الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
“قمت بعمليات إجهاض في مناسبتين خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الوضع الاجتماعي في تونس اليوم لا يشجّع على إنجاب المزيد من الأطفال ولا يبشّر بظروف أفضل خلال السنوات المقبلة. لا أرغب في إنجاب المزيد من الأبناء في بلد يعيش حالة ارتهان لدى صندوق النقد الدولي والدول المانحة. يكفي أنّ ابني الوحيد الذي يبلغ من العمر 4 سنوات ونيف حاليا قد وُلد وهو مدين بما يقارب 10 آلاف دينار (حوالي 3400 دولار) دون أن يكون له أي ذنب في ذلك”.
بهذه العبارات التي تنضح مرارة وحسرة عمّا آلت إليه الأوضاع المالية للدولة التونسية غداة قرابة 11 سنة عن اندلاع شرارة الثورة، تحدثت مريم، أستاذة التعليم الثانوي، البالغة من العمر 38 سنة عن انعكاسات ذلك على حياتها الأسرية والمهنية.
تضيف مريم، في ذات السياق، منتقدة سياسات الحكومات التي تولّت مقاليد الحكم في تونس خلال العشرية الماضية: “نحن ندفع ضريبة حكم مجموعة من السياسيين الهواة و الفاسدين الذين أغرقوا كاهل البلاد بالمديونية.. أنا الآن أتقاضى أجرا شهريا في حدود 1200 دينار… هذا الأجر لا يكفي حتىّ لتغطية مصاريف نصف شهر في ظلّ غلاء تكلفة المعيشة وحينما تطالب نقابتنا (الجامعة العامة للتعليم الثانوي) بالزيادة في أجور المدرسين تصطدم برفض مطلق من الحكومات التي تتعلّل بشروط صندوق النقد الدولي الذي يضغط من أجل التخفيض في كتلة الأجور في الوظيفة العمومية… فكيف لي أن أحلم بأن يكون لابني أخ أو أخت؟.”
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
“قمت بعمليات إجهاض في مناسبتين خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الوضع الاجتماعي في تونس اليوم لا يشجّع على إنجاب المزيد من الأطفال ولا يبشّر بظروف أفضل خلال السنوات المقبلة. لا أرغب في إنجاب المزيد من الأبناء في بلد يعيش حالة ارتهان لدى صندوق النقد الدولي والدول المانحة. يكفي أنّ ابني الوحيد الذي يبلغ من العمر 4 سنوات ونيف حاليا قد وُلد وهو مدين بما يقارب 10 آلاف دينار (حوالي 3400 دولار) دون أن يكون له أي ذنب في ذلك”.
بهذه العبارات التي تنضح مرارة وحسرة عمّا آلت إليه الأوضاع المالية للدولة التونسية غداة قرابة 11 سنة عن اندلاع شرارة الثورة، تحدثت مريم، أستاذة التعليم الثانوي، البالغة من العمر 38 سنة عن انعكاسات ذلك على حياتها الأسرية والمهنية.
تضيف مريم، في ذات السياق، منتقدة سياسات الحكومات التي تولّت مقاليد الحكم في تونس خلال العشرية الماضية: “نحن ندفع ضريبة حكم مجموعة من السياسيين الهواة و الفاسدين الذين أغرقوا كاهل البلاد بالمديونية.. أنا الآن أتقاضى أجرا شهريا في حدود 1200 دينار… هذا الأجر لا يكفي حتىّ لتغطية مصاريف نصف شهر في ظلّ غلاء تكلفة المعيشة وحينما تطالب نقابتنا (الجامعة العامة للتعليم الثانوي) بالزيادة في أجور المدرسين تصطدم برفض مطلق من الحكومات التي تتعلّل بشروط صندوق النقد الدولي الذي يضغط من أجل التخفيض في كتلة الأجور في الوظيفة العمومية… فكيف لي أن أحلم بأن يكون لابني أخ أو أخت؟.”
وضعية المواطنة مريم لا تختلف كثيرا عن ملايين التونسيين الذين بات ملف المديونية يؤرقهم بتداعياته على وضعهم الاقتصادي والاجتماعي في ظلّ غياب أي رؤية واضحة لمعالجة إشكالية المالية العمومية المتهرّئة التي جعلت شبح الإفلاس يخيّم على البلاد كما كان الحال في القرن 19 حين انتهى الأمر بالإيالة التونسية بالسقوط بين مخالب الاستعمار الفرنسي.
من الكومسيون المالي إلى صندوق النقد الدولي
في أطراف المدينة العتيقة بتونس العاصمة، يمّر يوميا آلاف المواطنين التونسيين من نهج يُسمّى الكومسيون. العديد من هؤلاء قد يكونوا لا يعلمون الرمزية التاريخية لهذا النهج الذي احتضن خلال القرن 19 الكوميسيون المالي أو ما سمّيَ آنذاك باللجنة المالية الدولية. الرمزية الدلالية لهذا النهج الشهير هي في الحقيقة لا تختلف كثيرا عن الآثار السياسيّة للطريق الذي سلكته جلّ الحكومات المتعاقبة على الحكم في تونس بعد 2011 من خلال إثقال البلاد بالديون الخارجية في سبيل البقاء في السلطة بأي ثمن حتّى إن كان ذلك على حساب استقلالية القرار التونسي والسيادة الوطنية ورهن الأجيال المقبلة التي لا ناقة لها ولا جمل في مثل هذه الخيارات.
بالعودة إلى عام 1863، سنة قبيل قيام انتفاضة شعبية ضدّ حاكم الإيالة التونسية محمد الصادق باي، وخلال تبادل الآراء والنقاشات حول ما آلت إليه أوضاع الإيالة من سوء معيشة وفقر وجباية مشطّة وديون خارجية أثقلت كاهل الميزانية، توجّه أمير الأمراء الجنرال حسين بالنصح إلى باي الإيالة الذي أراد الرفع من قيمة الضرائب المفروضة على “الرعية” قائلا:
” يا سيدي، إن هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد، وهي من الموجود في خطر، فحالها كحال البقرة إذا حُلب ضرعها حتى خرج الدم، فهي الآن ينزو ضرعها بالدم، وولدها بمضيعة والعطب أقرب إليها من السلامة”.
نصيحة الجنرال حسين
في الحقيقة، ذلك الوضع المتأزم والذي فتح باب الاستعمار الفرنسي على مصراعيه تحت مسمّى الحماية، جاء نتيجة حتمية لسياسات بايات الإيالة التونسية أحمد ومحمد الصادق في السنوات الممتدة بين 1837 و1863، تاريخ خروج تونس لأوّل مرّة في تاريخها للتداين من السوق العالمية بعد سلسلة متواصلة من التداين الداخلي بنسب فائدة مجحفة تماما، وذلك بهدف تمويل بناء قصور ملكية واستثمارات عمومية تقوم على الصناعة الحربية ومصانع الأقمشة وغيرها بعد التأثر بالتطور الأوروبي في هذه المجالات.
انتهت الانتفاضة الشعبية بإخماد نيرانها بفضل التدخل الخارجي من سلطان الإمبراطورية العثمانية الذي قام بتمويل خزينة الدولة التونسية من أجل تكوين جيش يخمد نار ما وصف آنذاك بالفتنة، فضلا عن تعزيز سلطة باي الإيالة التونسية محمد الصادق الذي قام ببسط نفوذه مرّة أخرى وفرض جباية مشطّة على “الرعيّة” لتحصيل عائدات جبائية يمكن من خلالها خلاص ديون الإيالة تجاه مقرضيها والبالغ قدرها 65.1 مليون فرنك -آنذاك- مقسّمة بين 33.7 مليون فرنك كأصل الدين والباقي كفوائد.
ولئن نجح الصادق باي في فرض نفوذه وسلطة حكمه مرّة أخرى، إلاّ أنه لم يستطع تجاوز الأزمة المالية الخانقة التي كانت تمرّ بها البلاد وقتها خاصة وأنّ القرض الذي حلّت آجال خلاص قسمِه الأوّل كان قد تمّ انفاقه فيما لا يعني كما يُشير إلى ذلك المؤرخون الذين أكّدوا أنّ القرض المذكور لم يدخل بتاتا خزينة الدّولة ولا حساباتها المالية، كما ورد في كتاب أحمد بن أبي الضياف “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان” في حديثه عن فساد الباي ومستشاريه وحاشيته خاصة كل من مصطفى خزندار ونجيب بن اسماعيل ونسيم شمامة أعيان القصر الملكي.
فساد الحكم حينها وسوء الحوكمة وتوجيه القروض نحو مسائل تتعارض والمصالح العليا للأهالي و”الرعيّة” خلقا عجزا ماليا كبيرا يصعب تداركه، ما دفع الباي وحاشيته إلى مزيد الاقتراض خارجيا وبشروط أكثر إجحافا وهو ما حصل فعلا من خلال طلب ديون جديدة من نفس الصيارفة الفرنسيين أساسا (أصحاب بنوك) بمبلغ قدّر بنحو 36.78 مليون فرنك يتمّ خلاصه على مدى 15 سنة وبمبلغ قدره 75.4 مليون فرنك، ليتجاوز إجمالي الديون الخارجية المتخلّدة بذمة الدولة التونسية الثلاثين مليون ريال وهو ما يساوي أضعاف ميزانية الدولة.
وجاءت فيما بعد سياسة استسهال التداين خاصة تلك اليسيرة وذات نسب فائدة عالية جدّا وذلك بغرض خلاص ديون أخرى ومجابهة النفقات اليومية، إلى أن تمّ فرض الكوميسار المالي المتصرّف في مقدّرات الدولة وميزانيتها وقد مثّل بابا لدخول الاستعمار الفرنسي إلى الأراضي التونسية تحت مسمّى الحماية.
ولعلّ تراجيدية الخيارات السياسيّة الكارثية في علاقة بمسألة المديونية التي عاشتها تونس خلال عهد البايات قبيل حلول الاستعمار الفرنسي (1881-1956) لا تختلف كثيرا عن الواقع الذي تعيشه البلاد التونسية اليوم بعد 11 سنة عن تاريخ اندلاع شرارة الثورة التي كانت محركاتها اقتصادية واجتماعية بالأساس حيث عجّلت بإسقاط نظام الرئيس زين العابدين بن علي دون أن يكون هناك اتعاظ من دروس التاريخ.
علي العريض ومن ورائه إلياس الفخفاخ / الحبيب الصيد ومن ورائه سليم شاكر
فبُعيد سنة 2011، عاشت تونس انفجارا اجتماعيا وسياسيا ارتدّت موجاته على المالية العمومية والسياسات الاقتصادية للدولة، فضلا عن قرارات ارتجالية زادت في تعميق الأزمة المالية من ذلك التدحرج الواضح في معدلات النمو التي لم تتجاوز الـ 2.5 % في أحسن الحالات مع الارتفاع الكبير في حجم المصاريف والنفقات.
ولا يختلف اثنان على أنّ الاقتصاد التونسي تلقى ضربات موجعة طيلة العشرية الأخيرة زادت في تعميق مشاكله المتّصلة أساسا بغياب رؤية استراتيجية وحوكمة رشيدة رغم ما تم إنفاقه من أموال بُغية التوصل إلى هذين الهدفين الرئيسيين.
في جوان/ يونيو من سنة 2013، أمضى وزير مالية حكومة الترويكا الحاكمة آنذاك إلياس الفخفاخ على اتفاقية قرض مباشر مع صندوق النقد الدولي بقيمة 1.74 مليار دولار، رغم التحذيرات والتنبيه من مغبّة إدخال تونس في الشروط المجحفة لصندوق النقد الدولي والتي يصعب تحقيقها نظرا لكلفتها العالية على الطبقات المتوسطة والفقيرة، فضلا عن رهن القرار السيادي لتونس في كل ما يتعلّق بالإصلاحات الهيكلية الواجب إدخالها على النظام الاقتصادي.
وكانت وثيقة مسرّبة نشرها موقع نواة قد كشفت في وقت سابق عن تعهّدات الدولة التونسية تجاه الصندوق النقد الدولي ممضاة من طرف وزير المالية آنذاك إلياس الفخفاخ في حكومة علي العريض ومحافظ البنك المركزي الشاذلي العيّاري والتي تضمّنت القبول بشروط في شكل إملاءات من صندوق النقد الدولي لا تراعي بالمرّة الظرفية الحسّاسة للاقتصاد التونسي.
لم يكن ذلك القرض المُسمّى “قرض الاستعداد الائتماني” سوى تمهيدا لاتفاق ثان في تاريخ الدولة التونسية مع صندوق النقد الدولي بعد الاتفاق الأوّل الذي أبرم في أواخر عهد الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1986 في إطار ما أطلق عليه وقتها برنامج الإصلاح الهيكلي.
في الحقيقة، لجأت الحكومة إلى “قرض الاستعداد الائتماني” بعد استهلاكها لجميع مدخراتها وتوقف الإنتاج في عدّة مناطق أبرزها إنتاج الفسفاط بالحوض المنجمي بقفصة وخاصة الارتفاع الجنوني لكتلة الأجور التي ساهمت فيها حكومات الترويكا ومن قبلها الحكومة الانتقالية للباجي قائد السبسي سنة 2011. وأفضت هذه السياسات الارتجالية وغياب تصوّر شامل للإصلاحات الاقتصادية إلى ارتفاع في مصاريف الدولة مقابل تدحرج واضح في معدلات النمو.
وفي ماي/أيار من سنة 2016، وأمام التعثرات الاقتصادية والأوضاع الإجتماعية والسياسية المتقلّبة وبعد تمهيد من حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة ذات المرجعية الاسلامية، واصلت حكومة الحبيب الصيد سياسة التوجّه إلى صندوق النقد الدولي من خلال إبرام اتفاق جديد بين الطرفين.
هذا البرنامج الجديد مع صندوق النقد الدولي، والذي جاء تحت عنوان ” إعادة تأهيل الاقتصاد التونسي” والبالغ حجمه 2.9 مليار دولار، كانت مضامينه تنبئ بإرتهان واضح للقرار السيادي للدولة التونسية في كل ما سيتبع من إصلاحات هيكلية يتعيّن إدخالها على الاقتصاد التونسي وتطبيق ما تضمنته رسالة حكومة الترويكا في مارس/آذار 2013، إلى مديرة الصندوق كريستين لاغارد.
رغم تحقّق جزء مهم من “النتائج” المطلوبة من تونس في اتفاقها مع صندوق النقد الدولي سنة 2016، بتقليص عجز المالية العمومية من 6% سنة 2016، إلى 3.9 % سنة 2019 وتخفيض في التضخم من 7.7% في سنة 2018 إلى 5.8% في سنة 2020، علّق الصندوق حقوق سحب الجزء الأخير من الاعتمادات المرصودة، وذلك بعد قرار رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في مارس/آذار من سنة 2020 التوجّه نحو سحب اعتمادات الصندوق ( قروض سريعة ) التي وضعها لإنقاذ اقتصاديات الدول من النتائج السلبية لجائحة كوفيد-19 والمُقدّرة بنحو 745 مليون دولار، وصرف النظر عن بقية الإعتمادات المقرّرة في اتفاقية 2016، وبذلك أُعلن إنهاء العمل باتفاقية 2016 على أمل تجديد المفاوضات بعد انحسار أزمة تفشي جائحة كوفيد-19 بحسب تقارير صندوق النقد الدولي.
قرار حكومة الفخفاخ في إنهاء العمل باتفاقية 2016، جاء بعد تقييم النتائج المُحققة من طرف الحكومة التي سبقتها (حكومة يوسف الشاهد) التي سهرت على تنفيذ بنوده من أواخر عام 2016 إلى موفى سنة 2019.
نتائج اعتبرها وزير المالية آنذاك نزار يعيش في راديو اكسبراس أف.أم دون المأمول وخلّفت وضعا اقتصاديا صعبا للغاية على حدّ قوله، ما دفع الطرف التونسي إلى الدخول في مفاوضات جديدة مع الصندوق حول برنامج تأهيل جديد في علاقة بمعالجة الآثار السلبية لجائحة كوفيد-19 تمكّنت من خلاله تونس من الحصول على موافقة بقرض جديد يُناهز الـ 745 مليون دولار وصرف النظر عن بقية اعتمادات اتفاق 2016.
قرض لم تتمكن تونس من سحبه إلاّ في سبتمبر/أيلول من سنة 2020 إثر سقوط حكومة الفخفاخ التي ستخلفها حكومة هشام المشيشي.
قرار الحكومة في مارس/آذار من سنة 2020، والتقلّبات السياسيّة التي عرفتها البلاد عادت بتونس في ما يخصّ مؤشراتها الاقتصادية إلى النقطة الصفر وزادتها التبعات السلبية لجائحة كوفيد-19 سوءا، ما أفضى في نهاية المطاف إلى الرجوع إلى صندوق النقد الدولي من جديد للتفاوض مع أجل برنامج إصلاحي ثالث.
مفاوضات فشلت فيها حكومة هشام المشيشي وفشلت معها تونس في الحصول على ضمان أمريكي بغاية اتمام الاتفاق، ليعود الرئيس قيس سعيّد على إثر إطاحته بحكومة المشيشي وتجميد اختصاصات البرلمان بناء على التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها مساء يوم 25 جويلية/يوليو 2021 إلى نفس المربّع رغم نجاح هذا الأخير مؤخرا على مبلغ يناهز الـ 700 مليون دولار كحقوق سحب لتونس من الصندوق باعتبارها عضوا فيه، إثر قرار يقضي بالسماح للدول الأعضاء المتضررّة من جائحة كوفيد-19 من حقوق سحب جزء من حصصها بالصندوق.
عَوْدٌ على بدء…سيناريو شبح الإفلاس
منذ سنة 2011، وعلى إثر تشكّل مشهد سياسي على أنقاض نظام دكتاتوري كان له هو الآخر نصيب لا بأس به من نسبة الديون التي أثقلت كاهل الدولة، لا تكاد تنتهي مفاوضات بُغية الحصول على قرض يعبئ موارد الدولة، حتى تبدأ جولة أخرى للحصول على قرض جديد يسدّد جزءا من ديون قرض سابق. قروض من صناديق دولية أو ما يعرف بالقروض متعددة الجنسية، قروض من أسواق عالمية، قروض ثنائية وقروض أخرى داخلية.. انّها دائرة مغلقة من الديون عصفت بالدولة التونسية، وجعلت منها شبه عاجزة.
في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2020، وفي أجواء غير عادية صادق مجلس نواب الشعب آنذاك قبل تجميد اختصاصاته من طرف رئيس الجمهورية على قانون المالية لسنة 2021. ميزانية كانت تحتاج بحسب تقديرات وزارة المالية التي كان يقودها الوزير علي الكعلي إلى ضرورة تعبئتها بما يقارب الـ19 مليار دينار (6,6 مليار دولار) من خلال التداين.
صورة من الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب الغنوشي في استقبال الكعلي
صورة من الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب الغنوشي في استقبال الكعلي
ما ميّز تلك الفترة التي رافقت جلسات المصادقة على قانون الميزانية أنّ الكتل المساندة للحكومة كانت رافضة لما اقترحته هذه الأخيرة، خاصّة أنّ المعطيات التي بَنَت وفقها الحكومة مشروع ميزانيتها للسنة الجديدة مغلوطة بإجماع عديد المختصين في الشأن الاقتصادي، لكنّها ورغم المواقف الرافضة صوّتت بنعم وبالموافقة على أمل إصلاح القانون بقانون مالية تكميلي وذلك خوفا من سقوط الحكومة وتأثيره على الموازنات العامّة والتّي كانت سترتدّ موجات اختلالها على مسألة خلاص أجور موظفي الدولة والمتعاملين معها.
لم يكن الجدل حكرا على التصوّرات المالية لحكومة المشيشي بل رافق جميع جلسات مناقشات قوانين المالية مع كل الحكومات تقريبا والمتّهمة بالعجز عن إيجاد حلول ذاتية والتعويل فقط على سياسة التداين والتي تراكمت بشكل مفزع ووضعت ميزانية الدولة رهينة إملاءات الجهات المانحة عن طريق تلك الديون.
19 مليار دينار (6,6 مليار دولار) بالتمام والكمال، دخلت الحكومة التونسية في ماراطون من المباحثات مع عدد من الجهات المانحة قصد الحصول عليها في شكل قروض بالعملة الصعبة إمّا خارجية أو داخلية.
لكن ما لم يكن في حسبان هشام المشيشي وحكومته، أن يتغيّر سعر برميل النفط في السوق العالمية لتتغير معها بالضرورة التقديرات المالية لموازنات الدولة التونسية خلال نفس السنة، فبعد تقديرات حكومية لسعر برميل النفط في السوق العالمية بنحو 45 دولار للبرميل الواحد، عرف سعر البرميل ارتفاعا جنونيا ليتجاوز الـ70 دولار، وهو ما ترجم ارتفاع حجم الثغرة الموجودة في ميزانية 2021، ليصبح إجمالي المبلغ الذي تبحث عنه الحكومة ما يناهز الـ 21 مليار دينار (7,3 مليار دولار) بحسب تقرير وزارة المالية حول قانون المالية التعديلي لنفس السنة.
لا شكّ في أنّ عام 2021 يمثل السنة الأصعب في تاريخ الاقتصاد التونسي لما يشهده أوّلا من تحوّلات سياسية عميقة لها من التأثير الشيء الكبير على السياسات الاقتصادية، وكذلك لما يمثله من تحدّ تجاه ضرورة مراجعة هذه السياسات على اعتبار أن المواصلة فيها وبنفس الكيفية سيفضي إلى نتائج وخيمة يصعب تداركها.
الخبير المالي بسام النيفر يُفسّر جملة الصعوبات المالية التي تعاني منها ميزانية هذه السنة وما تمّ تحصيله من عائدات غير ذاتية (ديون)، مُشيرا إلى أنّ السوق الداخلية هي من تحمّلت وبشكل كبير ضغط تعبئة موارد الدولة حتّى أنها وصلت إلى أرقام غير مسبوقة، في حين أن الموارد غير الذاتية الواجب تعبئتها عبر قروض خارجية لا تزال غير واضحة المعالم.
هذا غيض من فيض من السياسات العمومية الاقتصادية للدولة التونسية المرتكز على استسهال التداين وخاصة منه التداين الخارجي الذي بلغ مستويات خيالية مقدّرة بنحو 41 مليار دولار أي ما يُساوي 114.8 مليار دينار سنة 2020 باحتساب قروض المؤسسات العمومية وقروض المؤسسات شبه العمومية المضمونة من الدولة، بحسب تقرير نشره البنك الدولي مؤخرا.
كان عام 2021 سنة استثنائية بكل المقاييس، فبعد الزلزال السياسي الذي هزّ البلاد في 25 جويلية/يوليو على إثر قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد، تفاقمت مشاكل تونس المالية وتردّى الوضع الاقتصادي الذي لم ينفكّ يحتضر أصلا تحت وطأة جائحة كوفيد-19.
وتبدو حكومة الرئيس التي تقودها نجلاء بودن أنها عاجزة عن إيجاد الحلول المثلى لسدّ ثغرة مالية كبيرة في ميزانية الدولة حجمها مُقدّر بـ8000 مليون دينار (حوالي 2800 مليون دولار) منها ما يُقارب 6000 مليون دينار (أكثر من2000 مليون دولار) يجب تعبئتها بقروض خارجية، بحسب تقرير شهر سبتمبر/أيلول لتنفيذ ميزانية 2021.
وعلى الرغم من ارتفاع الموارد الذاتية لخزينة الدولة بتطوّر المداخيل الجبائية بنسبة تفوق الـ15% خلال الثلاثية الأخيرة من السنة، إلاّ أن تعطّل المفاوضات مع عدد من الجهات المانحة قد يضع تونس في وضعية أكثر تعقيدا تتمثل في عدم الحصول على قروض جديدة لغلق ميزانية 2021، ولا على اتفاقات جديدة لتعبئة موارد الخزينة بقروض أخرى للسنة القادمة 2022.
البنك الأمريكي Bof A Securities، نشر تقريرًا بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني من هذه السنة -تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منه- عن حالة المالية العامة في تونس، توقّع فيه بلوغ تونس مستويات خطيرة في نسب المديونية الخارجية قد تضع البلاد أمام حتمية العجز عن خلاص تلك الديون، خاصة أنّ احتياجات الدولة من الديون الخارجية لغلق ميزانية 2021، وكما أشرنا إليه سابقا تُقدّر بنحو 1.9 مليار دولار أمريكي بما يعادل 5.6 مليار دينار (4.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي).
معطيات إذا ما تواصلت دون حلول قد تضع حكومة بودن أمام خيار وحيد يعتمد على ضخ البنك المركزي التونسي الأموال بالعملة الصعبة لسد الفجوة المالية المقدّرة بـ8000 مليون دينار هذه السنة، وهو ما سيُقلل في احتياطي البنك من العملة الصعبة المقدّر في موفى شهر سبتمبر/أيلول بـ 20962 مليون دينار (127 يوم توريد)، فضلا عن خطر ازدياد التضخم ووصوله إلى معدّلات غير مسبوقة حسب نفس التقرير.
حلقة دائرية مفرغة دفعت بالعديد من قوى المجتمع المدني من بينها كل من منظمة البوصلة والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى إطلاق حملة “يزي ما رهنتونا” (كفى من الارتهان) احتجاجا على توجه حكومة الرئيس قيس سعيّد نحو خيار التفاوض من جديد مع صندوق النقد الدولي لتمويل برنامج إصلاحي جديد مذكرين إيّاه من خلال مراسلة توجها بها إليه بشعاراته التي رفعها حول الحفاظ على السيادة الوطنية والتي تتعارض مع الخيارات الاقتصادية التي انتهجها حسب نص المراسلة.
تضخّم الديون العمومية
مع موفى سنة 2011، كان حجم الدين العمومي للدولة التونسية في حدود الـ 28779 مليون دينار، وخلال عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي، قفز هذا الدين بما يقارب الـ360% ليبلغ مع موفى شهر سبتمبر/أيلول من السنة الجارية 2021 ما حجمه 107844 مليون دينار، بلغت نسبة الدين الخارجي منه 67783 مليون دينار، فيما تُشير تقديرات البنك الدولي في موفى سنة 2020 إلى أنّ الدين الخارجي قفز فعلا إلى 41 مليار دولار أي ما يعادل نحو 114.8 مليار دينار باعتبار ديون المؤسسات العمومية المضمونة من الدولة.
ويُعتبر الدين العمومي من أهم الآليات التي تعتمدها الدول لتمويل ميزانيتها قصد تجسيد سياستها الاقتصادية والتنموية وتجسيم تدخلاتها للنهوض بالوضع الاقتصادي والاجتماعي عبر إنجاز مشاريع عمومية.
المديونية في حدّ ذاتها لا تعتبر مشكلة فأكبر اقتصاديات العالم كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان وحتى الدول الخليجية، تعتمد في جزء كبير من ميزانياتها السنوية على المديونية، لكن ما يستوجب الانتباه له هو ما العمل بتلك الديون؟ وأين سيتمّ توجيه أموالها بالتحديد؟ هذا السؤال وعلى بساطته لم يجد أجوبة مادية واضحة من الحكومات المتعاقبة طيلة عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي والتي بقيت تعتمد سياسة الاقتراض لدعم ميزانية الدولة المثقلة بمصاريف كبيرة والتي يزداد حجمها من سنة إلى أخرى.
ويُرجّح خبراء محليّون أن يتفاقم حجم الدين العام في قادم الأشهر دون احتساب الدين المضمون المتحصّلة عليه المنشآت والشركات العمومية وعجز الصناديق الاجتماعية إلى ما يناهز الـ100% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وذلك وفق تقارير دولية ووطنية.
الباحث في العلوم الاقتصادية عبد الجليل البدوي، يُوضّح أنّ حجم الدين العمومي المصرّح به من طرف أجهزة الدولة لا يتضمنّ الديون التي تحصلت عليها المنشآت العمومية فضلا عن عدم احتساب عجز الصناديق الاجتماعية باعتبارها أموال المجموعة الوطنية والمُتصرّف فيها من طرف الدولة، مُقدّرا أنّ حجم الدّين العمومي يناهز الـ120% من إجمالي الناتج المحلي إذا ما تمّ احتساب جميع هذه العناصر.
كما هو مُشار إليه في مقدّمة المقال حول المديونية التونسية تحت حكم محمد الصادق باي، فإنّ التاريخ يعيد نفسه تقريبا، الديون التونسية والخارجية منها على وجه الخصوص يتمّ توجيه أغلبها لدعم ميزانية الدولة أو لنقل مصاريف الدولة بما في ذلك خدمة الدين العام، فيما تستأثر مشاريع الاستثمار بجزء قليل منها وتبقى في غالب الأحيان مراوحة مكانها وذلك عائد أيضا لبيروقراطيّة الإدارة التونسية وغياب أي رؤية استراتيجية لخلق الثروة والتنمية الشاملة والمستدامة.
يبرز هذا بالاطلاع على تقارير وزارة المالية في تنفيذ قوانين المالية المصادق عليها الأصلية منها والتعديلية، إذ يتجلّى بالوضوح في السنوات الأخيرة، أنّ ما تبحث عنه تونس من موارد مالية لدعم ميزانيتها عبر القروض الخارجية منها والداخلية يُقارب حجم نفقاتها في علاقة بخدمة الدين العمومي في تسديد أصل الديون ونسب الفائدة وقد يصل إلى مستويات أعلى بنهاية هذه السنة وخاصة في عام 2023 السنة التي يستوجب فيها على تونس تسديد نفقات خدمة الدين في حدود 3 مليار دولار.
أجيال المستقبل…رهائن بالعملة الصعبة
جاء في تقرير محكمة المحاسبات حول الدين العمومي الخارجي، أنّ ما تحصلت عليه تونس من ديون إلى موفى سنة 2016، تُقدّر فترة حصص خلاصها بالتمام بموفى سنة 2055، وذلك وفقا ما استقته من معلومات من منظومة “سياد” (تطبيقة معلوماتية خاصة بوزارة المالية غير متاحة للعموم). ويُرجّح أن تكون هذه الفترة أطول وذلك بناء على ما اقترضته تونس ما بعد سنة 2017.
ديون، ستجد الأجيال القادمة نفسها مجبرة على خلاصها بالعملة الصعبة، حيث وبعملية حسابية بسيطة، نجد أن لكلّ تونسي دين تجاه المانحين الخارجيين في حدود الـ 10 آلاف دينار ما يُعادل 3.6 ألف دولار.
بالنظر إلى تقرير وزارة المالية حول الميزانية التعديلية لسنة 2021، في محور الدين العام، يٌستشفّ منه أن اليورو يستحوذ على 61.4% من حجم الدين العمومي الخارجي للدولة التونسية والبالغ قدره إلى موفى شهر سبتمبر من نفس السنة 62160 مليون دينار، فيما يسجل الدولار حضوره في المرتبة الثانية بنسبة قدّرت بـ 20.8% بحسب نفس المصدر واليان الياباني في المرتبة الثالثة بنسبة 10.5%.
وبالبحث عن أهم الجهات المُقرضة لتونس، يُستخلص من تقرير الدين العمومي المنشور على موقع وزارة المالية أنّ القروض متعددة الأطراف تمثّل 48.8% من حجم الدين الخارجي للبلاد التونسية مع موفى سنة 2019. يستأثر فيها كلّ من البنك الدولي للإعمار والبنك الافريقي للتنمية وصندوق النقد الدولي بنصيب الأسد بنسبة تفوق الـ77% فيما يتوزع الباقي على صناديق أخرى على غرار الصندوق العربي للإنماء والبنك الإسلامي للتنمية.
أما القروض المتأتية من التعاون الثنائي فانّها تستحوذ على 15.7% من حجم الدين الخارجي، لفرنسا والمملكة العربية السعودية الجزء الأهم فيه بنسب على التوالي، 28.1% و22% ، تليهما كل من ألمانيا واليابان وإيطاليا والجزائر وعدد من الدول الأخرى بنسب ضئيلة. فيما تستأثر الأسواق العالمية كذلك بجزء مهم من الديون المتخلّدة بذمة الدولة التونسية بلغت مع موفى سنة 2019 نسبة 35.5% من حجم الديون الخارجية.
منوال منتهي الصلوحية
“المنوال التنموي الحالي لم يعد يستجيب لمتطلبات المرحلة”، من العبارات التي لم يغفل أي سياسي ترشّح لبلوغ منصب في الدولة عن التعبير عنها. منذ أكثر من 10 سنوات في تونس بدا من الواضح حصول إجماع في توصيف هنات الاقتصاد التونسي مقابل عجز واضح عن إيجاد الحلول المثلى لتطويره بما يعزّز سيادة الدولة وكرامة مواطنيها.
وقد تراكمت عدّة عناصر منذ سنة 2010، جعلت من الإنتاج المحلي للبلاد التونسية غير قادر على تلبية حاجيات الدولة من مصاريف ونفقات استثمار، أبرزها انهيار مستوى الدينار مقابل الدولار واليورو والذي كان له الأثر السلبي في ارتفاع حجم الديون الخارجية، فضلا عن توقف الإنتاج لفترات متقطّعة في مواقع إنتاج عدّة أبرزها إنتاج الفسفاط، وإثقال كاهل ميزانية الدولة بخلق وظائف جديدة دون تسجيل أي مردودية لعلّ أبرزها تلك المتصلة بشركات الغراسة والبيئة المنتصبة في أكثر من جهة.
في هذا المضمار، يرى الخبير المالي بسّام النيفر أنّ المطلبية الشعبيّة في التشغيل عبر إغلاق مواقع الإنتاج، وإن لا يُشكك في أحقيتها، هي تعدّ من أهم الدوافع الأساسيّة التي جعلت الدولة التونسية تجد نفسها مرغمة على التوجه نحو التداين الخارجي، لكن وفي نفس الوقت ذاته يقيّم أن الاتجاه نحو التداين يعكس ضعف الحكومات في الأصل في ضبط سياسة واضحة لخلق الثروة من خلال الأموال المتأتية من الاقتراض الخارجي، أنتج في النهاية معدّلات نمو دون المأمول وارتفاع كبير في نسب البطالة، وحاجيات كبيرة للدولة من موظفين جدد غير قادرة على انتدابهم.
من جانبها حذّرت محكمة المحاسبات في تقريرها حول حوكمة الدين العام منذ سنة 2018، من مغبة المواصلة في سياسة التداين الذي بلغ مستويات خطيرة، مشيرة إلى أن الديون التونسية هي ديون هشّة، خاصة وأن معدّلات النمو المسجّلة منذ سنة 2010 كانت دائما دون المأمول وهو ما يُفسر تفاقم عجز ميزانية الدولة من سنة إلى أخرى وتطور نسبة خدمة الدين العام كذلك من سنة إلى أخرى.
الباحث عبد الجليل البدوي يفسّر بدوره، أنّ المواصلة بنفس الطريقة والارتهان المباشر إلى صندوق النقد الدولي سيعجّلان حتما بانهيار الاقتصاد التونسي، وارتهان القرار السيادي للدولة التونسية، قائلا إنّ رئيس الجمهورية يبدو غير واع بخطورة هذه المسألة.
“ما لم نعوّل على أنفسنا في بلورة رؤية إصلاحية شاملة ومتكاملة فلن تنفعنا أيّة سياسات أخرى خاصة تلك المفروضة من صندوق النقد الدولي”
عبد الجليل البدوي
وأشار البدوي في ذات الصدد إلى أنّ أسباب هذا الوضع المتأزم تعود بالأساس إلى مشاكل هيكلية للاقتصاد الوطني، لخّصها في ثلاثة عناوين كبرى: منوال تنموي متآكل وتوسّعي ومكلّف وغير منتج إضافة إلى غياب الحوكمة وموقع تونس الضعيف في الاقتصاد الدولي.
معضلة المؤسّسات والمنشآت العموميّة
مطلع ديسمبر 2021، نفّذ عمّال الشركة التونسية للسكك الحديدية إضرابا مفاجئا عن العمل توقفت معه حركة سير القطارات على كامل تراب الجمهورية بما في ذلك قطارات نقل الفسفاط، وذلك بعد عدم إيفاء الشركة بتعهداتها بصرف الأجور في نفس اليوم، بعد تأخير ناهز العشرة أيّام. هذه المنشأة العمومية ذات المجال الحيوي وكغيرها من الشركات والمنشآت العمومية المرتبطة بمجالات حيوية كالصحة والنقل والماء والكهرباء والغاز، تعاني شح السيولة وعجز الميزانية وعدم القدرة على سداد ديون كانت قد تحصّلت عليها مباشرة من ميزانية الدولة أو من جهات دولية أو محلّية بضمان من الدولة.
بالنظر إلى قوانين المالية خلال العشرية الأخيرة، يُلاحظ أن حجم الضمان الممنوح من الدولة التونسية لفائدة الشركات والمنشآت العمومية الراغبة في الاقتراض من الداخل والخارج لتنفيذ مشاريع استثمارية مقررة من الدولة وذات صلة بهذه المجالات الحيوية يرتفع من سنة إلى أخرى، حيث قفز المبلغ المبرمج في الميزانية بعنوان ضمان الدولة من 3000 مليون دينار سنة 2013 إلى 7000 مليون دينار سنة 2021. وهو ما يوضّح عجز هذه المؤسسات في تعبئة موارد مالية ذاتية لتنفيذ مشاريع إصلاحية أو لتطوير نشاطها.
منذ سنوات، وميزانية الدولة تحمل في طياتها عبء المنشآت العمومية التي تسجّل من سنة إلى أخرى عجزا في ميزانياتها بمليارات الدينارات، فضلا عن الديون التي تثقل كاهل هذه المؤسسات والتي تجد الدولة نفسها في محطات عديدة مجبرة على تفعيل الضمان وخلاص ديون تلك المؤسسات أو بتوجيه اعتمادات استثنائية لها في شكل منح.
يُشير تقرير الدين العمومي لسنة 2020، إلى أنّ حجم الديون المتراكمة لفائدة المؤسسات العمومية ناهز الـ 16648.3 مليون دينار في موفى شهر جوان من ذات السنة، أي ما يُعادل 14.54% من الناتج المحلّي الإجمالي منها 12548.3 مليون دينار خارجية.
هذه الديون التي بلغت نسبتها تقريبا 15% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020 والمتوقع أن تتجاوز بنهاية سنة 2021 عتبة 16% تنضاف إلى حصيلة هي الأخرى مؤرقة تتعلّق بالعجز المالي الُمسجل في مجموع هذه المؤسسات المقدّر بما يناهز الـ8000 مليون دينار. وضعية أقرّ بها رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد في تصريح إعلامي في جلسة عمل بالبرلمان – مارس/آذار 2018 – قال فيه إنّ الدولة هي من تتحمّل كلفة هذه الخسائر على حساب نفقات التنمية من صحّة وتعليم وبنية تحتية.
رغم إقرار الشاهد بذلك إلا أن عملية بدء الإصلاحات الهيكلية لهذه المؤسّسات لم ينطلق لا مع حكومته ولا مع الحكومات التي جاءت من بعده وذلك لغياب التوافقات بينها وبين الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يؤكد أنّه يمكن معالجتها حالة بحالة.
قروض تنفق في غير أهدافها
في نوفمبر من سنة 2012، وقّعت تونس قرضا مع البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية بقيمة 387 مليون أورو مع نسبة فائدة متغيّرة، لتمويل إصلاحات ذات صلة بدعم الميزانية وآليات التشغيل وتنمية آفاق الإدراج في الحياة المهنية خاصة بالنسبة لحاملي الشهادات العليا.
بعد ذلك بيّنت محكمة المحاسبات في تقريرها الصادر سنة 2018 في خصوص مهمتها الرقابية حول الدين الخارجي، أنّ النتائج المحققة في هذه الإصلاحات بلغت بحسب تقارير الإدارة التونسية 23 إصلاحا من جملة 30، فيما أشارت المحكمة كذلك إلى أن تلك الإصلاحات لم يتم تفعيل أغلبها.
ومن ضمن أهداف هذا القرض المشار إليه، كان استهداف 200 ألف من طالبي الشغل ببرامج التأهيل، أين تمّ تسجيل انتفاع 144 ألف و300 شخص لم يندمح منهم في الحياة المهنية سوى 6700 من جملة المنتفعين أي ما يُساوي 5% فقط.
ولم تتوقف الإشكاليات ذات الصلة بهذا البرنامج هنا، بل سجلت المحكمة كذلك أن الوزارة المعنية بتنفيذ هذه الإصلاحات وهي وزارة التكوين والتشغيل المهني، لم تقم بتقييم برنامجي التشغيل أمل 1 وأمل 2 وذلك مردّه غياب تحوّز الإدارة على معطيات ومؤشرات تكفل متابعة التنفيذ وتقييم الكلفة والنتائج.
وقد خلصت المحكمة إلى أن الكلفة الحقيقية لهذه الإصلاحات في مقارنة بقيمة القرض لا يمكن تحقيقها نظرا لغياب معطيات مادية واضحة حول صرف تلك الأموال.
تلوح الإخلالات كثيرة في برامج القروض التي تتحصّل عليها تونس بهدف تمويل خزينتها لتنفيذ جملة من الإصلاحات، ففي ما يهم القرض المبرم مع صندوق النقد الدولي سنة 2013 بقيمة 1.74 مليار دولار تحت عنوان “برنامج الاستعداد الائتماني” سجّلت المحكمة عديد المشاكل المتصلة بتأخر حقوق السحب وتنفيذ الإصلاحات المُتفق عليها.
وبناء على نفس التقرير فإنّ تنفيذ البنود المتفق عليها في علاقة بالإصلاحات لم تسر كما رُسم لها مسبقا وذلك عائد لعدّة إشكاليات تعلّقت أساسا بتأخر إنجاز الإصلاحات المشروطة من الجهة المانحة، فضلا عن تأخر السلطة التشريعية (المجلس الوطني التأسيسي) التي عانت لمدّة سنوات الصراعات والانقسامات في المصادقة على جملة من النصوص القانونية ذات الصلة بهذا القرض.
وخلصت المحكمة في علاقة بالقرض نفسه الى أنّ نسب النمو المحققة تتنافى مع ما تمّ ضبطه في برنامج الإتفاق بين الحكومة والصندوق حيث لم تتجاوز سنوات 2013 و2014 و2015 نسب نمو على التوالي 2.3% و 2.3% و1% في حين أنّ التقديرات الأوّلية كانت 4% و4.5% و5% إضافة إلى تسجيل عجز الميزان الجاري مع موفى البرنامج مقدّر بنحو 9% من الناتج المحلي مقابل هدف تمّ ضبطه في بداية البرنامج بـ5%.
ويُستشف من خلال التقرير المذكور أعلاه وتقارير دولية أخرى أنّ ما تقترضه تونس لتمويل مشاريع أو برامج إصلاحية لا يتحقق منه سوى النذر القليل. ويفسّر عدد من الخبراء ذلك بانتهاج الحكومات المتعاقبة سياسة إنفاق تقوم على تحويل جملة من تلك الاعتمادات الواردة عن طريق قروض بهدف الإستثمار أو لتنفيذ إصلاحات إلى تمويل نفقات عمومية مثل أجور موظّفي القطاع العام.
جملة هذه الاخلالات كانت قد دفعت بمحكمة المحاسبات إلى تسجيل توصية مؤكدة بضرورة إحداث وكالة لترشيد وحوكمة الديون تُعنَى في ضبط ما تحتاجه الدولة فعلا من ديون خارجية ومتابعة التصرّف فيها وتقييم نجاعتها.
بين مطرقة صندوق النقد الدولي وسندان نادي باريس
يبدو أنّ سمير سعيّد وزير الاقتصاد والتخطيط وسهام بوغديري وزيرة المالية في حكومة نجلاء بودن، باتا يعانيان الويلات هذه الأيّام. فبعد الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس قيس سعيّد لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي راجيا النجاح فيما فشلت فيه حكومة المشيشي سابقا، لا يوجد بين يديهما هامش للمناورة مع الصندوق، إذ اشترط هذا الأخير، بحسب ما أفادت به بعض المصادر لموقع الكتيبة، أفعالا لا نوايا لمناقشة برنامج الاتفاق الثالث، تتلخّص في استكمال ما نصّت عليه بنود الاتفاق الثاني بالتخفيض الفوري لكتلة أجور الدولة، فضلا عن تفعيل قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص، إضافة إلى تقديم برنامج إصلاحي جديد يحظى بموافقة الفاعلين الاجتماعيين في البلاد وفي مقدّمتهم اتحاد الصناعة والتجارة (نقابة أرباب العمل) والاتحاد العام التونسي للشغل (نقابة العمّال).
“إذا لم نجد حلولا جذرية لمشاكل الاقتصاد الهيكلية ستجد الدولة نفسها في مفترق طريقين إما توريد سلع أساسية أو خلاص ديون خارجية”
بسّام النيفر
بالعودة إلى تقرير البنك الأمريكي BofA Securities، يرجح خبراؤه أنّ تونس ستكون عُرضة، في المستقبل، إلى خطر العجز عن خلاص الديون، خاصة أنها عاجزة فعلا اليوم عن سدّ الفجوة المالية لسنة 2021 المقدّرة بـ8000 مليون دينار منها 6000 مليون دينار يجب تعبئتها عبر ديون خارجية، هذا فضلا عن عدم الكشف وإلى حدود اليوم عن حاجيات الدولة من الاقتراض للسنة القادمة ( 2022 ).
واستشرف محلّلو البنك توجّه تونس إلى إعادة هيكلة ديونها داخل نادي باريس، مرجحين ذلك لغياب رؤية استراتيجية لقيس سعيّد الرجل الأوّل في تونس والذي تتعارض سياساته الإصلاحية مع سياسات صندوق النقد الدولي، بما يوحي أنّ التوصل إلى اتفاق بين الطرفين أمر صعب، هذا فضلا عن غياب أي تفاعل إيجابي من الدول التي زارتها نجلاء بودن رئيسة الحكومة في المدّة الأخيرة خاصة منها السعودية، التي وبحسب نفس التقرير يرجح أن إمكانية تعاون ثنائي بينها وبين تونس لا يمكن تحقيقه إلا في إطار إعادة هيكلة الديون التونسية تحت إطار نادي باريس.
الاستثناء الوحيد كان مع الجزائر التي أقرضت تونس مبلغا يقدّر بـ300 مليون دولار بحسب الرائد الرسمي للجمهورية الصادر بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2021.
صورة من الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية
للخروج من هذا الوضع الصعب والمخيف، يقترح الباحث في المجال الاقتصادي الدكتور عبد الجليل البدوي حلولا على المدى القصير والمتوسط والبعيد في إطار الحفاظ دائما على القرار الوطني السيادي، وذلك من خلال ترشيد سياسة التداين وحوكمة التصرّف فيها.
هذا التمشي لا يمكن البدء فيه إلا بتصور واضح للاقتصاد التونسي على المدى المتوسط والبعيد وذلك بتغيير المنوال التنموي القائم على الصبغة التوسعية بمنوال جديد قائم على الكثافة وتوجيه الاقتصاد التونسي نحو الصناعات الجديدة القائمة على التكنولوجيا الحديثة بما يُحافظ على اليد العاملة التونسية والحد من نسب الهجرة، إضافة إلى ضرورة التوجه نحو الاستثمارات العمومية القائمة على الثروات الطبيعية والطاقات البديلة وفق قول البدوي.
وبحسب المصدر ذاته، فانّ هذه الحلول لا يمكن الانطلاق فيها إلا من خلال قرارات شجاعة من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيّد وذلك بالتوازي مع ترشيد التوجّه نحو المديونية الداخلية والخارجية كآخر الحلول المعتمدة، يسبقها ضرورة أن تسترجع الدولة مستحقاتها التي تدين بها لدى الفاعلين الإقتصاديين والتي قدّرها بنحو 13 مليار دينار من خلال إصدار مراسيم تعلق أي عفو جبائي ممكن للسنوات العشر القادمة، وإعداد مشروع صلح جبائي قائم على جدولة هذه الديون طيلة هذه الفترة (العشر سنوات) واسترجاع نسب منها كل سنة أو مصادرة الأملاك وبيعها لمن يرفض هذا التمشي.
“كفى من مقولة أن هذه الإصلاحات تستوجب سنوات طويلة في حين لو طبقناها منذ عشر سنوات لما آلت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم”
عبد الجليل البدوي
وينادي البدوي بضرورة التقليص من حجم الامتيازات الجبائية المُعطاة للمستثمرين المُقدرة بحوالي 4.6 مليار دولار سنويا، وفق تقديره، خاصة وأن هذه الامتيازات لم يكن لها أية مردودية إيجابية على الاقتصاد الوطني، فضلا عن ضرورة إقرار سياسات تمنع المستثمرين والمتعاملين بالعملة الصعبة من تحويل أرباحهم إلى الخارج دون تحويل جزء منها إلى توسيع الاستثمارات بالداخل. إضافة إلى ضرورة البدء فورا وبشكل ملح في إصلاح وإعادة هيكلة المنشآت العمومية ووضع سياسات لترشيد التوريد للمحافظة على مدخرات البنك المركزي من العملة الصعبة.
وقد تعالت عديد الأصوات السياسية والمدنية خلال السنوات الماضية من أجل إجراء عملية تدقيق شامل في مسألة المديونية. دعوات باتت اليوم تتقاطع مع ما نادى اليه الرئيس قيس سعيّد مؤخرا الذي شدّد على ضرورة القيام بجرد شامل ودقيق للقروض وحتّى الهبات التي تحصلت عليها تونس في السنوات الأخيرة. هذا المطلب وعلى الرغم من أهميته مازال لم يتجاوز بعد مرحلة الدعوات والتصريحات في انتظار اختبار مدى جديّة الرئيس سعيّد في هذا المنحى الذي يظلّ ضروريا ولكنه غير كاف .
توجه تونس نحو نادي باريس لهيكلة الديون، قد يتحوّل من هاجس مخيف مستبعد حاليا وفق تأكيدات وزيرة المالية سهام البوغديري إلى أمر يمكن أن يكون واقعيا في قادم الأشهر/ السنوات. كيف لا وهو تمش يحمل في طياته ارتهانا كاملا للدائنين ووضع مقدّرات الدولة تحت تصرّف هؤلاء في مشهد أشبه بالكوميسيون المالي الذي انتصب في تونس قُبيل الإستعمار الفرنسي، خاصة وأن الحلول القائمة ذات الصبغة الإرادية – السيادية – تلوح قليلة وفي شكل شعارات جوفاء في العقل الاقتصادي للرجل الأوّل في تونس اليوم قيس سعيّد الذي نادرا ما يتحدّث عنها في كلماته التي يتوجه بها إلى التونسيين والمنحصرة دائما في الرد على الخصوم السياسيين والمواضيع المتصلة بالصراع السياسي القائم في البلاد.
ييندرج هذا المقال التفسيري ضمن سلسلة مقالات يشتغل عليها الفريق التحريري لموقع الكتيبة في إطار تقييم الحصيلة الاقتصادية والمالية لتونس خلال العشرية الماضية عبر تجميع وشرح البيانات والمعطيات الكميّة والنوعيّة التي تمكنا من الحصول عليها من مختلف المصادر المتاحة وغير المفتوحة. ونهدف من خلال هذه الانتاجات الصحفية إلى إنارة الرأي العام التونسي حيال الواقع الاقتصادي والمالي لتونس ما بعد الثورة بكلّ تجرد وموضوعية بعيدا عن التصريحات الإعلامية للسياسيين الذين كثيرا ما يتعمدون التضليل والتلاعب بالأرقام خدمة لأجنداتهم السياسية.
يندرج هذا المقال التفسيري ضمن سلسلة مقالات يشتغل عليها الفريق التحريري لموقع الكتيبة في إطار تقييم الحصيلة الاقتصادية والمالية لتونس خلال العشرية الماضية عبر تجميع وشرح البيانات والمعطيات الكميّة والنوعيّة التي تمكنا من الحصول عليها من مختلف المصادر المتاحة وغير المفتوحة. ونهدف من خلال هذه الانتاجات الصحفية إلى إنارة الرأي العام التونسي حيال الواقع الاقتصادي والمالي لتونس ما بعد الثورة بكلّ تجرد وموضوعية بعيدا عن التصريحات الإعلامية للسياسيين الذين كثيرا ما يتعمدون التضليل والتلاعب بالأرقام خدمة لأجنداتهم السياسية.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي