الكاتب : د.منجي الخضراوي

صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال

تتناول هذه الورقة مشكل الانتقال الإعلامي من المرحلة السلطوية إلى مرحلة جديدة مازالت تتشكّل، بين تَحَقّق نظرية العوْد الحتمي أو الانتقال إلى براديغم جديد استوفى شروط تطوره التاريخي عندما تمّ الانتقال من الشرعية الدستورية إلى “الشرعية الثورية” في 23 مارس 2011. يحاول هذا البحث تقديم مقاربة في عملية الانتقال من حالة سلطوية إلى حالة ديمقراطية في الإعلام، من خلال ثلاثة عناصر: الأوّل يتناول براديغمات الانتقال والثانية تتعلّق بالقراءة في الإطار التاريخي والمهني لعملية الانتقال والثالثة تتناول عودة الإعلام السلطوي وتشكّل نواة مركزية جديدة بشروط تاريخية قديمة.

يمكننا أن نربط عملية إصلاح الإعلام بمنظومة التعديل الذاتي المرتبطة بقيم أخلاقيات المهنة وبكيفية ممارسة المهنة، باعتبارها مدخلا أساسيا لكل عملية إصلاح.

لذلك فهي مرتبطة بالتحوّلات التّاريخية والسياسية والمهنية التي عرفتها البلاد التونسية بعد الرابع عشر من جانفي 2011. إنّ تلك التحوّلات يمكن أن تُحدِثَ تعديلات وتغيرات في الممارسة الصحفية وفي طبيعة العلاقات القائمة داخل المؤسسة الإعلامية وبين الصحفيين.ـات والجمهور إضافة إلى الشكل الاقتصادي للمؤسسة نفسها.

إنّ حدوث تلك التحوّلات يؤدّي موضوعيا إلى ظهور براديغم صحفي جديد، بهذا المعنى فإنّ البراديغم الصحفي هو الأطر المفاهيمية والعلائقية ورؤية المهنة وتمثلها عند الصحفيين.ـات.

الكاتب : د.منجي الخضراوي

صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال

تتناول هذه الورقة مشكل الانتقال الإعلامي من المرحلة السلطوية إلى مرحلة جديدة مازالت تتشكّل، بين تَحَقّق نظرية العوْد الحتمي أو الانتقال إلى براديغم جديد استوفى شروط تطوره التاريخي عندما تمّ الانتقال من الشرعية الدستورية إلى “الشرعية الثورية” في 23 مارس 2011. يحاول هذا البحث تقديم مقاربة في عملية الانتقال من حالة سلطوية إلى حالة ديمقراطية في الإعلام، من خلال ثلاثة عناصر: الأوّل يتناول براديغمات الانتقال والثانية تتعلّق بالقراءة في الإطار التاريخي والمهني لعملية الانتقال والثالثة تتناول عودة الإعلام السلطوي وتشكّل نواة مركزية جديدة بشروط تاريخية قديمة.

يمكننا أن نربط عملية إصلاح الإعلام بمنظومة التعديل الذاتي المرتبطة بقيم أخلاقيات المهنة وبكيفية ممارسة المهنة، باعتبارها مدخلا أساسيا لكل عملية إصلاح.

لذلك فهي مرتبطة بالتحوّلات التّاريخية والسياسية والمهنية التي عرفتها البلاد التونسية بعد الرابع عشر من جانفي 2011. إنّ تلك التحوّلات يمكن أن تُحدِثَ تعديلات وتغيرات في الممارسة الصحفية وفي طبيعة العلاقات القائمة داخل المؤسسة الإعلامية وبين الصحفيين.ـات والجمهور إضافة إلى الشكل الاقتصادي للمؤسسة نفسها.

إنّ حدوث تلك التحوّلات يؤدّي موضوعيا إلى ظهور براديغم صحفي جديد، بهذا المعنى فإنّ البراديغم الصحفي هو الأطر المفاهيمية والعلائقية ورؤية المهنة وتمثلها عند الصحفيين.ـات.

1- هل تحقّق الانتقال من البراديغم المأزوم إلى البراديغم الجديد؟

لقد حدّد توماس كوهن مفهوم البراديغم على أنّه «أَصلٌ نقيس عليه أي عدد ممكن من الأمثلة المطابقة قدر المستطاع والتي يمكن أن تحلّ محلّ الأصل من حيث المبدأ».

وفقًا لكوهن، فإنّ البراديغم هو النموذج الإرشادي الذي يستند إلى مفاهيم وقواعد جديدة ضمن مسارات التطور العلمي، إذ أنّ كلّ ثورة علمية تأتي ببَرَاديغمها الخاصّ الذي ينشأ نتيجة تجاوز النموذج القديم.

على ضوء وجهة نظر كوهن، يمكن فهم التحوّل الإعلامي في تونس كحركة انتقالية من براديغم قديم (سلطوي) إلى براديغم جديد (ديمقراطي). كان البراديغم السلطوي يعتمد على هيمنة الدولة على الخطاب الإعلامي، مع غياب استقلالية الصحفيين وتعددية الآراء. بعد الثورة، بدأ يتشكّل براديغم جديد يقوم على قيم مثل الاستقلالية، المساءلة، والتعددية. ومع ذلك، فإنّ هذا البراديغم الجديد لم يصل بعد إلى مرحلة “العلم القياسي” (Normal Science) كما يصفها كوهن، حيث ما تزال هناك أزمات وتحديات تعيق اكتماله، خاصة بعد 25 جويلية 2021، الذّّي يمثّل مرحلة جديدة في مسار ما بعد الثورة.

الانتقال من براديغم في حالة أزمة إلى براديغم جديد يمكن أن يؤدي إلى نشوء تقليد جديد للعلم القياسي الذي يحلّ محلّ العلم في حالة أزمة (توماس كوهن، 53-54). هذا الانتقال ليس عملية تراكمية تتمّ عبر تعديلات بسيطة على البراديغم القديم، بل هو عملية تجديد وإعادة بناء للمجال وفقًا لقواعد أساسية جديدة. كما أشار الى ذلك كوهن، فإنّ هذه العملية “ليست مجرد تنقيح أو تعديل البراديغم القديم، بل هي إعادة بناء للمجال من جذوره، بما يغيّر بعض القواعد النظرية الأكثر أساسية ويجدّد العديد من المناهج والتطبيقات المرتبطة به” (توماس كوهن، 129).

إنّ الانتقال القائم على البراديغم الجديد يُعتبر ثورة بحدّ ذاته، إذ يسمح بفهم المكوّنات والتمثّلات الاجتماعية للأفراد والجماعات، ما يُمَهّد في النهاية لتشكيل تصوّر جديد للواقع وللأشياء. وفقًا لتوماس كوهن، لا يمكن للممارسة الصحفية أن تتمّ في فراغ اجتماعي أو اقتصادي أو مهني، بل تتحقّق من خلال ارتباطها بالأفراد والجماعات والعناصر والهياكل والتنظيمات والمؤسسات. هذه العناصر المترابطة تشكّل النّظام الإعلامي، وبالتالي فإنّ التحوّلات التي يشهدها هذا النظام ترتبط بشكل وثيق بالانتقال من البراديغم المأزوم إلى البراديغم الجديد، أي من براديغم النّظام الإعلامي السلطوي إلى براديغم النّظام الإعلامي الديمقراطي الذّي مازال في طور التشكل.

هذا الانتقال يؤدّي إلى تغييرات في مستوى الممارسات الصحفية وفي تمثّل القيم المرتبطة بها. وفي هذا السياق، لا يمكن الحديث عن براديغم دون الحديث عن القطيعة، كما أشار الى ذلك غاستون باشلار (Gaston Bachelard, 1967)، ما يعني أنّ التغييرات الكيفيّة التّي تحدث عند الانتقال من نظام إعلامي إلى آخر تؤدي إلى ظهور البراديغم الجديد.

ويشير باشلار إلى أنّه لا توجد قطيعة حاسمة ونهائية، فكل فترة تحتوي على ما كان يُعتبر عائقًا في الفترة السابقة (Gaston Bachelard, 1967, 19). بمعنى آخر، نحن نبحث عن الحدود بين ممارسة وأخرى ضمن مجال الانتقال من براديغم إلى آخر. من المهمّ هنا التمييز بين الأشكال والوظائف الاجتماعية للخطاب العلمي والخطاب الصحفي، بالإضافة إلى الاختلاف في الشروط الثقافية والمؤسساتية والمادية للإنتاج. ومع ذلك، فإنّ العلم والصحافة يشتركان في كونهما ممارسات مؤسساتية تهدف إلى إنتاج خطاب حول الحقيقة، إذ أنّ كليهما يسعى إلى الكشف عن الحقيقة (Jean Charron et de Bonville, 1996; 50-97).

بالنسبة إلى كوهن، فإنّ كلّا من الصحافة والعلم مشروطان بنموذج عام متفق عليه، قادر على تحديد المهام والمسؤوليات الاجتماعية لكل خطاب، بالإضافة إلى طرق إنتاج ذلك الخطاب. يمكننا القول، وفقًا لكوهن، إنّ المعتقدات والنماذج والافتراضات المُجمع عليها ضمن المجال الصحفي في فترة معيّنة، والتّي تحدّد الانتماء إلى المجموعة الصحفية، هي التي تشكّل البراديغم الصحفي. هذا البراديغم يتضمّن أيضًا قيمًا مرتبطة بالمجموعة وبالإنتاج والممارسة الصحفية، إذ أنّ لكلّ جماعة مهنيّة بعض القيم الأساسية التي تجعلها تشعر بالانتماء والقوة، وهي التّي تضمن تماسك تلك المجموعة.

تتجلّى هذه القيم من خلال شعارات مثل “السلطة الرابعة” و”المدافعون عن حرية الإعلام”، والتّي تجعل الصحفي جزءًا من المجموعة وتمنحه الشرعية المهنية، كما تساهم في الاعتراف الاجتماعي بالمهنة. تلعب هذه القيم دورًا مهمّا في التقاطعات بين الصحفيين، حيث تشكّل مجموعة من القيم والأفكار التي تعمل كأيديولوجيا، مثل “حق الجمهور في الإعلام” و”حرية التعبير” و”المسؤولية الاجتماعية للصحافة” و”الحياد” و”الموضوعية” و”الصالح العام” (Jean Charron et de Bonville).

وبالتالي، فإنّ البراديغم الصحفي هو منظومة قيم نتجت عن ممارسات مؤسّسة على المثال والتقليد، وتشكّل مسلّمات ورسومًا تأويلية وقيمًا ونماذج مثالية، والتّي من خلالها يكتسب الصحفي هويّته داخل المجموعة الصحفية ضمن إطار زماني ومكاني يحدّد الانتماء للمجموعة ويعطي الشّرعية خلال الممارسة (Jean Charron et de Bonville).

هناك أمثلة أو معطيات ابستيمية تُحدث تغييرات في البراديغمات، كما أشار الى ذلك كوهن، مثل فضيحة ووترغيت (Watergate)، التي أصبحت في المخيال الصحفي حالة نموذجية ومثالًا بَراديغميًا لصحافة التحقيقات الاستقصائية. لاحظ الباحثون، بما في ذلك كوهن، أنّ الصحفيين.ـات، حتى الأكثر خبرة منهم، غالبًا ما يجدون صعوبة في صياغة قواعد المهنة بشكل واضح، لكنّهم لا يجدون صعوبة في ممارستها. فهم قد لا يتمكّنون من تحديد معايير اختيار الأخبار بدقة، لكنّهم يمارسون ذلك بسهولة من خلال معرفة عملية مكتسبة بالتجربة والتقليد. الصحفي الجيّد يعرف فنّ صياغة الخبر واختيار الزاوية الأمثل والأسلوب الأفضل، لكنّه قد يجد صعوبة في صياغة مدوّنة صحفيّة، لأنّه يعتمد على ما اكتسبه من تجربة وخبرة وموهبة وذوق صحفي، وهي أمور يعتقد أنّها لا يمكن تضمينها في أدلّة مجرّدة (Jean Charron et de Bonville).

تقليديًا، يفضّل المجال الصحفي التكوين العملي على التكوين الأكاديمي، حيث يُعتقد أنّ العمل الصحفي يُكتسب بالممارسة والتقليد وليس من خلال القواعد المجرّدة (Jean Charron et de Bonville).

تُعتبر رموز الصحافة وأهم إنتاجاتها أو اللحظات الفارقة في تاريخها نموذجًا ومثالا بالنسبة إلى الصحفيين، كما تُشكّل عنصرًا أساسيًا في تشكيل هويّتهم الصحفية وشرعيّتهم المهنية. فالصحفيون.ـات يستمدّون قواعد السلوك والممارسة من خلال فهمهم و استنتاجاتهم المستخلصة من ممارسات “كبار” الصحفيين، وكذلك من خلال الأحداث التاريخية البارزة التي تركت أثرًا عميقًا في مسار المهنة.

إن إعادة قراءة تاريخ المهنة الصحفية والوقوف عند أهمّ إنتاجاتها تُشكّل مكوّنات وعناصر أساسية للبراديغم الصحفي. بمعنى آخر، فإنّ البراديغم الصحفي هو منظومة قيمية تنبثق من ممارسات مؤسسة على النماذج والتقاليد، والتّي تتكوّن من مسلّمات ووسائل فهم وقيم ونماذج مثالية. هذه العناصر تُسهم في تحديد انتماء الفرد إلى المجموعة الصحفية ضمن إطار زمني ومكاني معين، ما يمنحه الشرعية في ممارسة المهنة ويُعزّز شعوره بالانتماء إلى هذه الجماعة المهنية.

وبالتالي، فإنّ البراديغم الصّحفي لا يقتصر فقط على القواعد والمبادئ المجرّدة، بل يتشكّل أيضًا من خلال التجارب التاريخية والممارسات العملية التي تُشكّل هوية المهنة وتُحدّد معاييرها. هذه المنظومة القيمية تُعتبر أساسًا لشرعية الممارسة الصحفية، حيث تُساعد الصحفيين.ـات على فهم دورهم ومسؤولياتهم ضمن الإطار العام للمهنة، وتُعزّز شعورهم بالانتماء إلى مجموعة تحمل قيمًا وأهدافًا مشتركة.

2- السياق التاريخي والقانوني للمرحلة الثانية

بعد جانفي 2011، شهدت تونس تراجعًا ملحوظًا في عناصر الإعلام السلطوي، وبدأت تظهر تحولات جذرية في الممارسة الصحفية التي أخذت تتحرر تدريجيًا من هيمنة السلطة السياسية. ارتبطت هذه التحولات بمتغيرات موضوعية عديدة، منها سقوط النظام السياسي القديم، وتراجع نفوذ المحيطين به، وحدوث تغيرات في الحركة الاجتماعية، بالإضافة إلى الجهود المبذولة لإعادة بناء المنظومة القانونية، سواء على مستوى الدستور أو القوانين المتعلقة بالإعلام. من أبرز هذه الجهود إلغاء مجلة الصحافة القديمة واعتماد المرسومين 115 و116 لسنة 2011.

كما مثّل صدور المرسوم عدد 14 لسنة 2011، المؤرخ في 23 مارس 2011، المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، لحظة فارقة أعلنت عن نهاية الشرعية القانونية للنظام السابق والاستناد إلى الشرعية الثورية، خاصة بعد حلّ مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الدستوري. ثم تم إنهاء العمل بدستور 1959 بموجب الفصل 27 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011، المؤرخ في 16 ديسمبر 2011، المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، ما مثّل بداية التاريخ الفعلي للثورة.

هذه التغييرات أوجدت شروطًا موضوعية لممارسة صحفية مختلفة عما كانت عليه قبل 14 جانفي 2011. وقد صاحبت هذه الشروط الموضوعية تغييرات ذاتية على مستوى القيم، حيث تم اعتماد مدونات تحريرية ومواثيق لأخلاقيات المهنة الصحفية، وأصبحت وسائل الإعلام تعمل بشكل أكبر على تعزيز قيم الاستقلالية. كما برزت ممارسات مرتبطة بنظرية التعديل الذاتي، وشهدت البيئة الإعلامية تغييرات هيكلية مهمة، مثل إحداث الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال، و إنشاء مجلس للصحافة يُعنى بمراقبة احترام أخلاقيات المهنة، وإنشاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (HAICA)، بالإضافة إلى تشكيل مجالس تحرير منتخبة وانتخاب رؤساء التحرير.

أصبح الصحفيون.ـات يعتمدون بشكل أكبر على القيم الواردة في المدوّنات التحريرية ومواثيق أخلاقيات المهنة، ما أدّى إلى تغيير في خطابهم حول مهنتهم. لقد أثرت هذه التغييرات الجديدة بشكل مباشر على عناصر البراديغم القديم، وأسست لشروط براديغم جديد، حيث بدأ الانتقال من إعلام سلطوي إلى إعلام ديمقراطي ما زال في طور التشكّل. هذه التحولات تعكس حركة تاريخية نحو ممارسة صحفية أكثر استقلالية وشفافية، تعكس قيم الثورة وتطلعاتها نحو بناء نظام إعلامي ديمقراطي.

تجربة انتخاب رئيسيْ تحرير جريدة الصحافة اليوم العمومية ووكالة تونس افريقيا للأنباء العموميتين.

أصبحت التجربة التونسية بعد 14 جانفي 2011 منفتحة على العديد من التجارب الدولية، خاصة في الدول الديمقراطية مثل أوروبا وأمريكا. فبعد الثورة، أصبح السياق السياسي الجديد أكثر ملاءمة لنشاط المنظمات والهيئات والجمعيات الدولية التي ساهمت بدورها في دعم وتمويل وإسناد أنشطة الفاعلين في مجال الإعلام، وذلك من أجل إنشاء الآليات الضرورية لتشكيل منظومة التعديل الذاتي.

منذ الأيام الأولى للثورة، بدأ المشرّع التونسي في العمل على إيجاد إطار قانوني لهيئة مستقلة تُكلّف بمهمة إصلاح الإعلام والاتصال. فبعد أقل من شهرين من سقوط نظام بن علي، تم حل المجلس الأعلى للاتصال، وتم إحداث الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال بموجب المرسوم عدد 10 لسنة 2011 المؤرخ في 2 مارس 2011. وقد عُهد إلى هذه الهيئة مهمة تقديم مقترحاتها حول إصلاح الإعلام والاتصال، واقتراح تصوّرات كفيلة بالارتقاء بالمؤسسات الإعلامية والاتصالية لتحقيق أهداف الثورة، وحماية حق الشعب التونسي في إعلام حر وتعددي ونزيه. كما كُلفت الهيئة بتقديم مقترحات تشريعية، منها إحداث هياكل تعديلية مستقلة في قطاعات الصحافة المكتوبة والسمعي البصري والإعلام الإلكتروني (المرسوم عدد 10 لسنة 2011، الفصل 2).

إضافة إلى ذلك، مكّن المشرّع الهيئة من إبداء الرأي في طلبات إحداث إذاعات وتلفزات خاصة، وتقييم وضع الإعلام بمختلف جوانبه. ومع ذلك، كانت المهام الموكلة للهيئة استشارية في طبيعتها، حيث اقتصر دورها على إبداء الرأي والتقييم والاقتراح، بينما ظلت سلطة الترخيص لمؤسسات الإذاعة والتلفزة بيد الحكومة، التي كانت أيضًا تملك صلاحية تعيين وإعفاء المديرين العامين لمؤسسات الإعلام العمومي والمصادرة.

غير أنّ التغيير السياسي الذي شهدته تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، أظهر موقفًا سلبيًا من السلطة الحاكمة (الترويكا) تجاه قوانين الإعلام. فقد صرح مسؤولون في الحكومة الجديدة بأنهم لا يعتبرون المرسومين 115 و116 إطارًا مناسبًا لتنظيم القطاع الإعلامي، ورفضوا تفعيلهما، بما في ذلك رفض إحداث اللجنة الوطنية لإسناد بطاقة الصحفي المحترف وفقًا للفصل الثامن من المرسوم عدد 115. كما رفضت الترويكا الحاكمة آنذاك إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، تقرير الحريات الصحفية 2013).

في هذا السياق، شكّلت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي لجنة خبراء لصياغة قانونين متعلقين بالصحافة والاتصال السمعي البصري، تم تقسيمها إلى لجنتين، وقد نص الفصل الثاني من المرسوم عدد 6 لسنة 2011 على أنّ رئيس الهيئة يمكنه إحداث لجنة خبراء تتكوّن من أخصائيين يعيّنهم رئيس الهيئة، تتولّى صياغة مشاريع القوانين وفق التوجهات التي يتم ضبطها من قبل الهيئة.

انفتحت اللجنتان على مساهمات خارجية، مثل مساهمات النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وهيئة إصلاح الإعلام والاتصال، وتمّ تقديم المرسومين للمصادقة عليهما أمام الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، ونُشرا في الرائد الرسمي للجمهورية يوم 4 نوفمبر 2011.

رغم أنّ المرسوم عدد 115 لسنة 2011 نصّ على إلغاء مجلة الصحافة لسنة 1975، وأنّ المرسوم عدد 116 لسنة 2011 نصّ على إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، إلا أنّهما واجها عدم اعتراف سياسي منذ بداية سنة 2012. فقد اعتبرت السلطة السياسية أنّ تطبيق المرسومين غير ممكن بسبب الخلافات بين المهنيين والإخلالات الإجرائية. (‏محضر الجلسة الثانية للجنة القانونية والتشريعية ‏‏2013، محضر جلسة اللجنة القانونية والتشريعية 2013).

وفي 17 أكتوبر 2012، أصدرت رئاسة الحكومة بيانًا أعلنت فيه تفعيل المرسومين، مشيرة إلى أنّ الرغبة السياسية للائتلاف الحزبي الحاكم تتجسّد في تكريس مبادئ الحرية والاستقلالية لقطاع الإعلام (رئاسة الحكومة، 2013). ومع ذلك، لم تقم الحكومة بتفعيل المرسومين إلّا في 13 أكتوبر 2013، أي بعد مرور نحو سنة، في حين كان القضاء ينفّذ الأحكام القانونية الواردة في المرسوم عدد 115 المتعلق بالجرائم والعقوبات في الصحافة.

يعني تفعيل المرسومين عدد 115 و116 لسنة 2011 إصدار الأوامر الترتيبية الخاصة بالإيداع القانوني، وإحداث اللجنة الوطنية المستقلة لإسناد بطاقة الصحفي المحترف، التي ستضع حدًا لهيمنة السلطة السياسية في منح البطاقة أو رفضها. كما يعني تفعيل المرسوم 116 إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.

لقد مثّل الإضراب العام الذي دعت إليه النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في 17 أكتوبر 2012 حركة ضغط مهمة على الحكومة، ما دفعها إلى الإعلان عن تفعيل المرسومين (بيان نقابة الصحفيين، 25 سبتمبر 2012؛ بيان الحكومة، 17 أكتوبر 2012).

كانت رئاسة الجمهورية تعمل على إيجاد قنوات اتصال مع المهنيين في قطاع الإعلام، حيث نظمت سلسلة من الاجتماعات المتتالية لمناقشة سبل تفعيل المرسوم عدد 116 لسنة 2011. وينص الفصل 47 من هذا المرسوم على منح رئيس الجمهورية سلطة مؤقتة لتعيين رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (المرسوم 116، 2011، الفصل 47). وتم الإعلان رسميًا عن إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) في 3 ماي 2013، تزامنًا مع اليوم العالمي لحرية الصحافة.

من جهة أخرى، تأخّر إصدار الأمر الترتيبي المتعلق بإحداث اللجنة الوطنية لإسناد بطاقة الصحفي المحترف حتى شهر جويلية 2014 (الأمر عدد 2849 لسنة 2014)، أي بعد ما يقارب ثلاث سنوات من النص عليها رسميًا في الرائد الرسمي عند نشر المرسوم عدد 115 لسنة 2011. ولأول مرة، تم تشكيل لجنة يرأسها قاضٍ دون تمثيل للحكومة فيها، وصدر قرار بتعيين أعضاء اللجنة في 24 جويلية 2014 (الأمر 2849 لسنة 2014)، وذلك بعد اتفاق بين رئاسة الحكومة من جهة والنقابة الوطنية الصحفيين ونقابة الإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، وجامعة مديري الصحف، والنقابة التونسية للمؤسسات الإعلامية.

هذه الخطوات تعكس الجهود المبذولة لضمان استقلالية القطاع الإعلامي وتعزيز الشفافية في عملية إسناد بطاقات الصحفيين المحترفين، ما يمثّل خطوة مهمة نحو تعزيز حرية الإعلام واستقلاليته في تونس بعد الثورة.

3- 23 مارس 2011 التاريخ الفعلي للثورة ولتشكّل عناصر النظام الإعلامي الجديد

بعد الرابع عشر من جانفي 2011، استمرت المنظومة القانونية والسياسية والإعلامية في تونس بالعمل وفق النظام القانوني المستند إلى دستور 1959، أي باستخدام الآليات القانونية والسياسية والهيكلية للنظام السابق، رغم الإطاحة الثورية بالسلطة. وقد منحت المنظومة القانونية القديمة العديد من السلطات، بما في ذلك السلطات التشريعية، لرئيس الجمهورية المؤقت خلال المرحلة الانتقالية، استنادًا إلى القانون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011، والذي فوّض لرئيس الجمهورية المؤقت إصدار مراسيم في مجالات محددة وفقًا للفصل 28 من دستور 1959.

وشملت هذه المجالات العفو العام، وحقوق الإنسان، والحريات الأساسية، والنظام الانتخابي، والصحافة، وتنظيم الأحزاب السياسية، ومكافحة الإرهاب، ومنع غسل الأموال، والتنمية الاقتصادية والمالية، والجباية، والنهوض الاجتماعي، والملكية، والتربية، والثقافة، ومجابهة الكوارث والأخطار، بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتعهدات المالية للدولة والمعاهدات التجارية والجبائية والاقتصادية والاستثمارية، وكذلك المعاهدات المتعلقة بالعمل والمجال الاجتماعي وحقوق الإنسان والحريات الأساسية.

وأصدر المجلس الدستوري رأيه رقم 2 – 2011 بشأن مشروع القانون المتعلق بالتفويض لرئيس الجمهورية المؤقت في إصدار المراسيم، حيث اعتبر أنّ القانون، رغم تنوّع مجالات التفويض واتّساعها، لا يتعارض مع الدستور طالما تم تحديد الغرض منه بشكل كافٍ، كما ينص الفصل 28 من الدستور. وأكد المجلس الدستوري أنّ رئيس الجمهورية المؤقت يمكنه، في إطار هذا التفويض، إصدار مراسيم في المجالات المحددة طالما يتم ذلك باحترام الدستور، وأنّ مشروع القانون المعروض يتوافق مع الدستور.

انحصرت عملية التشريع الجديدة في إطار السياق الثوري بين 9 فيفري 2011، تاريخ إصدار القانون المتعلق بالتفويض لرئيس الجمهورية المؤقت، و23 مارس 2011، تاريخ صدور المرسوم عدد 14 لسنة 2011، الذي أعطى تصورًا جديدًا لتنظيم السلطة العمومية بشكل مؤقت، وعلّق العمل بدستور 1959، وحلّ مجلسي النواب والمستشارين والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الدستوري. وقد نصّ المرسوم على أنّ الوضع الحالي للدولة بعد الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية في 14 جانفي 2011، كما أقرّه المجلس الدستوري، لم يعد يسمح بالسير العادي للسلط العمومية، وأصبح من المتعذّر تطبيق الدستور بشكل كامل.

ومنذ 23 مارس 2011، تم تعليق العمل بدستور 1959، وإلغاء السلطة التشريعية للنظام القديم، ما أدّى إلى سقوط الشرعية القانونية وبدء التشريع على أساس الشرعية الثورية في غياب مرجع قانوني أعلى. وبالتالي، فإنّ المراسيم الصادرة من 23 مارس 2011 إلى 17 نوفمبر 2011 هي مراسيم لا تخضع للرقابة الدستورية، ولا تستند إلى شرعية مؤسساتية سوى الشرعية الثورية. ولا يمكن الطعن في هذه المراسيم على أساس عدم احترامها لمقتضيات الفصل 28 من الدستور، إذ أنّ القانون عدد 5 لسنة 2011 نصّ على أنّ المراسيم التي يتمّ اتخاذها تطبيقًا لأحكام الفصل الأول من هذا القانون تتمّ المصادقة عليها وفقًا للفصل 28 من الدستور.

وتمّ إصدار 13 مرسومًا استنادًا إلى الفصل 28 من دستور 1959، بما في ذلك المرسومان عدد 115 و116. وبالتالي، فإنّ إلغاء المحكمة الإدارية للمرسوم عدد 13 المتعلق بالمصادرة كان صائبا بسبب عدم احترامه للفصل 28 من الدستور القديم، في حين لا يمكن الطعن في المرسومين عدد 115 و116 المؤرخين في 2 نوفمبر 2011، لاستنادهما إلى الشرعية الثورية. وبالتالي، فإنّ رفض بعض القضاة العمل بمقتضيات المرسوم عدد 115، خاصة في ما يتعلق بإثارة الدعوى، ليس صائبا، حيث إنّ التراتبية القانونية سقطت بعد المرسوم عدد 14.

ولا يمكن المصادقة على هذه المراسيم استنادًا إلى الفصل 28 من الدستور أو القانون عدد 5، وذلك بسبب تعليق العمل بالدستور منذ المرسوم عدد 14، الذي أقرّ تنظيماً سياسياً وقانونياً جديداً. وبالتالي، يمكن اعتبار أنّ الثورة التونسية انطلقت فعليًا في 23 مارس 2011، مع بدء التشريع على أساس الشرعية الثورية في غياب مرجعية دستورية.

4- عودة الإعلام السلطوي وأدوات إدارة المرحلة الثالثة

لقد شكّل الإعلام التونسي بعد ثورة 2011 حالة اختبارية مهمة في سياق الانتقال الديمقراطي، حيث شهدت البلاد محاولات جادة لتأسيس نموذج إعلامي ديمقراطي يتجاوز الإرث السلطوي الذي كان سائدًا في عهد نظام بن علي. ومع ذلك، فإنّ الإجراءات التي اتّخذها الرئيس قيس سعيد بعد 25 جويلية 2021 أعادت طرح إشكالية الانتقال الإعلامي في تونس من جديد. فهل عاد الإعلام إلى حلقته الأولى، وهي الإعلام السلطوي، أم أنّنا نشهد حلقة جديدة من حلقات تشكّل إعلام ديمقراطي ما زال في طور التكوين؟

لقد تمّ تعيين مُدراء جدد للمؤسسات الإعلامية العمومية دون مراعاة قاعدة الرأي المطابق المنصوص عليها في المرسوم عدد 116 لسنة 2011، ما يشكّل مخالفة لمعايير الشفافية والاستقلالية. وفقًا لتقرير صادر عن “مرصد حرية الصحافة في تونس” (2023) فإنّ هذه التعيينات تمت بناءً على الولاء السياسي بدلاً من الكفاءة المهنية، ما حوّل هذه المؤسسات إلى أدوات للترويج لسياسات السلطة التنفيذية.

كما شهدت الفترة زيادة في استخدام القوانين الزجرية لمحاكمة الصحفيين، خاصة تلك المتعلقة بـ”الإضرار بالأمن العام” أو “نشر أخبار كاذبة” و مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، بالإضافة إلى المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022، المتعلّق بمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتّصال. وفقًا لبحث أجرته “منظمة المادّة 19 (2022) أدّت هذه الإجراءات إلى خلق مناخ من الخوف والتردّد لدى الصحفيين، ما أثّر سلبًا على جودة العمل الصحفي واستقلاليته.

إضافة إلى ذلك، تمّ إضعاف وتجميد عمل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، إذ أصبح مسؤولو وسائل الإعلام السمعية والبصرية يخضعون لمساءلة رئيس الجمهورية فعليًا، رغم عدم وجود إطار قانوني يؤطّر ذلك. هذا الوضع يعكس رغبة السلطة التنفيذية في إعادة السيطرة على الخطاب الإعلامي، والعودة من جديد إلى مرحلة الإعلام السلطوي تحت شعارات جديدة مثل التحرّر الوطني ومكافحة الفساد والاستقلال الوطني وهي جزء من الشعارات التي رفعتها الثورة في 14 جانفي 2011، وبالتّالي أصبحنا أمام إعلام سلطوي ممركز ضمن سياق مفاهيمي ثوري، لم يتجاوز بعده المفاهيمي.

في هذا السياق، يمكننا استنطاق أدوات إدارة المرحلة الثالثة مع السلطات الجديدة لرئيس الجمهورية من خلال طرح عدة تساؤلات: هل يمكن اعتبار هذه الإجراءات جزءًا من عملية إعادة تشكيل النظام الإعلامي وفقًا لرؤية السلطة؟ أم أنّنا مازلنا في فترة التشكّل.

هل تمّ التراجع عن مبادئ الثورة في بناء إعلام حر ومستقل؟ وكيف يمكن للفاعلين في المجال الإعلامي والمجتمع المدني مواجهة ذلك لضمان استقلالية الإعلام وحريته؟

من الواضح أنّ الإعلام التونسي يواجه تحديات كبيرة في ظل التحولات السياسية، إذ يتمّ اختبار مدى التزام السلطات الجديدة بمبادئ الديمقراطية وحرية التعبير. وفي الوقت نفسه، فإنّ استمرار الضغوط على الصحفيين.ـات وإضعاف الهيئات المستقلة يشير إلى أنّ الإعلام التونسي ما زال في مرحلة انتقالية، إذ مازالت تتجاذبه قوى السلطة من جهة والرغبة في تحقيق قيم مثل الاستقلالية والحرية من جهة ثانية.

كما أنّ الحلول محلّ الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري جعل بعض مسؤولي وسائل الإعلام السمعية والبصرية يخضعون لمساءلة رئيس الجمهورية مباشرة وبشكل فعلي رغم عدم وجود إطار قانوني يسمح بذلك، وهو يعكس رغبة السلطة التنفيذية في إعادة السيطرة على الإعلام والخطاب الإعلامي.

يتميز النموذج الإعلامي في تونس بمستوى عالٍ من تدخل الدولة وضعف في الصحافة المكتوبة. ويصنف ضمن نموذج “الاستقطاب التعددي” أو ما يعرف بالنموذج المتوسّطي. تقوم عناصر النظام، سواء كانت قانونية أو سياسية، على أساس التدخل المباشر في الأداء الإعلامي ومحتوياته.

بدأ هيكل النظام الإعلامي في تونس في التبلور مع تأسيس المجلس الأعلى للاتصال بتاريخ 11 ديسمبر 1973 بموجب الأمر 636 لسنة 1973. هذا المجلس، الذي كان يسمّى في البداية المجلس الأعلى للإخبار، كان مكلفًا بما يلي:

  • تطوير البنية التقنية وتحسين مستوى الكوادر لتلبية متطلبات الرأي العام.
  • تحسين وسائل نشر الأخبار المتعلقة بالشؤون التونسية داخلياً وخارجياً.
  • المساهمة في وضع سياسة عامة في مجال الإعلام.

تعزّز هذا النظام بإصدار مجلة الصحافة عام 1975، ثم تنقيحات 1993 التي أعادت ترتيب العديد من القوانين المقيدة للحرية. ارتبط النظام ارتباطًا وثيقًا بالنظام السياسي الذي استخدم الإعلام كأداة للترويج السياسي والدعاية، مع اعتماد اقتصادي على دعم السلطة والإعلانات المشروطة، ما جعل المؤسسات الإعلامية جزءاً من النظامين الإعلامي والسياسي. وتمّ توظيف وكالة الاتصال الخارجي كآلية لتعزيز هذه العلاقة.

بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، تم تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. ورغم أنّ مهامها كانت استشارية، إلّا أنّها أدّت دورًا تشريعيًا من خلال التصديق على عدد من المراسيم، منها:

  • المرسوم بإنشاء هيئة وطنية مستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال.
  • المراسيم المتعلقة بحرية الصحافة والنشر والاتصال السمعي البصري.

على الرغم من المحاولات الإصلاحية، استمرّ النظام الإعلامي بنفس هياكله الأساسية، خصوصا في جوانبه الاقتصادية واللوائح القانونية، ما أدّى إلى إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية. وحاول العاملون في المجال الإعلامي البحث عن حلول، ولكن دون تحقيق نتائج ملموسة.

إثر إعلان حالة الاستثناء بعد 25 جويلية 2021 وحلّ الحكومة والبرلمان، ظلّت مكوّنات النظام الإعلامي على حالها رغم التغييرات الشكلية. وصدرت تشريعات جديدة، مثل المرسوم المتعلّق بمكافحة الجرائم المرتبطة بأنظمة المعلومات والاتصال عدد 54 المؤرّخ في 2022، ما يعزّز الانغلاق.

تشير الاستنتاجات إلى أنّ النظام الإعلامي في تونس تأسّس كنظام مغلق، مرتبط بالسلطة السياسية ورأس المال الإعلاني. ولذلك، لكي يكون الإعلام مستقلًا وذا جودة كخدمة عامة، فإنّه يحتاج إلى إعادة تشكيل جذري تتجاوز الأسس الحالية.

5- إصلاح النظام الإعلامي التونسي: من السلطوية إلى الديمقراطية الإعلامية

سنستعرض في هذا العنوان العلاقة بين الإعلام والسلطة في تونس بعد 25 جويلية 2021، حيث سنركّز على التغيرات الهيكلية والتشريعية والسلوكية التي شهدها المشهد الإعلامي وكيفية تعامله مع مؤسسات الدولة.

لقد اعتمدنا في هذا البحث على المنهج الوصفي التحليلي، مستخدمين أدوات تحليل المضمون والمقارنة القانونية للنصوص التشريعية بين ما قبل وما بعد 25 جويلية 2021. كما استندنا إلى مقابلات موثّقة مع شخصيات مؤثّرة في مجال الإعلام وخبراء في القانون الدستوري والإعلام، بالإضافة إلى متابعة الممارسات الإعلامية والتفاعل المؤسسي بين وسائل الإعلام والسلطة التنفيذية.

يمكن تصنيف العلاقة بين الإعلام والسلطة في تونس بعد 25 جويلية 2021 ضمن نموذج “الاتصال السلطوي المُعدّل”، وفق تصنيف الباحثين فريد سيبرت، ثيودور بيترسون، وولبور شرام، في إطار نظريتهم الكلاسيكية حول أنظمة الإعلام. ومع ذلك، هناك خصوصيات محلية تتجلّى في بعض مظاهر التعددية الشكلية. تتميّز هذه الفترة بعودة أساليب الرقابة والسيطرة التي تخطّت أحيانا النصوص القانونية المعتمدة منذ عام 2011.

التحولات التشريعية في مجال الإعلام

المرسوم 54 ومكافحة الجرائم الإلكترونية: يشكّل المرسوم رقم 54 لسنة 2022، الصادر في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المرتبطة بأنظمة المعلومات والاتصالات، نقطة تحول كبير في العلاقة بين الإعلام والسلطة. وتكمن خطورة هذا المرسوم بشكل خاص في المادة 24 التي تفرض عقوبة السجن على كل من يستخدم شبكات وأنظمة المعلومات والاتصالات لإنتاج أو نشر أو ترويج أخبار أو معلومات كاذبة، وهي صيغة فضفاضة تفتح المجال لتفسيرات واسعة تهدد حرية التعبير.

تفعيل قوانين سابقة لتقييد الحريات الإعلامية : استخدمت السلطات نصوصا من المجلة الجزائية وقانون مكافحة الإرهاب لملاحقة الصحفيين والمدوّنين. وأصبحت تهم مثل “نشر أخبار كاذبة” و”الاعتداء على موظف عمومي” و”إثارة الفوضى والإخلال بالنظام العام” أدوات قانونية تُستخدم بشكل متكرر في قضايا مرتبطة بحرية التعبير.

تهميش المراسيم 115 و116 : بالرغم من أن المرسومين 115 و116 لسنة 2011، المرتبطين بحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية الاتصال السمعي البصري، لم يتم إلغاؤهما، إلّا أنّ تطبيقهما قد تراجع بشكل واضح، وتمّ التحايل عليهما عبر قوانين أخرى ذات طابع عقابي.

الممارسات والآليات السلطوية تجاه الإعلام

التوظيف السياسي للإعلام العمومي : تميزت هذه الفترة بتدخل قوي في تعيينات المؤسسات الإعلامية العمومية، مع إقالات متكررة للمسؤولين وتعيين آخرين موالين للسلطة. وشهدت مؤسسات مثل وكالة تونس إفريقيا للأنباء ومؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسية تغييرات جذرية في المناصب القيادية، مع توجيه خطابها الإعلامي نحو دعم السياسات الرسمية.

تقييد حرية الوصول إلى المعلومات : تراجعت شفافية المؤسسات العامة في التعامل مع وسائل الإعلام، مع منع الوصول إلى المعلومات بشكل منهجي. وأصبحت المؤتمرات الصحفية نادرة، وتم استبدالها بتصريحات أحادية أو بيانات مختصرة، مما أضعف دور الإعلام الرقابي.

ترهيب الصحفيين والإعلاميين : وثّقت منظمات مهنية وحقوقية حالات متعددة من مضايقة الصحفيين، من خلال الاستدعاءات القضائية والمداهمات واتهامات التخوين. وفي الفترة من جويلية 2021 إلى أكتوبر 2024، تمّ تسجيل أكثر من 150 انتهاكا للحريات الإعلامية وفق تقارير نقابة الصحفيين التونسيين.

إعادة تنظيم سوق الإعلان وتأثير السياسات على هيكلية الإعلام : اعتمدت السلطات على موارد الإعلانات العامة والقطاعات الاقتصادية المرتبطة بها كوسيلة للضغط الاقتصادي على المؤسسات الإعلامية. تمّ توجيه الإعلانات نحو منصّات داعمة للنظام وحجبها عن وسائل الإعلام النقدية، ما أدّى إلى إفلاس العديد من المؤسسات الإعلامية المستقلة.

التحول في المحتوى الإعلامي وظهور البدائل

أدّت القيود المتزايدة إلى ظهور منصات إعلامية بديلة، معظمها رقمية، تعمل خارج الأطر التقليدية. ونتج عن ذلك انقسام حاد في المشهد الإعلامي بين وسائل إعلام داعمة للسلطة وأخرى معارضة، مع انحسار المساحات الوسيطة. كما شهد القطاع الإعلامي موجة هجرة للكفاءات نحو الخارج أو إلى مجالات أخرى، بسبب تضييق نطاق الحرية وتدهور الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية.

ردود الأفعال النقابية والدولية : اتّخذت النقابة الوطنية للصحفيين في تونس موقفا معارضا لهذه التوجهات، مع تنظيم احتجاجات متكررة وإصدار بيانات إدانة. كما انتقدت منظمات دولية مثل مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين تراجع الحريات الإعلامية في تونس، حيث تراجع ترتيب البلاد في مؤشر حرية الصحافة من المركز 73 عام 2021 إلى المركز 121 في أحدث تصنيف.

الآليات الاقتصادية للتعديل الإعلامي : اعتمدت المؤسسات الإعلامية على مصادر تمويل محدودة، مع توظيف هذه الحاجة كوسيلة للضغط. وأصبح التمويل العام أو التمويل من قبل رجال أعمال مرتبطين بالسلطة أداة رئيسية للتحكم في المحتوى الإعلامي. بالإضافة إلى ذلك، وُضعت قيود على مصادر التمويل البديلة للمؤسسات الإعلامية، خاصة الدعم الدولي والمنح، حيث تم تصنيف بعضها كتدخل خارجي في الشؤون الوطنية.

يمكن ملاحظة تحوّل في علاقة الإعلام مع السلطة في تونس بعد 25 جويلية 2021، مع عودة النموذج السلطوي باستخدام أدوات جديدة. يمكن تلخيص الاستنتاجات الأساسية في النقاط التالية:

  • إعادة تنظيم العلاقة بين الإعلام والسلطة وفق نموذج أقرب إلى النظام الاستبدادي المعدل.
  • استخدام أدوات قانونية واقتصادية لتقييد حرية الإعلام، مع الحفاظ على مظاهر شكلية للتعددية.
  • تشكّل مشهد إعلامي خاضع للاستقطاب الثنائي، مع اختفاء تدريجي للمساحات الوسطية.
  • تراجع منظومة التنظيم الإعلامي المستقل، مع تهميش دور الهيئات التنظيمية.
  • استمرار الارتباط البنيوي بين النظام الإعلامي والنظامين السياسي والاقتصادي.

يسلّط هذا الجزء من الدراسة الضوء على العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة في تونس بعد 25 جويلية 2021، مبينة أنها تعكس مشروعاً شاملاً لإعادة هيكلة النظام الإعلامي بما يتماشى مع التوجهات السياسية الجديدة، وذلك عن طريق تفريغ المكتسبات التشريعية السابقة من جوهرها. وتشدد الدراسة على أنّ الانتقال نحو إعلام مستقل يتطلّب إصلاحاً شاملاً يغطّي النواحي التشريعية والاقتصادية والمهنية.

6- النموذج السلطوي للإعلام في تونس بعد 25 جويلية 2021: تحليل السياقين النظري والتطبيقي

شهدت تونس تغيّرا جوهريا في العلاقة بين الإعلام والسلطة بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021، حيث اتّخذت هذه العلاقة نمطا سلطويا مُعدّلاً، يجمع بين الإرث القانوني للفترة الانتقالية وبين وسائل التعديل الحديثة التي تعيد إنتاج السيطرة بأدوات جديدة. يمكن فهم هذا التحوّل من خلال النموذج النظري الذي قدّمه “سيبرت وبيترسون وشرام” في نظريتهم الكلاسيكية حول أنظمة الإعلام، مع مراعاة الخصوصية التونسية التي تدمج بين مظهر الديمقراطية وممارسات السلطوية.

يصنَّف النظام الإعلامي التونسي الحالي ضمن ما يعرف بـ”الاتصال السّلطوي المعدّل”. وهو نموذج يقدّم نسخة أكثر مرونة وذكاءً مقارنة بالنموذج السلطوي التقليدي الذي كان موجودا خلال عهد بن علي. في حين أنّ نظام بن علي اعتمد على الرقابة الصريحة والمنع المباشر، يعتمد النظام الحالي على وسائل غير مباشرة تسمح للسلطة بالحفاظ على واجهة ديمقراطية بينما تُقوِّض في الكواليس أسس الإعلام المستقل. تظهر هذه الآليات في ثلاث مستويات رئيسية: التشريعات، الممارسات، والاقتصاد.

على الصعيد التشريعي، شهدت الفترة التي أعقبت 25 جويلية 2021 صدور قوانين جديدة مثل المرسوم رقم 54 لعام 2022، الذي أصبح وسيلة فعّالة في أيدي السلطة لتقييد حرية التعبير تحت ذريعة مكافحة “الأخبار الكاذبة”. وتميزت صياغة هذا القانون بالعمومية، ما سمح بتفسيره بشكل انتقائي ضدّ الأصوات الناقدة. كما أُعيد استخدام قوانين قديمة من المجلّة الجزائية وقانون مكافحة الإرهاب كأدوات لقمع الصحفيين تحت مسمّيات مثل “الإخلال بالنظام العام” أو “الاعتداء على موظف عمومي”. وفي المقابل، تعرّضت القوانين التقدمية التي أُقرت بعد الثورة، مثل المراسيم 115 و116 لعام 2011، لعملية تفريغ تدريجي من محتواها، حيث ظلّت رسمياً سارية المفعول لكنّها فقدت فعاليتها في التطبيق العملي.

على صعيد الممارسات، قامت السلطة باتخاذ إجراءات متعدّدة لإعادة تشكيل المشهد الإعلامي، كان أبرزها السيطرة على الإعلام العمومي عبر تعيينات سياسية في المناصب القيادية، ما حوّله إلى منصّة لترويج الخطاب الرسمي. كما جرى تقييد حرية الوصول إلى المعلومات بشكل منهجي، لتتعامل المؤسسات الحكومية مع الصحفيين بشك وريبة. وأصبحت البيانات المختصرة والتصريحات الأحادية بديلاً عن الفعاليات الصحفية المفتوحة، فأضحى رئيس الدولة هو المخاطب الوحيد، ولكن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تقتصر المضايقات على الجانب المهني فحسب، بل امتدّت إلى الملاحقات الأمنية والقضائية، حيث وثّق مرصد نقابة الصحفيين عشرات الحالات من استدعاء الصحفيين، مصادرة معداتهم، واتهامهم في قضايا جنائية.

في الجانب الاقتصادي، ظهرت وسائل أكثر تعقيدًا للتحكم في الإعلام، تجسّدت في استخدام الإعلانات العامة كوسيلة للعقاب والمكافأة. فالمؤسسات الإعلامية التي تُوالي السلطة حصلت على أكبر نصيب من الإعلانات الحكومية ودعم القطاع العام، بينما حُرمت المنابر الناقدة من هذه الموارد المهمة، ما أدّى إلى إغلاق الكثير منها أو تقليص نشاطها. بالإضافة إلى ذلك، فُرضت قيود على مصادر التمويل البديلة، حيث أصبحت المساعدات الأجنبية للمؤسسات الإعلامية تُوصف أحيانًا بأنها “تدخّل في الشؤون الداخلية”، في محاولة لتقديم الرقابة الاقتصادية كنوع من الحماية للسيادة الوطنية.

هذه التغييرات لم تكن مجرّد إجراءات عشوائية، بل هي جزء من رؤية شاملة لإعادة تشكيل العلاقة بين الإعلام والسلطة وفق نموذج هجين يجمع بين عناصر متعددة. من جانب، يحافظ هذا النموذج على بعض مظاهر التعددية الشكلية التي تركتها مرحلة الانتقال الديمقراطي، مثل وجود وسائل إعلام خاصة ومنابر إلكترونية ناقدة. ومن ناحية أخرى، يتم تفريغ هذه المظاهر من مضمونها عبر شبكة معقدة من الضغوط التي تجعل استمرارها مشروطًا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء غير الواضحة. وكنتيجة لذلك، شهد المشهد الإعلامي استقطابًا حادًا بين إعلام موالٍ يكرّر الخطاب الرسمي دون مساءلة، وإعلام يحاول أن يكون مستقلاً لكنّه يعمل تحت تهديد دائم بالعقاب.

وعلى الرغم من اختلاف هذا النموذج عن الأنظمة السلطوية التقليدية في الشكل، إلّا أنّه يتشابه معها في الهدف الرئيسي وهو تحويل الإعلام إلى أداة لإضفاء الشرعية على السلطة بدلاً من مراقبتها. وهذا الهدف ظهر جليًا في التحوّل الكبير الذي حدث في مضمون الخطاب الإعلامي، حيث أشارت الدراسات إلى تراجع كبير في نسبة التغطية النقدية واختفاء العديد من الأصوات المعارضة من وسائل الإعلام الرئيسية. وفي الوقت ذاته، برزت ظواهر جديدة مثل الإعلام الرقمي البديل، الذي حاول ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الإعلام التقليدي، لكنّه استمر في مواجهة صعوبات تتعلق بالتأثير المحدود بسبب الرقابة والضغوط الاقتصادية.

يمكننا القول إنّ النموذج الإعلامي التونسي الحالي يمثل مجالًا مهمًا لدراسة تحوّلات أنظمة الإعلام في الفترات الانتقالية. فهو يستفيد من ممارسات الماضي لتجنب تكرار أخطاء النموذج السلطوي الصريح الذي انهار مع نظام بن علي، وفي الوقت ذاته يطوّر وسائل أكثر تطورًا للسيطرة على الفضاء الإعلامي. هذه الوسائل، رغم كونها أقلّ وضوحًا من أساليب المنع المباشرة، إلا أنّها أكثر خطورة على المدى البعيد، لأنّها تضعف استقلالية الإعلام من الداخل عبر تحييده اقتصاديًا وقانونيًا ومهنيًا، بينما تترك له وهمَ الحرية والشكل الخارجي للاستقلال.

إصلاح النظام الإعلامي التونسي: من السلطوية إلى الديمقراطية الإعلامية

شهدت تونس تراجعًا في حرية الإعلام منذ جويلية 2021، ما يدعو إلى وضع رؤية إصلاحية شاملة تستند إلى الخبرات الدولية والأطر النظرية الرصينة. تستمدّ هذه الرؤية إطارها من أعمال مفكرين مثل “سيبرت وبيترسون وشرام” في نظريات الصحافة الأربع، و”هالين ومانشيني” في نماذج الإعلام المقارن، و”هابرماس” في مفهوم الفضاء العمومي.

أولاً: الإصلاح التشريعي كمدخل رئيسي

تُشكّل التشريعات المقيّدة عائقًا كبيرًا أمام تطور الإعلام في تونس. من أبرز الأمثلة على ذلك المرسوم رقم 54 لسنة 2022 الذي استخدم مكافحة “الأخبار الكاذبة” كوسيلة لقمع الآراء المخالفة. وهنا، يتطلّب الإصلاح اتخاذ خطوات عملية:

إلغاء القوانين المقيّدة: يجب إلغاء المرسوم 54 وتعديل المواد القانونية غير الواضحة في القانون الجنائي وقانون مكافحة الإرهاب التي تستخدم ضد الصحفيين. يمكن الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا التي أعادت صياغة تشريعاتها بعد حقبة الفصل العنصري لتحقيق توازن دقيق بين حرية التعبير والحفاظ على الأمن الوطني.

وضع قانون جديد للإعلام: من المهم صياغة “قانون أساسي لحرية الإعلام” يحمي بشكل واضح استقلالية الوسائل الإعلامية، ويضمن حق الوصول إلى المعلومات، وينظّم بشكل عادل العلاقة بين الإعلام والسلطات العامة. ينبغي أن يستلهم هذا القانون من أفضل الممارسات الدولية، خاصة من دول مثل البرتغال التي انتقلت بنجاح من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي في الإعلام.

تعزيز استقلالية الهيئة التنظيمية: تحتاج الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري إلى إصلاح يضمن استقلاليتها الفعلية عن السلطة التنفيذية. يمكن تبنّي نموذج “أوفكوم” البريطاني الذي يتمتّع باستقلالية كبيرة في التمويل والإدارة، مع خضوعه للمساءلة البرلمانية فقط. يجب أيضًا إرساء مجلس للصحافة قائم على قواعد التنظيم الذاتي والنأي عن التحيّزات الخاصة والشبكات.

ثانياً: إعادة تنظيم الإعلام العمومي

يمثّل الإعلام العمومي في تونس أداةً تستخدمها السلطة بدلاً من كونه خدمةً عامة للمجتمع. ولتجاوز هذا الوضع يجب:

تحويل الإذاعة والتلفزة العموميّتين إلى مؤسسات خدمية عامة : ينبغي إعادة تنظيم المؤسسة العامة وفقًا لنموذج يعتمد على رسوم الخدمة، ما يضمن تمويلاً مستقلاّ عبر رسوم تشغيل محددة بدلاً من الاعتماد على الميزانية العامة. كما يجب أن يتمّ تعيين مجلس الإدارة من خلال عملية شفافة تشمل البرلمان والمجتمع المدني.

ضمان التعددية الداخلية: على الإعلام العام الالتزام بتخصيص مساحة متساوية لمختلف التيارات السياسية والفكرية، كما هو مطبّق في النموذج النرويجي الذي يضمن تمثيلاً متوازناً في برامجه الإخبارية والتحليلية.

ثالثاً: دعم الإعلام الخاص والمستقل

يواجه الإعلام الخاص والمستقل في تونس تحديات مالية وقانونية تعيق تقدمه. ولتجاوز ذلك يجب:

إنشاء صندوق لدعم الإعلام المستقل: يمكن تأسيس صندوق مشابه لـ”صندوق دعم الصحافة” الفرنسي، يموّل من نسبة من عائدات الإعلانات العامّة وضرائب على المنصّات الرقمية العالمية. يجب أن يُدار هذا الصندوق من قبل هيئة مستقلة تحتوي على ممثلين عن القطاع الإعلامي والأكاديميين.

تشجيع الصحافة الاستقصائية: عن طريق تخصيص منح تنافسية للتحقيقات الاستقصائية، على شاكلة برنامج “برتقال” في هولندا الذي يدعم مشاريع صحفية معمّقة. كما يمكن إنشاء وحدات تحقيق خاصة داخل المؤسسات الإعلامية الكبرى بدعم تقني من منظمات دولية مثل “مركز التحقيقات الاستقصائية”.

رابعًا: حماية الصحفيين وتطوير القدرات

لا يمكن تحقيق إصلاح حقيقي في قطاع الإعلام دون ضمان سلامة العاملين فيه. وبناء عليه نقترح:

إنشاء آلية لحماية الصحفيين: يمكن الاستفادة من نموذج “لجنة حماية الصحفيين” الدولية لتأسيس هيئة وطنية تهدف إلى تقديم الحماية القانونية والنفسية للصحفيين المعرّضين للمخاطر. ويجب أن تشمل هذه الحماية تقديم دعم قانوني مجاني وتوفير أماكن آمنة في حال وجود تهديدات مباشرة.

تطوير التعليم الإعلامي: من المهم دمج مادة “التربية الإعلامية” في المناهج الدراسية، وهو ما نجحت في تطبيقه فنلندا بشكل كبير. كما ينبغي تعزيز برامج التدريب المستمر للصحفيين، لا سيما في مجال الأمن الرقمي والصحافة الاستقصائية.

خامسًا: الإصلاح الاقتصادي لقطاع الإعلام

تشكّل القضايا الاقتصادية تحدّيًا كبيرًا للإعلام التونسي. وفي هذا السياق نقترح:

إصلاح نظام الإعلان العام: ينبغي إنشاء هيئة مستقلّة تتولّى توزيع الإعلانات الحكومية بشكل عادل ودون التأثر بالاعتبارات السياسية. يمكن الاستفادة من نموذج نيوزيلندا الذي يعتمد على معايير مهنية بحتة لتوزيع الإعلانات.

تنويع مصادر التمويل: ينبغي تشجيع النماذج الاقتصادية الجديدة مثل التمويل الجماعي والتعاونيات الإعلامية التي أثبتت نجاحها في العديد من الدول. كما يمكن استكشاف فرص التعاون مع المنصّات الرقمية الدولية بشرط الحفاظ على السيادة الوطنية.

سادسًا: تعزيز البيئة الرقمية للإعلام

مع تزايد أهمية الإعلام الرقمي، بات من الضروري، وبشكل عاجل:

دعم المنصات الإعلامية الرقمية: يمكن ذلك من خلال توفير حاضنات إعلامية متخصّصة تقدّم الدعم الفني والقانوني للمشاريع الجديدة. وقد تكون تجربة “ميديلاب” الفرنسية مرجعًا مفيدًا في هذا المجال.

الرقابة الرقمية : العمل على منع الحجب التعسفي للمواقع الإعلامية، وضمان حق المواطنين في الوصول الحر إلى المعلومات. يتطلب ذلك تحديث القوانين المتعلقة بالإنترنت لتتوافق مع المعايير الدولية.

ويتطلّب تحقيق الإصلاح الإعلامي في تونس، حسب اعتقادنا، مقاربة منهجية تشمل:

  • الإرادة السياسية: من خلال تنفيذ الإصلاحات.
  • تشارك العاملين في قطاع الإعلام والمجتمع المدني: لتشكيل قوة ضغط منظمة.
  • التوعية العامة: لتعزيز ثقافة الإعلام الحر لدى الجمهور.

تبقى هذه الرؤية الإصلاحية ممكنة التنفيذ إذا ما توفّرت الظروف السياسية المناسبة والتصميم الجماعي على التغيير. وكما أظهرت تجارب دولية، مثل جنوب إفريقيا والبرتغال، يمكن تحقيق تحوّل ديمقراطي في الإعلام عندما تتضافر إرادة الإصلاح بالخبرة التقنية والتضامن المجتمعي.

كلمة الكتيبة:

إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

كلمة الكتيبة:
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتب: د.منجي الخضراوي

صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال

تطوير تقني: بلال الشارني
تظوير تقني: بلال الشارني

الكاتب : د.منجي الخضراوي

صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال

mongi