الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.
نشر مكتبان متخصصان في سبر الآراء خلال شهر فيفري 2023 نتائج مسحيْن قاما بهما حول نوايا تصويت التونسيين في الانتخابات الرئاسية التي يفترض تنظيمها موفّى 2024. ولم نر نقاشا إلى الآن عن اختلاف النتائج الجليّ بين المكتبين وأسباب ذلك.
ففي نتائج مكتب سيغما كونساي احتلت الشخصيات التالية المراتب الخمس الأولى: قيس سعيد (49.4%) ثم الصافي سعيد (10.3%) ثم كادوريم (%5.9) ثم عبير موسي (4.6%) وأخيرا المنصف المرزوقي (4.3%). أما في نتائج مكتب أمرود كونسلتينغ فقد احتلّت الشخصيات التالية المراتب الخمس الأولى: قيس سعيد 65% ثمّ الصافي سعيد %7 ثمّ عبير موسي 6% ثمّ فاضل عبد الكافي 3 % ثمّ لطفي مرايحي 2 %. ويمكن أن نلاحظ الاختلافات الغريبة بين نتائج مكاتب سيغما كونساي ومكتب أمرود كونسلتينغ.
فإذا كان من الممكن أن نجد تفسيرات لتغيّر شعبية رئيس الدولة (بسبب القرارات الأخيرة التي تروّج لها الجهات الرسمية على أنّها حملة ضد الفاسدين والمتآمرين) فإنّ النتائج التي تهمّ الشخصيات الأخرى ليس لها، ظاهريّا، أيّ تفسير. والحقيقة أنّ هذا التباين يمكن أن يكون ناتجا مثلا عن المنهجيات المستخدمة التي تعبّر عن خيارات ليست بالضرورة منهجية بل يمكن أن تخضع أيضا إلى حسابات وإكراهات لا علاقة لها بالعلم.
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال.
نشر مكتبان متخصصان في سبر الآراء خلال شهر فيفري 2023 نتائج مسحيْن قاما بهما حول نوايا تصويت التونسيين في الانتخابات الرئاسية التي يفترض تنظيمها موفّى 2024. ولم نر نقاشا إلى الآن عن اختلاف النتائج الجليّ بين المكتبين وأسباب ذلك.
ففي نتائج مكتب سيغما كونساي احتلت الشخصيات التالية المراتب الخمس الأولى: قيس سعيد (49.4%) ثم الصافي سعيد (10.3%) ثم كادوريم (%5.9) ثم عبير موسي (4.6%) وأخيرا المنصف المرزوقي (4.3%). أما في نتائج مكتب أمرود كونسلتينغ فقد احتلّت الشخصيات التالية المراتب الخمس الأولى: قيس سعيد 65% ثمّ الصافي سعيد %7 ثمّ عبير موسي 6% ثمّ فاضل عبد الكافي 3 % ثمّ لطفي مرايحي 2 %. ويمكن أن نلاحظ الاختلافات الغريبة بين نتائج مكاتب سيغما كونساي ومكتب أمرود كونسلتينغ.
فإذا كان من الممكن أن نجد تفسيرات لتغيّر شعبية رئيس الدولة (بسبب القرارات الأخيرة التي تروّج لها الجهات الرسمية على أنّها حملة ضد الفاسدين والمتآمرين) فإنّ النتائج التي تهمّ الشخصيات الأخرى ليس لها، ظاهريّا، أيّ تفسير. والحقيقة أنّ هذا التباين يمكن أن يكون ناتجا مثلا عن المنهجيات المستخدمة التي تعبّر عن خيارات ليست بالضرورة منهجية بل يمكن أن تخضع أيضا إلى حسابات وإكراهات لا علاقة لها بالعلم.
وبناء على هذا يصبح من المشروع أن نشكّك في ما تقدّمه لنا مكاتب سبر الآراء عن نوايا تصويت التونسيين في الانتخابات. كما يصبح من المشروع أيضا التصدّي لها بالنقد والتساؤل عن منهاجياتها والمصالح التي تحرّكها؟ فلا شيء يمنعنا من التساؤل ما إذا كانت هذه المؤسسات متحرّرة أم لا من المصالح وهل هي تعمل بكل حرية ولا تخضع إلى أي نوع من الإكراهات؟ كما أنّه يحقّ لنا أن نتساءل عمّا إذا كانت هذه المكاتب تعمل وفق المعايير الديمقراطية الدولية المعتمدة في الدول المتقدمة ذات التقاليد الراسخة في هذا المجال؟ ولماذا تسعى بعض هذه المكاتب والمدافعين عنها في الصحافة إلى منع النقاش العام في ممارساتها حتى أنّهم يصفون أحيانا منتقديهم بالحيوانات.
سبر الآراء من مظاهر الحياة الديموقراطية
يمثّل سبر الآراء مؤشرا على وجود حياة سياسية ديمقراطية بما أنّه يمثل آلية من آليات كشف خيارات المواطنين Préférences والتعبير عنها. وهو على هذا النحو يُعلي من شأن الناس ومن مرتبة المواطنين ويجعل منهم مصدر القرارات والسياسات التي يتم وضعها تلبية لحاجاتهم. وهو هكذا يقطع بطريقة ما مع مقولة أنّ الشعب غبي وأنّ النخب أدرى بمصالحه.
ولا يحتاج الأمر إلى جهد عظيم للتفطن إلى أنّ تونس هي البلد العربي الوحيد الذي يمكن فيه أن يتم ّإخضاع الشخصيات السياسيات مهما كانت إلى التقييم المستمرّ من طرف المواطنين، كما أنّ تونس هي البلد الوحيد الذي لا تحظى فيه شخصية سياسية أو عامة ما بالمناعة والقداسة التي تمنع تقييمها وقياس حجمها وشعبيّتها لدى الرأي العام. فهل يقبل الزعماء الطائفيون في العالم العربي -مثلا- أنّ يقيّمهم أبناء طوائفهم وهل يقبل بذلك الملوك والأمراء والشيوخ والرؤساء أيضا. فهؤلاء لا يتحمّلون أبدا أن يكونوا موضوعا لغير مشاعر التقدير والإجلال لما لمرتبتهم من “سموّ” و”جلالة”. أمّا في الديموقراطية، حتى تلك المريضة منها، فإنّ المواطنين يعبّرون عن آرائهم في الحكام بوسائط عديدة ومنها سبر الآراء…. وهي دليل قاطع على وجود مجال عمومي يمكن فيه الكشف عن خيارات المواطنين Préférences والتعبير عنها.
… ولكنّ سبر الآراء أيضا آلية للتلاعب بالرأي العام
أثار سبر الآراء الأخير عن نوايا التصويت للانتخابات الرئاسية (sondage d’intention de vote) الذي نشره مكتب سيغما كونساي على وجه الخصوص ردود فعل عديدة تعلقت بالشخصيات التي ظهرت في المراتب الأولى، شخصيات غير نمطية لا تنتمي إلى الأحزاب السياسي وبلا تجربة سياسية أو بلا حضور في الشأن العام… وظهرت تساؤلات عديدة عن مغزى ظهور مثلا هذه الشخصيات في نتائج سبر آراء يتعلق بخيارات التونسيين في الشخصية التي ستكون جديرة بأن يتبوأ سدة الرئاسة.
ويمكن أن نصنّف ردود الفعل هذه إلى ثلاثة أصناف. صنف أوّل من ردود الفعل يعتبر أنّ سبر الآراء هذا هو كذاك الذّي سبقه جزءٌ من مؤامرة أو من خطة تتلاعب بالرأي العام، تخلق بطريقة مؤامراتية “رأيا عاما” بتقديم أو بتأخير بعض الشخصيات أو إظهارها، يجعل ما هو غير مقبول مقبولا.
أمّا الموقف الثاني، فهو يُقوّي مصداقية ممارسة سبر الآراء أو أنّه يتغاضى عن التّعليق عن أبعادها المهنية التّي تُقدّم ما هو غير مقبول على أنّه مقبول، ويذهب إلى أنّ النتائج يمكن فهمها من مداخل مختلفة منها مثلا خيبة أمل التونسيين في النخب السياسية التقليدية التونسية التّي تعبت من السياسة، وأنّ هذه النتائج تعبّر عن تراجع غير مسبوق في الثقة في النخب.
أمّا الموقف الثالث فلا يتردّد في استدعاء عدّة تفسيرات لهذه النتائج “الغريبة” ذات الطابع العجائبي ليقول لنا انّ التونسيين رعاع وغوغاء Plèbe لا يقرؤون ولا يعقلون بل يمكن أحيانا شراء ذممهم ببعض الدنانير أو سذّج يسهل التلاعب بهم. وعادة ما يجتمع هذا الموقف مع موقف آخر يؤنّب كلّ من يشكّك في سبر الآراء الأخير ويعتبره ناكرا للحقيقة.
لا يهمّنا في هذا المقال الردّ على هذه المواقف بل تقديم بعض الحجج التي تشكّك في مصداقية استطلاعات الرأي العام كما تمارس الآن. ويهمّنا أيضا أن نشير إلى أنّ نوع سبر الآراء الذي نتصدى له بالنقد هو فقط الذي تعلن عنه بعض المكاتب المتخصصة والذي لا تتوفّر فيه المواصفات التي تؤسّس بشكل مقبول مصداقيته وفق المعايير المهنية والدولية. أمّا ذلك النوع من سبر الآراء الذي لا يعلن عنه للجمهور فهذا لا يهمنا، بما أنه شأن خاص يهمّ من يطلبه ومن ينجزه.
كما يجب أن نشير قبل الانطلاق في سرد الحجج العقلانية التي يجب أن يواجه بها المواطن العاقل استراتيجيات التلاعب بالرأي العام بواسطة آلية سبر الآراء أنّ القانون الانتخابي وضع شروطا خاصة باستخدام سبر الآراء في الفترة الانتخابية، إذ جاء في الفصل 70 من هذا القانون أنّه “يمنع خلال الحملة الانتخابية أو حملة الاستفتاء وخلال فترة الصمت الانتخابي، بثّ ونشر نتائج سبر الآراء التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالانتخابات والاستفتاء والدراسات والتعاليق الصحفيّة المتعلقة بها عبر مختلف وسائل الإعلام.”.
الفصل 172 من القانون ذاته كان قد نصّ على أنّه إلى “حين صدور قانون ينظم سبر الآراء، يحجّر خلال الفترة الانتخابية بثّ ونشر نتائج سبر الآراء التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالانتخابات والاستفتاء والدراسات والتعاليق الصحفيّة المتعلقة بها عبر مختلف وسائل الإعلام”. لم يصدر ذلك القانون الذي ينظّم قطاع سبر الآراء، رغم مبادرتين تشريعيّتين كانتا قد تقدّمتا بمشروع قانون لينظّم سبر الآراء. وظلّ السياسيون الذين ساهموا بشكل فعّال في عدم تنظيم قطاع سبر الآراء والانتفاع منه بشكل دوري يندّدون بنتائج سبر الآراء عندما لا تخدم مصالحهم.
يقول ممثل سيغما كونساي مفسّرا النتائج العجائبية التي تضمنتها نتائج سبر الآراء عن نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية انّ مؤسسته تقوم بدراسات قبلية على مدار السنة لدراسة اتجاهات التونسيين. وعلى هذا الأساس تمّ تحديد قائمة بـ25 شخصية، تمّ عرضها على المستجوبين.
ويضيف ممثّل سيغما كونساي أنّ رقم 25 هو أقصى ما يمكن أن تحتفظ به الذاكرة لكنّه في الوقت ذاته لا يقول شيئا عن طريقة عرض القائمة على المستجوبين: هل هي عن طريق الهاتف بشكل مباشر، مع العلم أنّ طريقة استجواب المشاركين تعتمد في أغلب الحالات على الهاتف ويطلق عليها تقنية CATI ولكن توجد أيضا طرق أخرى على غرار الإنترنت. ويعني هذا أنّ الدراسات السابقة أظهرت وجود كادوريم من جملة 25 شخصية يرى التونسيون في دراسات لا نعرف عنها شيئا أنه يمكن أن يكون مؤهلا لمنصب الرئاسة. ويعني أيضا أنّ المستجوبين قُرأت عليهم عبر الهاتف قائمة بـ25 شخصا ثم قاموا بعد تلاوة القائمة عليهم بانتقاء ما يحلو لهم من الشخصيات.
أما امرود كونسلتنغ فتستخدم منهجية أخرى مختلفة تماما لا تعتمد على عرض قائمة (méthode assistée) على المستجوبين، ويبرّر مديرها ذلك بأننا “لسنا في فترة انتخابية ولا توجد قائمة في غياب القائمة الرسمية”. الشخص ذاته يضيف أنّ هذه المنهجية لا معنى لها في السياق التونسي على خلاف سياق الديمقراطية الراسخة حيث قواعد الحياة السياسية واضحة باعتبار وجود أحزاب تقودها شخصيات تترشح عادة إلى الانتخابات الرئاسية. أمّا اعتماد طريقة سبر الآراء بواسطة القائمة فإنّ ذلك يمكن أن يكون بشكل غير علني لصالح شخصية سياسية أو حزب سياسي حسب قوله.
الآن يمكن أن نتساءل عن أسباب اعتماد طريقة سبر الآراء بواسطة القائمة المسبقة في السياق التونسي. ويمكن أن نطرح الفرضيات التالية:
أولا: الترويج لشخصية سياسية وخلق حالة من “الضجيج” حولها خدمة لمصالحها في التعريف بنفسها.
ثانيا: خدمة مصالح المكتب للترويج لنفسه عبر تحويل الصحافة (الناقلة) إلى وسيلة إشهارية.
وفي كل الأحوال فإنّ الاختلاف بين المهنيين أنفسهم في تحديد المناهج الملائمة وتباين النتائج يؤدي حتما إلى سحب الثقة من سبر الآراء بما أنّها منهج علمي يقوم على التقنيات الكمية.
يستند المدافعون عن سبر الآراء في تونس بالقول إنّ نتائجها تكون دائمة متطابقة مع نتائج الانتخابات أي أنّ مكاتب سبر الآراء تتمتع بـ”كفاءة” التنبؤ la prédiction ممّا يشكّل حجة دامغة على علمية مناهجها. والحقيقة أنّ هذه الحجة لا تستقيم بالعقل والبرهان. فسبر الآراء الخاص بالانتخابات نوعان: أمّا النوع الأول فهو يتعلق بنوايا التصويت وهو يقَدم عادة على أنه صورة فوتوغرافية عن حالة نوايا التصويت التي هي بطبيعتها متغيرة خاصة عندما تكون سابقة للفترة الانتخابية التي يعلن فيها عن قائمة المترشحين الرسميين. أما النوع الثاني من سبر الآراء فهو يتعلق بما يسمى نتائج ما بعد التصويت وينجز أمام مكاتب التصويت ويسمى sondage sortie des urnes وبالإنقليزية exit Poll.
عند الإعلان عن النتائج الأولية للدور الثاني للانتخابات الرئاسية 2019 أعلن مكتب سيغما كونساي أن المرشح قيس سعد فاز بنسبة 76.9% في حين أعلن المكتب المنافس أمرود كونسولتينغ أن نسبة قيس سعيد تقدر بـ 72.53%أما النتيجة الرسمية فكانت % 72.71. والواضح إذن أنّ هناك اختلاف جليّ بين التقديرين يستشفّ منه العاقل أنّ المكاتب المتخصصة يمكن أن ترتكب أخطاء شنيعة.
يرى البعض أنّ المشككين في سبر الآراء في وضع يسمّى ناكر للحقيقة le déni. إنّ الحساسية من الحقيقة أو ما أطلقنا عليه l’intolérance à la vérité هو فعلا بُعد من أبعاد عمليات بناء الرأي العام في تونس يتجسّد عادة في معاداة الصحافة مثلا عندما تسعى إلى البحث عن الحقيقة. ولكنّ الأمر مغاير هنا، فسبر الآراء عمليا ونظريا ليس الحقيقة. وقد بيّنت كل البحوث منذ ظهور سبر الآراء على أنّه ليس الحقيقة. بل إنّه صنيعة Artefact كما بيّن ذلك عالم الاجتماع بيار بورديو في مقاله الشهير “الرأي العام غير موجود” لأنّه (أي سبر الآراء) لا يعبّر عن الرأي العام بقدر ما هو تجميع “لآراء” هي إجابات على أسئلة تطرح على عيّنة من الناس قد لا تكون معنيّة أصلا بالموضوع.
ويجبر القانون الفرنسي الذي ينظّم مكاتب سبر الآراء على بيان العمليات الاصطناعية التي تقوم بها في مستوى تعديل النتائج، كتلك المتصلة بمعالجة النتائج الخام أو ما يسمّى Redressement des résultats Bruts. ويمكن أن نطّلع على تفاصيل هذا الإجراء المنهجي مثلا على موقع صحيفة الحياة العامة الذي تديره الوزارة الأولى الفرنسية والذي تتمثّل وظيفته في توفير المعارف الضرورية للمواطنين للاطلاع على كل ما يتعلّق بالسياسات العامة وقضايا الشأن العام.
وتُعرف هذه العملية بأنّها إجراء يتمثّل في تغيير النتائج الخام وذلك بهدف تعزيز جودتها المنهجية. ويُميز عادة بين التعديل السيوسيو-ديموغرافي الذي يتعلق بالعيّنة نفسها وبين التعديل على أساس المقاييس السياسية والتي تشمل إضافة نسبة من المستجوبين لا يفصحون بشكل صريح عن نواياهم الحقيقية لبعض الشخصيات أو الأحزاب المخصوصة التّي يمكن أن تكون موضوعا لوصم اجتماعي (على غرار اليمين المتطرف) مثلا أو العكس (اليسار).
تمثل الصحافة وسيطا أساسيا من وسائط سبر الآراء بالإخبار والتحليل والتعليق والتفسير. وعلى هذا النحو، فإننا نحتاج إلى معلومات متنوعة لأداء وظائفها التي ذكرناها. وفي فرنسا مثلا، فإنّ قانون سبر الآراء يجبر المكاتب المتخصّصة على نشر وثيقة بيداغوجية شاملة المعطيات حتى تتمكن الصحافة والجمهور بشكل عام للاطلاع على كل التفاصيل الخاصة باستطلاعات الرأي ذات العلاقة بالآراء السياسية. وقد تصل هذه الوثيقة أحيانا إلى عدّة صفحات (في هذا المثال بلغت الوثيقة 9 صفحات) وتجمع كل الاستطلاعات في مكتبة مفتوحة.
أمّا في تونس في كثير من الأحيان فإنّ مكاتب سبر الآراء لا تضع مثل هذه الوثائق على ذمّة الجمهور وعادة ما تكتفي بالإعلان عنها في القنوات التلفزيونية أو في الصحف التي تتعامل معها مع ذكر بعض المعطيات الشحيحة في إطار ما يسمّى بالجذاذة التقنية، بل إنّ بعض سبر الآراء يتمّ الإعلان عنها في شكل تصريح إذاعي أو تلفزيوني (كما هو الحال بالنسبة إلى سبر آراء الأخير الذي أعدته شركة سيغما كونساي) دون تمكين الصحافة من الاطلاع على الوثيقة التقنية كاملة (الأسئلة والاجابات والمعلومات التقنية الأخرى، كهامش الخطأ والمقابل المادي الذي تحصل عليه المستجوبون…).
ومن الغريب أنّ المكاتب لا تنشر نتائج سبر الآراء على مواقعها ولا تتيحها للجمهور. وعلى هذا النحو، فإنّ مكاتب سبر الآراء يمكن أن تحوّل أحيانا الصحافة إلى آلية للاستراتيجيات الاتصالية (علاقات عامة) للتعريف بأعمالها في إطار اكتساح أسواق أخرى.
من غرائب الأمور، أن تجمع بعض المكاتب المتخصّصة وهي ليست كثيرة في هذه الحالة بين نشاطين مختلفين وهما سبر الآراء sondage d’opinion من جهة أولى وقيس الجمهور Mesure d’audience من جهة ثانية.
وفي الدول الديمقراطية، فإنّ نشاط قيس الجمهور تستأثر به بقوة القانون مؤسسة واحدة تقوم بقيس الجمهور باستخدام تكنولوجيات متطورة جدا يكون في غيابها من المشروع الشك في جدية ومصداقية هذا النشاط أيضا (أي قيس الجمهور) في تونس الذي يعتمد على تقنيات بدائية في حين أنّ استهلاك الميديا أضحت ظاهرة مركبة جدا في عصر تعدّد الشاشات (تلفاز، هاتف جوال، كمبيوترـ لوحات، شاشة السيارة) وتشظي الجمهور fragmentation des audiences وتنوع أشكال المضامين في الشبكات الاجتماعية.
لا يميّز الناس بين قيس الجمهور وبين سبر الآراء وحتى الصحافة أيضا والحال أنّ الأمر يتعلق بنشاطين مختلفين، رغم أنهما كانا في وقت ما يشتركان في بعض الأدوات المنهجية. وفي الحالة التونسية فقد أوكل الفصل 16 من المرسوم 116 إلى الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري “العمل على سنّ المعايير ذات الطابع القانوني أو التقني لقياس عدد المتابعين لبرامج منشآت الاتصال السمعي والبصري ومراقبة التقيد بها”.
لم تصدر هذه المعايير أبدا وما يزال قطاع قيس الجمهور، على غرار قطاع سبر الآراء، قطاعا عشوائيا لا يخضع إلى المعايير الدولية والمهنية والتكنولوجية المتطورة، وغير شفاف تستولي عليه بعض المكاتب التي تستعمل تقنيات ما تزال بدائية.
ولا شكّ أنّ الجمع بين النشاطين أي قيس الجمهور وسبر الآراء قد يخلق أيضا لدى الصحافة الخوف من الشك في عمل مكاتب سبر الآراء التي تجمع بين النشاطين لأنّ من يستحوذ (بشكل غير مشروع) على سلطة قيس الجمهور يصبح أيضا “سلطة” في الأوساط الصحفية و”الإعلامية” لا يطالها النقد.
ينتقد البعض أهمية قانون، لتنظيم سبر الآراء لأن ذلك يمكن أن يحدّ من حرية هذه المؤسسات وحرية الناس في الاطلاع على ما تنجزه من دراسات، إضافة إلى الادعاء أنّ الديمقراطيات تركت هذا النشاط حرا. والحقيقة أنّ هذه الادعاءات غير صحيحة ففي فرنسا وضعت السلطات قانونا صارما لتنظيم سبر الآراء.
أمّا في الدّول التّي لم تشرّع في هذا المجال فإنّ المهنة نظّمت نفسها بنفسها على غرار التجربة البريطانية والتجربة الأمريكية. وقد أسّست مكاتب سبر الآراء (وليس قيس الجمهور) منظمة مهنية دولية Esomar وضعت معايير أخلاقية. وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك شركة واحدة تونسية منضوية تحت هذه المنظمة الدولية وملتزمة موضوعيا بالأخلاقيات التي وضعتها.
في عديد الدول الأوروبية (ألمانيا، إيرلندا، الدنمارك، هولاندا، اليونان…) لا توجد قوانين لتنظيم ممارسة سبر الآراء لكنّ المهنة وضعت عدة آليات تنظيمية ذاتية لحماية عملها من الشبهات لإرساء علاقة الثقة بينها وبين الجمهور الذي تدّعي أنها تسبر أغواره.
مرسوم عدد 116 لسنة 2011 مؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري
لعملية سبر الآراء تكلفة عالية وإذا صدّقنا ما تقوله بعض المكاتب عن نشاطها بما أنّه نشاط علمي يخضع إلى معايير فإنّ سبر الآراء لا بدّ له من جهة تموّله اللّهم إذا كانت هذه المكاتب تقوم بهذا العمل تطوعا. تنشر بعض المؤسسات الصحفية أو القنوات التلفزيونية سبر الآراء رغم تكلفتها العالية. وفي الحالة التونسية، فإنّ الجمهور يمكن أن يتساءل في كل الأحوال عن الجهات التي تموّل هذه العمليات.
تستحوذ بعض المكاتب المتخصصة على سلطة الكلام عن الرأي العام وتقدم نفسها على أنّها وسيطه وترجمانه، بل هي لا تكتفي بذلك بل تساهم بشكل نشط في تأويل النتائج وليس تفسيرها فقط دون الاعتماد على دراسات متخصصة في العلوم السياسية أو في السوسيولوجيا الانتخابية. فيتحوّل التفسير إلى تنجيم أو تخمين يكرّر بعض المقولات السطحية.
ومن نتائج ذلك الاستحواذ على التعليق الصحفي والادعاء بتعريف “طبيعة” التونسيين كالقول مثلا انّ لدى التونسيين نزعة لتفضيل الشخصيات على الأحزاب، هكذا يتمّ تقديم شخصنة الخيار الانتخابي على أنّه خيار طبيعي والحال أنّه ليس من طبيعة الرأي العام بقدر ما هو نتيجة ديناميكيات عديدة يشارك فيها الإعلام بشكل كبير.
في الديمقراطيات عرفت ظاهرة استطلاعات الرأي تعاظما مستمرا حتى أصبحنا نتحدّث عن التضخم في سبر الآراء l’inflation sondagière. ففي بلد مثل فرنسا هناك أكثر من 10 مكاتب متخصصة في سبر الآراء. ويعني ذلك أنّ هذا التنوع يمكن أن يكون ضمانة لمصداقية مكاتب استطلاع الرأي. أمّا في تونس فلا نجد سوى مكتبين فقط وهذا يبدو غير كاف لصناعة أرضيّة للتنوع وصناعة مضمون ذي جودة في المجال.
من المفارقات العجيبة أن تستطلع مكاتب سبر الآراء الجمهور وهي لا تحظى بثقة الجمهور الذي تستطلعه، ما يحدّ من فعاليتها ومن مشروعيتها. يمكن أن يكون القانون حلا من الحلول التي يمكن أن تعيد الثقة لاستطلاع الرأي العام لكنّ هذا لا يكفي فنحن نحتاج أيضا إلى انخراط المهنيين أنفسهم في الدفاع عن نشاطهم لبناء الثقة في ما يقومون به. لكنّ المؤشرات الخاصّة بهذا المسلك نادرة جدا إذا لم تكن غائبة بالكامل ما يثير الاستغراب حقا.
خلاصة لابدّ منها…
لقد عملت جلّ الأحزاب السياسية الحاكمة والمسيطرة على الأغلبيات البرلمانية على منع أيّ تشريع خاص بمجال سبر الآراء وهذا من علامات مكر النخب السياسية والأحزاب السياسية التي تشتكي في الوقت ذاته من سبر الآراء وفبركتها والتلاعب بها.
إنّ إستراتيجية عدم «تفعيل الأحكام القانونية هو من مؤشرات فشل (مزدوج) الانتقال السياسي والإعلامي اللذين لم يعملا على تنظيم نشاطي سبر الآراء من جهة أولى وقيس الجمهور من جهة ثانية بصفتهما نشاطان أساسيان بالنسبة إلى الحياة الديمقراطية لأنّهما يتعلقان بمجال تكوين الرأي العام وشفافية المؤسّسات الإذاعية والتلفزيونية.
لقد تمخّض الانتقال السياسي عن أزمة عميقة وشاملة لكل مؤسّسات الديموقراطية من أحزاب وبرلمان وصحافة. وتلُوحُ ممارسة سبر الآراء أحد أبرز أسباب ذلك على اعتبار أنّها لم تنجح بدورها في تأسيس ثقة المواطنين فيها.
إنّ فشل الدولة في تنظيم سبر الآراء وفشل المهنة في تنظيم نفسها بنفسها يمثّلان بعدا من أبعاد فشل المسار السياسي في توفير الضمانات الضرورية لحماية الرأي العام والمجال العام السياسي من التلاعب والتضليل. وقد يفسّر هذا ما أطلقنا عليه في كتاب الديموقراطية “الناخب المتقلّب و ذُو المعرفة المشوهة عن الحياة السياسية”، ناخب أصبح موضوعا تتلاعب به قوى متعددة لا حصر لها.
ننشر هذا المقال التفسيري الذّي يستند الى مقاربة بحثية صارمة للدكتور الصّادق الحمامي في إطار سلسلة من المقالات والورقات البحثية والأكاديمية التي نسعى من خلالها إلى الانفتاح على الساحة العلمية والاكاديمية من أجل إثراء العرض الصحفي الذّي نقدّمه لجمهورنا.
ننشر هذا المقال التفسيري الذّي يستند الى مقاربة بحثية صارمة للدكتور الصّادق الحمامي في إطار سلسلة من المقالات والورقات البحثية والأكاديمية التي نسعى من خلالها إلى الانفتاح على الساحة العلمية والاكاديمية من أجل إثراء العرض الصحفي الذّي نقدّمه لجمهورنا.
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال
الكاتب : الصادق الحمامي
دكتور في علوم الإعلام والاتّصال، أستاذ في معهد الصحافة بتونس وصاحب عديد المؤلفات في المجال