بدلًا من الاستثمار في التحقيقات الصحفية أو تقديم محتوى أصلي.

في العديد من الدول، هناك اتّجاه متزايد لنقل ملكية بعض وسائل الإعلام إلى كيانات غير ربحية مثل المؤسسات، والصناديق التبرعية، والجمعيات. وقدّمت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية نموذجًا رائدًا في هذا المجال، تلتها تجارب مماثلة في سويسرا مع صحيفة “لو تون”، وفي الولايات المتحدة مع “بروبابليكا”، وكذلك في فرنسا مع “ميديابارت”، و”ليبيراسيون”، و”لوموند”. هذا النموذج يُعدّ ابتكارًا مهمًا، حيث يتيح “تحرير” وسائل الإعلام من الضغوط الاقتصادية التقليدية، ويمنع إمكانية بيعها أو السيطرة عليها من قبل أفراد أو جهات معينة.

تجربة المساعدات الحكومية في فرنسا

تحظى وسائل الإعلام في فرنسا بأنواع مختلفة من الدعم المالي، وأبرزها التخفيض الكبير في ضريبة القيمة المضافة المفروضة على الصحافة الورقية، حيث تستفيد الصحف من معدل مخفض للغاية، ينطبق منذ عام 2014 أيضًا على الصحافة الرقمية، إذ يدفع القارئ ضريبة بنسبة اثنين فاصل واحد بالمئة فقط، بدلًا من عشرين بالمئة عند شراء صحيفة رقمية. هذا النوع من الدعم غير المباشر يتميّز بحياده السياسي، حيث تستفيد منه جميع الصحف بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية.

إلى جانب ذلك، هناك مساعدات لدعم توزيع الصحف، مثل التعريفات البريدية المخفضة، والتسهيلات في النقل عبر السكك الحديدية. غير أنّ هذه المساعدات محلّ جدل، لأنّها تعطي الأفضلية للصحافة الورقية على حساب الإعلام الرقمي. كما أنّ هناك مساعدات تُوزّع بشكل مباشر من خلال وزارة الثقافة، ممثلة في “الإدارة العامة للإعلام والصناعات الثقافية”، وهي الأكثر إثارة للجدل بسبب نقص الشفافية في معايير توزيعها، إذ تمتنع الوزارة في بعض السنوات عن نشر الأرقام الخاصة بالمساعدات، ما يفتح الباب أمام محاباة بعض الفاعلين الكبار على حساب المؤسسات الإعلامية المستقلة.

ويُعدّ أكبر المستفيدين من هذه المساعدات في فرنسا مجموعة “ليزيكو” les Echos “لو باريزيان” Le parisien التابعة لمجموعة “إل في إم إتش” LVMH.

يقترح بِنوا هوي بالتعاون مع الباحثة جوليا كاجي إصلاحًا جذريًا لنظام دعم الصحافة، يتمثّل في استبدال جميع أنواع المساعدات الحالية -باستثناء التخفيض في ضريبة القيمة المضافة- بآلية جديدة تُعرف باسم “قسائم استقلالية الإعلام”. تقوم هذه الآلية على منح كلّ مواطن بالغ قسيمة بقيمة عشرة يوروهات، يمكنه استخدامها لدعم الوسيلة الإعلامية التي يختارها عند تعبئة إقراره الضريبي، ما يعزّز التمويل الديمقراطي للإعلام.

وترى جوليا كاجي أنّ هناك أسبابًا للتفاؤل، حيث تتوفر حلول قابلة للتطبيق، لكنّ المشكلة تكمن في افتقار الدولة إلى الإرادة لاتخاذ القرارات المناسبة. وتشير إلى الحاجة الملحّة لإجراءات قويّة تعيد تقييم سياسات دعم الصحافة، محذرةً من تزايد تركيز وسائل الإعلام في أيدي عدد محدود من المجموعات الكبرى. وتدعو إلى تبنّي نموذج “المؤسسات الإعلامية”، الذي يمنح امتيازات ضريبية للمؤسسات الصحفية، ويحدّ من حقوق التصويت للمساهمين الأكثر نفوذًا.

ومن الإشارات الإيجابية، أنّ العديد من الصحفيين الذين أطلقوا مؤسسات إعلامية جديدة يميلون نحو هذا النموذج. على سبيل المثال، أنشأت صحيفة “لو جور” جمعية “أصدقاء الصحيفة”، التي تُعد مساهمًا رئيسيًا وتمنح حقوق التصويت للقراء. ورغم هذه المبادرات، ما تزال هناك تحديات كبيرة تواجه الإعلام، إذ تبقى العلاقة بين الحكومة ووسائل الإعلام في بعض الدول – مثل الولايات المتحدة – مصدر قلق، لما قد تسبّبه من تهديدات جدية للديمقراطية.

نحو استراتيجيات إصلاح اقتصادي شاملة للإعلام التونسي

إنّ المؤسسات التّي اختارت البقاء في سياسة العرض الواحد متمسّكة بالمثال الكلاسيكي لن تكون لها مستقبلا القدرة على الدفاع عن نفسها في زمن الحديث عن تقنيات البث عند الطلب والبودكاست و المحتوى الذي يطلبه الجمهور.

لمواجهة الأزمة التي تعصف بالإعلام التونسي، أصبح من الضروري إعادة النظر في نموذجه الاقتصادي بشكل جذري من خلال تبنّي استراتيجيات تضمن استدامته واستقلاليته بعيدًا عن الهشاشة المالية التي تهدّده. لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على نموذج تمويل تقليدي قائم بالأساس على الإشهارات، التي أصبحت غير كافية في ظل التحوّلات الرقمية وسيطرة المنصّات الكبرى على السوق. لذلك، لا بدّ من تنويع مصادر التمويل عبر تعزيز الاشتراكات المدفوعة، وتشجيع آليات التمويل الجماعي، وإقامة شراكات مع القطاع الخاص، على أن يتمّ ذلك ضمن إطار يضمن عدم المساس بحرية الصحافة، ويحافظ على استقلالية الخطّ التحريري للمؤسسات الإعلامية.

كما يجب الاستثمار في تطوير منصات رقمية متطورة مع اعتماد نماذج اقتصادية جديدة، مثل المحتوى الحصري المدفوع، لضمان استمرارية وسائل الإعلام. هذا التحوّل يجب أن يكون مدعومًا بسياسات واضحة تحفّز الابتكار في المجال الإعلامي وتواكب التطورات التكنولوجية، بدل أن يظل الإعلام التونسي متأخرًا عن الركب العالمي.

إطار قانوني وتشريعي جديد

لا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي للإعلام دون التطرق إلى الإطار القانوني الذي ينظّم القطاع. يجب أن تواكب التشريعات التغيرات الحاصلة في المشهد الإعلامي، عبر قوانين تضمن الشفافية في سوق الإشهارات، وتحدّ من هيمنة المنصات الرقمية الكبرى، وتوفر مناخًا تنافسيًا عادلًا يسمح للمؤسسات الإعلامية الوطنية بالبقاء والتطور. كما أنّ تحفيز الاستثمار في الإعلام يتطلب إجراءات ملموسة، من بينها تقديم حوافز ضريبية للمؤسسات التي تراهن على الابتكار، والاستثمار في التكوين، وتحسين جودة المضمون، باعتبار أنّ الجودة وحدها كفيلة بجذب الجمهور وتعزيز ولائه ووفائه.

ومن المبادرات التي تجدر الإشارة إليها برنامج “صفة الطالب المبادر” الذي أطلقه معهد الصحافة وعلوم الاخبار في إطار مشروع جامعة منوبة. وهي صفة تجمع بين المهارات الأكاديمية والقدرات الريادية. ويهدف هذا البرنامج إلى إدخال الطالب في مرحلة جديدة تتمثل في تعزيز روح المبادرة والريادة في عصر يتّسم بالتغيّر السريع في مجال الإعلام والاتصال، حيث أصبح من الضروري إعداد جيل من الخريجين القادرين على الابتكار وخلق فرص العمل.

رغم أهمية هذه الإصلاحات والبرامج، يبقى التساؤل مطروحًا حول مدى قبول التونسيين لفكرة دعم الدولة للإعلام الخاص. يرى البعض أنّ أيّ تدخّل للدولة قد يشكّل خطرًا على استقلالية وسائل الإعلام، ويفتح الباب أمام ضغوط سياسية قد تؤثر في خطها التحريري. في المقابل، يعتبر آخرون أنّ هذا الدعم أصبح ضرورة لضمان استقرار القطاع في ظل الأزمة التي يواجهها، شرط أن يكون هذا الدعم مضبوطًا بضوابط صارمة وآليات شفافة، تحُول دون أيّ تدخل سياسي، وتمنح المؤسسات الإعلامية القدرة على العمل بحرية.

حلول مبتكرة وتجارب ملموسة

في ظلّ التحوّلات العميقة التّي يشهدها المشهد الإعلامي، برزت الحاجة إلى حلول مبتكرة وملموسة لإنقاذ القطاع من أزمته المتفاقمة. ورغم التحديات الهيكلية والاقتصادية، نجحت بعض المؤسسات العالمية في التكيّف مع الواقع الجديد. فقد استطاعت “نيويورك تايمز” تجاوز حاجز 10 ملايين مشترك بفضل استراتيجيات تنويع المضمون من خلال الاستثمار في البودكاست والألعاب الرقمية، بينما راهنت “لو موند” على تطوير تطبيق رقمي متطور، واعتمدت “سو برس” على تقديم محتوى حصري غير متاح على الإنترنت، ما ساعدها على تعزيز وفاء جمهورها.

لم يعد الحديث عن “وسائل إعلام جديدة” مجرد فرضية، بل أصبح حقيقة يفرضها تقارب الوسائط وتشابكها مع ظهور الشبكات الاجتماعية.

لقد أفرز هذا الواقع مستهلكين جددًا للمعلومة، بعادات غير مسبوقة في التفاعل مع المضمون الإعلامي، حيث باتت المعلومة تُستهلك عبر محامل مختلفة، وبأساليب متغيرة مثل تعدد الأنشطة وتعدد المهام أثناء المتابعة. هذه البيئة التقنية المتسارعة تفرض على وسائل الإعلام التقليدية التكيّف السريع لضمان ديمومتها، وإلّا ستواجه خطر التلاشي أمام المنافسين الرقميين الجدد.

في سياق تطور اقتصاد الإعلام والتحولات الرقمية، يشير دومينيك كاردون على غرار ما أشار إليه زميله يان مولييه بوتان في عام 2007، إلى أنّ الثورة الرقمية قد أعادت تشكيل أسس إنتاج القيمة الاقتصادية، لتجعل من الإبداع العنصر الأساسي والمحرك الرئيسي في هذا النظام الجديد. ففي عالم تتدفق فيه المعلومات بسرعة غير مسبوقة وتتعدد قنوات توزيعها، لم يعد الإنتاج المادي التقليدي وحده كافيًا لضمان النجاح الاقتصادي، بل أصبحت القدرة على ابتكار أفكار جديدة، وتصميم محتوى متميّز، وتقديم حلول إبداعية هي ما يحدد مكانة الفاعلين في سوق الإعلام.

هذا التحوّل يعكس انتقالًا من اقتصاد يعتمد على الموارد الملموسة إلى اقتصاد المعرفة، حيث تكتسب المهارات غير المادية، مثل التحليل الإبداعي والتفكير الخلاق، أهمية متزايدة. فالرقمنة، بما توفّره من أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، ومنصات التفاعل الاجتماعي، قد مكّنت الإعلاميين من استكشاف أساليب جديدة لجذب الجمهور وإنتاج مضمون ذي قيمة مضافة. على سبيل المثال، أصبحت القدرة على صياغة روايات مبتكرة أو تحويل البيانات المعقدة إلى قصص مرئية جذابة عاملًا حاسمًا في تعزيز التأثير الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية.

يرى كاردون أنّ القطاع الإعلامي يواجه مفارقة عجيبة تتعلق بطريقة الحصول على المعلومة وتمويلها. فمن جهة، تحوّل المستخدمون بشكل كبير نحو استهلاك الأخبار عبر الإنترنت، ومن جهة أخرى، توقّفت الميزانيات الإشهارية عن التدفّق نحو الإعلام التقليدي، إذ باتت تُوجّه بشكل متزايد نحو المنصّات الرقمية الكبرى والمواقع الجامعة التي تجمع الأخبار من مصادر متعددة في منصة واحدة. هذه الظاهرة تعكس أزمة مزدوجة يعيشها الإعلام اليوم، فهي ليست أزمة استخدام فحسب، بل أيضًا أزمة نموذج اقتصادي يتطلب إعادة صياغة عميقة.

التكيّف مع هذا الواقع الرقمي الجديد يتطلب القدرة على ابتكار نماذج اقتصادية مستدامة، تواكب التحولات وتتلاءم مع قواعد الاقتصاد الرقمي. هذا ما أتاح ظهور منصات إعلامية رقمية جديدة، تتنوّع بين “ميديا جديدة”، “ميديا الفيديو”، و”الميديا الاجتماعية”، وكلّها تتطلب معرفة بالعمل الصحفي، ولكنّها في الوقت ذاته تشترط إلمامًا بالمهارات التقنية الضرورية للإنتاج الإعلامي العصري.

لم تكن تونس بعيدة عن التغيّرات العميقة التي شهدها المجال الإعلامي على الصعيد العالمي، فقد لاحظنا ظهور وسائل إعلام جديدة تعتمد كليًا على نظام الفيديو، وتُعرف أيضًا بـ pure players 100% vidéo أو Medias 100% vidéo بـ”إعلام الفيديو الرقمي” digital video media. هذه الوسائل تقدّم مقاطع قصيرة ومؤثرة يمكن الوصول إليها مجانًا.

فرضت هذه الأشكال الإعلامية الجديدة على العاملين فيها قواعد محددة تتعلق بالفيديو، حيث يجب أن يكون قصيرًا -يتراوح بين دقيقة وخمس دقائق- ويُنشر على الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية مثل فيسبوك، تويتر، سناب شات، إنستغرام، وتيك توك. كما أصبحت المواضيع المطروحة تستهدف بشكل رئيسي جيل الألفية والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين خمس وعشرين وخمس وثلاثين سنة، وهم الفئة الأكثر تفاعلاً مع هذا النوع من المضمون والمعروفون بـ”المواطنين الرقميين”.

ففي سنة 2018 ظهرت في تونس وسيلة إعلامية تعتمد على إنتاج الفيديو حصريا لمنصات الهواتف المحمولة والشبكات الاجتماعية، حيث تم إطلاق “فازة” Faza حصريًا على “فيسبوك” و”إنستغرام”، لتكون أول منصة إعلامية تعتمد كليًا على الفيديو. تعتمد “فازة” على الإعلانات المدمجة في المقاطع كمصدر للدخل، مع توفير الوصول المجاني إليها عبر مختلف المنصات. تعتبر هذه التجربة الجديدة مهمّة، ويمكن أن يستفيد منها الصحفيون لتطوير نموذج اقتصادي مبتكر.

تعتمد هذه الوسائل الإعلامية على نماذج تمويل جديدة، أبرزها إنتاج محتوى مرتبط بعلامة تجارية. وقد لجأت العديد من المؤسسات الإعلامية إلى هذا الخيار لمواجهة التهديد الاقتصادي الذي فرضته هيمنة الشبكات الاجتماعية في فرنسا، على سبيل المثال، نجحت منصات مثل Brut, Konbini, Loopsider, Explore Media, Neo, Brut, Minute Buzz في تحقيق اندماج قوي في الشبكات الإجتماعية، عبر استراتيجيات قائمة على المحتوى المصوّر الجذاب. ومع ذلك، يبقى التحدّي الأكبر لهذه المنصات هو تحقيق التميّز في سوق المحتوى التجاري وتطوير أشكال إعلانية مبتكرة.

في سياق البحث عن حلول بديلة، يبرز التمويل الجماعي كإحدى الأدوات الممكنة لدعم الإعلام المستقل. فوفقًا للخبيرة الاقتصادية كاجي، يعاني الصحفيون اليوم من فقدان استقلاليتهم لصالح المساهمين في المؤسسات الإعلامية، الذين أصبحوا أقل استقلالية بدورهم بسبب ارتباط مصالحهم بأنشطة أخرى، مثل تجارة الأسلحة أو الصناعات الكبرى. وهذا يثير تساؤلات حول مدى قدرة الصحفيين على تناول مواضيع حساسة تتعلق بمصالح مالكي المؤسسات الإعلامية دون ضغوط.

لحماية استقلالية الإعلام، تقترح كاجي نموذجًا جديدًا يرتكز على الحوكمة الديمقراطية داخل المؤسسات الإعلامية، بحيث يشارك الصحفيون في القرارات الإدارية، ويُفرض استثمار أدنى في الأجور والتحرير، مع وضع آليات تضمن شفافية التمويل وتوزيع الإشهارات. في هذا الإطار، يظل غياب مؤسسات قياس الجمهور والإعلانات في تونس من أبرز العقبات التي تعيق تنظيم القطاع وضمان عدالة توزيع الموارد الإشهارية بين مختلف الفاعلين الإعلاميين.

ترى كاجي أنّ المعلومات تُعدّ سلعة عامة ضرورية لحسن سير الديمقراطية، ما يستوجب دعم النماذج غير الربحية التي تضمن تعددية واستقلالية الصحافة. وفقًا لهذا الطرح، يمكن تمويل الإعلام عبر اشتراكات رقمية أو من خلال دعم عمومي مضبوط بضوابط شفافة تمنع أيّ تدخّل سياسي في الخط التحريري.

الذكاء الاصطناعي خيار أو ضرورة؟

إنّ الانتقال نحو اقتصاد إعلامي جديد يستدعي تبنّي حلول جذرية، تشمل تنويع المصادر المالية عبر تطوير الاشتراكات الرقمية وتنظيم الفعاليات، وتحفيز الاستثمار في التحوّل الرقمي عبر تمويل التكنولوجيا الحديثة، وإصلاح التشريعات لضبط سوق الإشهار الرقمي وضمان توزيع عادل للعائدات. من خلال هذه المقاربة الشاملة، يمكن للإعلام التونسي أن يستعيد موقعه كمؤسسة حيوية في خدمة المجتمع، قادرة على التكيف مع متطلبات العصر، دون التفريط في استقلاليته أو جودة محتواه.

في سياق البحث عن حلول بديلة، يُعدّ صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي فرصة نادرة تشكّل طوق نجاة حقيقي لهذا القطاع. ففي مواجهة هذا التحول الجذري في بيئة الإعلام الرقمية، لم يعد التكيف خيارًا من بين خيارات متعددة، بل أصبح شرطًا أساسيًا للبقاء والاستمرار.

إنّ على وسائل الإعلام اليوم أن تعيد النظر جذريًا في علاقتها بالتكنولوجيا، وأن تتبنّى الذكاء الاصطناعي كحليف استراتيجي لا غنى عنه. فالمسألة لم تعد مجرد التعامل مع أداة جديدة، بل تتعلق بإعادة صياغة الدور الإعلامي ذاته في عصر تتسارع فيه التحولات التقنية بشكل غير مسبوق.

فبإعادة صياغة العلاقة من خلال تسخير إمكانيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى بكفاءة أعلى، وتحسين دقة استهداف الجماهير، وابتكار نماذج مالية جديدة ومستدامة، يمكن لوسائل الإعلام أن تتحول إلى موقع الريادة والتأثير. وبفضل قدراته المتقدمة في تحليل البيانات، وتسريع عمليات جمع المعلومات ومعالجتها، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يدعم الصحفيين في تقديم محتوى أكثر دقة وسرعة، ما يعزّز من جودة العمل الصحفي ويواكب متطلبات العصر الرقمي. لكنّ هذا الدور الإيجابي يُجَابهُ تحدّي الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية، مثل الشفافية، والموضوعية، وضمان صحة المعلومات، لكي يبقى الإعلام أداة موثوقة في خدمة المجتمع، بعيدًا عن أي استغلال أو تحيّز جراء سوء استخدام هذه التكنولوجيا. وبهذا المعنى، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكّل جسرًا بين الصحافة الكلاسيكية والمستقبل الرقمي، شريطة أن يتمّ توظيفه بحكمة ومسؤولية.

لم يعد السؤال المطروح “هل سيؤثر الذكاء الاصطناعي في الإعلام؟” بل أصبح “كيف يمكن للإعلام أن يُسخّر هذه التقنية الثورية ليعزز وجوده ويؤمن مستقبله مع الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية ؟”.

فرصة لانطلاقة جديدة

إنّ هذا النظام المعلوماتي ليس ثابتًا، بل هو في حالة تغير مستمر، ما يفرض على الصحفيين والعاملين في قطاع الإعلام ضرورة امتلاك أدوات التكيف بشكل دوري لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة، واكتساب فهم شامل للوسائط الجديدة التي أصبحت تشكل جزءًا أساسيًا من اقتصاد الإعلام. ففي سياق هذا الاقتصاد، أصبحت القدرة على استيعاب هذه التغيرات وتسخيرها لخدمة صناعة المضمون مطلبًا حيويًا لضمان استدامة المؤسسات الإعلامية وتعزيز قدرتها التنافسية.

إنّ التكنولوجيات الرقمية، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، توفر إمكانات هائلة لتحسين استراتيجيات التوزيع والبثّ، وتخصيص المحتوى للجمهور، وزيادة العائدات الإشهارية من خلال الإشهار الموجه بدقة publicité ciblée. فالسّعي لاستغلال هذه الإمكانات يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للنمو الاقتصادي، كتطوير نماذج اشتراك مبتكرة أو تعزيز التفاعل مع الجمهور عبر منصات رقمية متطورة.

وكما يؤكد أرنو ميرسييه، Arnaud Mercier فإنّ الخوارزميات التي تقود هذا التحوّل لم تكشف بعد عن كل أسرارها، ما يعني أنّ هناك مجالًا واسعًا للابتكار والتجريب في كيفية توظيفها لخدمة اقتصاد الإعلام. فالقدرة على فهم هذه الخوارزميات وتكييفها لا تعزّز فقط جودة المحتوى، بل تسهم أيضًا في تحسين العائد الاقتصادي من خلال استهداف أكثر دقة للجماهير وزيادة كفاءة الإنفاق الإشهاري. وبالتالي، فإنّ التكيّف مع هذا الواقع المتغيّر ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية للبقاء في سوق إعلامية تنافسية ومتطورة باستمرار.

يعتمد مستقبل الإعلام التونسي على تحقيق توازن دقيق يجمع بين الاستقلالية المالية والاستدامة الاقتصادية، بما يضمن التعددية الإعلامية ويعزّز دور الصحافة كأحد أعمدة الديمقراطية الأساسية. فبدون نموذج اقتصادي قوي، ستبقى المؤسسات الإعلامية أسيرة الضغوط المالية، ما يحدّ من قدرتها على أداء دورها في توعية الرأي العام وضمان حق المواطنين في إعلام حر ونزيه.

في خضم أزمة اقتصادية وتحولات رقمية غير مسبوقة، يقف الإعلام التونسي أمام خيار حاسم: إمّا الاستسلام لهشاشته المالية وتراجع دوره، أو استثمار التكنولوجيا ليصبح محركًا للنمو والاستدامة. إنّ إعادة صياغة نموذج اقتصادي مرن، يعزّز الاستقلالية ويستعيد ثقة الجمهور، ليست مجرد طموح، بل خطوة ضرورية لضمان بقاء الصحافة كصوت حر وأداة ديمقراطية فعالة في تونس.

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتبة: د. سهير لحياني

أستاذة مساعدة في علوم الإعلام والاتصال، معهد الصحافة وعلوم الإخبار، جامعة منوبة

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتبة : د. سهير لحياني

أستاذة مساعدة في علوم الإعلام والاتصال، معهد الصحافة وعلوم الإخبار، جامعة منوبة

souhir