الكاتبة : سلوى غزواني

المديرة الإقليمية لمكتب منظمة المادة 19 بتونس

منذ لحظة انفجارها، لم تكن ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 في تونس مجرّد تغيير سياسي، بل لحظة تأسيسية لإعادة صياغة علاقة المواطن بالدولة. وكانت حرية التعبير والإعلام من أولى مجالات الانفراج التي خرجت من هيمنة نظام الرقابة والتوجيه لتلامس آفاق الاستقلالية والتعددية. وقد جسّد هذا التحوّل نفسه سريعا في إجراءات حاسمة مثل إلغاء مجلّة الصحافة لسنة 1975 وإقرار المرسومين 115 و116 لسنة 2011 اللّذين فتحا الطريق نحو بيئة قانونية أكثر انفتاحا على حرية النشر والتعديل المستقل.

كما تم إلغاء وزارة الإعلام وتحرير الفضاء السمعي البصري من السيطرة الحكومية. بل وتمّ، منذ الأشهر الأولى لسنة 2011، تأسيس الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال. وهي خطوة جريئة آنذاك نحو تصوّر منظومة إعلامية جديدة تُؤسس لعهد ما بعد الرقابة وما بعد التوجيه المركزي. غير أنّ هذه الهيئة وجدت نفسها عاجزة عن مواصلة عملها في ظل لامبالاة الطبقة السياسية المنتخبة في أكتوبر 2011 وغياب أي تفاعل فعلي مع الإصلاحات التي اقترحتها، ما أدّى إلى طيّ صفحتها قبل أن تُفعَّل مضامينها.

رغم ذلك، استمر المسار في محاولات متفرّقة. فقد شهدت سنة 2013، وبعد مخاض عسير بسبب رفض السلطات آنذاك تفعيل المرسومين 115 و116، تأسيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) يوم 3 ماي، والتّي حاولت أن تضبط المشهد الإعلامي السّمعي البصري وتضع حدّا للتجاوزات. وحاولت هذه الهيئة الفتية أن تُبقي على شعلة التعديل المستقل متّقدة رغم الصعوبات والضغوطات مشكّلة استثناء مقارنة بمثيلاتها في المنطقة العربية قبل أن تنطلق عملية شلّ عملها تدريجيّا بسبب عدم المصادقة على قانون جديد يعوّض المرسوم 116، الذي أحدثها أو مواصلة تنفيذ أحكام هذا المرسوم من خلال تعيين أعضاء جدد ضمن مجلسها. وفي 2020، لمع بريق أمل جديد مع تأسيس مجلس الصحافة، أوّل مجلس مستقل من نوعه في المنطقة العربية، يهدف إلى ترسيخ أخلاقيات المهنة وحماية حريتها من الداخل.

الكاتبة : سلوى غزواني

المديرة الإقليمية لمكتب منظمة المادة 19 بتونس

منذ لحظة انفجارها، لم تكن ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 في تونس مجرّد تغيير سياسي، بل لحظة تأسيسية لإعادة صياغة علاقة المواطن بالدولة. وكانت حرية التعبير والإعلام من أولى مجالات الانفراج التي خرجت من هيمنة نظام الرقابة والتوجيه لتلامس آفاق الاستقلالية والتعددية. وقد جسّد هذا التحوّل نفسه سريعا في إجراءات حاسمة مثل إلغاء مجلّة الصحافة لسنة 1975 وإقرار المرسومين 115 و116 لسنة 2011 اللّذين فتحا الطريق نحو بيئة قانونية أكثر انفتاحا على حرية النشر والتعديل المستقل.

كما تم إلغاء وزارة الإعلام وتحرير الفضاء السمعي البصري من السيطرة الحكومية. بل وتمّ، منذ الأشهر الأولى لسنة 2011، تأسيس الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال. وهي خطوة جريئة آنذاك نحو تصوّر منظومة إعلامية جديدة تُؤسس لعهد ما بعد الرقابة وما بعد التوجيه المركزي. غير أنّ هذه الهيئة وجدت نفسها عاجزة عن مواصلة عملها في ظل لامبالاة الطبقة السياسية المنتخبة في أكتوبر 2011 وغياب أي تفاعل فعلي مع الإصلاحات التي اقترحتها، ما أدّى إلى طيّ صفحتها قبل أن تُفعَّل مضامينها.

رغم ذلك، استمر المسار في محاولات متفرّقة. فقد شهدت سنة 2013، وبعد مخاض عسير بسبب رفض السلطات آنذاك تفعيل المرسومين 115 و116، تأسيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) يوم 3 ماي، والتّي حاولت أن تضبط المشهد الإعلامي السّمعي البصري وتضع حدّا للتجاوزات. وحاولت هذه الهيئة الفتية أن تُبقي على شعلة التعديل المستقل متّقدة رغم الصعوبات والضغوطات مشكّلة استثناء مقارنة بمثيلاتها في المنطقة العربية قبل أن تنطلق عملية شلّ عملها تدريجيّا بسبب عدم المصادقة على قانون جديد يعوّض المرسوم 116، الذي أحدثها أو مواصلة تنفيذ أحكام هذا المرسوم من خلال تعيين أعضاء جدد ضمن مجلسها. وفي 2020، لمع بريق أمل جديد مع تأسيس مجلس الصحافة، أوّل مجلس مستقل من نوعه في المنطقة العربية، يهدف إلى ترسيخ أخلاقيات المهنة وحماية حريتها من الداخل.

لكن، بين أمل التأسيس وواقع التنفيذ، ظل الحلم معلّقا. فما إن بدأ مسار إصلاح الإعلام في التشكّل حتّى بدأ يفقد زخمه تدريجيا، متعثّرا تحت وطأة الحسابات السياسية وتردّد الحكومات المتعاقبة. ورغم صدور المراسيم التأسيسية وإنشاء الهياكل التنظيمية، لم تتوفّر الإرادة السياسية الكافية للمضي في إصلاح شامل ومتدرّج.

وقد ساهم غياب سياسة عمومية متكاملة في مجال الإعلام، إلى جانب ضعف التنسيق بين الفاعلين المهنيين والمدنيين، في تعميق حالة التعثر. وأدّى إلى تبديد ديناميكية المبادرات الإصلاحية ومنع ترجمتها إلى نتائج ملموسة. بل أكثر من ذلك، بدأت بعض المكاسب التّي تحقّقت بعد الثورة تتراجع بشكل لافت. ولعلّ المثال الأبرز هو الشلل التام الذي تعرفه الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) منذ أكثر من سنة. وهو ما عطّل أداءها ومنعها من الاضطلاع بالحد الأدنى من صلاحيات التعديل التي خوّلها لها المرسوم عدد 116 لسنة 2011. هذا الوضع يضع كامل المشهد السمعي البصري في مواجهة تحديات حقيقية وانزلاقات خطيرة تهدّد استقلاليته وتماسكه. وفي الوقت الذي يشهد فيه الإعلام العالمي تحوّلات متسارعة، وتتّسع فيه رقعة التضليل والمعلومات الزائفة، تواصل تونس إدارة هذا الملف الحيوي بمنطق الانتظار أو الحلول الترقيعية.

استنادا إلى ما راكمته منظمة المادة 19 على مدى خمسة عشر عاما من العمل في مجال تعزيز حرية التعبير ومرافقة مسار إصلاح الإعلام في تونس، تسعى هذه الورقة إلى إعادة قراءة أسباب تعثّر هذا المسار، رغم الخطوات الإصلاحية الواعدة التي شهدها، لا سيّما خلال السنوات الأولى التّي أعقبت الثورة. وتهدف الورقة إلى تقديم تصوّرات تحليلية تسهم في تشخيص بعض مكامن الخلل في المبادرات الإصلاحية السابقة والمساعدة على بلورة مداخل عملية وواقعية لتجاوز نقاط الضعف التي أعاقتها.

وجدير بالذكر أنّ منظّمة المادة 19 قد واكبت منذ سنة 2011 أهمّ الفاعلين الأساسيين في قطاع الإعلام، من خلال تقديم الدعم القانوني والفني، بما يتماشى مع التزامات تونس الدولية في مجال حماية حرية التعبير والصحافة والاستفادة من التجارب المقارنة والممارسات الجيّدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد أصدرت المنظمة على امتداد السنوات الماضية عددا من الوثائق المرجعية والدراسات والبحوث التي تناولت قضايا حرية التعبير والإعلام في تونس من زوايا متعددة، وتنوّعت بين تحاليل قانونية وأطر تقييم سياسات. وهي إصدارات تمثّل من جهة أرشيفا يوثّق لجزء من الجهود الإصلاحية السابقة، ويمكن من جهة أخرى الاستئناس بها في أيّ مبادرة جديدة تتطلّع إلى إصلاح مستدام، يستفيد من التجارب السابقة ويتفادى تكرار إخفاقاتها.

الإصلاح بلا بوصلة: أثر غياب سياسة عمومية للإعلام

تُعرَّف السياسة العمومية للإعلام على أنّها الإطار التوجيهي الذّي تضعه الدولة لتنظيم وتطوير القطاع الإعلامي، بما يشمل الجوانب التشريعية، والمؤسساتية والمالية والرقابية وفق أهداف واضحة ومعلنة تخدم المصلحة العامة وتكفل حرية التعبير والتعددية والاستقلالية. وهي ليست مجرّد خطّة ثابتة، بل منظومة متحرّكة تتطوّر باستمرار لمواكبة التحوّلات المجتمعية والتكنولوجية. لذلك، فإنّ سياسة عمومية ناجعة لا تكتفي بتنظيم المشهد التقليدي، بل تدمج التحديات الجديدة والمستجدّة، على غرار التحدّيات الرقمية، مثل الإعلام الإلكتروني، والذّكاء الاصطناعي، وخوارزميات المنصّات الرّقمية، ضمن رؤيتها.

وفي السياق التونسي، فإنّ غياب مثل هذه السياسة يُترجم إلى فراغ تشريعي وتنظيمي يجعل التعامل مع المستجدّات، بما فيها التكنولوجية غير ممنهج، ويضع المؤسسات الإعلامية في مواجهة مباشرة مع تحوّلات لا تملك الأدوات ولا الأطر للتعامل معها. من شأن إطار قانوني يستند إلى هذه السياسة العمومية أن يمنح المؤسسات التنظيمية مثل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) صلاحيات أوضح، ويُحدّد حدود تدخل الدولة ويُرسّخ استقلالية القطاع، مع الانفتاح على دور المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحوث في مواكبة التحولات.

تُظهر تجارب عدد من الدول أنّ إرساء سياسة عمومية متكاملة للإعلام يمكن أن يكون نقطة تحوّل في تطوير القطاع. ففي كندا أو المملكة المتّحدة، على سبيل المثال، تمّ اعتماد سياسة إعلامية وطنية واضحة تدمج بين دعم الإعلام العمومي والتحوّل الرقمي والاستقلال التحريري وهو ما ساعد على ضمان الاستقرار التشريعي والتمويلي للمشهد الإعلامي.

في المقابل، تبرز التجارب المقارنة، خاصّة في بعض الدول الإفريقية، كمرايا عاكسة لما أدّت إليه عملية تحرير القطاع الإعلامي سنة 2011 دون تأطير سياسي وتشريعي واضح. يشير تقرير لمنظمة المادة 19 إلى أنّ غياب سياسات إعلامية شاملة ومتكاملة في عدد من الدول الإفريقية أدّى إلى فوضى تنظيمية وتضخّم غير مضبوط في عدد وسائل الإعلام، دون وجود آليات فعالة للحوكمة أو التعديل الذاتي. ورغم ما يبدو من تعدّدية في المشهد، إلّا أنّ العديد من هذه الوسائل تفتقر للمهنية والاستقلالية، وهو ما ساهم في تراجع جودة المحتوى وتكريس إعلام شكلي لا يخدم المصلحة العامة.

هذه القراءة المقارنة تسلّط الضوء على تحذير جوهري ينطبق أيضا على تونس، حيث يُعدّ غياب سياسة عمومية للإعلام من أبرز أسباب فشل استمرارية الإصلاحات التي تلت ثورة 2011. فرغم الطابع التقدمي للإجراءات المتّخذة في السنوات الأولى، إلّا أنّ أغلبها ظلّ جزئيا، وردّ فعل، ولم يُبنَ على رؤية استراتيجية متكاملة. لم تصدر الدولة أيّ وثيقة مرجعية توضّح توجهاتها في القطاع، ولا خطّة طويلة المدى تحدّد الأهداف وتوزيع الموارد والمسؤوليات.

وقد أضعف هذا الغياب قدرة الإصلاحات على الصّمود أمام تغيّر السياقات السياسية، وسهّل التراجع عنها أو تعطيل تنفيذها. فعلى سبيل المثال، ظلّت المؤسسات الإعلامية العمومية عرضة للتجاذبات السياسية دون أن تخضع لإصلاح جذري في الحوْكمة أو آليات التسيير. كما لم يُطوّر نموذج اقتصادي مستدام للإعلام الخاص، ما جعله عرضة للإفلاس أو التبعية لمصادر تمويل مشبوهة أو سياسية. وفي ما يخصّ الإعلام الجهوي والجمعياتي، لم توضع سياسة واضحة للدعم والتطوير، ما أبقى على تركّز المشهد الإعلامي في العاصمة والمناطق الكبرى، رغم بروز بعض التجارب الجمعياتية المتميزة في الجهات الداخلية.

غياب الرؤية المشتركة أضعف كل محاولة للتغيير

يعاني قطاع الإعلام في تونس من غياب تنسيق فعلي واستراتيجي ودائم بين مختلف الفاعلين، سواء داخل القطاع نفسه (نقابات، جمعيات مهنية، مؤسسات إعلامية، هيئات تعديلية…) أو بين هذه الأطراف والمجتمع المدني المعني بحرية التعبير. هذا التشرذم أضعف القدرة الجماعية على التأثير والضغط من أجل الإصلاح، وسمح بتعثّر العديد من المبادرات أو الالتفاف عليها بسهولة.

فعلى الرغم من وجود محطات تقاطع، إلّا أنّها غالبا ما كانت مناسباتية ومحدودة زمنيا. لم تتشكّل جبهة موحّدة ومستدامة للدفاع عن حرية التعبير، ولا فضاء حوار دوري يجمع مختلف الأطراف حول أجندة إصلاحية واضحة وأولويات مشتركة. وتُظهر التجربة أنّ غياب هذه الآليات كان له أثر مباشر على مصير عدد من المبادرات. فقد نجح المجتمع المدني والهياكل المهنية بين 2016 و2018 في مراجعة المرسوم عدد 115 وصياغة وثيقة توافقية يُمكن الاستئناس بها لصياغة قانون جديد لحرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر. ورغم الالتقاء على هذه الصيغة بين عدد كبير من المتدخّلين، إلّا أنّ المبادرة اصطدمت بلامبالاة من جانب السلطة، التي لم تترجم وعودها بمصادقة تشريعية فعلية. ويرجع ذلك، في جزء منه، إلى غياب استراتيجية مناصرة منسجمة وفعالة تُواكب المسار التشريعي وتُؤطر الضغط المطلوب في هذا الاتجاه.

من جهة أخرى، سُجّل نجاح مهم للمجتمع المدني والهياكل المهنية لقطاع الإعلام في إيقاف مشاريع قوانين حكومية وبرلمانية كانت تهدد حرية الاتّصال السمعي البصري سنوات 2018 و2019 و2020، وقد شكّل هذا التصدي مثالا على نجاعة التحرك العاجل والمركّز. إلّا أنّ النجاعة لم تكتمل في المقابل، حين تعلّق الأمر بالدفع بنص بديل وتقدمي، يُجسّد بديلا حقيقيا لما تم التصدي له. لقد غابت مرة أخرى آلية مناصرة متكاملة، تجمع بين وضوح المضمون وتوقيت الفعل واستدامة التحرك الجماعي، وهو ما يُظهر الحاجة الملحّة لبناء تنسيق مؤسساتي دائم وليس مجرّد تفاعل ظرفي.

إنّ غياب إطار تنسيقي تشاوري دائم في تونس، يكون بمثابة مرجعية جامعة للقطاع، لا يُضعف فقط آليات الدفاع، بل يعطّل كذلك قدرته على إنتاج رؤية إصلاحية متكاملة قابلة للتنفيذ والترافع. ولعلّ إعادة التفكير في هذا البُعد التنسيقي والتشبيكي ينبغي أن يكون أحد أولويات أيّ عملية إصلاح مقبلة.

مجلس الصحافة وتحدّي التعديل الذاتي: اختبار جديد لإرادة الإصلاح

يُجسّد ضعف دعم آليات التعديل الذاتي أحد أبرز الأمثلة على محدودية التنسيق المشترك وغياب الإرادة الجماعية في الدفع نحو إصلاح حقيقي ومستدام للإعلام. ورغم أنّ التعديل الذاتي يُعدّ من أهمّ أدوات الإصلاح الديمقراطي للقطاع، بما يعزز استقلالية المهنة ويُرسّخ مبادئها الأخلاقية. فإنّ ما تحقّق في هذا المجال ظلّ دون التطلّعات، حتّى بعد سنوات من العمل التحضيري.

فمنذ سنة 2013، انخرطت المنظّمات المهنية لقطاع الإعلام والمجتمع المدني في عمل تشاوري طويل ومعقّد، تُوّج بتأسيس مجلس الصحافة سنة 2020 كأوّل تجربة مستقلة للتعديل الذاتي في تونس والعالم العربي. إلّا أنّ هذا المسار، وعلى الرغم من أهميته الرمزية والتأسيسية، لم يُترجم إلى واقع مهني فعلي تتبنّاه المؤسسات الإعلامية وتنخرط فيه الصحافة بمختلف مكوناتها. بقي المجلس معزولا، محدود التأثير، ومن دون دعم مؤسسي أو مالي مستدام، ما جعله يشتغل في هوامش المشهد الإعلامي بدل أن يكون أحد محرّكاته الأساسية.

فعلى سبيل المثال، لم تحظ مبادرة مجلس الصحافة بالدعم السياسي اللازم من الدولة. كما أنّ المؤسسات الإعلامية، وخاصّة الكبرى منها، لم تستغل وجود مجلس الصحافة كفرصة لترسيخ آليات التعديل الذاتي داخل أنظمتها الداخلية، ولم تتعامل معه كإطار يمكن البناء عليه لتحسين جودة المحتوى، وتعزيز مصداقية الممارسة الصحفية، واستعادة الثقة مع الجمهور. أمّا على المستوى المجتمعي، فلم يتمّ ربط المجلس بحملات توعية أو مجهودات في التثقيف الإعلامي، لا في صفوف الصحفيين ولا لدى الجمهور. وهو ما حرم التجربة من بُعدها التفاعلي والتأثيري في مواجهة ظواهر مثل الأخبار الزائفة والمضللة.

ورغم هذه الصعوبات، هناك اليوم إرادة لإعادة إطلاق التجربة من خلال الإعلان القريب عن تركيبة جديدة لمجلس الصحافة. خطوة تبدو واعدة في ظاهرها، لكنّها لن تكون كافية ما لم تواكبها قراءة نقدية للتجربة الأولى، سواء على مستوى البناء الداخلي للمجلس، أو في علاقته بالقطاع والأطراف التّي أسّسته. فدون دعم فعلي واعتراف مؤسساتي، في انتظار الاعتراف السياسي، يبقى المجلس معرضا لإعادة إنتاج نفس الهشاشة التي طبعته سابقا.

وفي غياب إرادة سياسية واضحة لإصلاح الإعلام، يمكن أن يُشكّل قطاع الإعلام نفسه بمؤسساته المهنية وصحفييه ومجتمعه المدني المدافع عن حرية التعبير، رافعة لإطلاق مسار إصلاحي استراتيجي ودائم. تجربة مجلس الصحافة، رغم عثراتها، ما تزال تحمل بذورا يُمكن البناء عليها، شريطة أن تُدار هذه المرّة برؤية تشاركية، وتنسيق فعلي، واستعداد حقيقي من مختلف الفاعلين لتقديم نموذج يُجسّد الإرادة الجماعية ويُعيد الأمل في إصلاح ممكن، يبدأ من الداخل.

تجربة مجلس الصحافة، بكلّ ما رافقها من تعثرات، تُمثّل نموذجا مصغّرا لفشل إصلاح الإعلام في غياب تنسيق فعلي، ورؤية مشتركة، والتزام سياسي واضح. وهي تُعيد التأكيد على أن الإصلاح لا يمكن أن يكون مجرّد تراكم مبادرات جزئية، بل لا بدّ له من سياق مؤطّر وتحالفات متماسكة ورؤية استراتيجية شاملة. ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري إعادة طرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل الإعلام وموقعه في البناء الديمقراطي ودور مختلف الفاعلين في الدفع نحو إصلاح حقيقي.

من المهمّ التأكيد على أنّ الإعلام، بمختلف وسائطه التقليدية والرقمية، يمرّ اليوم بتحولات عميقة وتحديات متسارعة لا تقتصر على المستوى الوطني، بل تمتدّ إلى المشهدين الإقليمي والدولي. فقد أفرزت الثورة الرقمية، إلى جانب التوسع الكبير في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، واقعا إعلاميا جديدا أُعيدت فيه صياغة العلاقة بين الجمهور والمعلومة، وتبدّلت أنماط التلقّي والتفاعل، وهو ما أضعف من هيمنة المؤسسات الإعلامية التقليدية وأدخلها في سباق دائم للحفاظ على مصداقيتها وتأثيرها. كما لم تعد هذه المؤسسات تواجه فقط تحدّيات المنافسة أو الأزمات الاقتصادية، بل أصبحت تصطدم بظواهر مقلقة كانتشار الأخبار المضلّلة، وفوضى المحتوى، وتزايد الضغوط السياسية والمالية التي تقوّض استقلاليتها.

في ظل هذا المشهد المعقّد، لم يعد النقاش حول إصلاح الإعلام مسألة هامشية أو موضوعا مؤجلا، بل بات ضرورة وطنية ملحّة. فالإصلاح المنشود لا يقتصر على تحديث التشريعات أو تطوير البنية التقنية، بل يشمل إعادة بناء الثقة بين الإعلام وجمهوره، وتعزيز المعايير المهنية والأخلاقية في ممارسة العمل الصحفي، وضمان بيئة تسمح بإنتاج محتوى موثوق و متنوّع وملتزم بالمصلحة العامة. وهو أيضا مدخل أساسي لتعزيز الحريّات، وتكريس التعددية، وتفعيل دور الإعلام في ترسيخ الثقافة الديمقراطية والمشاركة المواطنة.

من هذا المنطلق، فإنّ المضيّ قُدما في مسار إصلاح الإعلام لا يُعدّ فقط استجابة لحاجات آنية، بل هو استثمار استراتيجي في المستقبل. فبناء مشهد إعلامي محترف ومستقلّ ومواكب للتحولات العالمية، من شأنه أن يساهم في دعم التنمية الوطنية، وحماية المجال العام من الانحرافات والتضليل. ولهذا، فإنّ الرّهان على إعلام حر ومسؤول ومتجدّد، لم يعد خيارا ثانويا، بل أولوية تفرضها المرحلة، وتستلزم تنسيقا فعليا بين الفاعلين في القطاع، من مؤسسات مهنية ونقابات ومجتمع مدني إلى مؤسسات تكوين ومنصّات إعلامية جديدة.

تقع على عاتق هؤلاء مسؤولية جماعية لإحياء النقاش حول الإصلاح، وبناء رؤية عملية تُنطلق من تقييم نقدي للتجارب السابقة، وتضع المصلحة العامة في قلب أولوياتها. ففي ظلّ غياب إرادة سياسية واضحة، تبقى المبادرة من داخل القطاع المسار الأجدى والأكثر قابلية للاستمرار، ليس فقط للدفاع عن حرية الإعلام، بل لتأسيس نموذج وطني يعززها ويجعلها فاعلة في خدمة المجتمع والديمقراطية.

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتبة: سلوى غزواني

المديرة الإقليمية لمكتب منظمة المادة 19 بتونس

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتبة : سلوى غزواني

المديرة الإقليمية لمكتب منظمة المادة 19 بتونس

saloua