الكاتب : المولدي ڨـسّـومي
مواطن باحث في مجال علم الاجتماع السّياسي
قد نكون بصدد التفكير بعد الأوان في واقع الإعلام، لأنّه قد يكون تفكيرا بعد إتلاف كلّ فرص الإصلاح التي كانت متاحة بداية من سنة 2011 أكثر من أيّ وقت مضى، إلى أن حلّ نظام الاستثناء فألغاها تماما، ولم يترك مجالا حتّى لأهل القطاع وأصحاب الاختصاص لأن يتداركوا ما فرّطوا فيه من فرص للإصلاح، عندها يكون تفكيرنا بلا جدوى. وفي الآن نفسه لابدّ أن نكون بصدد التّفكير قبل الأوان وفقا لما يتطلّبه واقع الإعلام زمن الجمهوريّة الجديدة من ضرورة إعادة البناء بعدها، لأنّه لا يمكن أن يُبنى في إطارها نظام إعلامي مستقل ضامن لمعايير الفعل الإعلامي الحر ذاتي التدبير والتّعديل.
من هذا المنطلق تميل هذه المساهمة إلى المراوحة بين الوقوف على بعض شروط الإصلاح المُتْـلفة خلال فترة ما قبل نظام الاستثناء وتحديد بعض دواعي إعادة البناء التي فرضها واقع الاجتماع السياسي الرّاهن، وذلك لأنّ ما فرضته السياسة الرسمية على واقع الإعلام اليوم لا يؤهّله لأن يكون في مستوى تطلّعات مجتمع المواطنين اليوم وغدا.
ولكن كيف يمكن أن نقدّم قراءة ورؤية حول واقع الإعلام من منظور غير إعلامي، أي من خارج آليات فهم وأدوات تحليل أصحاب الاختصاص المهني والتخصّص الأكاديمي ونكون ملزمين بأن نبقى في صلب الموضوع، أي موضوع ممكنات إصلاح الإعلام أو موجبات بنائه؟
إذْ هذا الأمر يتطلّب الانطلاق من مجال وقائعي ومعرفي شامل وكلّي وإيلافي Fédératif يكفل للإعلام واقعه وموقعه الثابتين، نقدّر أنّه المجال المعرفي المهيّأ لقراءة حالة الاجتماع الإنساني، فهو الأكثر قدرة على التجسيد السياسي في نطاقه المؤسساتي الأرقى لأهميّة الوسائط، بالنّظر إلى أنّه (الاجتماع السياسي) يُبنى على الفعل التعاقدي الأكثر إلزاما للوساطة Médiation والأكثر تلازما مع الوسائط، لأنّهما (الوساطة والوسائط) من أساسيات البناء التعاقدي الذي يعرف أرقى تجلّياته في الاجتماع السياسي.
الكاتب : المولدي ڨـسّـومي
مواطن باحث في مجال علم الاجتماع السّياسي
قد نكون بصدد التفكير بعد الأوان في واقع الإعلام، لأنّه قد يكون تفكيرا بعد إتلاف كلّ فرص الإصلاح التي كانت متاحة بداية من سنة 2011 أكثر من أيّ وقت مضى، إلى أن حلّ نظام الاستثناء فألغاها تماما، ولم يترك مجالا حتّى لأهل القطاع وأصحاب الاختصاص لأن يتداركوا ما فرّطوا فيه من فرص للإصلاح، عندها يكون تفكيرنا بلا جدوى. وفي الآن نفسه لابدّ أن نكون بصدد التّفكير قبل الأوان وفقا لما يتطلّبه واقع الإعلام زمن الجمهوريّة الجديدة من ضرورة إعادة البناء بعدها، لأنّه لا يمكن أن يُبنى في إطارها نظام إعلامي مستقل ضامن لمعايير الفعل الإعلامي الحر ذاتي التدبير والتّعديل.
من هذا المنطلق تميل هذه المساهمة إلى المراوحة بين الوقوف على بعض شروط الإصلاح المُتْـلفة خلال فترة ما قبل نظام الاستثناء وتحديد بعض دواعي إعادة البناء التي فرضها واقع الاجتماع السياسي الرّاهن، وذلك لأنّ ما فرضته السياسة الرسمية على واقع الإعلام اليوم لا يؤهّله لأن يكون في مستوى تطلّعات مجتمع المواطنين اليوم وغدا.
ولكن كيف يمكن أن نقدّم قراءة ورؤية حول واقع الإعلام من منظور غير إعلامي، أي من خارج آليات فهم وأدوات تحليل أصحاب الاختصاص المهني والتخصّص الأكاديمي ونكون ملزمين بأن نبقى في صلب الموضوع، أي موضوع ممكنات إصلاح الإعلام أو موجبات بنائه؟
إذْ هذا الأمر يتطلّب الانطلاق من مجال وقائعي ومعرفي شامل وكلّي وإيلافي Fédératif يكفل للإعلام واقعه وموقعه الثابتين، نقدّر أنّه المجال المعرفي المهيّأ لقراءة حالة الاجتماع الإنساني، فهو الأكثر قدرة على التجسيد السياسي في نطاقه المؤسساتي الأرقى لأهميّة الوسائط، بالنّظر إلى أنّه (الاجتماع السياسي) يُبنى على الفعل التعاقدي الأكثر إلزاما للوساطة Médiation والأكثر تلازما مع الوسائط، لأنّهما (الوساطة والوسائط) من أساسيات البناء التعاقدي الذي يعرف أرقى تجلّياته في الاجتماع السياسي.
من ناحية أخرى لا ينبغي اعتبار أّنّ قضيّة إصلاح واقع الصّحافة والإعلام في تونس هي قضيّة قطاعيّة مهنيّة خالصة، بل هي مسؤولية مجتمعيّة وجوهرها مواطني، وبالتّالي هي جوهر الاجتماع السياسي الذي يعاد بناؤه بنمطين مختلفين ومسارين متغايرين تماما خلال عشر سنوات (اعتبارا للتّأسيس بمقتضى دستور 2014 وإعادة التّأسيسي بمقتضى الدّستور الممنوح الذي ألغاه سنة 2022).
فتنشئة المتلقّي على مبادئ الإعلام الحر والمستقل فضلا عن استيعاب قيم المهنة وميثاق شرفها من أسس المسؤوليّة المواطنيّة والمجتمعيّة، لأنّها ستمكّن الأفراد من القدرة على الفرز بالقبول والرّفض على قاعدة الجودة والمصداقيّة المحكومتين بثقافة الصّحفيّين السّياسيّة والمجتمعيّة العامّة، وآدابهم السّياسيّة والإعلاميّة العامّة، فضلا عن مسؤوليّتهم السّياسيّة والمجتمعيّة العامّة. وبالتالي فإنّ الإعلام هو الإطار الوسائطي لكلّ أشكال السلطة التعديليّة ولكلّ أنماط السلطة المضادّة، وهو الفضاء المؤهّل لممارسة الاعتراض العمومي على انحرافات السّّلطة.


تبعا لمساري بناء الاجتماع السياسي وإعادة بنائه في مرحلتين متتابعتين، سوف نعالج الموضوع في محورين: يتناول أوّلهما مسألة الانتقال الإعلامي في سياق تجربة الانتقال الدّيمقراطي المعطوب لأنّه لم يحقّق الانتقال إلى الدّيمقراطيّة وادّى إلى إتلاف شروط الإصلاح.
ويتناول المحور الثاني واقع الإعلام زمن الجمهوريّة الجديدة وإعادة بناء الاجتماع السياسي بطريقة مخلّة بمبادئ التّأسيس التّعاقدي وما ترتّب على ذلك من تقويض لكلّ مكاسب التجربة الدّيمقراطيّة السابقة – وإن كانت رخوة – وإرساء معالم نظام الاستثناء الذي ألغى كلّ الوسائط وحوّل كلّ السّلط إلى وظائف، بما في ذلك السلطة الرّابعة. يعني أننا سنتطرق إلى واقع الإعلام خلال زمنيتين سياسيتين: زمنية الدّيمقراطيّة الرّخوة، وزمنيّة الفاروقيّة الجديدة.
أوّلا- واقع الإعلام في سياق الدّيمقراطيّة الرّخوة
نطرح في هذا المحور مسألة الانتقال الإعلامي زمن التجربة الدّيمقراطيّة ونتطرّق إلى معيقات انبثاق السلطة الرّابعة سواء بصفتها سلطة تعديليّة أو سلطة اعتراض عمومي مضاد. وتبرز أهمية هذا التناول من الأهمية المزدوجة التي كان يحتلّها قطاع الإعلام لحظة انطلاق المسار الانتقالي. فخلال هذه المرحلة، وبشكل استثنائي، تميّز قطاع الإعلام، بوضعيته المزدوجة في مسار الانتقال السياسي مهما كانت منطلقات هذا الانتقال (إصلاحيّة أو ثورية أو انقلابيّة) ومهما كانت مآلاته (ديمقراطيّة أو دكتاتوريّة):
- وضعية النّوابض المحرّكة للانتقال وهي الوضعيّة التي يتميّز بها عن بقية القطاعات. وإزاء هذه الوضعيّة نبحث عن مساهمة الإعلام في وضع أسس البناء التّأسيسي الجديد.
- وضعية القطاع المشمول بالانتقال السياسي وبنتائجه ومآلاته مهما كانت طبيعتها (ديمقراطيّة أو دكتاتورية). وإزاء هذه الوضعيّة نبحث عن مكاسب الإعلام من التّأسيس الجديد، وبالتّالي آثار التّأسيس الجديد على إعادة بناء النّظام الإعلامي.
بناء على هذه الوضعيّة المزدوجة، وعطفا على أنّ الإعلام هو المجال الإيلافي الأهم على الإطلاق بين جميع النخب والأدوار والوضعيات والقطاعات من داخل وظيفته الوسائطيّة الشاملة والعامّة، فلا يمكن الاستجابة لأيّ تحدّ متّصل بإعادة بناء نمط الاجتماع السياسي دون واقع إعلامي كفيل بتأمين الدّور الوسائطي العام والشامل على أساس الحرية والاستقلاليّة التّامتين. وهذا ما وضع الإعلام أمام تحدّي المساهمة في بناء إحدى الدّيمقراطيتين على قاعدة أيّهما أصلح لإعادة بناء الحياة السياسيّة، وهما الديمقراطيتان اللتان يمكن أن نختبر على كل منهما الوضعيّة المزدوجة للإعلام:
- الدّيمقراطيّة الأداة، أي الدّيمقراطية في حدود كونها وسيلة للتّداول على السلطة، أو بوصفها أداة للوصول إلى السّلطة.
- الدّيمقراطيّة الغاية، أي الدّيمقراطيّة باعتبارها إطارا عامّا ووعيا كليّا وحالة شاملة يتّسم بها المجتمع ويتشكّل في نطاقها وعلى قيمها العقل السياسي الذي يقود عمليّة إعادة التّأسيس الجديد.
وبناء على اختيار إحدى الدّيمقراطيتين يكون الإعلام أمام تحدّ إضافي في علاقته الوظيفيّة والبنيويّة بالرّأي العام الذي يمثل مجاله الحيوي ومجال فعله الرّئيسي. ويتمثّل هذا التحدّي في المراهنة على أحد اختيارين: إمّا على المساهمة في بناء الرّأي العام ومرافقته بكلّ حياد وفق ما يستوجبه ذلك من القيام بمهمّة السلطة الرّابعة المستقلة، وإمّا على تشكيل الرّأي العام وتوجيهه وتوظيفه. يتّصل الاختيار الأوّل بالدّيمقراطيّة كغاية، ويتّصل الاختيار الثاني بالدّيمقراطيّة كوسيلة.


إنّ الوضعيّة المزدوجة للإعلام وما تعكسه من أهميّة مضاعفة، والثنائيّة الدّيمقراطيّة التي تمثّل تمرينا إضافيّا للإعلام، يضاف إليها ضرورة الاختيار بين مهمتين متغايرتين تماما للإعلام إزاء الرّأي العام، كلّ ذلك فرض تغيّرا جوهريّا في وضعيّة الإعلامي والإعلام، فقد تغيّرت وضعيّة الإعلامي من الوسيط Médiateur إلى الوسيط الفاعل Médiacteur، وتغيرت وضعية الإعلام من الوساطة Médiation إلى الوساطة الفاعلة Médiaction. يعني أنّ الإعلام في سياق الانتقال السياسي بمواصفات إعادة بناء الاجتماع السياسي ومقوماتها التّأسيسيّة على أرضيّة تعاقديّة تجاوز مقام الدّور الوسائطي المجرّد والمحايد ووضع أمام تحدّي الوسيط الفاعل بمقدّرات السّلطة التعديليّة المسؤولة.
لقد جاء تحدّي الإصلاح الإعلامي وليدا لتسارع الأحداث التي فرضت سعيا فوريّا لمأسسة مساره من خلال إحداث لجنة فرعية في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السّياسي والانتقال الديمقراطي، بالإضافة إلى تكوين هيئة وطنية لإصلاح الإعلام. كما تمّ أيضا إصدار تشريعات اعتبرت ثورية وتحررية بشكل غير مسبوق وهي تتمثل أساسا في المرسومين 115 و116 المنظمين لحرية الصّحافة والاعلام والاتصال السمعي البصري، بعد إلغاء مجلة الصحافة التي وظفت منذ صدورها في 1975 كعصا غليظة لضرب القطاع وتحجيم دوره من خلال ما تضمنته من فصول زجرية.
لم تطرح الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة مشروع المرسوم المنظّم لحريّة الصّحافة والطّباعة والنّشر إلاّ لأنّ مقتضيات السّياق الانتقالي وضرورة انسجام هذا القطاع مع شروط البناء الدّيمقراطي استدعت ذلك. بل إنّ حيويّة مجال الصّحافة والنّشر تجعل منه المختبر الحقيقي لمدى قدرة الاجتماع السّياسي على الدّخول في طور ديمقراطي فعلي. كما أنّ هذا السّياق الانتقالي بُني على ضرورة الاستجابة لمنطق إلغاء المنظومة التّشريعيّة التسلطيّة واستبدالها بمنظومة ضامنة للحريّة ودافعة للبناء الدّيمقراطي.
فالنّظام التسلّطي الممتدّ على كامل أمد الجمهوريّة الفتيّة حوّل الإعلام إلى أداة للتضليل والدّعاية الفجّة وتزييف الحقائق رغم أنّ الفصل الأوّل من القانون عدد 32 لسنة 1975 المؤرخ في 28 أفريل 1975 المتعلق بإصدار مجلة الصحافة المنقح بالقانون الأساسي عدد 85 لسنة 1993 المؤرخ في 2 أوت 1993 ينصّ على أنّ “حرية الصحافة والنشر والطباعة وتوزيع الكتب والنشريات وبيعها مضمونة وتمارس حسبما تضبطه هذه المجلة”. وكما هو بيّن فإنّ هذ الفصل يربط تلك الممارسة بمقتضيات مجلّة الصحافة التي تفوّض سلطة الاختصاص في إسناد “الإجازة” للصحف حسب الفصل 13، إلى وزير الداخلية.


لقد كانت مجلّة الصحافة غير منسجمة مع الواقع السّياسي، ولا مع الحراك الاجتماعي والتحوّلات التكنولوجيّة، ولا مع بروز أساليب صحفيّة جديدة. إذ لم تستطع تكييف العديد من الأفعال والأحداث قانونيا، ممّا دفع ببعض الدوائر القضائيّة إلى الاعتماد على المجلّة الجنائيّة أو مجلّة الاتصالات أو قانون معاضدة المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب، في قضايا متعلّقة بالنشر، إضافة إلى طابعها الزجري من خلال انتشار الأحكام بالسّجن في كلّ أبوابها.
مقارنة بمجلّة الصّحافة القديمة، يعدّ المرسوم 115 المنظّم لحريّة الصّحافة بوّابة الدّيمقراطيّة وحصن الحرّيات، في حدود ما كان متاحا من استعدادات لتطوير العمل وترجمته إلى آليّات تنفيذيّة ضامنة لتطبيق مبادئه. هذا فضلا عن أنّ هذا المرسوم يتّسم بنوع من الشّموليّة والإدماجيّة، مع ضمانات فضّ النّزاعات على أساس التّخفيف من الطّابع الزّجري.
لم يكن تعطّل عمليّة الإصلاح الشّامل والتّغيير الفعلي لقطاع حيوي مثل قطاع الصّحافة وما يدور في مداره من نشاطات، بمنأى عن الوضع السّياسي الذي عرفته تونس وما شابه من انحرافات كادت تنسف التّجربة الدّيمقراطيّة في أكثر من مناسبة. فمنذ انتخاب المجلس الوطني التّأسيسي (23 أكتوبر 2011)، وما ترتّب عنه من تغيير للطّبقة الساسيّة أبدت الترويكا الحاكمة اعتراضا على قوانين الإعلام وصرّح مسؤولون فيها بأنّهم لا يعتبرون المرسومين 115 وتوأمه المرسوم 116 إطارا تشريعيّا لتنظيم قطاعي الصّحافة والإعلام، وكانوا يرفضون تفعيلهما، وذلك برفض إحداث اللجنة الوطنية لإسناد بطاقة الصحفي المحترف وفقا لما ينصّ عليه الفصل الثامن من المرسوم عدد 115، كما كانت حكومة حمّادي الجبالي ترفض إحداث الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري. فقد أثبتت التّرويكا الحاكمة أنّها لا تقبل بأن يكون الوضع الطّبيعي للصّحافة والإعلام هو الوضع الذي يمكّنه من القيام بدور السّلطة المستقلّة التعديليّة المضادّة.
عطّلت حكومة الترويكا تفعيل المرسوم 115 بشتى الطّرق بما فيها المماطلة في إصدار الأمر الترتيبي المتعلّق بإحداث اللجنة الوطنية لإسناد بطاقة الصحفي المحترف، ولم يتمّ الإفراج عنه الّا في جويلية من سنة 2014، مع حكومة مهدي جمعة، أي بعد قرابة الثلاث سنوات من تاريخ نشر المرسوم عدد 115 لسنة 2011، وتمّ لأوّل مرّة تشكيل لجنة يرأسها قاض لم تكن الحكومة ممثلة فيها، بمقتضى الأمر عدد 2849 لسنة 2014، المؤرّخ في 24 جويلية 2014، الذي ينصّ على تعيين أعضاء اللجنة بعد اتفاق بين رئاسة الحكومة، ونقابة الصحفيين، ونقابة الإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل وجامعة مديري الصحف والنقابة التونسية للمؤسّسات الإعلامية.


أمّا بالنسبة إلى المرسوم 116 فقد سعى إلى تنظيم قطاع الإعلام السّمعي البصري على أساس التّعدّدية حسب مبادئ وضوابط مطابقة لأهم المعايير الديمقراطية. ويسعى كذلك إلى حماية المشهد السّمعي البصري وحريته من الانفلات والتجاوزات وكلّ أشكال التجاوز.
ويتضمّن هذا المشروع قسمين كبيرين: قسم أول يذكّر بحرية الاتّصال السمعي البصري وحمايته وفقا للمبادئ والمعايير الدولية. أمّا القسم الثّاني فيضمّ الأحكام المتعلّقة بإحداث هيئة عليا مستقلة لتعديل المشهد الإعلامي السمعي البصري. وعُني هذا المرسوم بتحديد تركيبة هذه الهيئة ومشمولاتها، وهي تقريرية، واستشارية، وأمنية، إضافة إلى اختصاصاتها ونشاطها وتمويلها، وكذلك دورها إزاء النزاعات التي يمكن أن تنشأ في المشهد، ومن ذلك ما يمكن أن يحدث في علاقة بالحملات الانتخابية. وفي الأحكام الختامية، تضمّن المرسوم فصولا حول الوضع الانتقالي الذي تطلّب إحداث الهيئة الوطنيّة المؤقتة لإصلاح الإعلام والاتّصال.
نظرا لحساسيّة هذا القطاع المفرطة وجاذبيّته النّفعيّة للمتراهنين على السّلطة من أحزاب ولوبيّات ماليّة، مقارنة بقطاع الصّحافة، فقد كان عنوان صراعات خفيّة ومعلنة أدّت إلى الانحراف بعمليّة الإصلاح وتبديد مآثرها بالنّظر إلى جدوى السّيطرة على قطاع الإعلام والاتّصال السّمعي البصري السّياسيّة والاقتصاديّة المضمونة والفوريّة بالنّسبة إلى الأحزاب الماليّة ومن يقف وراءها أكثر من قطاع الصحافة والطّباعة والنّشر. لذلك لم تكن بوصلة المتنافسين السّياسييّن تشير كثيرا إلى المرسوم 115 بقدر ما كانت مركّزة كلّيا على المرسوم 116، لأنّه مرسوم صناعة الصّورة والمشهد. وهذا ما يعني أنّه حتّى في علاقة السّياسة بالنّظام الإعلامي الجديد، هناك حالة فصاميّة ومظاهر بارزة للتّعامل مع القطاعين المنظّمين بالفصلين التّوأمين (الفصل 115 والفصل 116) بازدواجيّة المعايير.
تطور المشهد الإعلامي بعد 2011، وبفضل المرسومين 115 و116 ليسجّل وجود 14 قناة تلفزيّة بعد أن كان في حدود الخمس فقط، وقد بلغ عدد الإذاعات 41، أمّا مجموع الصّحف بشتى أنواعها فقد بلغ 228 صحيفة، غير أنّ هذا التطوّر الذي كان ضروريّا فقد كان في وارد الضرورة غير الكافية لأنّه لم يعكس نجاح تجربة إصلاح القطاع إطلاقا، بل كان يحجب انحرافا بها إلى حيث يمكن إعادة إنتاج الفساد الإعلامي وإتلاف شروط الإصلاح ذاتها.


لم يكن مجال المرسوم عدد 115 المهني والتّطبيقي موضوع مناورة سياسيّة أو توظيف حزبي لافتين أو استغلال دعائي، أو حتّى محلّ تجاوز، بالقدر الذي كان عليه الأمر بالنّسبة إلى توأمه، أي مجال المرسوم عدد 116 المهني والتّطبيقي، من قبل الأحزاب السّياسيّة التي حكمت أو شاركت في الحكم، أو المتنفّذة ماليا وشعبيّا حتى في المعارضة.
فقد ظهر بفعل ذلك نوع جديدة من الأحزاب السّياسيّة، أي الأحزاب الإعلاميّة التي لا توجد إلاّ في المنابر التّلفزيّة والمنصّات الإعلامية الموازية، منذ أن استفاد من هذه التّجربة الهاشمي الحامدي (صاحب العريضة الشعبيّة) من خلال قناته التّلفزيّة التي تبثّ من خارج تونس، حيث تمكّن حزبه من الصّعود إلى المجلس التّأسيسي بثاني أكبر كُـتْـلة بعد حركة النّهضة. لذلك فقد استهدفت هذه الأحزاب المجال القطاعي للمرسوم 116 بمنسوب أكثر من توأمه، لأنّ المرسوم 115 يُعنى بجمهور الكتّاب والقرّاء والنّاشرين، بينما يُعنى توأمه بجمهور المتفرّجين. والأحزاب السّياسيّة المنخرطة بدورها في مجتمع الفرجة تعلم أنّ المجتمع التّونسي ليس مجتمع قرّاء بل هو مجتمع مشاهدين. فهو كثير المشاهدة وكثير الانفعال بالفرجة، لأنّه قليل الفعل فضلا عن كونه قليل القراءة. لذلك فما يعنيه المجال القطاعي للمرسوم 116 من أفراد هذا المجتمع وحشود المشاهدين داخله سوى تأمين المشهد الفرجوي لهم عبر الصّورة والحركة القادرتين على استقطاب الجمهور، ومعلوم أنّ جمهور المتفرّجين هو ذاته جمهور النّاخبين.
بالعودة إلى الوضع الإعلامي في نطاقه العام، وعلاقته بالحياة الحزبيّة خاصّة والحياة السّياسيّة عامّة، كانت المواعيد الكبرى مجالا لاختبار الترابط الوظيفي والمنفعي بين ثنائي الإعلام والسّياسة. وهذا ما تثبته الهيئات المعنيّة بالقطاع. فقبيل الانتخابات الرّئاسيّة والتشريعيّة لسنة 2019، وجّهت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) تقريرا للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ينبّه للخروقات الجسيمة المسجلة في تغطية الحملة الانتخابية التشريعية من قبل قناة نسمة وقناة الزيتونة وإذاعة القرآن الكريم التي تذيع بصفة غير قانونيّة. ونبّهت إلى أنّ هذه المؤسّسات تقوم بدور واضح في توجيه إرادة النّاخبين. وهذا ما حصل فعلا، إذ أنّ وصول نبيل القروي – رئيس حزب قلب تونس – إلى الدّور الثّاني من الانتخابات الرّئاسيّة، وحصول حزبه على 38 مقعدا في برلمان 2019 كان نتيجة الدّعاية السّياسيّة التي يقوم بها من خلال بثّه اليومي لبرنامج “خليل تونس” الذي يغطّي الأنشطة الخيريّة للجمعيّة التي تحمل الاسم نفسه.


إنّ ذلك في حدّ ذاته يعدّ خرقا للمرسوم عدد 116 وللقانون الانتخابي، إذ يعدّ توظيفا لوسائل الإعلام في العمل السّياسي. مع العلم أنّ 11 نائبا منتمين إلى كتلة قلب تونس في البرلمان قدّموا استقالتهم منها خلال الأربعة أشهر الأولى من وصولهم إلى المجلس النّيابي، ما يفيد أنّ انضمامهم إلى الحزب منذ البداية كان لمآرب محدّدة لا تخرج عن انتهاز فرصة الوصول ثمّ المغادرة بعد رحلة قصيرة لم تتجاوز سبعة أشهر من الانتماء للحزب قبل الانتخابات وأربعة وعشرا بعدها، حتّى لكأنّهم كانوا يعتدّون (من العدّة). فهذا الحزب لم يظهر في مدار الاستثمار الإعلامي لنبيل القروي إلاّ في شهر فيفري من سنة 2019، أي قبل الانتخابات بسبعة أشهر، وبعد أن رفضت الحكومة التّرخيص لنبيل القروي بتأسيس حزب سياسي، فتسوّغه القروي من صاحبته ليقوم عليه رئيسا ويهبها لقاء ذلك أصوات مريديه في البرلمان لتحظى بمنصب نائبة رئيس المجلس.
وقد سخّر نبيل القروي كلّ إمكانيّاته الإعلاميّة ليصل إلى البرلمان في المرتبة الثّانية بعد حزب حركة النّهضة. غير أنّ قلب تونس (الحزب) انفقع وانشطر وتفرّق أعضاؤه واضمحلّ في سرعة برقيّة تجاوزت توقّعات المتابعين، بعد أن أعلن قيس سعيّد تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النّواب، بل إنّ رئيسه قد غادر البلاد وتوارى عن الأسماع والأنظار، ومثله فعل بعض أعضائه الذين تتوفّر لديهم إمكانيّات الإقامة خارج تونس. وهذا لا يمكن أن يكشف إلاّ عن طبيعة الأحزاب الفقاعيّة Les partis champignons التي يصنّعها الإعلام التحيّلي ولا يضمن ديمومتها.
رغم أنّ الهيئة العليا المستقلّة للإعلام والاتصال السّمعي والبصري أبلغت بتاريخ 18 فيفري 2020 عن إحالتها لملفات هذه القنوات، التي ترى أنّها غير قانونية، على أنظار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورغم اعتبارها صراحة بأنّ استمرار هذه القنوات في البث الخارج عن القانون هو مظهر من مظاهر الفساد، ورغم تأكيدها على أنّ من واجب الدّولة ردعها بكلّ الوسائل، إلاّ أنّ المؤسّسات الموكول لها القيام بهذا الدّور تعاني من شلل تام وضعف كامل حسّا ومعنى أمام سطوة أحزاب المال السّياسي ولوبيّات الإعلام.
ولنا أن نختم هذا الفصل بملاحظة مشهديّة تفتح باب التفكّر في وقوع الإعلام فريسة للسّياسة. وفحوى هذه الملاحظة تتعلّق بتركيبة المنابر الإعلاميّة التي كنّا نتابعها في أغلب الإذاعات والتّلفزات التي تناقش الشّأن السّياسي وتتابع المستجدّات. فهي غالبا ما تكون تركيبة خاضعة للمحاصصة الحزبيّة أو موالية للأحزاب المتنفّذة دون اكتراث بالحياديّة المهنيّة الموجبة للصّحفي أو الإعلامي.


لئن كان هذا المشهد مقلقا لكونه يؤسّس لتقاليد تداخل السّياسي والإعلامي في فضاء ينبغي أن يكون محصّنا بالحريّة والاستقلاليّة وعدم الولائيّة الحزبيّة، بقوّة القانون وبأخلاقيّات المهنيّة الصّحفيّة، فإنّ المفزع هو الذّهنيّة السّياسيّة التي تستهدف الإعلام وتسعى إلى التّأسيس للانفلات من كلّ الضّوابط وفتح أبوابه على مصراعيها لكلّ ذي جاه مالي لينال منه أيّا كانت أهدافه. وهذا ما جعل تجربة الإصلاح توجد بين ثلاثة أطراف غير متوازنة من حيث القوّة والتّأثير. فقراءة الإعلام في مثلّث المال والسياسة وأهل القطاع تبيّن أنّ أهل القطاع هم الحلقة الأضعف على الإطلاق.
تمّت المراهنة على إرساء آليات التعديل الذاتي والحال أنّ الأزمة ليست أزمة تعديل فقط بل إنّ الأزمة الأعمق هي أزمة حسن التّدبير الذّاتي أو الحوكمة الذاتيّة الجيّدة، وهي في جوهرها أزمة استقلالية لكيان الإعلام وبناء آدابه الدّاخليّة التي تحصّنه من الانحرافات. فأزمة التعديل تبقى رهينة موازين القوى بين الإعلام والسّلطة، بينما أزمة التدبير الذاتي هي أزمة آداب ومنظومة قيم ونواميس توحّد المنطق الدّاخلي للقطاع تضبط معايير المهنيّة ومبادئها التوجيهية. لقد كان أهل القطاع هم الحلقة الأضعف في فضاء الصّراع على الإعلام في مواجهة المال والسياسة المتحالفين أو، على الأقل، التي تجمع بينهما رابطة نفعيّة أقوى من الرابطة المهنيّة التي لم توحّد المهنيين وأصحاب القطاع على منظومة قيميّة ونواميس أخلاقيّة تحصّن الإعلام من التّوظيف. لذلك فإنّ سعي أهل القطاع إلى أن يكونوا سلطة تعديليّة لا جدوى منه إذا لم يتمكّنوا من التّحصين القطاعي من سطوة المال ونفوذ السياسة.
محصّلة القول وحصيلته أنّ أهل القطاع الإعلامي، ككل النخب الأخرى، فاجأتهم الحريّة فلم يحسنوا التّصرف فيها وانخرطوا في الأخطاء العامة التي ارتكبها جمهور السياسة عموما، فأتلفوا شروط الإصلاح التي كانت متاحة بشكل غير مسبوق، وهي التي لم تعد متاحة – زمن الجمهوريّة الجديدة – حتّى في مقوّماتها الأوليّة وملامحها العامّة.


ثانيا- واقع الإعلام زمن الفاروقية الجديدة
الفاروقية التي تأسّست على استئراخ الزمنية السياسية لثاني الخلفاء الرّاشدين ليتم الاحتكام إليها في إعادة التأسيس على غير مقومات العقد الاجتماعي الأكثر تأصيلا للاجتماع السياسي، تعني أنّها لا يمكن أن تبنى على المواطنة بل تبنى على التسليم الإيماني القاطع، لأنّها بهذا المعنى عقيدة لدنيّة وليست نظام حياة من صياغة البشر العاديين في نطاق العمران البشري والاجتماع الإنساني الطبيعيين والتاريخانيين، ولأنّها أيضا إذا تحكّمت في تنميط الدّولة جعلتها دولة من النّمط الأوّلي، والدّولة الأوليّة هي دولة ما قبل العقد الاجتماعي الذي هو حصيلة المشاركة المواطنيّة والإرادة الشعبية العامّة.
وعلى هذا الأساس فإنّ الفاروقيّة الجديدة لا تحتاج إلى مجتمع المواطنين بل تحتاج إلى مجتمع المؤمنين، لأنّها منبثقة عن رسالة خلاصيّة تحتاج من يعتنقها ويؤمن بها إيمانا مطلقا وتعادي من لا يسلّم بها تسليما. ولأنّها بهذه السّمات والخصال فإنّها لا تقبل بأيّ نوع من الوسائط وتنتفي معها كلّ الرّوابط الحدوديّة التي تفصل بين الفاروق وأتباعه، وفي مقدّمتها الميديا لأنّها المنظومة الإيلافيّة لكلّ الوسائط.
لقد ترجم قيس سعيّد بشكل عملي وضعيّة الإعلام زمن الجمهوريّة الجديدة، فهو لم يُـجــر حوارا واحدا مع أيّة وسيلة إعلام تونسيّة منذ تمام المائة يوم الأولى من صعوده إلى سدّة الحكم، رغم أنّه قام بذلك مع قنوات أجنبيّة. وهذه بلا شكّ مسألة حمّالة تأويلات شتّى، من ضمنها ما يوحي بعدم ثقته في الإعلام والحال أنّه لم يعرفه التّونسيّون، ولا جمهوره من النّاخبين بخصاله النّضاليّة زمن الاستبداد، ولا بنشاطه السّياسي في الفضاء العام، ولا بكتاباته الفكريّة والبحثيّة في الاجتماع والسّياسة والاقتصاد… بل عرفوه من خلال حضوره في المنابر الإعلاميّة، تلك المنابر التي قدمته في الصّورة التي قبله بها التّونسيّون رئيسا قبل الانتخابات.
وليس هذا أسوأ من بين احتمالات التّأويل الممكنة، فالأسوأ أنّ أستاذ القانون رئيس الجمهوريّة، في هذا المنحى من التّأويل، لا يعتبر أنّ الإعلام عنصرا فاعلا في بناء الدّيمقراطيّة الحقيقيّة، ولا تصحيح مسار الثّورة، ولا في إرجاع السيادة إلى الشعب، وهي الأهداف الثلاثة التي أصّل عليها انقلاب المَرْطم الدّستوري وذكرها في خطاب الإعلان عن التّدابير الاستثنائيّة مساء يوم 25 جويلية 2021، وبإمكاننا اعتبار أنّ هذه الأهداف الثلاثة المعلنة بمثابة شعارات الجمهوريّة الجديدة ونظام الاستثناء. لذلك بإمكاننا اختبارها على واقع الإعلام في هذا السّياق لندرك أنّ إعلام نظام الاستثناء انتقل بنا من إمكان الاتصال السياسي إلى إكراه الدّعاية والتّوجيه. لقد كان استدعاء المديرة العامة للتلفزة يوم 4 أوت 2023 وتنبيهها إلى ضرورة الانخراط الصريح في الدّفاع عن المسار الذي سطّره بمثابة الإعلان عن تحويل الإعلام العمومي بشكل رسمي ومعلن ليكون آلة دعائيّة للفاروقية الجديدة.


ومع ذلك يمكننا أن نختبر إعلام الجمهورية الجديدة (نقصد به الإعلام الملائم لنظام الاستثناء والذي يعمل قيس سعيّد على إرسائه) على مثلث الدّعاية والتوجيه والاتّصال السياسي. ففي الدّيمقراطيّة، تعدّ كلّ من الدّعاية والاتّصال السياسي والتّوجيه مفاهيم تخدم حركة الخطاب السياسي – باستعمال الميديا الجماهيريّة – بهدف الإقناع وفرض المعنى الذي يراد إيصاله إلى الجماهير.
غير أنّ هذه المصطلحات تمثّل خصوصيّة في ذاتها، فاستعمالها في الأدبيّات العلميّة غير متطابق وغير متجانس تماما مع ما نلاحظه على مستوى الواقع في استخدامها من قبل السياسيّين أو الصّحفيين أو الإعلاميّين عموما. وعليه فإنّ الخصومة الحادّة بين فئتي “الدّعاية” و”الاتّصال السّياسي” أصبحت علنيّة بشكل خاص منذ عشريّة الثمانينات من القرن الماضي. هذه العشريّة التي تميّزت ببناء الاتّصال كنمط مهيمن في المجال السّياسي وما وراءه. وقد تشكّلت هذه الخصومة بين الدّعاية والاتّصال حول معنى توجيه الرّأي العام، يعني القدرة على التّأثير وتغيير أفكار المواطنين أو سلوكهم دون أن يكون لديهم وعي بذلك، وذلك بمخاطبة وجدانهم وشعورهم وانفعالاتهم بدل مخاطبة عقولهم، إضافة إلى استعمال الأكاذيب والتّضليل الإعلامي. بمعنى آخر فإنّ مرجعيّة التّوجيه، بمعناه الاستنقاصي منذ ابتداع موضوع السياسة خلال القرن الثامن عشر، يقود إلى التصنيف السّيء للممارسة السياسيّة والخطاب السياسي.
لقد ظهر أوّل تعريف قانوني لحرّية الاتّصال مع الثّورة الفرنسيّة وذلك في الفصل 11 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن (26 أوت 1789) الذي يمثّل أهمّ مبادئ الثّورة الفرنسيّة: “إنّ حريّة الاتّصال هي الحقّ بالنّسبة إلى كلّ فرد في الاستعمال الحرّ للوسائط حسب اختياره من أجل التّعبير عن أفكاره وإيصالها إلى الآخرين أو من أجل الوصول إلى التّعبير الفكري للآخرين، مهما كانت صفتهم، وفي الحالتين فإنّها شكل ذلك التّعبير وغايته”. يحيلنا هذا التّعريف على جملة الخصائص التي تميّز حرّية الاتّصال في علاقة بحرّيّة التّعبير وحرّية الصّحافة وحرّية الإعلام ويكون تفصيلها على النّحو التّالي:
- هي جزء من حرّية الفكر إذا ما اعتبرنا أنّ هذه الأخيرة هي كلّيّة تساهم في إظهار الفكر وتشكيله في صورة رأي واستدلال بنمط من العقيدة. وحرّية الاتّصال تمثّل جزءا منه، شأنها شأن حرّية التّديّن وحرّية التّعلّم وحرّية التّعبير والممارسة الجماعيّة، وحرّية الاجتماع والتّجمّع والتّظاهر، وحتّى ممارسة الاعتراض العمومي. فحرّية الاتّصال إذن تكوّن هذا الجزء من حرّية التّعبير حيث الأداء يعتمد على استعمال تقنية البث والاتّصال واستخدام المجالات التّقنيّة التي نسمّيها اليوم وسائط.
- هي أكثر من حرّية الصّحافة لوحدها، لأنّها لا تجد مقياسها ودلالتها إلاّ حين تضمّ مجموع تلك الحرّيات الجزئيّة المنتسبة إلى استعمال إحدى الوسائط. كما أنّ حرّية الاتّصال لا تكتمل إلاّ بضمان الحق في اختيار الشّكل والمضمون الاتّصاليّين، وكذلك حرّية استعمال أيّ نمط من الوسائط أو كلّها. كما أنّ حريّة الاتّصال تشترط القدرة على جعل التّعبير عن ذلك الفكر قادرا على الوصول للآخرين دون رقابة. هكذا فإنّ حرّية الاتّصال تأخذ في الاعتبار تعدّد اللّغات وأشكال التّعبير (مثل الخطابة، والكتابة، والإذاعة، والصّورة، والمنشورات، والرّواية، والمعلّقة الحائطيّة، والتّوثيق، والصّور المتحرّكة…) إضافة إلى أنّ حرّية الاتّصال تراعي تعدّد الوسائط منذ الوسائط الورقيّة (الصّحف التي ظهرت منذ القرن السّابع عشر) حتّى الوسائط الرّقميّة (إنترنيت القرن الحادي والعشرين) مرورا بإذاعة القرن العشرين وتلفزيونه.
- هي مختلفة عن حرّية الإعلام من منطلق أنّها مبدأ عام يطبّق على استعمال كلّ أنواع الوسائط بقطع النّظر عن الغايات الموكول إليها تحقيقها، سواء كانت غايات سياسيّة أو علميّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة. وباسم حرّية التّعبير التي تمثّل إحدى تكوينات حرّية الاتّصال وفروعها/ وأشكالها، لا يمكن أن نعتبر حرّية الإعلام مسألة خاصّة أو مجالا استثنائيّا يرفض أن تتحدّد مهمّته قانونيّا. بهذا المعنى فإنّ حرّية الاتّصال تحكم على حرّية الإعلام بأن تضمن أبعاد المواطنة من خلال القانون الخاصّ المنظّم لكلّ من الصّحافة والإعلام السّمعي البصري والمنظومات الأخرى المرافدة (من الرّوافد) المتخصّصة في إعلام المواطنين. هكذا فإنّ حرّية الاتّصال لا تحتفظ بأيّة معالجة خاصّة لكلّ من هذه الوسائط أو لكلّ من هذه الرّسائل.


لذلك أصبحت حرّية الاتّصال والإعلام السمعي البصري مرتبطة بمدى الالتزام بالقوانين التي تحمي تلك الحرية من ناحية، وتحمي الجمهور من إمكانية تجاوز سلطة تلك الحرية من قبل وسائل الاعلام، اذ لم يعد بالإمكان الحديث عن حرية الإعلام دون وجود قوانين. فالقوانين ليست عائقا أمام تطور وسائل الاعلام بل على العكس من ذلك، فهي ضمانة لها.
في تعريف تأليفي مستخلص من عديد المرجعيّات للاتّصال السياسي نعتبر أنّه الفضاء الذي يتمّ فيه تبادل الخطاب بين الفاعلين الثلاثة الذين يملكون شرعيّة التعبير بشكل علني وأمام العموم حول السّياسي، وهم السّياسيّون، والصّحفيون، والرّأي العام عن طريق عمليّات السّبر والاستطلاع. ويمكن أن نستنطق هدفين من هذا التّعريف: يتمثّل الهدف الأوّل في إعادة الاعتبار للجانب الخطابي والرّمزي للسياسة، أي إعادة تأهيل مجموعة من الممارسات التي عانت من تشابهها مع الدّعاية والتباسها بها في إطار أنظمة سياسيّة شموليّة. ويتمثّل الهدف الثّاني في تبديه (وضع الشيء موضع البداهة) فكرة أنّ الاتّصال السّياسي هو الاشتغال السّليم للفضاء العمومي الواسع، ويهدف إلى توسيع مجالات الدّيمقراطيّة.
وهنا يبدو الاتّصال السياسي وكأنّما هو البناء النّظري المثالي للدّيمقراطيّة، بالنّظر إلى أنّ إمكانيّة المواجهة بين هذه الخطابات الثلاث هي دليل الاعتراف بالآخر. هذا التّعريف الحواري الذي يكاد يكون تعريفا تداوليا للاتّصال السياسي يقصي نهائيّا منطقي التّوجيه والدّعاية، لأنّه يفرض على المتلقّي أن يأخذ بعين الاعتبار بقيّة الفاعلين الدّيمقراطيين الشرعيّين.
نتوقّف برهة من التّفكير الاختباري للبحث عن مدى مطابقة هذا التصوّر للاتّصال السياسي للسياسة الاتّصاليّة التي يتّبعها قيس سعيّد. ومنذ البداية يتبيّن أنّه خارج زمن الاتّصال السياسي تماما وأنّه لا يمكن أن يتوافق مع أهمّ شروطه المضمونيّة والإجرائيّة بدءا بانعدام ثلاثة شروط مبيّنة سابقا:
- أوّلا، كون الاتّصال السياسي هو شرط أساسي لاشتغال الفضاء العمومي. وهذا الأمر محسوم سلبيا وبشكل مطلق بالنّسبة إلى سيستام نظام الاستثناء بكلّ مكوّناته ومخرجاته.
- ثانيا، كون الاتّصال السياسي هو فضاء تبادل الخطاب بين الفاعلين الشركاء الذين يملكون شرعيّة التّعبير بشكل علني وأمام العموم حول الشّأن السّياسي. وهو أمر لم يدركه التّونسيّون في رئيسهم منذ أن منحوه شرعيّة الحكم.
- ثالثا، كون الاتّصال السياسي يُبنى على مبدأ الأخذ بعين الاعتبار مساهمة بقيّة الفاعلين الدّيمقراطيين الشرعيّين، حتّى وإن لم يكونوا في السّلطة، وبذلك يكون دليلا على الاعتراف بالآخر من قبل الفاعلين السياسيين الأكثر شرعيّة. فالمنظومة الدّيمقراطيّة لا تنزع الشرعيّة على أي فاعل سياسي لم تمكّنه آلياتها في التّـفويض الشعبي من الحكم، وإن لم تمنحه شرعيّة الحكم فهي لا تنزعها عنه في نطاق العمل السياسي والمشاركة في الشّأن العام، بل إنّ شرعيّة الفاعل السّياسي الذي يصل إلى السّلطة لا تكتمل إلاّ بوجود فاعلين سياسيين منافسين له في ذلك بشكل شرعي.


إنّ الحصيلة الاستخلاصيّة للصّورة الاتّصاليّة المفروضة من قبل قيس سعيّد بمضمونها الإملائي تعكس أنّه يعتبر نفسه الفاعل السياسي الشرعي الوحيد، بينما الآخرون في نظره غير شرعيين. وهو بمقتضى احتكاره لمبدأ الشرعيّة يصبح منخرطا في منطق الدّعاية والتّوجيه حتّى وإن كان يمارسهما في عصر الاتّصال السياسي، هذا فضلا عن كونه لا يتحاور ولا يتواصل مع بقيّة الفاعلين السياسيين الآخرين، ما ينفي عليه منذ البداية الشرط الأساسي لتشكّل أولى مبادئ الاتّصال.
وهذا يثير مفارقة كبرى في علاقة بثنائيّة الزّمن السياسي، والمضمون الاتّصالي لصانع نظام الاستثناء. فالعلاقة بينهما مبنيّة على عدم التّوافق التام. إذ أنّ المضمون الاتّصالي أقرب إلى الزّمن السياسي للأنظمة الشموليّة أو نظام الحكم المطلق، في حين أنّ السّردية الكبرى التي بُني عليها كامل المسار هي “إرجاع السّيادة إلى الشّعب من أجل بناء الدّيمقراطيّة الحقيقّية”.
من أكثر الجُمل تكرارا في خطابات قيس سعيّد، وفي كلّ مناسبة يُسأل فيها من قبل الصحفيين عن ضمانات حريّة التعبير، وفي غيرها من المناسبات، هي قوله بأنّه يجب أن يكون هناك حريّة تفكير قبل أن نتحدّث عن حريّة التعبير. ومأثور القول هذا يفيد أنّه غير مسموح للتّعبير بمضمون نابع من تفكير غير حرّ. وهنا لا نجد المسألة عنده تخرج عن أحد أمرين: إمّا أن يكون تفكيرا منسجما تماما مع توجّهات السّلطة بشكل صريح، فينال صكّ الحريّة. وإمّا أن يكون تفكيرا حرّا بالمعنى العام للحريّة، وهنا نكون في وارد مخالفة توجّهات السّلطة وبالتالي غير منسجم معها، وعدم الانسجام هذا قد يحيل على التفكير غير الحر.
فالتّدخل في تحديد ما إذا كان التّعبير الحرّ هو وليد تفكير حر أو تفكير غير حرّ يتجاوز مجرّد تقييم المضمون المعبّر عنه ويدخل في نطاق تقييد المجالات والموضوعات المسموح بها في التّعبير، ثمّ توجيه مضامين التّعبير بما ينسجم مع أهواء صاحب سلطة التقييم والتقييد والتّوجيه. ولذلك لا نجد الموالين من منادرة النّظام وأنصاره وأهل السمع والطّاعة والمدافعين عنه بكلّ الوسائل مشمولين بهذا التلازم الشرطي بين حريّة العبير وحريّة التّفكير. فالمشمولون بذلك هم فقط الإعلاميون والسياسيون والنشطاء وأصحاب الرّأي المعارضون لأنّهم يفكّرون خارج المنظومة الولائيّة وضدّ براديغم الطّاعة، وفي اتّجاه معاكس لتيّار الإذعان، وهذا لوحده من أبرز ضمانات التّفكير الحر ودلائله. والمنطق السّليم يقضي بألاّ تكون حريّة التّفكير من المطاعن الممكنة أصالة. بل إنّ العكس هو الممكن والصّحيح أيضا، إذ إنّ من يتولّى الدّفاع عن السّلطة هو المطعون في حريّته، وخصوصا إذا تعلق الأمر بتوظيف كلّ الإمكانيات والوسائل لتبرير كلّ ما يصدر عن السّلطة والدّفاع عنها مهما كثرت أخطاؤها وعظمت ذنوبها.


على مستوى الواقع المباشر، ونظرا لما ترتّب عن المرسوم 54 من تعطيل إجرائي للمرسوم 115، ثمّ تعطيل وظيفي للهايكا (الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي البصري) المنبثقة عن المرسوم 116، وما نتج عن التّعطيلين من هيمنة على المنظومة الإعلاميّة، وخصوصا تطويع الإعلام العمومي لخدمة السّلطة، وإلغاء مبدأ التّعديل الذاتي، فإنّ إصدار هذا المرسوم يُعَدّ قطعا للحبل السُرّي بين حرّية التفكير وحريّة التّعبير.
المرسوم عدد 54 لسنة 2022، المؤرّخ في 13 سبتمبر 2022، الذي يتعلّق بمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتّصال، هو مرسوم من مراسيم تطبيق نظام الحكم المعلن بمقتضى الأمر الرّئاسي عدد 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021. وهو يعبّر عن كوجيتو المشرّع من داخل السلطة التنفيذيّة وليس من داخل السلطة التشريعيّة، لأنّ السّلطة الأولى عادة ما تنزع إلى التّضييق والسّيطرة لأنّها تعبّر عن سلطة الحاكم على الشّعب، بينما تنزع السّلطة الثانية إلى التّوسيع لأنّها تعبّر عن سلطة الشّعب المضادّة لسلطة الحاكم. وليس من الضّروري أن تكون مثل هذه “الكواجيت” (جمع كوجيتو) التشريعيّة مرتبطة بحالات الاستثناء أو بغياب البرلمان، بل يمكن أن تكون حتّى من داخل البرلمان عندما يكون هو ذاته يعمل تحت وصاية أو هيمنة السلطة التنفيذيّة مثلما هو حال مجلس نوّاب الشعب المنبثق عن دستور قيس سعيّد، والدّليل على ذلك عدم قدرته على تعديل الفصل 24 من المرسوم 54، إذعانا لرغبة قيس سعيّد في الإبقاء عليه، وقد عبّر عن ذلك صراحة في اجتماعه مع وزيرة العدل عندما تطرّق إلى حادثة اقتحام دار المحامي يوم 11 ماي 2024 لاعتقال المحامية والإعلامية سنية الدّهماني.
فلماذا يمثّل المرسوم 54 خطرا على تنظيم حريّة الاتّصال السّمعي البصري؟ ولماذا يمكن أن نعتبره استهدافا قصديّا لأبرز الحريّات التي تحقّقت في إطار تطوّر الاجتماع السياسي؟ ولماذا يمكن اعتباره وسيلة للرّقابة وفرض سلوك الرّقابة الذّاتية بصورة استباقيّة؟
من أبرز أهداف المرسوم، عدد 54 لسنة 2022، غير المعلنة هو إلغاء السّلطات الاجتماعيّة والمدنيّة التّعديليّة أو المضادّة التّي تمارس في إطار دور الإعلام والجمعيّات والهيئات المدنيّة. وباعتبار أنّ الميديا القديمة والجديدة هي انعكاس لصورة الفضاء العام أو إطار إعادة إنتاجه الفوري، فإنّ التّحكم فيه يدخل في استراتيجيّة التحكّم في الفضاء العام أو تحويله إلى مجال معاضد للخطاب الرّسمي وتوجّهات السّلطة.
لقد أطلقت حرّية الاتّصال والفكر والرّأي بفعل نوعين من التّطوّر: من ناحية أولى بدأ التّشكيك في الوسائط الكلاسيكيّة الكبرى (الصّحافة المكتوبة والإذاعة والتّلفزيون…) لأنّها كانت دوما تحت هيمنة الحكومات والطّبقات الحاكمة، ومن ناحية ثانية بدأ الظّهور التّدريجي للوسائط الجديدة التي توفّر إمكانيّات جديدة وحظوظا أكثر للتّعبير والاتّصال الفكري. هذا التّطوّر المضاعف مكّن من تجاوز الاحتكار الذي تمارسه الحكومات ودعّم عمليّة التّفكير بشكل مخالف في حرّيّة التّعبير وحرّيّة الإعلام. وبالتّالي فإنّ إمكانيّة إتاحة مثل هذه الحرّيات مشروطة بتجاوز المرحلة الاتّصاليّة التي هيمنت خلالها الدّولة على الوسائط، أي أنّها ارتبطت بظهور تقنيات اتّصاليّة عالية الأداء تسمح للفرد بأن يتمتّع بحرّية الاتّصال الفكري واتّصال الرّأي. لذلك فإنّ حرّيّة الرّأي والتّعبير والإعلام هي مسائل ارتبطت بالوسائط الجديدة المتاحة فرديّا وخاصّة المتعلّقة بحرّية إرسال الخطابات وحرّيّة استقبال الرّسائل. ولكن هل يمكن أن نسلّم بأنّ هذه الحرّية تضمن عدم المتابعة أو عدم المراقبة في ظلّ وجود المرسوم 54؟


إنّ المرسوم 54 هو حصيلة التّشريع من داخل منطق السلطة التنفيذيّة. وهنا يبدو أنّ الخلل يكمن في الحالة الفصاميّة التي يعاني منها كوجيتو المشرّع، إذ ينبغي أن نميّز بين نوعين من المشرّعين: نوع يشرّع بذهنيّة زجريّة حتّى وإن كان يسنّ أكثر القوانين ضمانا للحريّة، ونوع يشرّع بذهنيّة تحرريّة حتّى وإن كانت بعض فصول القانون أشدّها زجريّة. الأوّل يمكن أن يحوّل أكثر القوانين مرونة إلى آليّات للرّقابة لتقوم مقام محاكم التفتيش، أو يختار أكثر أحكامها تشدّدا وزجريّة ليكيّف عليها الوقائع. والثّاني يعتبر أنّ أكثر القوانين رقابيّة يمكن تكييفها لكيلا تعطّل صحفيّا أو كاتبا أو باحثا عن إنجاز عمله بكلّ حريّة.
لذلك فإنّ المشكل الحقيقي ليس في وجود فصول قانونيّة يمكن أن تصادر حرّية الصّحافة وما يتّصل بها من نشاطات الكتابة والطّباعة والنشر، بل في مدى إيمان أهل الصّحافة والطّباعة والنّشر، وأهل العلم والمعرفة بحريّة الفكر والإبداع. إذ يمنح المرسوم 115 على سبيل المثال إمكانيّة الاستعاضة عن التّقاضي بالجدل الفكري على معنى الأحكام الواردة في فصليه عدد 39 و40، وهما يضمنان التّصحيح وحقّ الرّد. وممّا يؤكّد أنّ الرّقابة ومصادرة الحريّة ليست مرتبطة بطبيعة القوانين فقط، بل هي مرتبطة بشكل جوهري بمدى قابليّة الفرد في إطار مجتمعه، والذّات البشريّة في إطار إنسانيّتها، والمواطن في إطار دولته، والفاعل الاجتماعي في إطار الحقل الذي ينتمي إليه، لأن يكون حرّا ويدافع عن الحريّة كمبدإ عام ومجرّد ومطلق.
من حيث المبدأ، تكفي المقارنة المختصرة بين عنواني المرسومين وأهدافهما لنقف على الفرق بين من يشرّع لتنظيم الحريّة ومن يشرّع لمكافحة الجرائم. فالمرسوم عدد 115 لسنة 2011 يتعلّق بتنظيم حريّة الإعلام والصّحافة والطّباعة والنشر، والمرسوم عدد 54 لسنة 2022، يتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. ويبدو أنّ الجانب الأكثر إثارة في هذا المنحى يتّصل بالفرق بين من استخرج من مجال الإعلام والاتّصال مهمّة التشريع لتنظيم الحريّة ومن استخرج من نفس المجال مهمّة التشريع لمكافحة الجريمة.
على سبيل الخاتمة ومن دواعي تجاوز فكرة الإصلاح بحتميّة إعادة البناء
نستخلص ممّا تقدّم أنّ كلّ نظام حكم يفرض إعلاما ملائما له، بل لكل نظام حكم إعلامه المتوافق معه، ولا يمكن التسليم بأنّ هناك نظاما إعلاميا لا يعكس طبيعة نظام الحكم وطابعه وشكل الحياة السياسية التي يديرها ويتحكّم في دواليبها. فالدّيمقراطيّة الرّخوة التي ميّزت الحياة السياسيّة للسنوات العشر السّابقة لنظام الاستثناء كانت سياقا ملائما لإعلام منفلت بل لم يكن بالإمكان إلاّ أن يكون إطارا عامّا لمثل هذا النّظام الإعلامي دون غيره. وهذا ما أدّى إلى إساءة التّدبير وإتلاف الشروط المتاحة لإصلاح النّظام الإعلامي بشكل قادر على الثبات والاستمرار في لعب دور الوساطة الفاعلة Médiaction في بناء الدّيمقراطيّة الغاية. دليلنا الإرشادي أنّه زمن الديمقراطيّة الرّخوة وُجد إعلام السيستام وإعلام السّيستام المضاد داخل الاعلام التقليدي والاعلام البديل معا، أمّا زمن الفاروقية الجديدة فقد أصبح الإعلام الرسمي يرسّخ إعلام السيستام داخل المنظومة التقليدية، بينما نواكب تشكّل إعلام السّيستام المضاد كليا داخل الإعلام البديل.
لقد وُضعت تجربة الإصلاح الفارطة تحت تصرّف الأحزاب السياسية القوية وأوليغارشية الحكم، والدّرس المستخلص من ذلك يستوجب تحرير الحقل الإعلامي من الهيمنة السّياسية ومن التبعية المالية وضمان استقلاليته من قبل الإعلاميين دون غيرهم. فالواضح أنّ أزمة الإعلام ثلاثيّة الأبعاد: فهي أزمة الاستقلالية (بناء الكيان الإعلامي وتحقيق استقلاليّته)، وأزمة التدبير الذاتي وحسن التسيير وتحصين القطاع من الدّاخل، وأزمة اكتساب آليات التّعديل الذّاتي.
عندما يُطرح الإصلاح في واقع بهذا التّعقيد، تُطرح معه مسألة معالجة القوانين المنظّمة له والبدء بالإصلاح التّشريعي قبل كلّ شيء، لأنّ الأمر متّصل وظيفيّا وهيكليّا بمدى صلوحيّة تلك القوانين ونجاعتها، ومدى جدوى نتائجها في علاقة بمتطلّبات الجودة وشروطها، ومدى قدرتها على الاستجابة لمتطلّبات القطاع المستقبليّة، وهذا ما تمّ الخوض فيه خلال عشريّة الدّيمقراطيّة الرّخوة ولم يفض إلى النتائج المرجوّة. أمّا عندما تطرح مسألة إعادة البناء فهذا يتّجه على الأرجح إلى معنى التقويض الكلّي للمنظومة الحاليّة وإعادة تأسيسها من جديد على قواعد ومبادئ وأسس بديلة، لأنّها على وضعها الحالي لم تعد تَصْلُح ولا يمكن أن تُصْلَح. وهذا التّقويض أو الهدم التّام من أجل إعادة البناء يتطلّب إرساء منظومة قانونيّة بديلة ومغايرة بشكل جذري لما هو موجود، لأنّها من حيث الصّلاحيّات على الأقل، لا تستجيب للشّروط الضّروريّة لبناء نظام إعلامي متجانس مع مقوّمات الدّيمقراطيّة الغاية المتأصّلة أساسا على فاعليّة المواطنة.
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتب : المولدي ڨـسّـومي
مواطن باحث في مجال علم الاجتماع السّياسي
