الكاتبة : منى المطيبع
صحفية وباحثة في مجال الإعلام
تعدّ شفافية ملكية المؤسسات الإعلامية ومصادر تمويلها من بين العناصر الأساسية التي تمكّن من التحقّق من مدى تنوّع المشهد الإعلامي وتعدّديته أو حماية المؤسسات الإعلامية من الوقوع تحت سطوة اللوبيات السياسية والمالية أو شبهات تضارب المصالح.
وقد صنّفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ”اليونسكو” مسألة شفافية ملكية وسائل الإعلام ضمن المؤشّرات ذات الأولوية المعتمدة لتطوير وسائل الإعلام، تحت عنوان ”التعدّدية وتنوّع وسائل الإعلام والاتصال”، بما يقتضي تشجيع الدولة على ضمان تنوّع المشهد الإعلامي ومنع تركّز الملكية وتوظيف المنشآت الإعلامية، سواء كانت منشآت حكومية أو خاصة أو جمعياتية.
في السياق التونسي، وعلى الرغم من التشريعات المعتمدة في هذا المجال التي تنظّم الزامية شفافية ملكية المؤسسات الاقتصادية عموما ومن بينها المؤسسات الإعلامية ما يزال القطاع الإعلامي يعاني من ضبابية كبيرة في هذا المجال إذ يصعب تحديد هويّة الفاعلين فيه والمالكين للمؤسسات الإعلامية أو مصادر تمويلها، نتيجة ضعف الالتزام بضوابط النشر والإفصاح التّي نصّت عليها التشريعات، من ذلك مجلّة الشركات التجارية أو القانون المنظّم للسجل الوطني للمؤسّسات وكذلك النصوص التي تجرّم الفساد وغسيل الأموال.
من هذا المنطلق، تهدف هذه الورقة البحثية إلى استقراء مدى التزام المؤسسات الإعلامية باحترام الحدّ الأدنى من الشفافية في مجال الملكية القانونية وكذلك الجوانب المالية، ورصد انعكاسات غياب الشفافية على مسارات الإصلاح التّي تشمل القطاع الإعلامي، لاسيما في ظل المخاطر المرتبطة بالتأثيرات السياسية والمالية.
الكاتبة : منى المطيبع
صحفية وباحثة في مجال الإعلام
تعدّ شفافية ملكية المؤسسات الإعلامية ومصادر تمويلها من بين العناصر الأساسية التي تمكّن من التحقّق من مدى تنوّع المشهد الإعلامي وتعدّديته أو حماية المؤسسات الإعلامية من الوقوع تحت سطوة اللوبيات السياسية والمالية أو شبهات تضارب المصالح.
وقد صنّفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ”اليونسكو” مسألة شفافية ملكية وسائل الإعلام ضمن المؤشّرات ذات الأولوية المعتمدة لتطوير وسائل الإعلام، تحت عنوان ”التعدّدية وتنوّع وسائل الإعلام والاتصال”، بما يقتضي تشجيع الدولة على ضمان تنوّع المشهد الإعلامي ومنع تركّز الملكية وتوظيف المنشآت الإعلامية، سواء كانت منشآت حكومية أو خاصة أو جمعياتية.
في السياق التونسي، وعلى الرغم من التشريعات المعتمدة في هذا المجال التي تنظّم الزامية شفافية ملكية المؤسسات الاقتصادية عموما ومن بينها المؤسسات الإعلامية ما يزال القطاع الإعلامي يعاني من ضبابية كبيرة في هذا المجال إذ يصعب تحديد هويّة الفاعلين فيه والمالكين للمؤسسات الإعلامية أو مصادر تمويلها، نتيجة ضعف الالتزام بضوابط النشر والإفصاح التّي نصّت عليها التشريعات، من ذلك مجلّة الشركات التجارية أو القانون المنظّم للسجل الوطني للمؤسّسات وكذلك النصوص التي تجرّم الفساد وغسيل الأموال.
من هذا المنطلق، تهدف هذه الورقة البحثية إلى استقراء مدى التزام المؤسسات الإعلامية باحترام الحدّ الأدنى من الشفافية في مجال الملكية القانونية وكذلك الجوانب المالية، ورصد انعكاسات غياب الشفافية على مسارات الإصلاح التّي تشمل القطاع الإعلامي، لاسيما في ظل المخاطر المرتبطة بالتأثيرات السياسية والمالية.


المنهجية
تعتمد هذه الدراسات على المنهج المسحي الذي يناسب الدراسات الوصفية في الحقل الإعلامي من خلال جمع البيانات من المصادر المفتوحة والتّي تنشرها طوعيّا المؤسسات الإعلامية في تونس على مواقعها الإلكترونية أو ضمن نشراتها الورقية إلى جانب ما يتوفر من المعطيات التي يتمّ إيداعها بمنصّة السجل الوطني للمؤسسات، وفقا لمقتضيات مجلة الشركات التجارية أو المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلّق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، أو القوانين الأخرى المنظّمة لشروط وإجراءات إنشاء المؤسسات الاقتصادية عموما.
وقد تمّ تحديد عيّنة البحث بالاستناد إلى قائمة المؤسسات الإعلامية الصادرة عن اللجنة المستقلة لإسناد البطاقة الوطنية للصحفي المحترف لسنة 2024. وشملت الدراسة 49 مؤسسة إعلامية، من مجموع الـ63 مؤسسة التّي ينتمي إليها الصحفيون المحترفون. وتتوزّع عيّنة البحث كالآتي:


وتمّ، في إطار هذه الورقة البحثية، استبعاد 14 مؤسسة إعلامية، (من بينها 4 مؤسسات توقّفت عن النشاط وكذلك مؤسّسات الإعلام العمومي، والمؤسّسات المصادرة وأخرى صنّفتها اللجنة الوطنية تحت عنوان “دوريات مختلفة”) باعتبار أنّ تحليل المعطيات التي تهمّ ملكيّتها ومصادر تمويلها تستوجب معالجة خاصة أو بسبب الصعوبات التي واجهتنا في الحصول على المعطيات الدقيقة بالاعتماد على البيانات المفتوحة.وتنقسم هذه الورقة إلى جزئين رئيسيين:
القسم الأول، يتناول تحليلا عاما لتطوّر مؤشر ملكية وسائل الإعلام في تونس والقوانين ذات الصلة. أمّا القسم الثاني، فيقترح قراءة في مدى التزام المؤسسات الإعلامية بمعايير شفافية ملكية القانونية وإجراءات الإفصاح عن مواردها المالية.
كما تتضمن الورقة البحثية جملة من التوصيات والمقترحات، في علاقة بشفافية ملكية وسائل الإعلام خاصة وأنّه من العسير وضع خطّة عملية لإصلاح قطاع الإعلام دون أن نكون على بيّنة، بشكل دقيق وواضح وموثّق، من هويّة الفاعلين في القطاع الإعلامي وخاصة منهم أصحاب المؤسسات الإعلامية.


المحور الأول:
من الاحتكار المطلق إلى “الانفتاح” المشروط
شهدت الساحة الإعلامية في تونس تطورا تدريجيا في مجال ملكية وسائل الإعلام حيث انتقلت من مرحلة “الاحتكار المطلق للدولة” إلى “التمازج الانتقائي والمشروط” لمؤسسات محدثة في القطاع الخاص، وفق نسق تصاعدي. ويمكن أن نتبيّن أربع مراحل رئيسية من ذلك:
1. مرحلة احتكار الدولة المطلق لملكية المؤسسات الإعلامية (1956-1980): تركزت ملكية وسائل الإعلام خلال فترة بناء دولة الاستقلال على القطاع العمومي، من خلال انشاء مؤسسات اعلامية عمومية كبرى، نذكر منها “وكالة تونس إفريقيا للأنباء” (سنة 1961) و”مؤسسة التلفزة التونسية” (سنة 1966)، إلى جانب إنشاء بعض الإذاعات المحلية منها “إذاعة صفاقس” (سنة 1961) و”إذاعة المنستير” (سنة 1977). وبالتوازي سعت الدولة إلى تأميم مؤسسات اعلامية كان يمتلكها أجانب، خلال الفترة الاستعمارية، من بينها “مؤسسة الإذاعة التونسية”، التي تأسّست سنة 1936 أو الصحيفة اليومية ” لابريس” في طبعتها الصادرة باللغة الفرنسية.
2. مرحلة التعددية الإعلامية المحدودة (1981-1990): اتّسمت فترة التسعينات بديناميكية سياسية فسحت المجال لبروز التعددية الحزبية في أعقاب أفول حكم بورقيبة سنة 1987. وقد سمحت السّلطة الحاكمة آنذاك بإصدار عدد من الصحف اليومية منها “الشروق” (سنة 1987-خاصة) و”الصحافة” (سنة 1989-عمومية) و”الشعب اليومية-الاتحاد العام التونسي للشغل) إلى جانب إصدار مجموعة من الصحف الحزبية منها ” الفجر” (إسلامية) و”البديل” (اليسار).
كما تميّزت تلك الفترة بتضاعف عدد الدوريات التي كانت غالبيتها “صحافة صفراء” ذات محتوى متدنّي يغلب عليه الطابع الإشهاري ويهدف بالأساس إلى استقطاب العدد الأكبر من القراء.
3. مرحلة الانفتاح “الانتقائي والمشروط” (1990-2010): شهدت المؤسسات الإعلامية خلال هذه المرحلة ركودا وتراجعا لمؤشر التعددية وتنوّع المشهد الإعلامي بعد اختفاء العديد من العناوين السياسية والصحف الحزبية إلى جانب تراجع عدد القراء بالتوازي مع ظهور عادات جديدة في مجال استهلاك المضامين الإعلامية. خلال هذه الفترة كان الاهتمام متوجّها نحو الإعلام السمعي والبصري وخاصة الإعلام الأجنبي، ومنها بالخصوص قناة “الجزيرة”.
وسجلت هذه المرحلة نشأة أولى المؤسسات الإعلامية الخاصة، حيث منحت السلطة الحاكمة إجازات في المجال السمعي والبصري لعدد من أفراد العائلة الحاكمة دون الإفصاح عن شروط هذا الامتياز أو عن محتوى العقود التي تمّ ابرامها في هذا الخصوص. وبقيت بذلك، ملكية المؤسسات الإعلامية، فعليا، تحت سيطرة السلطة الحاكمة بشكل مباشر أو غير مباشر. ونذكر من بين هذه المؤسسات “موزاييك اف ام” (2003) و”اكسبريس اف ام” (2010) والإذاعة الجهوية الخاصة “جوهرة اف ام” (2005). أمّا في المجال التلفزي فقد منح هذا الامتياز إلى “قناة حنبعل” (سنة 2005 ) وقناة “نسمة” (سنة 2007).
4. مرحلة ما بعد الثورة (2011-2025): كان من أولى تبعات ثورة 14 جانفي 2011، تفكيك منظومة السلطة الحاكمة والحزب الحاكم للهيمنة على قطاع الاعلام. وتميّزت هذه الفترة بظهور عديد المؤسسات الإعلامية الخاصة التي استفادت من حالة الفوضى واللاقانون التّي سادت الساحة الإعلامية آنذاك، نظرا للفراغ القانوني وعدم وضوح مسارات إسناد الإجازات للمؤسسات الإعلامية وإجراءات تنظيمها.
كما تميّزت تلك المرحلة بطفرة غير مسبوقة في مجال الإعلام الالكتروني الذي استفاد بشكل كبير من الثورة التكنولوجية في مجال الإعلام والاتصال. وبرزت خلال تلك الفترة مؤسسات الإعلام الجمعياتي حيث تمّ الإعلان عن إنشاء ما لا يقل عن 10 قنوات إذاعية جمعياتية. كما تحوّلت العديد من عناوين الصحافة المكتوبة إلى مواقع إعلامية، في ظلّ غياب شبه الكلي لأيّة نصوص قانونية تنظّم القطاع.


المحور الثاني:
ضوابط ملكية المؤسسات الإعلامية
تستند ملكية المؤسسات الإعلامية إلى جملة من النصوص القانونية التّي تحدّد في الغالب شروط وظروف إنشاء المؤسسات الاقتصادية بشكل عام، ومنها المؤسسات الإعلامية. كما تضبط هذه التشريعات إجراءات ضمان شفافية ملكية المؤسّسات الاقتصادية في مرحلة التأسيس ولكن أيضا عند المراحل اللاحقة من خلال تحيين الوثائق الرسميّة المودعة بالسجل الوطني للمؤسسات. وتتمثّل هذه الإجراءات بالأساس في الإفصاح عن هيكلة رأس المال وهوية المالكين والمساهمين إلى جانب توثيق أيّة تغييرات قد تطرأ في هذا الجانب. ويمكن تلخيص أبرز النّصوص التّي تناولت هذه الجوانب كما يلي:
قانون عدد 52 لسنة 2018 مؤرخ في 29 أكتوبر 2018 المتعلّق بالسجل الوطني للمؤسسات : تضمّن هذا القانون مفهوم “المستفيد الحقيقي” بهدف منع تخفّي أطراف وراء واجهات صوريّة يكون لها السّيطرة الحقيقية على القرارات التحريرية والمالية. وقد تمّ اعتماد هذا المفهوم أيضا في إطار مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال حيث تمّ الرّفع من مستوى المتطلّبات الرقابيّة على المؤسسات التّي يمكن أن تستخدم كغطاء لغسيل الأموال، ومنها المؤسسات الإعلامية.
ويمكن الاطّلاع على الوثائق الخاصّة بملكية المؤسسات الإعلامية لدى السّجلّ الوطني للمؤسسات، إلاّ أنّه من الضروري الإشارة إلى أنّ هذه الخدمة تبقى منقوصة في غياب التحيين المنتظم للبيانات وفقا لما تنصّ عليه التشريعات.
المستفيد الحقيقي يُعرّف على أنه: «كل شخص طبيعي يملك أو يمارس رقابة أو سيطرة فعلية نهائية مباشرة أو غير مباشرة على الشخص المعنوي أو الترتيب القانوني أو على هياكل الإدارة أو التصرف أو التسيير وهو كل شخص طبيعي تنجز العمليات نيابة عنه ولفائدته عن طريق شخص طبيعي أو معنوي أو ترتيب قانوني وهو كذلك كل شخص طبيعي له صفة شريك أو مساهم أو عضو في شخص معنوي أو في ترتيب قانوني قيمة مساهمته في رأس المال أو حقوق الاقتراع تمكّنه من السيطرة الفعلية عليه”.
قانون عدد 93 لسنة 2000 مؤرخ في 3 نوفمبر 2000 المتعلق بإصدار مجلة الشركات التجارية : ينصّ هذا القانون على ضرورة الترسيم بالسجل الوطني للمؤسسات والإشهار بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية كشرط أساسي لتكوين المؤسسات الاقتصادية عموما ومنها المؤسسات الإعلامية. وتنصّ الفصول 11 إلى 41 على الشروط الضرورية التي تضعها المجلة كأسس لإنشاء المؤسسات والضوابط القانونية والإدارية المتعلقة بالشفافية والحوكمة.
قانون عدد 36 لسنة 2015 مؤرخ في 15 سبتمبر 2015 المتعلق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار : يوفّر هذا القانون الآليات القانونية التي تمكّن مجلس المنافسة من رصد عمليات التركيز الاقتصادي أو السيطرة غير المشروعة على القطاعات الاستراتيجية. وتعتبر عملية شراء أو دمج وسائل إعلام من قبل جهة واحدة مؤشرا على خطر المركزة الإعلامية وضربا لاستقلالية المؤسسات الإعلامية.
المرسوم عدد 115 لسنة 2011 مؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر : يتضمّن الفصل 23 عددا من الأحكام التي تتعلق بالشفافية من خلال إخضاع كل دورية ذات صبغة إخبارية جامعة لواجب نشر هوية الأشخاص الطبيعيين المالكين لرأس مال المؤسسة الإعلامية واسم المدير المسؤول وكذلك الشكل القانوني للمؤسسة واسمها الاجتماعي ومقرها ومدتها.
مرسوم عدد 116 لسنة 2011 مؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري : نصّ المرسوم على ضرورة تجنب تركّز ملكية وسائل الاتصال السمعي والبصري وإرساء منافسة نزيهة في القطاع (الفصل 15). كما كانت الضوابط الخاصة بإنشاء المؤسسات الإعلامية في المجال السمعي والبصري أكثر صرامة حيث فرضت الهيئة، من خلال كراسات الشروط، جملة من العناصر لضمان شفافية الملكية، من ذلك:
- تقديم تصريح موثّق بعدم الانتحال أو الانتماء الصوري.
- إشعار الهيئة مسبقًا بأيّ تغيير في تركيبة رأس المال أو نقل للأسهم.
- منع عمليات الإحالة دون ترخيص مسبق.
أمّا بخصوص مصادر التمويل، فقد نصّت كراسات الشروط على أن يتمّ مدّ الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بمجمل المعطيات المحيّنة التي تهمّ:
- مداخيل الإشهار و الارساليات القصيرة ومختلف مصادر التمويل والمداخيل الأخرى،
- القوائم المالية للشركة المستغّلة للقناة مختومة بتاريخ 31 ديسمبر للسنة المنقضية
- القائمة المحيّنة للمساهمين في رأس مال الشركة
- كلّ الاتفاقيات المبرمة بين المساهمين أو الشركاء مهما كان شكلها أو موضوعها،


المحور الثالث:
شفافية ملكية وسائل الإعلام، ضعف الالتزام وقصور المتابعة الإدارية
على الرغم من بديهية الالتزامات المحمولة على أصحاب المؤسسات الإعلامية في مجال شفافية الملكية، إلاّ أنّنا نجد فجوة كبيرة بين النصّ القانوني والتطبيق العملي. وقد أظهر الجرد المنجز في إطار هذه الدراسة، أنّ المعطيات المتعلّقة بالملكية القانونية ومصادر التمويل، كانت في الغالب إمّا منعدمة تماما أو أنّها وردت منقوصة في أغلب الأحيان.
وقد تبين، أنّ عددا محدودا من المؤسسات الإعلامية قامت بالإفصاح عن الهويّة القانونية للمؤسسة دون تقديم الشكل القانوني لها أو إضافة المعرّف الذي يمكن استخدامه للحصول على معلومات أكثر دقّة حول المؤسسة.


وتتكتّم أغلب المؤسسات على الإفصاح عن الاسم القانوني والاجتماعي للمؤسسة الإعلامية ما يجعل البحث في مدى احترامها للضوابط التي تهمّ هيكلة رأس مالها أو الاطلاع على ملف المساهمين فيها مسألة معقّدة وغير متاحة.
وتمتدّ هذه الضبابية لتشمل كذلك المدير المسؤول، حيث لا تفصح أغلب المؤسسات الإعلامية عن هويّته بالرغم من أهميّة هذه المعطيات التّي تسمح بالتأكّد من عدم وجود تضارب مصالح إلى جانب إمكانية تحديد المسؤولية في ما تنشره أو تبثّه المؤسسة الإعلامية.


ويكتسي هذا الجانب أهميّة خاصة بالنظر إلى الضوابط التي جاءت في الفصل 17 من المرسوم عدد 115 الذي ينصّ، بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، على ضرورة “أن يتمّ الفصل في كلّ مؤسسة تصدر دورية بين وظيفتي الإدارة والتحرير” إلى جانب ضرورة أن يكون لكل دورية “مدير للتحرير يمارس مهامّه اعتمادا على هيئة تحرير إذا لم تكن لمديرها صفة الصحفي المحترف”، وهي جوانب لا يمكن التحقّق منها في ظل التكتّم شبه الكامل عن هوية المسؤول الأوّل وهويّة “المستفيد الحقيقي”.
ويعتبر الإفصاح عن هويّة المالك الحقيقي للمؤسسة الإعلامية من المعطيات المهمّة خاصة أنّها تمكّن من تقييم التوجهات الأساسية للمؤسسة الإعلامية وخطها التحريري إلى جانب عدم تضارب المصالح، باعتبار أنّه يمنع على أصحاب المؤسسات الإعلامية المساهمة في شركات سبر الآراء أو الإشهار إلى جانب اشتراط عدم انتماء المسيرين أو المؤسّسين لأيّ هيكل حزبي أو تولّي مناصب قياديّة فيه.
ويمكن الحصول على المعطيات الخاصة بهويّة “المستفيد الحقيقي” من خلال السجل الوطني للمؤسّسات الذّي يوفّر منصّة رقميّة تقدّم خدمة على الخطّ. ويمكن الاطّلاع على هويّة المسؤول الأوّل للمؤسسة بشرط أن تتوفّر المعطيات الدقيقة حول التسمية والاسم التجاري للمؤسسة الإعلامية وهو أمر يطرح تعقيدات جديدة باعتبار أنّ أغلب المؤسسات الواردة في عيّنة البحث لا تفصح عن هذه المعلومة ما يجعل الأمر غير متاح للعموم.
أمّا بخصوص الفريق الصحفي، فقد نصّ الفصل 20 من المرسوم عدد 115 والفصل الخامس من كراسات الشروط الخاصّة بالإعلام السمعي والبصري، على ضرورة الإفادة بحجم الفريق الصحفي ونسبة الصحفيين القارّين من بينهم. وتعتبر هذه الضوابط أداة لمنع التشغيل الهشّ للصحفيين.ـات. كما أنّها ضمانة لتحقيق جودة المحتوى الإعلامي.
وتشير المعطيات إلى أنّ عدد الصحفيين الحاملين للبطاقة المهنية التّي أسندتها اللجنة المستقلة لإسناد البطاقة الوطنية للصحفي المحترف، سنة 2024، قد بلغ 1799 صحفيا، من بينهم 975 صحفية. ويعتبر الإفصاح عن تركيبة فريق التحرير والتعريف بالصحفيين.ـات العاملين في المؤسسة الإعلامية من بين المعطيات التي تمكّن من تقييم مدى توفّر ظروف عمل جيّدة ذلك أنّ عدم الاستقرار المهني من شأنه أن تنجرّ عنه هشاشة الأوضاع الاجتماعية والمهنية للصحفيين وهو ما يؤثر سلبا على جودة المضامين الإعلامية.


في ما يتعلّق بالإفصاح عن تركيبة فريق التحرير، غابت المعطيات الواضحة والدقيقة حول الفريق الصحفي، حيث اكتفى أغلب المؤسسات الإعلامية، وخاصّة المواقع الإلكترونية، بنسبة لا تتجاوز 20 بالمائة، بتخصيص صفحات على مواقعها للتعريف بالمنشطين والبرامج الخاصة بهم وذلك، بالأساس، لغاية التسويق وشدّ انتباه المتابعين.
كما أنّ الالتزام بنشر المواثيق الأخلاقية أو المدوّنات التحريرية ظلّ نادرا رغم أهميته في تعزيز شفافية الخطّ التحريري. وتشير المعطيات إلى أنّ 10 مؤسسات إعلامية فقط نشرت هذه المواثيق على مواقعها الرسمية. وكانت غالبيتها من بين المواقع الالكترونية التي أنشئت حديثا.


وبالتوازي مع تكتّم الكبير للمؤسسات الإعلامية في ما يخصّ الموازنات ومصادر التمويل حيث لا نجد أيّ أثر لهذه الوثائق والتقارير على المواقع الرسمية للمؤسسات الإعلامية، تُظهر آخر زيارات للمنصّة الالكترونية للسجل الوطني للمؤسسات (أفريل 2025) أنّ أغلب المؤسسات الإعلامية لم تنشر القوائم المالية لدى السجل الوطني للمؤسسات الذي ينصّ في الفصل 32 من القانون المنظّم له أن تتولّى المؤسّسات الاقتصادية القيام بذلك في أجل أقصاه الشهر السابع الموالي لختم السنة المحاسبية.
وتكشف المعطيات المتعلقة بعيّنة المؤسسات الإعلامية المعنيّة بهذا البحث أنّ:
- خمس مؤسسات إعلامية كانت في حالة “إغفال” بمعنى أنّها لم تقم بأيّ من واجباتها الجبائية
- 21 مؤسّسة لم تنشر، منذ انشائها، أيّا من قوائمها المالية.
- 12 مؤسسة إعلامية (من بينها 7 مواقع إلكترونية و3 قنوات إذاعية وقناة تلفزية وصحيفة ورقية واحدة) قامت، بشكل غير متواصل، بتحيين قوائمها المالية، خلال السّنوات الخمس الأخيرة.
ولئن لم يشهد قطاع الإعلام تسجيل حالات مهمّة من تركّز الملكية، إلاّ أنّنا نلاحظ أنّ عددا مهمّا من المؤسسات الإعلامية، ضمن عيّنة البحث، هي في الواقع مؤسسات تنشط أساسا في مجال الإشهار والعلاقات العامة وهو ما قد يحيل إلى “تضارب مصالح” وموضوع مخالفة مع النصوص القانونية التي تمنع الجمع ما بين العمل الإعلامي والعمل الإشهاري.


ختاما، كشفت هذه الدراسة عن حجم التحديات التي تواجه مسار إصلاح قطاع الإعلام في تونس خاصة أنّ غياب الشفافية يمثّل تهديدا مباشرا لحرية الإعلام وتعدّديّته ومصداقيته. كما أنّ هذا السياق من شأنه أن يعيق مسار إصلاح قطاع الإعلام وتطويره. فقد بات من الضروري العمل على تعزيز شفافية ملكية المؤسسات الإعلامية بما يؤسس لسياق اعلامي نزيه وذي مصداقية وذلك قبل الانطلاق في أيّة مبادرة لاصلاح قطاع الإعلام.
ويمكن في هذا السياق اقتراح جملة من المبادرات التّي من شأنها أن تخلق مناخا سليما تكون له القدرة على استيعاب المبادرات التي تسعى إلى الإصلاح، نذكر منها:
- إدماج مبدأ الشفافية وشفافية الملكية بالأساس كعنصر محوري في كافة المسارات التي تسعى إلى إصلاح الإعلام في تونس
- وضع خطط متكاملة لنشر ثقافة الشفافية والنّفاذ إلى المعلومة في الوسط الإعلامي
- تعزيز الدور الرقابي للمجتمع المدني في مجال مصادر تمويل وسائل الإعلام
- المطالبة بتعزيز الدعم العمومي للمؤسسات الإعلامية الخاصة والجمعياتية مع ربط ذلك بالإفصاح الكامل عن مصادر تمويلها
- إنشاء مرصد وطني لوسائل الإعلام في تونس، يكون من بين مهامه توفير المعلومة الموثقة حول ملكية وسائل الإعلام ومصادر تمويلها.
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتبة: منى المطيبع
صحفية وباحثة في مجال الإعلام
