الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة
بين سنتي 2017 و2019، تحصّلت أكثر من 2500 شخصية من مختلف أصقاع العالم من بينهم مجرمون، متهربون ضريبيا، مختلسو أموال، هاربون من العدالة، مرتشون، و ملاحقون في جرائم غسيل أموال وفساد مالي، على جوازات سفر ذهبية من جمهورية قبرص التابعة للاتحاد الأوروبي.
من خلال برنامج بيع جوازات السفر الذهبيّة، تمكنت الجمهورية القبرصيّة من جني ما لا يقلّ عن 8 مليار دولار منذ 2013 يتأتى معظمها من تحويلات لأموال ملوّثة قامت بها شخصيات من عالم المال والأعمال وحتّى السياسة تنتمي في الأصل إلى دول ذات درجات متدنّية في مدركات الفساد، وفق التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية.
الكاتب : محمد اليوسفي
رئيس تحرير القسم العربي لموقع الكتيبة
بين سنتي 2017 و2019، تحصّلت أكثر من 2500 شخصية من مختلف أصقاع العالم من بينهم مجرمون، متهربون ضريبيا، مختلسو أموال، هاربون من العدالة، مرتشون، و ملاحقون في جرائم غسيل أموال وفساد مالي، على جوازات سفر ذهبية من جمهورية قبرص التابعة للاتحاد الأوروبي.
من خلال برنامج بيع جوازات السفر الذهبيّة، تمكنت الجمهورية القبرصيّة من جني ما لا يقلّ عن 8 مليار دولار منذ 2013 يتأتى معظمها من تحويلات لأموال ملوّثة قامت بها شخصيات من عالم المال والأعمال وحتّى السياسة تنتمي في الأصل إلى دول ذات درجات متدنّية في مدركات الفساد، وفق التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية.
فكيف تمكّن رجل الأعمال التونسي الطيب البياحي خلال الفترة الزمنية المذكورة آنفا من الحصول على الجنسية القبرصية رفقة عائلته ضمن هذا البرنامج الذي خلّف فضائح جمّة لدولة قبرص؟ وفيما تمّ توظيف الجنسية القبرصية لاحقا؟ هل كان ذلك للسياحة أو الإقامة فحسب، أم كانت للرجّل مخططات أخرى لم يكن جواز السّفر القبرصي سوى “حصان طروادة” لتحقيقها في الخفاء؟ وما علاقته بمكتب المحاماة والاستشارات القبرصي “بابادوبولوس، ليكورغوس آند كو، آل آل سي”؟
وكيف نجح البياحي في نسج شبكة عنقودية من الشركات ذات الغايات المشبوهة بين قبرص وفرنسا وعدد من الدول الأخرى بشكل يضعه إزاء شبهات قويّة في إرتكاب جرائم قد تدخل قضائيا تحت طائلة قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال ومجلّة الصّرف والتجارة الخارجية فضلا عن مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، وفق المدونّة التشريعيّة التونسيّة والدستور الجديد الصادر في 2022 الذي يجرّم التهرّب الضريبي بشكل صريح وصارم ؟
من تونس إلى نيقوسيا…رحلة البحث عن حصان طروادة
لم تكن الطريق للحصول على حقّ المواطَنة (جواز السفر الذهبي) في قبرص اليونانية، قصيرة من الناحية الزمنية بالنسبة إلى المدير الحالي للمعهد العربي لرؤساء المؤسسات الطيب البياحي وعائلته المتكونة من زوجته راضية عروي وابنيه اسكندر وسليم، وذلك على الرغم من أهمية توفر الإمكانيات المالية السخيّة في مثل هذه العمليات السرّية التي يلجأ إليها العديد من رجال ونساء الأعمال وعائلاتهم لاسيما من المنتمين للدول النامية التي تنتشر فيها مظاهر الفساد.
لقد تطلب الأمر زهاء 3 سنوات لكي يصبح للطيب البياحي (58 سنة) وعائلته الحقّ في التمتع بالامتيازات التي تتيحها الجنسية القبرصية داخل الفضاء الأوروبي وغيره من المناطق في العالم.
من خلال المعطيات الرسميّة القبرصيّة التي تسنّى لموقع الكتيبة التوصّل إليها والتحرّي فيها، يتّضح أنّ مسار حصول الطيب البياحي على الجنسية القبرصيّة انطلق فعليّا في 15 ديسمبر/ كانون الأوّل 2015 من خلال بعث شركة في قبرص ستكون بمثابة جسر عبور نحو مآرب أخرى في مرحلة لاحقة.
تحمل هذه الشركة اسم ” فريديا هولدينغ ليميتيد”، مقرّها في قبرص، وهي تضمّ مسؤولين آخرين في سجلّها الذي تحصّلنا عليه من بينهم صاحب مكتب محاماة قبرصي، بالإضافة إلى الطيب البياحي المعني الرئيسيّ بهذه العمليّة برمتها.
كانت هذه الشركة حديثة العهد في تلك الفترة منطلقا للبحث عن حصان طروادة المتمثّل في الجنسيّة القبرصيّة التي ستكون كلفتها بالنسبة إلى عائلة البياحي تقدّر بمبلغ ماليّ لا يقلّ عن 9 مليون دينار بالعملة التونسيّة حاليا.
في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، تقدّم الطيب البياحي رفقة زوجته راضية عروي (50 سنة) بطلب رسميّ إلى السلطات القبرصيّة قصد الحصول على جواز السفر الذهبيّ، بحسب الوثائق التي تحصّل عليها موقع الكتيبة.
بعد أقل من 5 أشهر، سيصبح الطيب البياحي رفقة زوجته من ذوي المواطنة القبرصيّة بعد شراء عقّارات في هذه الجزيرة المتوسطيّة، فضلا عن ضخّ أموال لفائدة الحكومة القبرصيّة.
وعلى اعتبار أنّ هذا البرنامج الحكوميّ القبرصيّ يتيح أيضا للحاصلين على جواز السفر الذهبيّ الحاق أبنائهم بنفس المسار، فقد تقدّم كلّ من اسكندر وسليم البياحي بطلب في الغرض بتاريخ 11 أوت/أغسطس 2017 لتأتي الموافقة على الطلب من قبل السلطات القبرصيّة في 7 مارس/آذار 2018.
تعليقا على هذه المعطيات، لم ينف الطيب البياحي، في الاتصال الهاتفي الذي جمعنا به، حصوله على الجنسيّة القبرصيّة، مشدّدا على أنّ الأمر يتعلّق بحياته الخاصّة، وفق تعبيره.
في نفس المكالمة الهاتفيّة التي لم تدم طويلا، حيث اتّسم خطابه بنبرة متعالية ومتشنجة في الآن ذاته، أعرب الطيب البياحي مدير المعهد العربي للمؤسسات عن استيائه من التحقيق السابق الذي نشره موقع الكتيبة في إطار مشروع “أسرار سويسريّة” والذي تضمّن معطيات سرّية مستقاة من بنك كريدي سويس الذي عثرنا في بياناته على معلومات تهمّ البياحي الأب (يوسف البياحي) وابنه يَحيى، حيث تبيّن امتلاكهما لحساب بنكي ضمّ تحويلات مالية هامّة غير مصرّح بها لدى مؤسسات الدولة قبل سنة 2011 في تونس.
يقول الطيب البياحي إنّه من غير المعقول نشر تحقيق في وقت سابق يتمّ فيه ذكر اسم والده الذي وافته المنيّة منذ سنوات، رافضا منحه فرصة لعقد مقابلة صحفيّة في إطار حقّ الردّ والتوضيح والتفاعل مع جملة المعطيات التي توصلنا إليها.
كان البياحي قد أنهى المكالمة بشكل أحاديّ رافضا مبدأ المواجهة في لقاء صحفيّ مباشر، قائلا: “أكتبوا ما تشاؤون”.
كان هذا الردّ تعقيبا على تفاعلنا معه في نفس الاتصال الهاتفيّ حينما قلنا للمعنيّ بالأمر إنّ الموضوع صحفيّ استقصائي بحت بوصفه شخصيّة عامّة مؤثّرة في الشأن العام وفي السياسات العموميّة الإقتصاديّة والماليّة للدولة التونسيّة، ولا علاقة للمسألة بحياته الشخصيّة.
ما يجب الإشارة إليه في هذا السياق، أنّ حصان طروادة الذي تحصّل الطيب البياحي على إحداثياته في قبرص اليونانيّة رفقة عائلته بين سنتي 2016 و2018 بفضل المبلغ المالي الضخم الذي دفعه للسلطات القبرصيّة والشركة التي قام بفتحها بشكل سرّي وهي مازالت إلى اليوم تنشط وفق وثائق رسميّة قبرصيّة، لم تتوقّف صولاته عند هذه المحطة.
المواطنة القبرصيّة…جسر عبور نحو القطاع العقاري في فرنسا
يمكنّ جواز السفر القبرصي من زيارة قرابة 174 بلدا دون تأشيرة أو بتأشيرة عند الوصول، ولهذا فهو يحتلّ مرتبة متقدمة ضمن العشرين الأوائل في الترتيب العالمي لجوازات السفر.
غير أنّ الامتيازات التي يتحصّل عليها حامل الجنسيّة القبرصيّة عن طريق برنامج الاستثمار(جواز السفر الذهبي) لا تقتصر على هذا الحدّ، حيث أنّ المُواطَنة citoyenneté القبرصيّة في هذه الحالة تتيح أيضا امتيازات جبائيّة عديدة إذ تمكنّ من التحرّر من ضريبة الدخل الشخصيّ، فضلا عن التجارة الحرّة وإعفاءات ضريبيّة لبعض الاستثمارات المؤهلة، وكذلك تسمح بإعادة تحويل رأس المال والأرباح المحقّقة دون قيود، بالإضافة إلى حزم الفوائد الضريبيّة للشركات والإعفاء من رسوم الاستيراد والتصدير وغيرها من أشكال الإعفاء من الضرائب.
على هذا الأساس تصنّف قبرص على أنّها من الدول غير المتعاونة والتي تطلق عليها تسمية “الملاذات الضريبيّة”. وتتميّز مثل هذه الدول والمناطق من العالم بفرض معدلات ضرائب جدّ منخفضة أو بعدم فرضها لأيّة ضرائب على الإطلاق. وكذلك بعدم شفافية نظمها المصرفيّة التي تحافظ على السريّة الكاملة لحسابات زبائنها، فهي ترفض أيّ تعاون مع السلطات القضائيّة في الدول الأخرى، ممّا يجعل المعنيين بالمساءلة في بلدانهم الأصليّة محميين من أيّ ملاحقات. كما أنّها تطبّق مبدأ السريّة التامّة فيما يتعلّق بهويّة الشركات المسجّلة لديها وبمالكيها ولا تتعاون مع أي جهة قضائيّة تطلب منها معلومات بهذا الخصوص.
وتتميّز “الجنّات الضريبيّة” مثل قبرص، أيضا، بسهولة تسجيل الشركات على أراضيها، كما تمتاز بانفتاحها المالي الواسع وبعدم فرضها لأيّ قيود على حركة الأموال دخولا وخروجا. وهي أيضا تعتمد سياسة صرف مرنة تسمح لأصحاب جنسيّات أخرى من بلدانهم الأصليّة بحيازة حساباتهم المصرفيّة بالعملات الدوليّة بشكل يساعد على التهرّب الضريبي وتبييض الأموال.
وبحسب منظمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية، فإنّ الملاذات الضريبيّة مثل قبرص تشجع على التهرب الضريبيّ للأفراد والشركات الفارّة من المنظومات الضريبيّة لبلدانها الأصليّة وتسمح بتبييض الأموال المتدفّقة عليها من مختلف أنحاء العالم والتي لا يتمّ التحقّق والتدقيق في مصادرها.
كما تساهم هذه الجنّات الضريبيّة في الدفع بالعالم إلى تنافس ضريبي غير نزيه يؤدي في النهاية إلى تضييع الكثير من الأموال على الحكومات التي تجد صعوبة في تمويل برامجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية جراء ذلك.
تقول نفس المنظّمة في تقريرها السنويّ الصادر سنة 2014، إنّ قبرص لا تزال تستحق لقب “ملاذ ضريبي” أو “منطقة غير متعاونة” بالنظر إلى أنّها لم تنفذ بعدُ حتّى المرحلة الأولى من تعهداتها في هذا الشأن.
بالعودة إلى تقفّي مسار خطوات الطيب البياحي، مدير المعهد العربي لرؤساء المؤسسات، بعد حصوله على جواز السفر الذهبيّ القبرصيّ ضمن البرنامج الاستثماري المثير للجدل والذي قالت عنه مفوضة الاتحاد الأوروبي”فيرا جوروفا” في سنة 2018 : “إنّه بمثابة حصان طروادة حيث يسمح للمجرمين باستعمال الاتحاد الأوروبي ملاذا للفساد والأموال الملوّثة”، وفق تعبيرها، نكتشف أنّ محطته القادمة ستكون فرنسا ولكن هذه المرّة بوصفه مواطنا أوروبيّا لا تونسيّا، على اعتبار أنّه أصبح حاملا للجنسيّة القبرصيّة رفقة زوجته راضية العروي وابنيه سليم واسكندر.
بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول 2019، قام الطيب البياحي ببعث شركة تنشط في المجال العقاري تحت اسم “آس ساي إي ليونارد دي فنشي”. يقع مقرّ هذه الشركة في شارع فيكتور هيغو ذائع الصيت وتحديدا في الدائرة السادسة عشر في العاصمة الفرنسيّة باريس.
ووفقا للوثائق التي تسنّى لموقع الكتيبة الحصول عليها من مصالح إداريّة رسميّة فرنسيّة، فإنّ وكيل هذه الشركة هو صاحبها الطيب البياحي الذي يملك 90 بالمائة من رأس مالها، في حين تملك زوجته راضية عروي البياحي 10 بالمائة من إجماليّ الأسهم.
الملفت للنظر في نفس الوثائق الرسميّة أنّ الطيب البياحي وزوجته قاما بفتح هذه الشركة العقارية بناء على جنسيّتهما القبرصيّة لا التونسيّة. كما أنّهما قاما بتسجيل الشركة بناء على عنوان منزلهما في نيقوسيا في قبرص رغم إقامتهما الدائمة في تونس.
إنّه (برنامج منح الجنسية القبرصية) بمثابة حصان طروادة حيث يسمح للمجرمين باستعمال الاتحاد الأوروبي ملاذا للفساد والأموال الملوثة.
مفوّضة الاتحاد الأوروبي فيرا جوروفا في سنة 2018
تفاعلا مع هذه المعطيات الموثقة، يقول مسؤول سام بوزارة المالية التونسيّة التي تضمّ مصالح الضرائب ـ حبّذ عدم الإفصاح عن هويّته – إنّ لجوء البياحي رفقة زوجته لفتح هذه الشركة بشكل خفيّ استنادا إلى الجنسيّة القبرصيّة لا يمكن تفسيره إلاّ بالبحث عن الامتيازات التي تمنح للمواطنين الأوروبيّين داخل الفضاء الأوروبيّ (امتيازات جمركية، امتيازات في التنقّل، امتيازات في الضرائب الخ …) لاسيما وأنّ فرنسا تتعامل مع الأجانب من الحاملين لجنسيّات غير أوروبيّة بشكل أكثر صرامة خاصة في علاقة بالتدقيق في مصادر الأموال.
ويضيف نفس المصدر أنّ امتيازات الشركات المفتوحة داخل الفضاء الأوروبي للمواطنين الأوروبيّين الحاملين لجنسيّات بلدان الاتحاد الأوروبيّ عديدة، مرجّحا فرضيّة أن تكون العمليّات الماليّة والعقاريّة التي يقوم بها البياحي من خلال الشركة في فرنسا مطيّة لتهريب الأموال لصالح الشركة الأخرى في قبرص من خلال الاستعانة بمكاتب محاماة واستشارات جبائيّة تساعد على تيسير العمليّات المزدوجة عبر التركيب المالي بالاستناد إلى الحيل الجهنميّة، وفق توصيفه.
ويشدّد ذات المتحدّث على أنّ الامتيازات التي تمنحها قبرص للشركات المقيمة على أراضيها عديدة فهي لا تخضع لسؤال “من أين لك هذا؟”، مبرزا أنّ القطاع العقاريّ، في العالم ككلّ وليس فقط في الدول الأوروبيّة، يمثّل مجالا خصبا لتبييض الأموال الملوثة والتدفّقات الماليّة غير المشروعة لاسيما تلك المتأتية من عمليّات مشبوهة مثل تجارة المخدرات والأسلحة والاتّجار بالبشر أو من خلال التهرب الضريبي.
كما بيّن مصدرنا ذاته أنّه على الرغم من أهميّة الترسانة القانونية في فرنسا مقارنة بقبرص فإنّ التلاعب الماليّ في القطاع العقاري سهل بسبب وجود عديد الثغرات نتيجة الضعف التشريعي في هذا المضمار وهو ما كشفته عديد التحقيقات الصحفيّة الاستقصائيّة الصادرة عن مؤسسات إعلامية فرنسيّة مرموقة.
يقيم الطيب البياحي في تونس وتحديدا في ضاحية قمرت وفق عنوانه الرسمي في وثائقه المدنيّة التونسية، وهو ما يجعله تحت طائلة التشريعات التونسية في مجال مكافحة الفساد والتهرّب الضريبيّ وغسل الأموال وجرائم الصرف فضلا عن الدستور الجديد الصادر في 2022 الذي يجرّم بشكل صريح التهرّب الضريبيّ.
في عام 2016، الذي تقدّم فيه البياحي بطلب الحصول على جواز السفر القبرصيّ مقابل زهاء 9 مليون دينار (أي ما يعادل حوالي 2.8 مليون دولار)، لم تتجاوز قيمة الضرائب السنويّة التي دفعها للدولة التونسية 23 ألف دينار (حوالي 7 آلاف دولار). وفي السنة الموالية أي 2017 اكتفى البياحي بدفع 29 ألف دينار (9 آلاف دولار) فقط كمبلغ إجماليّ سنويّ في شكل ضرائب. أمّا في سنة 2018 التي سيصبح فيها رفقة كلّ العائلة متمتّعا بالمواطنة القبرصيّة بلغت قيمة الضرائب السنويّة التي استخلصتها منه مصالح الأداءات التونسيّة 36 ألف دينار فقط (حوالي 11 ألف دولار).
يقول مصدر رفيع المستوى في البنك المركزي التونسيّ رفض نشر اسمه، تعليقا على هذه المعطيات الدقيقة، إنّ لجنة التحاليل المالية بالمؤسّسة الآنف ذكرها لا علم لها بهذه التفاصيل التي تخصّ الطيب البياحي وعائلته. لكن بعد الآن من المؤكّد أنّ البنك المركزيّ ووزارة المالية في تونس سيصبحان على علم بكلّ هذه الحيثيات التي تستوجب فتح بحث قضائي، وفق خبراء مختصين في تتبع الجرائم المالية العابرة للحدود قمنا بالاستئناس برأيهم قبل نشر التحقيق.
في أوت/ أغسطس من سنة 2021، نشر القسم التّونسي من مجلّة “المفكرة القانونية” عددا خاصا تحت عنوان “الجباية غير العادلة”، وصفت فيه الضريبة على الدخل في تونس بالتصاعدية الخادعة، كاشفة أنّ عديد الامتيازات الجبائيّة التي تمنحها الدولة التونسيّة تمثّل منظومة خفيّة لإهدار المال العام حيث شدّدت على أنّ الدولة تشجّع ما أسمته “تهرّب حيتان المال من الجباية”، معتبرة أنّ “الضريبة على الثروة يمكن أن تكون بمثابة المدخل لتعديل العبء الجبائي”.
لم تشهد السياسات الجبائية للدولة التونسيّة، طيلة السنوات التي تلت الثورة في تونس، إصلاحات شجاعة من شأنها محاصرة ظاهرة التهرّب الضريبي والغشّ الجبائي.
في الدورة النيابيّة 2014ـ2019 بلغ عدد نساء ورجال الأعمال في البرلمان التونسيّ 26 نائبا من إجماليّ 217. وقد ارتفع العدد ليبلغ 30 نائبا بعد انتخابات 2019. كما بلغ عدد المحامين في البرلمان التونسيّ بين سنتي 2014 و2019، 37 نائبا.
لا شكّ في أنّ سطوة أصحاب المهن الحرّة على مجلس نواب الشعب الذي كان يقوم بصياغة قوانين الماليّة والمصادقة عليها، لعبت دورا كبيرا في إبقاء النَّفس المحافظ على التشريعات التي تهمّ المسألة الجبائيّة في تونس والتي لم تطلها رياح الثورة إلى اليوم، فضلا عن تنامي شبهات تضارب المصالح لنواب الشعب بسبب تواصل نشاطهم في مهنهم الأصليّة التي تستفيد من النظام الجبائي الحاليّ.
في 3 فيفري/ شباط من العام 2019، صرّح فيصل دربال المستشار المكلف بالإصلاحات الجبائية لدى رئيس الحكومة وقتها، (وهو خبير محاسب في الأصل سيصبح لاحقا بعد انتخابات 2019 نائبا في البرلمان عن حزب حركة النهضة)، بأنّ حجم التهرّب الضريبي في تونس يقدرّ بنحو 25 مليار دينار أي ما يعادل عندئذ قرابة 8.3 مليار دولار، مؤكدا أنّ هذه الظاهرة تزايدت بعد الثورة.
ويشير تقرير صادر عن المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة في أوت/أغسطس 2022 إلى أنّ التهرّب الضريبي في تونس يقدّر بزهاء 24 بالمائة من الناتج الداخليّ الخام. كما يبرز أنّ مساهمة الأجراء من إجماليّ العائدات الضريبيّة للدولة تقدّر بحوالي 69 بالمائة من الضريبة المباشرة وهو وضعٌ يعكس حالة اللامساواة الجبائيّة.
الإخوة البياحي…نموذج لعائلات الريع في تونس
يقول الكاتب والباحث الصغيّر الصالحي مؤلف كتاب “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة : منظومة التهميش في تونس نموذجا” ، في حديثه مع موقع الكتيبة إنّ عائلة البيّاحي استفادت تاريخيّا من فشل تجربة التعاضد في ستينيات القرن الماضي وقد شهدت أوج توسّعها في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي لاسيّما من خلال عمليّات خصخصة المؤسسات العموميّة وتمويل المشاريع والحصول على رخص خاصّة.
ويذكّر الصغير الصالحي بأنّه في سنة 2005 تمّ تسريب قائمة تضمّ قرابة 127 إسما لرجال أعمال وشركات لها ديون غير مستخلصة وذلك من البنك المركزيّ التونسيّ في إطار التناقضات الداخليّة صلب المنظومة السياسيّة الحاكمة وقتها من بينها عائلة البياحي.
يعرّف الصالحي العائلات الريعيّة بأنّها تلك التي تحصل على امتيازات تقديريّة للنشاط الاقتصادي دون اعتبار عوامل السوق، ومنها الرخص والتمويل والحماية الجمركيّة، فضلا عن منع أو تعطيل منافستها، معتبرا عائلة البياحي مثالا للعائلات الريعيّة.
“الريع هو التعطيل الجزئيّ أو الكليّ للمنافسة من دون أسباب وجيهة والريعي هو من يتمتّع بهذه الامتيازات”
الصغيّر الصالحي
ويعتبر نفس الكاتب والباحث أنّ ثورة 2011 لم تنجح في تفكيك منظومة الريع، بل حصل العكس حيث اندمجت الأطراف السياسيّة التي حكمت بعد 2011 في المنظومة الريعيّة (في إشارة إلى حركة النهضة ونداء تونس على وجه الخصوص)، كما أنّ هذه العائلات تولّت ايجاد أطراف حزبيّة وفّرت لها الحماية، ولهذا تمّ التصدّي لمحاولات تغيير قواعد النشاط الاقتصاديّ.
ويؤكّد الصالحي في نفس السياق: “حالة الطيب البياحي ليست الاستثناء، فالعديد من رجال الأعمال فتحوا شركات بشكل سرّي لهم ولأبنائهم في الخارج واشتروا هناك العقارات. نشأت هذه الظاهرة بناء على اعتقادهم بأنّ المنظومة القديمة غير قادرة على الاستمرار بفعل التناقضات والحيف الذي أفرزته، فما نشهده اليوم هو في كلّ الأحوال عنوان لبداية نهاية مرحلة.”
لهذا هم يتّجهون إلى القطع مع البلاد والحصول على جنسيّات دول أخرى تضمن لهم الحماية. وُجد هذا السلوك تاريخيّا في تونس ولكم في محمود بن عيّاد وغيره خير مثال.
الصغيّر الصالحي
تنحدر عائلة البياحي من جزيرة جربة في الجنوب الشرقيّ التونسيّ وهي تضمّ الإخوة يحي والطاهر والطيب الذين تولوا تسيير شؤون المجموعة الاقتصادية التي ساهم في تأسيسها والدهم يوسف البيّاحي قبل وفاته.
ولد الطيب البياحي في سنة 1964 بجربة ودرس بين 1969 و1974 في مدرسة خاصّة. وبين 1977 و1983 تتلمذ في معهد فرنسيّ بضاحية “ميتيال فيل” بتونس العاصمة. وفي نفس السنة انتقل للدراسة في مدرسة إدارة الأعمال بلوزان في سويسرا إلى حدود سنة 1988 تاريخ تخرّجه.
برز طيلة عهد الرئيس الأسبق المخلوع بن علي، بشكل كبير في قيادة مجموعة البياحي الابن الطاهر البياحي الذي يعيش حاليّا خارج تونس (بين باريس ودبي) بعد صدور حكم قضائيّ يقضي بسجنه في سنة 2020.
سطع في السنوات الأخيرة نجم الطيب البياحي لاسيما بعد أن تولّى رئاسة المعهد العربي لرؤساء المؤسسات منذ سنة 2018، والذي يقدّم نفسه حسب موقعه الرسميّ على أنّه مركز دراسات مستقل يعمل على حماية المؤسسة وتحسين مناخ الأعمال والنهوض بالاقتصاد الوطنيّ.
ويعتبر هذا المعهد، الذي يُشرف عليه الطيب البياحي منذ 5 سنوات، واحدا من بين مراكز الضغط والتأثير في الحياة الاقتصاديّة والسياسات العموميّة للدولة التونسيّة.
في 7 ديسمبر/كانون الأوّل 2021، استقبل الرئيس التونسي قيس سعيّد بقصر قرطاج وفدا عن المعهد العربيّ لرؤساء المؤسسات يتقدمه الطيب البياحي. في هذا اللقاء، الذي أثار الكثير من الجدل السياسيّ والإعلاميّ، جدّد رئيس الجمهورية التأكيد على أهميّة التخلّص من الاقتصاد الريعيّ وعلى الحاجة الماسّة لمحاربة كلّ مظاهر الفساد التي تشكلّ أحد العوائق التي تكبّل الإقلاع الاقتصاديّ في تونس، وفق نصّ البلاغ الصادر عن رئاسة الجمهورية التونسية.
تهيمن مجموعة البياحي على العديد من القطاعات الهامّة في المجال الاقتصاديّ. وقد استفادت قُبيِْل الثورة خاصّة من خصخصة “المغازة العامّة” التي تضمّ واحدة من أكبر سلسلات المساحات التجاريّة في تونس.
بموجب إعادة هيكلة الاقتصاد، وحسب شروط صندوق النقد الدوليّ، تمّ في بداية فترة حكم الرئيس التونسي الأسبق بن علي نشر قوانين تنظم آليّة الخوصصة، من ذلك القانون 9-89 الصادر بتاريخ 01 فيفري/فبراير 1989.
وقد بلغ عدد عمليّات بيع الأصول للمؤسسات العموميّة بين سنتي 1986 و2009 ، 272 مؤسسة من بين 427 شركة عموميّة أي بنسبة 59 بالمائة.
في هذا السياق، وتحديدا في الفترة الفاصلة بين 2006 و2007 التي مثّلت ذروة عمليّات الخوصصة في تونس، تمكّنت مجموعة البياحي من خلال تحالف جمعها مع مجمّع “بولينا” لصاحبه رجل الأعمال عبد الوهاب بن عيّاد من اقتناء76.31 بالمائة من رأسمال المغازة العامّة وذلك بملغ إجماليّ قدّر بـ70 مليون دينار أي ما يعادل 55 مليون دولار وقتها، وذلك وفق ما ورد في إحدى المراسلات المسربة ضمن وثائق ويكيلكس التي تعود بالنظر للسفارة الأمريكيّة بتونس.
تشدّد “هيئة الحقيقة والكرامة” التي كانت تُعنى في تونس بمسار العدالة الانتقاليّة بعد ثورة جانفي/يناير 2011 في تقريرها الختاميّ الشامل، وتحديدا في المجلّد الثالث المعنون بـ”الفساد الماليّ والاعتداء على المال العام”، على أنّ صفقة خصخصة شركة “المغازة العامة” تضمّنت مجموعة من التجاوزات الماليّة والقانونيّة.
يُذكر أنّ النفوذ الاقتصاديّ لمجموعة البياحي كان قد توسّع في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لاسيما بعد الدخول في شراكة مع ابنته سيرين بن علي زوجة رجل الأعمال المعروف مروان مبروك، حيث قام الطاهر البياحي بالمساهمة في 15 بالمائة من رأسمال إذاعة “شمس اف ام” الخاصّة التي تمّت مصادرتها بعد الثورة من قبل الدولة التونسيّة.
يندرج هذا التحقيق العابر للحدود ضمن سلسلة تحقيقات استقصائية تهم شخصيات عامة نافذة في تونس. وتهدف هذه التحقيقات التي ينجزها موقع الكتيبة تباعا إلى مكافحة الفساد والتهرب الضريبي وتبييض الأموال الذي يكلف سنويا المجموعة الوطنية خسائر جمّة وذلك دعما لدور الصحافة الحرة والمستقلة في إرساء دولة القانون والحكم الرشيد.
يندرج هذا التحقيق العابر للحدود ضمن سلسلة تحقيقات استقصائية تهم شخصيات عامة نافذة في تونس. وتهدف هذه التحقيقات التي ينجزها موقع الكتيبة تباعا إلى مكافحة الفساد والتهرب الضريبي وتبييض الأموال الذي يكلف سنويا المجموعة الوطنية خسائر جمّة وذلك دعما لدور الصحافة الحرة والمستقلة في إرساء دولة القانون والحكم الرشيد.
الكاتب : محمد اليوسفي
الكاتب : محمد اليوسفي