الكاتب : د.منجي الخضراوي
صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال
يفرح الناس -أو جزءا كبيرا منهم- في تونس عندما تحلّ مأساة بمن يخالفهم الرأي، ويشعرون بالانتصار والتلذّذِ عندما يرون الآخر منكسرا مهزوما مـأزوما. هناك مصطلح تونسي مفعم بمشاعر الكراهية اسمه “الشماتة” ظهر بشكل قوي وجلي في شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة بعد سقوط النظام التسلطي سنة 2011.
تصل مشاعر الشماتة إلى مداها في حالات الاعتقال وتصل إلى حدّ السّعادة بموت المخالفين السياسيين أو المشهورين والمعروفين بمواقفهم. ويظهر الابتهاج عندما تسجن السلطة القائمة شخصا معارضا أو ناشطا سياسيا أو رجل أعمال أو يتم حلّ جمعية أو حزب.
كما تظهر بوضوح لدى الناس في تونس ردود الأفعال العنيفة والسب والشتم والتحقير عندما يكتب شخص ما نصّا أو تدوينة على فيسبوك إلى درجة التنمّر عليه وسحله “إلكترونيا” إلى حد الإعدام المدني/الرقمي.
ما الذي يفسّر ذلك؟ لماذا هذا السلوك؟ كيف نقرأ مفهوم “الشماتة” في السياق التونسي؟ وماهي استتباعات ذلك؟
الكاتب : د.منجي الخضراوي
صحفي محترف، باحث في علوم الإعلام والاتصال
يفرح الناس -أو جزءا كبيرا منهم- في تونس عندما تحلّ مأساة بمن يخالفهم الرأي، ويشعرون بالانتصار والتلذّذِ عندما يرون الآخر منكسرا مهزوما مـأزوما. هناك مصطلح تونسي مفعم بمشاعر الكراهية اسمه “الشماتة” ظهر بشكل قوي وجلي في شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة بعد سقوط النظام التسلطي سنة 2011.
تصل مشاعر الشماتة إلى مداها في حالات الاعتقال وتصل إلى حدّ السّعادة بموت المخالفين السياسيين أو المشهورين والمعروفين بمواقفهم. ويظهر الابتهاج عندما تسجن السلطة القائمة شخصا معارضا أو ناشطا سياسيا أو رجل أعمال أو يتم حلّ جمعية أو حزب.
كما تظهر بوضوح لدى الناس في تونس ردود الأفعال العنيفة والسب والشتم والتحقير عندما يكتب شخص ما نصّا أو تدوينة على فيسبوك إلى درجة التنمّر عليه وسحله “إلكترونيا” إلى حد الإعدام المدني/الرقمي.
ما الذي يفسّر ذلك؟ لماذا هذا السلوك؟ كيف نقرأ مفهوم “الشماتة” في السياق التونسي؟ وماهي استتباعات ذلك؟


هل هو الكاتارسيس؟
كان الدكتور حاتم الزغل الذي دّرسنا مادة “أرسطو” يحدثّنا عن مصطلح التأثير العاطفي الذي تخلقه التراجيديا الإغريقية (المأساة) في المشاهدين، من خلال مشاهدة أحداث مأساوية مثل معاناة البطل، فيمرّ المتابع أو المتلقّي بتجربة عاطفية قوية يمتزج فيها الخوف بالشفقة والحزن فيقوم بإفراغ مشاعره المكبوتة، بأشكال مختلفة، مثل البكاء أو السخرية أو الصراخ… ما يؤدّي إلى تنفيس عاطفي، وهو ما يسمّيه اليونانيون بالكاتارسيس Catharsis وقد كان اليونانيون يمارسون الرياضة القوية للتخفيف من تلك المشاعر.
ويعني مفهوم الكاتارسيس “التطهير” و”التنظيف” و”التفريغ”، وقد تمّ استعمال هذا المصطلح في مجال علم النفس مع سيغموند فرويد، إذ أصبح يُشير إلى إطلاق المشاعر المكبوتة كالغضب، والحزن، والتعبير عن تلك المشاعر مثلا بالبكاء أو الضحك أو الصراخ… الأمر الذي يُخفّف من التوتر النفسي.
فالكاتارسيس إذن هو عملية عاطفية أو نفسية تُحرّر الإنسان من الضغوط الداخلية عبر التعبير أو التجربة .
لكن في الحالة التونسية يمكننا أن نلاحظ أنّنا أمام وضعية الكاتارسيس المضاد، أي عوض تفريغ الذات بوسائل متعددة في علاقة بالأنا، يتم تفريغها في “الآخر”، فيجد الأفراد متنفسًا لكراهيتهم تجاه “الآخر” المختلف سياسيا أو فكريا/أيديولوجيا عبر الاحتفاء بمعاناته، وهو ما يمكن أن نعتبره آلية دفاع نفسية لتبرير إخراج شحنة من الداخل إلى الخارج.
في السياقات السياسية المضطربة والمتوترة، يشعر الأفراد بالعجز، الأمر الذي يجعلهم يحتفلون بانتصارات وهمية مثل سجن خصمهم وذلك لاستعادة وَهْم السيطرة، وهو شكل من أشكال التعويض عن الإحساس بالضعف والوهن.


القبائل الرقمية: من العجز إلى الإعدام الرقمي/المدني ؟
يدفع ذلك العجز بصاحبه إلى التنمّر على الآخرين ومهاجمتهم عن بعد أي عبر وسائل التواصل الاجتماعي لانعدام القدرة على المواجهة المباشرة، فينعدم تقدير الذات ويلجأ الأفراد إلى إذلال من يعتبرونهم خصوما، حد اعدامهم مدنيا في الفضاء الرقمي ثمّ سحلهم بعد ذلك.
ولتجاوز حالة الخوف الفردي لدى من يمكن أن نسمّيه : “بالمتنمّر الجبان” تتمّ عملية استقطاب جماعية تعزّز الانتماء إلى ما يمكن أن يُسمّى “بالقبائل الرقمية”، حيث يرتفع منسوب التطرّف لدى الأفراد الأكثر جُبنًا تحت تأثير المجموعة بعد الشّعور بالقوّة كعنصر من عناصرها، فكلّما يعيش الخصم معاناة أو مأساة يشعر أولئك الأفراد وتلك المجموعات بالانتصار.
ويعود ذلك الى أمرين : الأوّل، غياب ثقافة الحوار واحترام الاختلاف، أمّا الثاني فهو نتاج للأوّل حيث تتحوّل الخلافات السياسية والايديولوجية والفكرية إلى حروبِ هويّة، إذ يُنظر فيها إلى الخصم كـ”عدوّ وجودي” يجب إبادته رمزيًا، ويتحوّل من عدوّ موضوعي إلى عدوّ شخصي. يقول أمبرتو إيكو “عندما يموت الحوار، تولد القبائل.”
إنّ القبائل الرقمية بهذا المعنى هي البديل عن الاختلاف والتنوّع والحوار، فهي جماعات افتراضية تتشكّل على منصّات التواصل الاجتماعي حول هويّات أو أيديولوجيات أو مصالح مشتركة، تُظهر سلوكًا قبَائليًا le tribalisme يتّسم بالانتماء العاطفي المتطرّف للمجموعة/القبيلة، والعداء المفرط للآخر مع التعصب للشعارات والرموز إذ لا يمكنك أن تنتقد شعارات “وينو الملح”، “الشعب يريد”، “الإسلام هو الحل”، “التصدّي للمتآمرين الخونة” الخ.


إضافة إلى ما سبق تقوم القبائل الرقمية على رفض الحوار العقلاني مع الآخر/ العدو، وفقا لنظرية الرفض على قاعدة الهوية الاجتماعية للمفكر تارنر Turner حيث يعزز الأفراد من ذواتهم عبر الانتماء إلى جماعة وازدراء للآخرين فتخلق حالة من الاستقطاب الجماعي، عند سونشطاين Sunstein أي “العزلة داخل غرفة الصّدى” عندها لن تكون الكراهية في حاجة إلى مبرّر عقلاني فقط هي نتاج لذلك الصّدى، وهو سلوك تعزّزه الخوارزميات لأنّها تميل للاستقطاب والمواجهة وتضخّم الغضب لتزيد من التفاعلات أكثر من الفكر والعقل.
تتفاعل العديد من العوامل في كيمياء اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية… لتنتج تلك الظاهرة، فالعوامل النفسية/الاجتماعية والإحباط الاقتصادي يتم تحويله عبر آليات اتصالية استيعابية إلى كراهية نحو “الآخر”، الأمر الذي يوفّر إطارا مهما للمهمشين ليجدوا في القبائل الرقمية إحساسا بالانتماء والقوة ومن نتائج ذلك ما يسمى بالتفكير الجمعي، فيحرم الفرد من النقد أو المراجعة أو إعمال العقل وذلك خوفا من الوجود خارج المجموعة، فيكون الشعور بالخوف هو الدافع نحو إذلال الآخر وإعدامه مدنيا ورقميا وتندفع المجموعات المشاركة والمتفرّجة في عملية “شماتة” فينتشر هذا السلوك في شبكات التواصل الاجتماعي خاصة الفيسبوك بالنسبة إلى التونسيين، في شكل عدوى مَرَضِية وهو ما يؤدي إلى ظاهرة الانفصال الأخلاقي حيث يتمّ تبرير كلّ الممارسات بما فيها المعيبة، فتنهار الحقيقة المشتركة بين الناس وتصبح لكل مجموعة حقيقتها التي ترفض أيّ نوع من الاختلاف فيكون العدو ليس فقط المختلف بل الخوف من الاختلاف نفسه، وهو ما ذهب إليه المفكر الهندي أمارتيا سن.
ينتشر هذا السلوك في شبكات التواصل الاجتماعي في شكل عدوى مَرَضِية وهو ما يؤدي إلى ظاهرة الانفصال الأخلاقي حيث يتمّ تبرير كلّ الممارسات بما فيها المعيبة، فتنهار الحقيقة المشتركة بين الناس وتصبح لكل مجموعة حقيقتها التي ترفض أيّ نوع من الاختلاف.


“قتل” المثقفين وتدمير الأفق
لقد حلّ العصر الرقمي محل الهويات الثابتة مثل الطبقة والعائلة والحزب بهويات “سريعة التغير” تجسدها بعمق الانتماءات الافتراضية. مثلما ذهب إلى ذلك المفكر زيغمونت باومان Bauman .Z في كتابه “الحداثة السائلة”.
لقد أصبح الإنسان المعاصر يخشى الحرية ويخاف منها، كما قال إيريك فروم، لذلك يلجأ إلى القبائل الرقمية بغاية التغطية على خوفه وضعفه.
لقد أظهر تقرير صادر عن الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في تونس، سنة 2022 أنّ 54% من منشورات وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والحملات الانتخابية الميدانية احتوت على “صيغ من خطاب الكراهية”.
لقد “بات الفضاء العمومي في تونس مساحة لانتشار لافت لخطاب الكراهية خاصة ما بيّنه التفاعل مع ملف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء”.
كما رصدت دراسة أجرتها SMEX سنة 2023 أنّ 62% من النشطاء في شبكات التواصل الاجتماعي تعرّضوا لهجوم من تلك المجموعات التي نسمّيها “القبائل المضادة”.
وقد أظهرت دراسة صادرة عن مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة “الكريديف” أنّ 70% من الناشطات يتعرضن للإهانات الرقمية.
لقد تحولت تلك القبائل الرقمية إلى “ملاذ” فوضوي لتدمير الآخرين، واعتبارهم خونة ومأجورين ومدفوعين من أطراف خفية. نجحت تلك القبائل الرقمية في استقطاب المهمشين، في كل المجالات ليس فقط المجال الاقتصادي، وذلك لغياب عقد اجتماعي بين التونسيين ولغياب رواية وطنية مشتركة للثورة.


لقد أصبح الصراع بين تلك القبائل في تونس داخل الفضاء الرقمي صراعا وجوديا، فأصبح المجتمع يقتل مثقفيه رمزيا ويواجههم من خلال قواعد الجهل المركّب فسادت الكراهية وأصبحنا أمام فضاء رقمي ذي خصائص طبيعية، تماما كما ذهب هوبز إلى حرب الكل ضد الكل، فاتّسم السلوك العدواني بسلوك رقمي غريزي يتّسم بالمشهدية الانتقامية.
يقول أنطونيو غرامشي في “دفاتر السجن” : ” إنّ الشعوب التي تكره مثقفيها تجهز على مستقبلها بنفسها”.
ويذهب علماء الاجتماع الى أنّ الحدث إذا تكرّر يصبح ظاهرة، وبالتالي فإنّ شعور “الشماتة” وسحل الخصم وسبّه وشتمه عندما تتكرر عبر المجموعات والأفراد فإنّنا نصبح أمام حالة عدوى اجتماعية يفقد فيها المجتمع حساسيته الأخلاقية، فتُصبح الإهانة سلوكًا عاديًا، وينتشر الظلم والفعل ورد الفعل. كما ينتشر الانتقام الاجتماعي/ الرقمي، وهو سلوك يظهر في المجتمعات التي لم تعالج جراحاتها التاريخية مثل الثورات الفاشلة والضحايا غير المنصَفين أو الانتقال الديمقراطي المعطل… إذ تتحوّل السياسة إلى انتقام متبادل، عوض أن تكون صراع أفكار، ما يؤدي إلى تجييش الكراهية وتعبئة “القبيلة” لمواجهة الأفراد والمجموعات فينقسم المجتمع، وتظهر فئات من الأميّين الذين يسعون في مجال تحقيقهم للمكاسب الشخصية على حساب المجتمع، فيجدون الحظوة والتبجيل لدى المجتمع والسلطة ويتمّ تهميش المثقفين وتحقيرهم وينتشر العنف وتكثر الجريمة وتغيب العدالة فيعتقد الناس أنّ القانون هو مجرّد أداة انتقالية لتحقيق المكاسب أو تصفية الخصوم ويتمّ الاحتفاء بسجنهم كانتصار للجماعة أو “القبيلة الرقمية” وليس كنتيجة للمحاكمة العادلة.
تحرير السلوك العدواني وتدمير الوعي الديمقراطي
أمام تلك الظواهر تتجلّى حالة النزوع إلى إخفاء الأنا والهوية خلف قوة المجموعة، وهو ما يخرج الأسوأ والأعنف في الذات البشرية. يقول فرويد “إنّ الحضارة تكبح العدوانية”، ولكن اليوم في المجتمع التونسي فإنّ الإنترنت -وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي- تزيل ذلك الكبح وتحرر السلوك العدواني بألوان الدم الرقمي، فيصبح المحتوى العدواني الذي يستهدف الفرد ويسحله سحلا هو الأكثر جلبا وجذبا للإعجاب والتفاعل بالآلاف ما يخلق حافزًا ماديًا ومعنويًا للاستمرار في خطاب الشماتة والكراهية والحقد والعنف.
يمكننا أن نفهم هذا الانقسام والعنف في المجموعات في تونس على أنّه يؤشّر على تآكل شرعية المؤسسات الأمر يجعل الأفراد يعتمدون على “العدالة الشعبية” الرقمية بدل القانون، وهي ظاهرة تدمير الرأسمال الرمزي المجتمعي مثل قيم التضامن والتعاطف والتآخي وتزعزع الثقة بين المواطنين وتهدّد التّداول السّلمي على السلطة وتتحوّل المواجهة إلى “حرب بالوكالة” فتخلق ابستيمية متمركزة حول الأنا القاتلة والرافضة للآخر فتتراكم وتنتقل مثل العدوى بين الأجيال فتنتج جيلا غير قادر على الحوار ولا على إدارة الاختلاف ما يهدّد الديمقراطية نفسها لأنّ كراهيتها ستكون حالة “وعي ذهني” راسخة.
لقد أعادت وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل المجتمع التونسي على أساس”القبليّة الرقمية” حيث الانتماء يُحدَّدُ عبر العِداء للآخر، وليس عبر القيم المشتركة، فأصبحت الديمقراطية التونسية “ديمقراطية بلا ديمقراطيين”، وأصبح الناخبون لا يصوّتون للبرنامج الذي يقنعهم بل يصوّتون ضد من يكرهون، فأدّت تلك الكراهية إلى الفشل في بناء ذاكرة مشتركة للشعب التونسي.
لذلك فإنّه من الضروري احتواء هذه المواجهات بين القبائل الرقمية والأفراد، حتى لا تتحوّل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل اجتماعيا وماديا، وذلك من خلال مبادرات مجتمعية لاعتماد آليات للتعديل الذاتي مثل اعتماد ميثاق للفضاء الرقمي والعمل على الحدّ من خطاب الكراهية وإخراج الرؤى والمجموعات السياسية من “الانتقام والشماتة” إلى التعايش.
إنّ المجتمعات تمرض مثلما يمرض الأفراد تماما، وبالتّالي فإنّ معالجة ومداواة المجتمع التونسي مسألة ضرورية تلامس مجالات مختلفة مثل التعليم والإعلام والفضاء العمومي.