الكاتب : زياد الدبار

نقيب الصحفيين التونسيين

تتّسم البيئة المهنية الحالية التي يعمل فيها الصحافيون.ـات التونسيون.ـات بتحوّلات عديدة يمكن تلخيصها في التالي : يتمثّل التحوّل الأوّل في وجود أزمة عميقة في اقتصاد الإعلام ذات مصادر متعددة ومنها على وجه الخصوص تأثيرات الإنترنت والشبكات الاجتماعية على اقتصاد المؤسسات الإعلامية ما أثّر على مواردها المالية وقدراتها على انتاج مضامين إعلامية ذات جودة أو حتى الالتزام بما تنصّ عليه القوانين في هذا المجال على غرار المرسومين 115 و116 وكراسات الشروط بالنسبة إلى القطاع السمعي البصري. التحوّل الثاني يتمثّل في غياب سياسة عمومية داعمة للمؤسسات الإعلامية تساهم في ديمومتها الاقتصادية على غرار غياب صناديق الدعم للصحافة المكتوبة والالكترونية ولإصلاح الإعلام بشكل عام.

وأمّا التحوّل الثالث فيتمثّل في نزوع النماذج الاقتصادية والبنية التنظيمية للمؤسسات الإعلامية والخاصة العمومية على حد السواء نحو الهشاشة ونقص الابتكار ما يحُدّ بشكل كبير من القدرة على البحث عن موارد إعلامية جديدة وانتاج مضامين مبتكرة. وأمّا التحوّل الرابع فيتمثّل في وجود أزمة ثقة مواطنية كبيرة في الصحافة والإعلام نتيجة تراجع قدرات الهيئات الصحفية عن حماية نفسها من التأثيرات الخارجية. وبالنسبة الى التحوّل الخامس فيتجلّى أساسا في تراجع قدرات الصحافة كمهنة على توفير مضامين صحفية مبتكرة لفائدة قطاعات واسعة من الجمهور وخاصة الشباب الذي تشكلت لديه ممارسات إعلامية جديدة في بيئة تحكمها التكنولوجيات الرقمية والشبكات الاجتماعية.

الكاتب : زياد الدبار

نقيب الصحفيين التونسيين

تتّسم البيئة المهنية الحالية التي يعمل فيها الصحافيون.ـات التونسيون.ـات بتحوّلات عديدة يمكن تلخيصها في التالي : يتمثّل التحوّل الأوّل في وجود أزمة عميقة في اقتصاد الإعلام ذات مصادر متعددة ومنها على وجه الخصوص تأثيرات الإنترنت والشبكات الاجتماعية على اقتصاد المؤسسات الإعلامية ما أثّر على مواردها المالية وقدراتها على انتاج مضامين إعلامية ذات جودة أو حتى الالتزام بما تنصّ عليه القوانين في هذا المجال على غرار المرسومين 115 و116 وكراسات الشروط بالنسبة إلى القطاع السمعي البصري. التحوّل الثاني يتمثّل في غياب سياسة عمومية داعمة للمؤسسات الإعلامية تساهم في ديمومتها الاقتصادية على غرار غياب صناديق الدعم للصحافة المكتوبة والالكترونية ولإصلاح الإعلام بشكل عام.

وأمّا التحوّل الثالث فيتمثّل في نزوع النماذج الاقتصادية والبنية التنظيمية للمؤسسات الإعلامية والخاصة العمومية على حد السواء نحو الهشاشة ونقص الابتكار ما يحُدّ بشكل كبير من القدرة على البحث عن موارد إعلامية جديدة وانتاج مضامين مبتكرة. وأمّا التحوّل الرابع فيتمثّل في وجود أزمة ثقة مواطنية كبيرة في الصحافة والإعلام نتيجة تراجع قدرات الهيئات الصحفية عن حماية نفسها من التأثيرات الخارجية. وبالنسبة الى التحوّل الخامس فيتجلّى أساسا في تراجع قدرات الصحافة كمهنة على توفير مضامين صحفية مبتكرة لفائدة قطاعات واسعة من الجمهور وخاصة الشباب الذي تشكلت لديه ممارسات إعلامية جديدة في بيئة تحكمها التكنولوجيات الرقمية والشبكات الاجتماعية.

وإدراكا من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لدورها المركزي في تطوير بيئة الإعلام وفي ضمان حقّ الصحفيّين.ـات في بيئة مهنية تحقق لهم الكرامة المهنيّة كشرط من شروط الإبداع والتميّز، وإيمانا منها بأنّ إصلاح أوضاع الصحفيّين.ـات متّصل بإصلاح النظام الإعلاميّ برمّته، عملت النقابة طيلة السّنوات الماضية بالشراكة مع مختلف المعنيين بشأن قطاع الإعلام على بناء مقاربة إنقاذ لقطاع الإعلام من خلال مقاربة السياسات الإعلامية العمومية تقطعُ مع المقاربات الجزئية والترقيعية وتمزج القانوني بالإقتصادي والاجتماعي والمهني، وتُشرك كلّ الفاعلين وأصحاب المصلحة، غير أنّها لم تجد أذانا صاغية من السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل تعددت السياسات التّي سرّعت في إنهيار النظام الإعلامي في تونس ومن بينها:

أوّلا: بيئة تشريعية منغلقة

انّ البيئة التشريعية المنغلقة وغير المتلائمة مع الدستور التونسي ومع المعايير الدّولية الضامنة لحرية الصحافة فتحت الباب على مصراعيه للقضاء لتصفية الحساب مع حرية الصحافة من خلال تعمّد تغييب المراسيم المنظّمة للمهنة واعتماد تشريعات جديدة تضرب حرية التعبير ككل وحرية الصحافة بالخصوص وأساسا المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.

لقد أصبح هذا المرسوم أداة لضرب حرية الصحافة في تونس باعتباره ينصّ على عقوبات زجرية مبالغ فيها في قضايا نشر ويفرض المزيد من التضييقات على حرية التعبير والصحافة بتعلّة مكافحة الإشاعة وجرائم المعلومات.

وتضمّن هذا المرسوم بالإضافة إلى فصول مكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال، عديد العقوبات الزجرية التي تفتقد إلى التناسب بين الفعل والعقوبة باعتبار أنّ جرائم النشر لا يمكن أن تكون عقوبتها السّجن لخمس أو عشر سنوات، زيادة على توجّه متشدّد في التعامل مع قضايا مختلفة منها التعبير والنشر على شبكات التواصل الاجتماعي.

ويتعارض هذا المرسوم مع الفصل 55 من دستور 2022 والذي ينصّ على عدم ممارسة الرقابة المسبقة على المضامين الإعلامية، وذلك من خلال تقنين إجراءات التنصّت العشوائي على المواطنات والمواطنين. كما تفتقد العقوبات الواردة بهذا النص إلى مبدأ التناسب والتراتبية، حيث نصّ الدستور على أنّ أيّ تقييد للحريات يجب أن يكون ضرورة تفرضها الدولة المدنية الديمقراطية ودون أن يمسّ من جوهر الحريات، وهو ما تمّ تجاوزه تماما في هذا المرسوم.

ويؤكد المرسوم توجّه السلطة نحو تكريس منظومة تشريعية وسياسية تضرب الحقوق والحريات وتحرم المواطنات والمواطنين من حقّهم في التعبير والنشر وتهددهم بالسّجن في أيّ لحظة خاصّة وأنّ المرسوم لم يضمن أيّ حقوق ولم يضع في اعتباره ضرورات الدولة الديمقراطية المدنية التي ضبطها الدستور.

وينتظر الصحفيون.ـات وهياكلهم المهنية والرأي العام الوطني عموما مآل المبادرة التشريعية التي تقدّم بها عدد من النواب من مختلف الكتل وغير المنتمين في 20 فيفري 2025 لتنقيح بعض الفصول الواردة في هذا المرسوم والتي تمسّ حرية التعبير لدى الصحفيين.ـات والمفكرين.ـات، ويخشى المتابعون للشأن الوطني ان تُقبر في مكتب المجلس.

ثانيا: حرية الصحافة أصبحت تحت التهديد

إنّ حرية الصحافة أصبحت تحت التهديد فالصحفيون.ـات والمراسلون.ـات الصحفيون.ـات والمصورون.ـات الصحفيون.ـات أصبحوا عرضة أكثر من أيّ وقت مضى للملاحقات القضائية، وتصاعدت المحاكمات والتتبّعات القضائية في حق الصحفيين.ـات على معنى مراسيم جائرة وقوانين زجرية معادية لحرية الصحافة والإعلام.

وتقبع اليوم شذى الحاج مبارك ومراد الزغيدي وسنية الدهماني وبرهان بسيس في السجن، ضمن سلسلة من المحاكمات والتتبعات الجائرة في حق الصحفيين. إضافة إلى ذلك يتواصل تتبّع العشرات من الصحفيين.ـات، وتفتح ضدهم الأبحاث والتحقيقات وتوجّه لهم الاستدعاءات بشكل يكاد يكون يومي، في ضرب واضح لحقّهم المقدّس في أداء واجبهم المهني وبحثهم عن الحقيقة. ولم تخلُ هذه المحاكمات والتتبعات ضد الصحفيين.ـات من انحرافات واضحة بالإجراءات القضائية، وعدم احترام خصوصية المهنة الصحفية، فضلا عن سرعة تحرّك النيابة العمومية في إثارة الدعاوى والمضي في الإجراءات كلما تعلق الأمر بصحفي أو صحفية.

وباتت لدى الصحفيين وهياكلهم المهنية قناعة بأنّ الهدف واضح وهو التشفّي والتنكيل بكل صحفي.ـة يسمح لنفسه بالخوض في مواضيع حارقة تشغل الرأي العام، أو لمجرد التعرّض إلى أيّ مسؤول في الدّولة وانتقاد أداء بعض الوزراء.

ويرمي هذا الانحراف بالإجراءات في تتبّع الصحفيين.ـات قضائيا إلى ترهيب بقية الصحفيين.ـات ومحاولة إسكات صوتهم للتعتيم على جملة من الحقائق وعدم الخوض في جملة من المسائل والملفات. وأصبح العديد من الصحفيين.ـات أمام جملة هذه التهديدات، يتحاشون الخوض في عدد من المواضيع الصحفية خشية الوقوع ضحايا أبحاث وتتبعات قضائية. ويجد البعض الآخر نفسه مضطرا لممارسة رقابة ذاتية قبْلية على جلّ المواضيع التي يفكّر في تناولها إعلاميا تفاديا للمساءلة حتى من المسؤولين القائمين على المؤسسات الإعلامية الذين يعمدون في أحيان كثيرة إلى حجب المحتويات الإعلامية وفرض رقابة قبلية عليها.

ثالثا: أبواب النفاذ إلى المعلومات موصدة

أوصدت أبواب النفاذ إلى المعلومات، فرغم تحوّز بلادنا على أفضل التشريعات في العالم المتعلقة بالنفاذ إلى المعلومة فقد أُفرغت تماما من محتواها وذلك من خلال مواصلة العمل بالمنشور عدد 4 وتعزيزه بصدور المنشور عدد 19 المتعلق بالاتصال الحكومي، وزاده سوءٌ تَواصلُ انغلاق السلطة السياسية في وجه وسائل الإعلام كرئاسة الجمهورية ومجلس نواب الشعب وسائر الوزارات والمؤسسات العمومية، ففُتح الباب واسعا أمام التعتيم وإخفاء المعلومة وعدم الشفافية وعوّض الاتصال السياسي المهنة الصحفية وأُسسها لتنتشر الأخبار المضللة والزائفة على حساب المعلومة الدقيقة والموضوعية والتي ستكون لها عواقب خطيرة على ثقة الرأي العام في وسائل الإعلام ومصداقيتها.

رابعا: تجميد التعديل السمعي البصري

تمّ تجميد التعديل السمعي البصري، فرغم تجذّر فكرة اعتبار الصحافة الحرّة سلطة مضادّة للسلطة التنفيذية و بقية السلطات، وأنّ حرية الإعلام في نظام ديمقراطي تُضمن من خلال هيئة تعديلية مستقلة بالنسبة للإعلام السمعي البصري يكون لها وحدها تنظيم القطاع وفق القانون من أجل صحافة جودة تقوم بدورها في حماية الجمهور من انتهاكات وانحرافات وسائل الإعلام والصحافيين وفي تمكين هؤلاء من الممارسات الجيدة التي تضمن صحافة نزيهة وأخلاقية، غير أنّ السلطة التنفيذية سارت عكس التيّار فقد تواصلت حملات التنكيل الممنهج بالهيئة التعديلية وبأشكالٍ مختلفة بدءا بفرض رقابة إدارية على عمل الهيئة وقراراتها، وسلبها ولاية المراقبة الإعلامية للانتخابات وصولا إلى إنهائها تماما ما يفتح المجال واسعا لتطويع الإعلام وخاصّة العمومي منه لخدمة السلطة التنفيذية وتوظيفه

خامسا: إتّساع التفقير والتهميش في قطاع الإعلام

إتّسع التفقير والتهميش في قطاع الإعلام، فقد اعتبرت النقابة أنّ من أهمّ ضمانات إعلام الجودة بعيدا على تأثير لوبيات الفساد ومراكز النفوذ، هو مقاومة التفقير والتهميش داخل القطاع الصحفي. فالصّحافة الحرة التي تلتزم بأخلاقيات المهنة لا يمكن أن تنبت في مناخ من الفقر والتهميش وخاصة في صفوف الشباب والنساء في القطاع الصحافي.

لقد اعتبرت النقابة منذ الثورة إلى الآن أنّ نقطة الضعف الأساسية بالنسبة إلى قطاع الإعلام هي حالة الهشاشة التي سمحت للمال الفاسد باستغلاله والتغلغل في القطاع لذلك عملت على إنجاز اتفاقية مشتركة للصحفيين تضمن كرامتهم واستقلاليّتهم. وقد تمّ توقيع هذه الاتفاقية يوم 9 جانفي 2019 من قبل النقابة وشركائها الاجتماعيين من ممثلي الأعراف في مجال السمعي البصري والصحافة المكتوبة.

أدّى عدم نشر النص الكامل للاتفاقية الإطارية في الرائد الرسمي إلى تواصل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الصحفيون والصحفيات داخل المؤسسات الإعلامية. فرغم صدور قرار من الدوائر التعقيبية بالمحكمة الإدارية في مارس 2023 يُنصف الصحفيين والصحفيات إلّا أنّ الحكومة لم تلتزم بتطبيق القرارات القضائية.

وكان يُنتظر أن تُمثّل هذه الاتفاقية ضمانة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والفكرية بالقطاع من أجل القضاء التام على كل أشكال التشغيل الهش ومحاولات المسّ من كرامة الصحفيين.ـات لا سيما في القطاع الخاص.

ويهمّ النقابة التنبيه إلى أنّ عدم تقُيّد الحكومة بالقرارات القضائية يعتبر مؤشرا خطيرا لغياب الإرادة السياسية لحل أزمة التشغيل الهشّ وتمكين الصحفيين.ـات من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، ما يجعلهم عرضة للضغط الاقتصادي واخضاعهم للابتزاز السياسي، ويؤدّي إلى انعدام الثقة في مؤسسات الدولة والسلطة السياسية.

موقع الكتيبة أثناء توقيعه اتّفاقية مؤسسة في مقر نقابة الصحفيين سنة 2022

موقع الكتيبة أثناء توقيعه اتّفاقية مؤسسة في مقر نقابة الصحفيين سنة 2022

وعموما يعيش الصحفيون.ـات أوضاعا كارثية يتهدّدهم فيها الطرد الجماعي والعشوائي والعمل بالعقود الهشة والحرمان من التغطية الاجتماعية ما من شأنه أن يحرمهم من التميّز المهني والترقية المهنيّة والاستقلالية ويهدّد قدرتهم على أداء أدوارهم في ظل مؤسسات صحفية هشّة وغير قابلة للحياة أحيانا أغلقت العديد منها ويُهدد الإغلاق أغلبها وهو ما يجعلها غير قادرة على إنتاج مضامين جيّدة، في ظل سوق إشهارية محدودة وغير منظمة تفسد التنافس الحرّ والعادل على الموارد الإشهارية الضرورية لديمومة المؤسّسات الإعلاميّة الخاصّة والجمعياتية والعامّة، إضافة إلى غياب قانون لتنظيم للإشهار العمومي وفق المعايير الدولية.

كما أنّ استبعاد الصحفيين.ـات من صدارة المشهد الإعلامي السمعي والبصري لصالح أصحاب المهن الأخرى ونجوم وسائل التواصل الاجتماعي ومؤيدي السلطة أو بعض الأحزاب السياسية الذّين غزوا المؤسسات الإعلامية وذلك على حساب جودة المضمون الإعلامي وعلى حساب احترام أخلاقيات المهنة، لا يؤثّر فقط على جودة المضامين بل يحيل عشرات الصحفيين المحترفين على البطالة القسرية.

إنّ موضوع السياسات العموميّة هو موضوع مستحدث في النقاشات المهنيّة. وقد جاء إدماج هذا الموضوع في تونس بمبادرة من النقابة الوطنيّة للصحفيّين التونسيّين في نهاية عام 2019. ويمكن أن نقول إنّ موضوع السياسة العموميّة يكاد يكون غائبا تماما قبل أن تطرحه النقابة. فقد كانت المقاربة السائدة إلى حدود السنوات الأخيرة تتمثّل في الحدّ من أدوار الدولة في مجال الإعلام. وكانت غاية النقابة من هذا المجهود إطلاق حوار وطنيّ حول أدوار الدولة المختلفة في دعم وتطوير إعلام تونسي ذي جودة يقوم بوظائفه كمرفق عمومي، والتفكير في سياسة عموميّة ضامنة لديمومة الإعلام في سياق أصبحت فيه قطاعات منه، على غرار الصحافة المكتوبة، مهدّدة في وجودها. ووضع آليّات لمتابعة إرساء هذه السياسة العموميّة وتنفيذها.

وبشكل عام، يمكن أن نقول إنّ الدولة التونسيّة ليست لها سياسة عموميّة في مجال الإعلام أو أنّ السياسة التي تعتمدها الدولة في قطاع الإعلام لا ترقى إلى مستوى السياسة العموميّة للإعلام وفق المعايير المتعارف عليها في الدول الديمقراطيّة. في المقابل فإنّ الدول الأوروبية طوّرت سياسة عموميّة لتمويل التدريب وإصلاح الإعلام. فقد قامت مؤسّسات عموميّة أوروبيّة بتطوير برامج خاصّة بالميديا التونسية. وهكذا تكون الدولة قد فرّطت في مسؤوليّتها إزاء قطاع أساسيّ للمجتمع والحياة الديمقراطيّة. بل يمكن أن نذهب إلى أكثر من هذا بالقول بأنّ الدولة قد تكون فرّطت في موضوع تدريب الصحفيّين وفي مجالات أخرى متّصلة بها إلى “السياسات العموميّة” الأوروبية على وجه الخصوص.

فالدّولة في تونس تكتفي مثلا بتسديد نفقات التصرّف للمركز الإفريقي للصحفيّين والاتصاليين في حين تقوم المنظّمات الدوليّة (خاصّة الأوروبية) والمموّلة من مصادر عموميّة بتنفيذ أهمّ البرامج التدريبيّة لفائدة الصحفيّين التونسيين. هكذا يمكن أن نقول إنّنا إزاء مفارقة كبيرة تتمثّل في استبدال أدوار الدولة التونسيّة بأدوار دول أخرى أو منظّمات دوليّة أصبحت المموّل الرئيسيّ لأنشطة تدريب الصحفيّين بل إنّها تحوّلت أحيانا إلى محدّد للبرامج التدريبيّة نفسها. ومن المجالات الأخرى التي فرّطت فيها الدولة كذلك دعم المشاريع الصحفيّة الشبابيّة المبتكرة أو البديلة. وفي هذا الإطار فإنّ كل المبادرات والمشاريع تحظى بتمويل دولي من طرف منظّمات دوليّة ذات تمويل عمومي أو بتمويل عمومي أوروبي مباشر.

انّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مازالت تحدوها قناعة راسخة بضرورة سنّ سياسات عمومية في قطاع الإعلام. وتعمل جادّة من أجل أن ترى النور، ولا تفوّت أيّ فرصة من أجل الضغط على السلطة التنفيذية والبرلمان لتحمل مسؤوليتهما في هذا المجال. والنقابة لن تبقى مكتوفة اليدين أمام عدم وجود إرادة سياسية لإنقاذ قطاع الإعلام.

وفي هذا الإطار باتت النقابة تفكّر بشكل مختلف في أدوار الصحفيين في هذه البيئة الإعلامية الجديدة. فالمقاربات التقليدية (بما في ذلك برامج المنظمات الدولية) تقوم عادة على تدريب الصحافيين على التقنيات الصحفية والمعايير الأخلاقية حتى يكون مصدرا من مصادر تشكيل صحافة أخلاقية مهنية وإنتاج مضامين صحفية وإعلامية ذات جودة، غير أنّها مقاربة لا تأخذ في الاعتبار أنّ الصحفي هو فاعل ضمن منظومة مؤسّسية لا يتحكّم فيها دائما.

كما أنّ صحافة الجودة الأخلاقية والقائمة على المعايير المهنية تحتاج إلى سياقات مهنية مؤسسية أو حتى صناعية مخصوصة لا تتوفر دائما شروطها رغم الإطار القانوني الجديد الذي وضع بعد الثورة.

وبدأت النقابة في العمل على مقاربة جدّية تجعل الصحفيين.ـات فاعلين.ـات في البيئة المهنية والمؤسسية عبر تنمية قدراتهم على المبادرة في قطاع الإعلام باستثمار التكنولوجيات الرقمية والنماذج الاقتصادية المبتكرة على تطوير مبادرات مهنية صحفية ذاتية وانتاجات صحفية ذات جودة تستجيب للمعايير الأخلاقية والمهنية وانتظارات الجمهور.

وفي إطار هذه المقاربة، كانت النقابة قد نسّقت مع عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب لتقديم مقترح تعديل في قانون المالية الماضي، وفعلا صادق البرلمان على تعديل في قانون المالية لسنة 2025 يدرج الصحفيين ضمن نظام المبادر الذاتي، ويسمح لهم ببعث مؤسسات خاصة مع جملة من الامتيازات الجبائية والمالية.

وقد تمّ إحداث نظام المبادر الذاتي في تونس بمقتضى المرسوم عدد 33 لسنة 2020 المؤرخ في 10 جوان 2020.

ويعود الفضل في إصدار النصّ المتعلق بنظام المبادر الذاتي في تونس إلى مبادرات المجتمع المدني التي تهدف إلى الإسهام في مكافحة الاقتصاد غير المنظّم والتّي ترى أنّ نظام المبادر الذاتي ” سيمكّن من إدماج ما لايقل عن مليون و900 ألف عامل ينشطون في الاقتصاد غير المنظم فضلا على منح الشباب الإحاطة الاجتماعية والمرافَقة في بعث المشاريع”.

وتُوجّت أعمال المجتمع المدني بالاشتراك مع وزارة التكوين والتشغيل بالاعلان في سنة 2019 بإعداد مشروع قانون المبادر الذاتي ثم بإصدار المرسوم الرئاسي عدد 33 لسنة 2020. ويعتبر اعتماد تونس لنظام المبادر الذاتي متأخرا مقارنة بدول العالم وبعض الدول العربية الأخرى.

يعود إحداث نظام المبادر الذاتي بالقارة الأوروبية إلى منتصف القرن العشرين، ليشمل الجيل الأوّل للمبادرين الذاتيين قطاعات الفلاحة والحرف والمهن الحرة، ليمتد فيما بعد إلى الأنشطة الرقمية.

ولم يقتصر هذا النظام على الدول الأوروبية فقط وإنما شمل عديد دول العالم ليفضي في سنة 2000 إلى إطلاق منصة عالمية للاعمال الحرة تحت عنوان ”freelancer.com” والتي ضمّت في بدايتها كل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية.

لقطة شاشة لواجهة منصّة فريلنسر.كوم

لقطة شاشة لواجهة منصّة فريلنسر.كوم

أمّا في دول المغرب العربي فكانت البداية مع دولة المغرب التي وضعت نظام المقاول الذاتي كإطار قانوني مبسّط يُمكّن من إنشاء مقاولة فردية وذلك بمقتضى القانون رقم 114.13 المنشور بالجريدة الرسمية للمملكة المغربية بتاريخ 12 مارس 2015. وكانت الجزائر آخر من التحق بمجموعة الدول التي اعتمدت هذا النظام وذلك بعد أن صادق مجلس وزرائها بتاريخ 17 جويلية 2022 على مشروع القانون الأساسي للمقاول الذاتي. وتراهن الجزائر على أنّ المشروع “من شأنه إعطاء دفع جديد للفاعلين في مجال المقاولاتية والمؤسسات الناشئة”.

ويتمّ الانخراط في نظام المبادر الذاتي من خلال إيداع الشخص الراغب في ذلك طلبَ ترسيم الكتروني بالسجل الوطني للمبادر الذاتي autoentrepreneur.tn، وهو “سجلّ الكتروني خاص يتم فيه الترسيم ثم اعادة الترسيم وايضا الإعلام بقرار الترسيم أو عدم الترسيم”. وينتفع المترشح الذي تتوفر فيه الشروط ببطاقة المبادر الذاتي في أجل 15 يوما من تاريخ التقديم، ويتحصّل المنخرط على صفة المبادر الذاتي ويبقى ضمن هذا النظام لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة لمدة 3 سنوات بطلب منه، ويتمّ الإعلام بقرارات الشطب من خلال السجل الإلكتروني والتظلّم بشأنها مع الاعلام والتواصل مع المعنيين في كل ما يتعلق بالحقوق والواجبات.

إنّ التصرّف في نظام المبادر الذاتي يتمّ من خلال منصّة إلكترونية تتضمن “السجل الوطني للمبادر الذاتي”، ويتمّ من خلال السجلّ الالكتروني التصريح برقم معاملات الأشخاص المرسمين وخلاص معلوم المساهمة الوحيد.

يتمّ منح المبادر الذاتي بطاقة علاج صالحة لكل ثلاثية بعد التثبت من خلاصه للاشتراكات المستوجبة. ويتمّ تجديد بطاقات العلاج المذكورة بعد التثبّت من خلاص المعني بالأمر لكل أقساط المساهمات المستوجبة ابتداء من تاريخ الترسيم في سجل المبادر الذاتي إلى غاية تاريخ تجديد بطاقة العلاج.

ويقصد بالمبادر الذاتي على معنى هذا المرسوم كل شخص طبيعي تونسي الجنسية يمارس بصفة فردية نشاطا في قطاع الصحافة والإعلام والصناعة أو الفلاحة أو التجارة أو الخدمات أو الصناعات التقليدية أو الحرف، على ألّا يتجاوز رقم معاملاته السنوي 75 ألف دينار. وتضبط قائمة الأنشطة داخل القطاعات المنصوص عليها بالفقرة الأولى من هذا الفصل بمقتضى أمر حكومي.

وبمقتضى التنقيح المذكور يتمّ إحداث خطّ تمويل بمبلغ قدره 10 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل لفائدة الباعثين المنخرطين في نظام المبادر الذاتي يخصّص لإسناد قروض بشروط تفاضلية لا تتجاوز خمسة عشر ألف دينار للقرض الواحد، لتمويل أنشطة في كافة المجالات الاقتصادية خلال الفترة الممتدة من غرة جانفي الى 31 ديسمبر 2025، ويتمّ تسديدها على مدة أقصاها سبع سنوات منها سنتان إمهالا. ويعهد التصرف في خط التمويل إلى البنك التونسي للتضامن لإسناد القروض المذكورة.

إنّ ولوج هذا الإطار التشريعي يمثّل مدخلا مهمّا ولكنّه ليس الوحيد لمقاربة النقابة الجديدة “الصحفيون فاعلون في بيئة مهنية جديدة: نحو نماذج اقتصادية مبتكرة”.

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتب: زياد الدبار

نقيب الصحفيين التونسيين

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : زياد الدبار

نقيب الصحفيين التونسيين

zied