الكاتبة : د. عائدة الفيتوري
أستاذة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة
منذ سنوات، تتصدّر “الرداءة الإعلامية” واجهة النقاشات العامّة في تونس، إذ تحوّلت من توصيف عرضي إلى إشكالية متكرّرة ومثيرة للجدل، تكاد تفرض نفسها كموضوع مستقلّ يستدعي التفكيك والتحليل.
وقد إزداد هذا الجدل حدّة وانتشارًا بعد ثورة 14 جانفي 2011، التي لم تُسهم فقط في إعادة تشكيل العلاقة بين الإعلام والمجتمع، بل أحدثت أيضًا تحوّلات جذرية في البنية الإعلامية نفسها، وفي شروط إنتاج الخطاب وتلقّيه. فقد فتح مناخ الحرّية النسبيّة، مقرونًا بانفجار الفضاء الرقمي، المجال أمام مختلف الفاعلين في الحقل الإعلامي ليمارسوا نوعًا من الرقابة الشعبيّة والمساءلة الفوريّة للمضامين الإعلاميّة، وهو ما جعل من الإعلام موضوعًا دائمًا للنقد والتقويم، بل وأحيانًا للتجريم والاتهام.
غير أن اللافت للانتباه في هذا الجدل هو طبيعته الانفعاليّة والمُتشنّجة، إذ غالبًا ما يُدار بخطاب مُرتجل، يفتقر إلى الضوابط التحليلية والمعايير العلمية، ليس فقط في أوساط الجمهور المتلقّي، بل كذلك داخل الفضاء الإعلامي نفسه، وحتى في بعض الأوساط الأكاديميّة. وهو ما يجعله، في الكثير من الأحيان، جزءًا من الأزمة بدل أن يكون مدخلًا لفهمها أو تجاوزها. فالخطاب السائد حول “الرداءة” كثيرًا ما ينزلق إلى تبسيطات أخلاقوية، ويغلب عليه الطابع الانطباعي، كما تتحوّل ساحات النقاش إلى فضاءات لتبادل الاتهامات بدل أن تكون فرصا للنقد البنّاء. ويُلاحظ أيضًا هيمنة تصوّرات حتمية لوظيفة الإعلام وغياب توافق حول دلالات مفهوم الرداءة نفسه، وتباينٌ كبير في مقاربات تقييم المضامين الإعلامية، ما بين من يركّز على الجوانب الفنيّة، ومن يستند إلى الأخلاقيات المهنيّة، ومن يعتمد التأثير المجتمعي معيارًا أساسيًا.
الكاتبة : د. عائدة الفيتوري
أستاذة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة
منذ سنوات، تتصدّر “الرداءة الإعلامية” واجهة النقاشات العامّة في تونس، إذ تحوّلت من توصيف عرضي إلى إشكالية متكرّرة ومثيرة للجدل، تكاد تفرض نفسها كموضوع مستقلّ يستدعي التفكيك والتحليل.
وقد إزداد هذا الجدل حدّة وانتشارًا بعد ثورة 14 جانفي 2011، التي لم تُسهم فقط في إعادة تشكيل العلاقة بين الإعلام والمجتمع، بل أحدثت أيضًا تحوّلات جذرية في البنية الإعلامية نفسها، وفي شروط إنتاج الخطاب وتلقّيه. فقد فتح مناخ الحرّية النسبيّة، مقرونًا بانفجار الفضاء الرقمي، المجال أمام مختلف الفاعلين في الحقل الإعلامي ليمارسوا نوعًا من الرقابة الشعبيّة والمساءلة الفوريّة للمضامين الإعلاميّة، وهو ما جعل من الإعلام موضوعًا دائمًا للنقد والتقويم، بل وأحيانًا للتجريم والاتهام.
غير أن اللافت للانتباه في هذا الجدل هو طبيعته الانفعاليّة والمُتشنّجة، إذ غالبًا ما يُدار بخطاب مُرتجل، يفتقر إلى الضوابط التحليلية والمعايير العلمية، ليس فقط في أوساط الجمهور المتلقّي، بل كذلك داخل الفضاء الإعلامي نفسه، وحتى في بعض الأوساط الأكاديميّة. وهو ما يجعله، في الكثير من الأحيان، جزءًا من الأزمة بدل أن يكون مدخلًا لفهمها أو تجاوزها. فالخطاب السائد حول “الرداءة” كثيرًا ما ينزلق إلى تبسيطات أخلاقوية، ويغلب عليه الطابع الانطباعي، كما تتحوّل ساحات النقاش إلى فضاءات لتبادل الاتهامات بدل أن تكون فرصا للنقد البنّاء. ويُلاحظ أيضًا هيمنة تصوّرات حتمية لوظيفة الإعلام وغياب توافق حول دلالات مفهوم الرداءة نفسه، وتباينٌ كبير في مقاربات تقييم المضامين الإعلامية، ما بين من يركّز على الجوانب الفنيّة، ومن يستند إلى الأخلاقيات المهنيّة، ومن يعتمد التأثير المجتمعي معيارًا أساسيًا.
إنّ هذا التنازع المفهومي والمنهجي يجعل من الضروري إعادة ضبط مُنطلقات النقاش، وتحريره من التوترات الظرفية والانفعالات المتراكمة. ذلك أن الجدل حول “الرداءة الإعلامية” لن يكون مثمرًا إلا إذا تأسّس على أدوات تحليلية دقيقة، تراعي تعدديّة الأبعاد (دلالية، مهنيّة وسياقيّة) التي تنطوي عليها هذه المسألة وتسعى إلى بناء فضاء نقدي رصين، قادر على مساءلة الواقع الإعلامي بعمق، دون الوقوع في فخاخ الإدانة السهلة أو الدفاع الأعمى، بما من شأنه الإسهام في الارتقاء بجودة الخطاب الإعلامي وتطوير أدوات تقييمه.


تغليب الأبعاد الذاتية والأخلاقية على التحليل
من المشروع بل من الطبيعي الاعتماد على البعد الأخلاقي والذاتي في تقييم الرداءة، سواء في الإعلام أو في غيره من المجالات. ويتجلّى هذا من خلال دراسة دلالات مفهوم “الرداءة” في اللغة العربية وما يؤدي معناه في اللغتين الفرنسية (médiocrité) والإنجليزية (mediocrity)، حيث يتبيّن أنّ المفهوم ليس محايدًا أو تقنيًا فحسب، بل يحمل شحنة قيمية وأخلاقية عميقة، تنبع من تمثلات ثقافية واجتماعية مُتجذِّرة. فاستخدام مصطلح “الرداءة” لا يقتصر على الإشارة إلى النقص أو عدم الجودة، بل يتعدّاه إلى إصدار أحكام جمالية وأخلاقية وحتى دينيّة، ممّا يجعله أداة تقييميّة ذات حمولة ذاتيّة قويّة، تتداخل فيها اللغة مع الذوق والمعايير الأخلاقيّة السائدة.
في اللغة العربية، تُشير كلمة “رديء” في المعاجم القديمة إلى معاني مثل “المُنكر” و”المكروه” و”الخبيث” و”الفاسد”، ممّا يؤكد ارتباطها الوثيق بالحكم الأخلاقي والديني. فـ”الرداءة” هنا لا تُعبّر فقط عن غياب الجودة، بل أيضًا عن انحرافٍ قيمي أو سلوكي يستدعي النقد والرفض. أمّا في المعاجم المعاصرة، فقد توسّعت دلالات الكلمة لترتبط بالوضاعة والخسّة، وتُطلق على الأشخاص والأعمال التي تفتقر إلى الموهبة أو تنحرف عن المعايير الجمالية والأخلاقية المُتعارَف عليها.
أما في اللغة الفرنسية، فإن مُصطلح médiocrité المُشتق من اللاتينية mediocris الذي يعني الاعتدال أو المتوسّط، كان في الأصل يُوصَف به ما هو عادي أو غير مميّز. غير أن تحوّلات الثقافة والمجتمع منحته دلالة سلبيّة، فأصبح يشير إلى ما هو دون المستوى أو غير جدير بالاهتمام، ممّا حوَّله من مصطلح محايد إلى حكم اجتماعي يستخدم لإقصاء وتهميش ما يُعتبر “متدنيًا”. وفي الإنجليزية، يتشابه المسار الدلالي لكلمة mediocrity، حيث تُستخدم لانتقاد السطحية وغياب الطموح في سياقات يُفترض فيها السعي نحو التميّز، كالفن والأدب.


هذا التحوّل في الدلالات يظهر جليًّا في كتاب “نظام التفاهة” (La médiocratie) للفيلسوف الكندي آلان دونو، الذي يطرح مفهوم “الميديوقراطية” كنظام مؤسّسي تتحوّل فيه الرداءة إلى معيار سائد، تُقدَّم فيه البيروقراطية والربح المادي على الإبداع والقيم الجوهرية. ضمن هذا السياق، تُصبح “التفاهة” آليةً تُطبِّع الرداءة وتُحوِّلُها إلى سلعةٍ قابلة للتسويق، مما يُهدِّد القيم الأخلاقية والثقافية ويُعمِّق أزمة الهويّة في المجتمعات المعاصرة.
من ناحية أخرى، فإن تتبّع مفهوم الرداءة عبر مجالات مثل اللُغة والأدب والفن والفلسفة يكشف عن كونه أداة نقديّة ديناميكية تعكس قيمة المحتوى، لكن أيضا صراعات الشرعنة والسلطة داخل الحقول الثقافية. ففي المجال اللغوي، لا تُحدّد الرداءة بمخالفة القواعد النحوية فحسب، بل بالتناقض بين “القياس” (القواعد الموروثة) و”الاستعمال” (التواتر اليومي)، حيث قد يُرفض نمطٌ لغويٌّ صحيحٌ قياسيًا لنُدرة استخدامه، ممّا يُظهر التوتّر بين ثبات المعايير اللغوية ومرونة الواقع الاجتماعي.
وفي الأدب، تتحوّل الرداءة إلى سلاحٍ رمزي تستخدمه المؤسّسات النخبويّة لاستبعاد ما يُسمى “شبه الأدب” (paralittérature)، وهو أدب موجّه للاستهلاك الجماهيري ويُصنّف كمُتدنٍ أو رديء من قبل المؤسسة الأدبية، لكن هذا التصنيف يعكس صراعًا رمزيًّا أكثر منه حكمًا موضوعيًا على القيمة الجمالية وفق العديد من المفكرين نذكر من بينهم بيار بورديو.
كذلك برزت في إنجلترا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مقاربات نقديّة تهدف إلى تحليل الإنتاجات الثقافية كالإشهار، والصحافة، والسينما، و”الأدب الجماهيري”، ورصد تأثيرهما على الجماهير وقد ركز رواد الدراسات الثقافية، خاصة في مدرسة برمنغهام، على التمييز بين “الثقافة الرفيعة” الممثّلة في “الأدب العظيم” وبين ما أُعتُبر “ثقافة جماهيرية رديئة” تُنتج لأغراض تجاريّة وتُستهلك بشكل واسع دون وعي نقدي.


أما في مجال الفنّ، فتتجلّى الرداءة الفنيّة في ضعف الإبداع وتكرار المألوف بشكل سطحي، بما يخضع لمعايير الاستهلاك بدل الرؤية الجمالية العميقة. وتُنتقد الأعمال التي تفشل في إثارة الفكر أو الوجدان، وهو ما ربطته مدرسة فرانكفورت -وهي إحدى أهم المدارس الفلسفية والاجتماعية في القرن العشرين- بسيطرة منطق السوق على الإنتاج الثقافي. في المقابل، دعا روّادها إلى فنّ مُقاوم ومعقّد يحفّز التأمل ويواجه الابتذال السائد.
وفي الفلسفة، تُفهم الرداءة كابتعاد عن العقل والفضيلة، وكتُعارض بين الخير والحقيقة، وتشير إلى انحراف الإنسان عن غايته الوجودية. يرى أفلاطون أنّها نتيجة للاستسلام للأوهام، بينما يعتبرها أرسطو تجاوزًا للاعتدال، ويصفها الفارابي كمزيج من الجهل والضلال. كما ترتبط بتشوّه الفكر والجمال بسبب الخطاب الزائف والسفسطة. وفي الفلسفة الحديثة، تُعدّ الرداءة خيانة للواجب عند كانط أو للحرية الأصيلة عند سارتر، ما يجعلها انحرافًا عن جوهر الإنسان.
تجمع هذه الدلالات المُتشابكة رغم اختلاف سياقاتها الثقافية والزمنية على ربط الرداءة بمجموعة من القيم السلبيّة، مثل السطحيّة (غياب العُمق الفكري أو الجمالي)، والخُنوع (الرضا بالمحدود دون سعي للتطوير)، وغياب التميّز (الاكتفاء بالمألوف)، والانحدار الأخلاقي (الارتباط بالفساد أو القُبح).
هذه القيم تكشف أن الحكم على شيءٍ ما بأنّه “رديء” لا يعتمد على معيارٍ موضوعي واحد، بل على منظومة قيم مركبة تتفاعل فيها الأخلاق مع الجماليات مع السياق الاجتماعي.
وبناءً على ذلك، يُصبح من المشروع تمامًا استخدام مفهوم الرداءة في تقييم الأداء الإعلامي، كما يُستخدم في تقييم الأعمال الأدبية أو الفنية. بل إنّ المجال الإعلامي نظرًا لاتساع تأثيره في تشكيل الرأي العام يكون أكثر حاجة إلى هذا النوع من التقييمات الأخلاقية والجمالية، حيث إنّ المضامين الإعلامية لا تُستهلك فحسب، بل تُسهم في بناء الوعي الفردي والجماعي. فـ”الرداءة” الإعلامية قد تتجلّى ليس فقط في ضعف الجودة الفنية أو الأخطاء المهنية، بل أيضًا في تعزيز الصور النمطية، أو التضليل الإخباري، أو استغلال العواطف لأغراض تجاريّة.
لكن الاعتماد على الذاتيّة والأحكام الأخلاقيّة -رغم أهمّيتها- لا يغني عن الحاجة إلى معايير موضوعية تُحدد جودة المحتوى الإعلامي أو رداءته. وتتمثل هذه المعايير في مواثيق الشرف الصحفية، وأدلّة الممارسة المهنية، والنصوص التشريعية، وكرّاسات الشروط المعتمدة محليًّا ودوليًّا. ويمكن تصنيف هذه المعايير إلى ستّة محاور:
- المهنيّة: كالتحقق من المعلومات، وتنوّع المصادر، والتزام الموضوعية.
- المؤسساتيّة: كاستقلالية الوسيط الإعلامي عن الضغوط السياسية أو التجارية.
- المضامين: كاحترام كرامة الأفراد، وتجنب الخطاب المُهين أو المُحرِّض.
- الوظيفيّة: كدور الإعلام في التثقيف وخلق حوار مجتمعي هادف.
- القانونيّة: كضمان حرّية التعبير مع مراعاة القيود الأخلاقية.
- التكوينيّة: كتطوير برامج التدريب لمواكبة التحديات التقنية والأخلاقية.
هذه الأُطر الموضوعيّة لا تُلغي البعد الذاتي أو الأخلاقي، بل تضبطه في إطارٍ قابل للمساءلة، وتُظهر أنّ الرداءة الإعلامية ليست مجرد انطباع فردي، بل نتاج تفاعل معقد بين ضعف الممارسة المهنية، والضغوط التجارية، والتراجع الثقافي. فكما أن “التفاهة” عند آلان دونو نظامٌ يهدد القيم الإنسانية، فإن الرداءة الإعلامية خطرٌ يستدعي مواجهةً شاملة تجمع بين يقظة الضمير الأخلاقي، وصلابة المؤسسات الرقابية، وإرادة التغيير المجتمعي.


تحويل النقاش إلى ساحة لتبادل التّهم
تحوَّل النقاش حول جودة الأداء الإعلامي في تونس –خاصّة بعد الثورة– إلى ساحةٍ لتبادل الاتهامات بين الفاعلين على رأسهم الجمهور، الصحفيون والسياسيون من داخل الحقل الإعلامي وخارجه، والنابعة من تصوُّرات مثالية عن دور الإعلام، أو انتظارات مصلحيّة مرتبطة بتمثُّلات أيديولوجية أو حزبيّة، ممّا يُفقد النقاش موضوعيته ويُحوِّله إلى حربٍ رمزية تُختزل في تبادل التهم والتخوين.
ففي السنوات الأولى التي أعقبت الثورة، سيطرت على الخطاب العام تعبيراتٌ مثل: “الإعلام البنفسجي”، و”إعلام العار”، و”الإعلام الفاسد”، كأدواتٍ لتقييم أداء الوسائل والإعلاميين، ورفض لدورهم التاريخي في خدمة منظومة الاستبداد. واكب هذا الخطاب موجةٌ من “المحاسبة الشعبيّة” تمثَّلت في نشر قوائم سوداء، وتشهير، ومقاطعة، وتصنيفٍ ثنائي للإعلاميين بين “شرفاء” و”فاسدين”.
مع التطوُّر الكمّي للمشهد الإعلامي وتضخُّم المنصات الرقمية، تحوَّل الجدل في السنوات الأخيرة من التركيز على الإعلام السياسي إلى استهداف المضامين الترفيهية الطاغية، والتي فرضتها عواملٌ متشابكة من بين أهمّها اشتداد المنافسة، الأزمة الاقتصادية (التي دفعت المؤسسات إلى خفض التكاليف عبر محتوياتٍ بسيطة)، دخول “صنّاع المحتوى” والمؤثرين الرقميين إلى المنظومة الإعلامية، فضلًا عن تراجُع الحريات وتضييق المجال السياسي الذي أجبر الوسائل على التركيز على المحتوى “الآمن” (الرياضة، الترفيه). وهكذا راجت توصيفاتٌ جديدة مثل “إعلام التفاهة”، و”القُمامة”، و”البذاءة”، كأدوات نقدٍ تُعبِّر عن رفضٍ جماعي لتراجُع المهنية وسيادة السطحية.
لا يقتصر هذا الجدل على الجمهور، بل هو حاضر داخل الأوساط الإعلامية نفسها من خلال تفاعل الإعلاميين مع ظاهرة الرداءة ويتجلّى عبر ثلاثة مستويات. أوّلها تحليلي يُقدِّم فيه صحفيون نقدًا معمّقًا لاختلالات المنظومة، مثل سوء حوكمة الإعلام العمومي، أو تنامي الخطاب الشعبوي وتخلّي الصحفيين عن مسؤولياتهم الاجتماعية، أو أسباب فشل إصلاح القطاع.


المستوى الثاني الذي يمكن وصفه بالانفعالي يسود في الصحافة اليومية، ويُختزل في خطابٍ أخلاقي تعميمي يُهاجم المضامين السطحية دون تحليل سياقاتها، مركّزًا على تأثير “الرداءة” في تدمير الذوق العام وتسطيح الوعي المجتمعي.
والمستوى الثالث جدلي داخلي ويظهر في البرامج الحوارية التلفزيونية والإذاعية، حيث يتبادل الإعلاميون الاتهامات بالابتذال والرداءة (كالخلافات بين المذيعين والكرونيكورات)، حتّى صار هذا الصراع مادّةً إعلامية قائمة بذاتها، تنتقل من الفضاء الافتراضي إلى الشاشات، وتعود إليه.
أما على الصعيد السياسي، فينطلق تقييم النخب الحزبيّة للرداءة من اعتبار الإعلام خصمًا أيديولوجيًّا، فتُوجَّه إليه انتقاداتٌ حادّة تصل حدّ مقاضاة الإعلاميين كما تظهر ذلك تقارير النقابة الوطنية للصحفيين. فقادة حزب النهضة الإسلامي – على سبيل المثال – وصفوا الإعلام بأنه “بيد العلمانيين”، و”منحاز لليسار”، ودعوا إلى “ضربه بيد من حديد” لتحقيق “الموضوعية”. وفي 2013، تجسَّدت هذه الرؤية في “الكتاب الأسود” الذي أصدرته رئاسة الجمهورية خلال حكم المنصف المرزوقي، بعنوان “منظومة الدعاية تحت حكم ابن علي”، بهدف “فضح” الإعلاميين المرتشين والمتعاونين مع النظام السابق.
وفي 2016، دعا محمد عبّو (قيادي سابق في حزب التيار الديمقراطي) إلى مقاطعة قناة “الحوار التونسي” بدعوى نشرها “ما يُفكّك المجتمع وينشر الرذيلة”. أما الرئيس قيس سعيّد، فيرى ضرورة “تعديل الخطوط التحريرية” ليرتقي الإعلام إلى “معركة التحرير الوطني”، وفق تصوُّره.
هكذا، يصبح الحديث عن “رداءة الإعلام” في تونس مرآةً لصراعات أعمق، أزمة ثقة بين الجمهور والمنظومة الإعلاميّة، صراع النخب على شرعيّة التمثيل، وتنافس الأجندات الأيديولوجية تحت شعارات النقد الأخلاقي. فبدل أن يكون النقاش مدخلًا لإصلاح القطاع، تحوَّل إلى حلبةٍ تُعيد إنتاج الأزمات نفسها، حيث تُستبدل القراءة التحليلية بالاتهام المتبادل، وتُختزل المعضلات الهيكلية في حربٍ على “التفاهة” و”الفساد”.


انتشار الأحكام المبسّطة والأفكار المضلّلة
تنتشر في النقاشات حول الإعلام التونسي مجموعةٌ من المسَلَّمات المُضلِّلة التي تُعيق الفهم العميق لظاهرة الرداءة الإعلامية، وتختزل أسبابها في سياقاتٍ ضيقة، كربطها المباشر بثورة 2011، أو اعتبارها نتاجًا حصريًّا لصعود شبكات التواصل الاجتماعي، أو حصرها في الإعلام التونسي كظاهرةٍ استثنائية. هذه التصوُّرات تُهمِّش المقارنات الإقليمية والعالمية، وتُغفِل الأبعاد البنيويّة المشتركة التي تجعل الرداءة ظاهرةً إعلاميةً عالميةً مرتبطةً بتفاعلات الاقتصاد والسياسة والمجتمع.
أبرز هذه المسلّمات الربط الآلي بين النجاح الجماهيري وجودة المحتوى، حيث تُقاس “جودة” المنتج الإعلامي بنسب المشاهدة والاستماع، أو عدد النقرات والمشاركات على المنصات الرقمية…إلخ. ورغم أن هذه المؤشرات توفِّر مزايا موضوعيّة كتقليل التحيّز الذاتي عبر معايير موحّدة، أو دعم قرارات البرمجة بناءً على بيانات قابلة للقياس، إلّا أنها تعزّز مفارقةً لافتة: فالمضامين الأكثر انتشارًا (كالبرامج الترفيهية المُثيرة) هي نفسها التي تُوصَف بـ”القمامة الإعلامية”، وتُواجه انتقاداتٍ لاذعةً حتى من داخل الوسط الإعلامي نفسه. وهكذا تتحوّل أدوات القياس إلى آليّات مختالة تُضفي شرعيةً على نموذجٍ تجاري صِرف، تحت غطاء “الشعبوية”، خاصةً في بيئاتٍ إعلاميةٍ هشَّةٍ مثل تونس، حيث تُقدَّم البرامج المُربحة – ولو كانت مُبتذلة – كتعبيرٍ عن “ذوق الجمهور”، دون مساءلةٍ حقيقيةٍ عما إذا كانت هذه المؤشرات الرقمية تعكس فعليًّا رضا الجماهير أم مجرد انجذابٍ لحظي لا يرتبط بالجودة


ويُعزّز هذا الخلطُ فكرةً أخرى مُضلِّلةً، وهي أن الرداءة الإعلامية وليدةُ التقاء السياق الثوري بالتكنولوجيا، كنتاجٍ لسيطرة رأس المال والمطامع السياسية على إعلامٍ هشٍّ، اخترقته شخصياتٌ هامشية (كـ”الكرونيكورات” والمؤثرين الرقميين) عبر منصّات مثل “فيسبوك” و”التيك توك”.
ممّا لا شك فيه فإن السياق التونسي (أزمات اقتصادية، ضغوط سياسية، انفلات مؤسسي) ساهم في تفاقم الظاهرة، لكن اختزالها في “خصوصية تونس” يُغفل حقيقةً تاريخيةً جوهرة تتمثل في أن الرداءة الإعلامية سمةٌ ملازمةٌ لتطور الإعلام عالميًّا، وليست وليدة العصر الرقمي أو الثورات. ففي أمريكا الشمالية وأوروبا، ظهرت في القرن التاسع عشر مصطلحات مثل “الصحافة الصفراء” (Yellow Journalism) و”صحافة الفلس الواحد” (Penny Press)، لوصف ظواهرَ مشابهةٍ قائمةٍ على الإثارة والتبسيط، مدفوعةً بمنطق السوق والمنافسة. كما أنّ بروز برامج “تلفزيون الواقع” في منتصف القرن العشرين، وبرامج “التولك شو” و’تلفزيون القمامة” هو امتدادٌ لنفس النمط الذي يحوِّل الإعلام إلى سلعةٍ استهلاكيةٍ تُقدِّم الترفيه السريع على حساب العمق. كذلك يمكننا أن ندرج ما يصطلح على تسميته اليوم في تونس بـ”إعلام الطناجر” ضمن هذا المنطق.


يمكن الإقرار إذن بأنّ السياق التونسي ساهم في تعميق ظاهرة الرداءة الإعلامية، لكن لا بد من توخّي الحذر من النظرة المثالية للماضي الإعلامي. فالتنديد بـ”رداءة الإعلام” ليس جديدًا بل هو جزءٌ من تاريخ الصحافة نفسها، حيث تصارعت دائمًا نماذجُ “الجودة” (المرتبطة بالنخب والقضايا العامة) مع “الشعبوية” (المُوجَّهة للجماهير العريضة). الفارق اليوم أن السياق التكنولوجي والاقتصادي – مع هيمنة المنصّات الرقمية وتسليع المحتوى ومنطق “شدّ الانتباه” أعطى دفعًا أكبر لـ”الإعلام الرديء”، لكن الجذور واحدة: سعي المؤسسات الإعلامية للبقاء في سوقٍ قاسية، حيث تُقدَّم “المشاهدات” كإلهاءٍ عن الأزمات الهيكلية، وتُختزل الجماهيرُ إلى أرقامٍ في جداولَ رقميةٍ، لا فاعلينَ في حقلٍ ثقافيٍّ حيوي.


تبنّي سرديّة الحتمية الإعلامية
من بين الاختلالات الجوهرية التي تشوِّش النقاش حول الإعلام التونسي، هيمنةُ سردية حتمية تساهم في تضخيم دورَ الإعلام اجتماعيًّا وسياسيًّا، فتُحمِّله مسؤوليةً مباشرةً في توجيه الوعي الجمعي وضمان نجاح التحول الديمقراطي، وكأن الانتقال السياسي رهينٌ بتحوُّل إعلامي موازٍ، بل يُصوَّر هذا الأخير شرطًا كافيًا لبناء الديمقراطية، لا مجرد عاملٍ مساعدٍ ضمن سياقٍ أوسع.
هذه الرؤية التبسيطية – المُتشابهة مع الخطاب العالمي السائد في أدبيات دعم الديمقراطية والترانزيتولوجيا- تتجاهل تعقيدَ البيئة التونسية الهشّة، حيث لا يُمكن فصلُ أي تحوُّل إعلامي عن شروطٍ مؤسساتيةٍ وقانونيةٍ واقتصاديةٍ داعمة.
ففي تونس، أنتجت هذه السردية أفق انتظارٍ وهمي، حوَّل الإعلاميين إلى “كبش فداء” يُلامون على إخفاقات مرحلةٍ كاملةٍ، بينما تُهمَل الأزمات البنيوية التي تفوق قدراتهم، كالفساد الهيكلي، وغياب الإطار التشريعي، والضغوط الاقتصادية التي تدفع المؤسسات إلى تفضيل الربح على الجودة.


كما تعتمد هذه الحتميةُ على افتراضٍ خاطئٍ بأنّ الإعلام قادرٌ على تشكيل الوعي بشكلٍ أحاديٍ، دون مراعاةٍ لتعدُّد الهويات الثقافية وتعقيد البنى الاجتماعية. ففي الأنظمة السلطوية، يُستخدم الإعلام كأداةٍ دعائيةٍ لترويج سرديّة السلطة، بينما في الديمقراطيات، قد يلعب دورَ “السلطة الرابعة” الرقابي. لكن هذا التمايز لا يعني – بأي حال من الأحوال – أنّ التأثير الإعلامي مُطلقٌ أو حتمي؛ فالمعنى لا يُنتَج في الفراغ، بل هو نتاج مفاوضات مستمرة بين مختلف القوى (السياسية/الاقتصادية) وقدرة الجمهور على التأويل أو المقاومة، كما أظهر ذلك دراسات التأثير الانتقائي والتلقّي النشط للمضامين الإعلامية. فالمتلقِّي ليس كتلةً سلبيةً تبتلع الرسائل، بل فاعلٌ قادرٌ على تفكيكها أو إعادة إنتاجها وفقًا لخبراته وقناعاته.
وتتعمق أزمةُ هذه السرديّة في العصر الرقمي، حيث تقلّصت هيمنة الإعلام التقليدي أمام صعود المنصّات الرقمية التي شتَّتت الفضاء العام وأتاحت للأفراد نشرَ مضامينَ تعكس تجاربهم خارج الأطر التحريرية التقليدية. هذه اللاوساطة كشفت عن محدودية التصورات الحتمية التي تتجاهل فاعلية الجمهور. فرغم احتفاظ الإعلام الكلاسيكي بمصداقية نسبية في الأزمات أو التحقيقات الاستقصائية، إلا أنه يواجه منافسةً شرسةً من المحتوى العاطفي السريع الذي تنتجه الخوارزميات، ممّا أعاد تشكيل العلاقة بين المتلقي والرسالة: فالإثارةُ والتشويقُ يقدَّمان على التحليلِ العميق، والتفاعلُ الآني يُحوِّل المضامينَ إلى سلعٍ افتراضيةٍ قابلةٍ للاستهلاك السريع.
هكذا، تتحطّمُ أسطورةُ الحتمية الإعلامية أمام تعقيدات الواقع؛ فالإعلام ليس فاعلًا منعزلًا قادرًا على صناعة التحولات الكبرى بمفرده، بل هو حلقةٌ في شبكةٍ من التفاعلات الديناميكية بين التكنولوجيا والسياق الاجتماعي والسياسي، وبين خطابات النخب ومقاومة الجمهور. بالتالي يمكن القول إن اختزالُ الإخفاقات السياسية أو الثقافية في “رداءة الإعلام” ليس سوى هروبٍ من مواجهة الأسباب الجذرية للأزمات، وإسقاطٍ لذنبٍ جماعي على فاعلين محدودي التأثير في منظومةٍ تتحكم فيها عواملٌ أعقدُ من أن تُختزل في سرديةٍ مبسَّطة.


التناقض بين المقاربات التفسيرية للرداءة
يُعدّ النقاش حول أزمة الإعلام في تونس مرآة لانقسام حادّ بين مقاربتين تفسيريتين متنافرتين: المقاربة البنيوية من جهة، والمقاربة الفردانية من جهة أخرى. فالأولى تُرجع تردّي المضامين الإعلامية إلى اختلالات خارجية وهيكلية، مثل التحوّلات السياسية المتقلبة، هشاشة النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية، ضعف السياسات العمومية، وتضارب المصالح بين الفاعلين السياسيين والإعلاميين، بالإضافة إلى ضغط التكنولوجيات الحديثة التي فرضت منطق السرعة والفورية على حساب التحري والتعمق. في هذا المنظور، تُفهم الرداءة بوصفها نتيجة لبُنى معطوبة: غياب الشفافية، هشاشة التحرير، ضعف التكوين المستمر، وممارسات تمليها المصالح التجارية والضغوط السياسية.
في المقابل، تتبنّى المقاربة الفردانية خطابًا يُحمّل المسؤولية كاملة للصحفيين والمؤسسات الإعلامية، متجاهلة السياقات والبُنى التي تُؤطر ممارساتهم. تركّز هذه المقاربة على ما تعتبره قصورًا شخصيًا في أداء الصحفي، كغياب الحس المهني، الانسياق وراء الإثارة، التخلّي عن الوظيفة التنويرية، أو الفشل في مقاومة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي. ويتجلّى هذا الطرح في خطاب بعض النخب والجمهور، الذين يرون في الصحفيين السبب المباشر في تراجع الجودة، أو في اتهام مؤسسات التكوين – على رأسها معهد الصحافة وعلوم الإخبار- بإنتاج أجيال تفتقر إلى الثقافة العامة والكفاءة التقنية.
غير أنّ الاقتصار على أحد هذين التفسيرين يُنتج خطابًا اختزاليًا، يُفرغ النقاش من طابعه التحليلي، ويحوّله إلى ساحة لتبادل الاتهامات بين “الفاعلين السيئين” و”المنظومة المعطوبة”، بدل مساءلة الشروط المركّبة التي تُنتج هذا الواقع. فالفصل الحادّ بين العوامل البنيوية والتصرفات الفردية يُعطّل فهمًا أعمق للتردّي الإعلامي، ويحول دون بناء تشخيص متدرج ومتوازن للمسؤوليات. فمثلاً، تراجع الزخم الثوري وتقلّص الأحداث الوطنية لم يؤدّيا إلى إنتاج أشكال بديلة من التغطية أو التحليل، ليس فقط بسبب فشل الأفراد، بل لأنّ المؤسسات نفسها تفتقر إلى دعم بنيوي يعزّز الصحافة الجادّة في وجه منطق السوق والمنصّات السريعة.


من ثمّ، تبرز الحاجة إلى مقاربة تركيبية تعترف بتشابك العوامل، وتُعيد ربط الفعل الإعلامي بالسياقات القانونية، الاقتصادية، المعرفية، والمؤسساتية التي تحتضنه. مقاربة تُدرك أن الأداء الإعلامي لا يمكن فصله عن نوعية التكوين، واستقرار المؤسسات، واستقلالية التحرير، وشروط العمل، لكنها لا تُسقِط في المقابل مسؤولية الفاعلين الأفراد، بل تُقيّم أدوارهم ضمن بيئة إنتاج مركّبة. مثل هذه المقاربة تسمح بتفكيك أعمق لأسباب الأزمة، وتُؤسس لإصلاح فعلي لا يكتفي بتبديل الوجوه أو تغيير الخطابات، بل يُعيد التفكير في شروط العمل الصحفي، وموقع الإعلام في المجال العمومي، وطبيعة العلاقة بين الدولة والمهنة، وبين الصحفيين ومؤسساتهم، وبين الإعلام والجمهور.
ختاما، يمكن القول إنّ الجدل حول الرداءة الإعلامية في تونس يكشف عن أزمةً مركّبةً تتفاعل فيها البُنى الهيكلية مع الصراعات الرمزية، بدلًا من حلّها. فتحوُّل النقاش إلى تبادل اتهامات وتختزله في ثنائياتٍ أخلاقيةٍ أو حتمياتٍ تعكس غياب رؤيةٍ نقديةٍ قادرةٍ على تفكيك تشابك السياسي والاقتصادي مع الاجتماعي والمهني. ولتحويل هذا الجدل إلى فرصة إصلاح، يجب تجاوز الخطاب الانفعالي نحو مقاربةٍ متكاملة تدمج ضبط المفاهيم بتحليل العوامل البنيوية وتعزيز الشفافية والمعايير المهنية. هكذا يتحوّل النقد من مجرّد تنديدٍ إلى مسارٍ فعليٍّ لإرساء إعلامٍ حرٍّ ومسؤول، يعكس تعقيدات الواقع ويخدم الصالح العام.
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".
إيمانا منه بضرورة فتح باب النقاش أمام الخبراء والمهنيين.ـات والأكاديميين.ـات وممثّلي.ـات الهياكل المهنية لتقديم رؤاهم/هن وتصوّراتهم/هن لمسألة إصلاح الإعلام ينشر موقع الكتيبة، بشكل متتالي، عددا من المقالات والورقات البحثية تحت عنوان "رؤى متقاطعة لاصلاح و/أو إعادة بناء النظام الإعلامي التونسي".

الكاتبة: د. عائدة الفيتوري
أستاذة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة


الكاتبة : د. عائدة الفيتوري
أستاذة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة
