بقلم : أحمد الواسعي، رنا الصباغ، سلمى مهاود، عبدالواحد العوبلي، مطيع بامزاحم، زاهر بن شيخ بكر (OCCRP)
عندما وصلت حفارات النفط إلى وسط اليمن قبل ثلاثة عقود، لم تكن قبيلة الشيخ سالم سعيد بن هوطلي تتوقّع ما كان سيحدث، “وإلّا لكنا حمينا أنفسنا”، بحسب ما قال الزعيم القبلي، الذي يعيش في منطقة زراعية محاطة بآبار النفط، في مقابلة مع الصحفيين.
واستذكر كيف كانت الطيور تأتي وتشرب الماء. ولكن عندما بدأت تموت، أقامت الشركة سياجا حول الحفر الرملية، لكن هذا لم يفعل الكثير لمنع الأمطار الغزيرة من جرف المحتويات إلى أسفل الوادي وصولاً إلى منطقة رسب، حيث تعيش قبيلة بن هوطلي في قلب إحدى المناطق المنتجة للنفط في البلاد.
وقال بن هوطلي لـ “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود” OCCRP إنه “عندما تأتي السيول الجارفة، نرى سوادا في الماء يشبه النفط”.
بقلم : بقلم : أحمد الواسعي، رنا الصباغ، سلمى مهاود، عبدالواحد العوبلي، مطيع بامزاحم، زاهر بن شيخ بكر (OCCRP)
عندما وصلت حفارات النفط إلى وسط اليمن قبل ثلاثة عقود، لم تكن قبيلة الشيخ سالم سعيد بن هوطلي تتوقّع ما كان سيحدث، “وإلّا لكنا حمينا أنفسنا”، بحسب ما قال الزعيم القبلي، الذي يعيش في منطقة زراعية محاطة بآبار النفط، في مقابلة مع الصحفيين.
واستذكر كيف كانت الطيور تأتي وتشرب الماء. ولكن عندما بدأت تموت، أقامت الشركة سياجا حول الحفر الرملية، لكن هذا لم يفعل الكثير لمنع الأمطار الغزيرة من جرف المحتويات إلى أسفل الوادي وصولاً إلى منطقة رسب، حيث تعيش قبيلة بن هوطلي في قلب إحدى المناطق المنتجة للنفط في البلاد.
وقال بن هوطلي لـ “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود” OCCRP إنه “عندما تأتي السيول الجارفة، نرى سوادا في الماء يشبه النفط”.
ومثل العشائر الأخرى التي تعيش بالقرب من حقول النفط اليمنية، دفعت قبيلته ثمناً باهظاً بينما حققت شركات استخراج النفط الخاصة والعامة مليارات الدولارات. ومنذ اكتشاف النفط في اليمن في ثمانينات القرن العشرين، تعثّرت محاولات المساءلة بسبب الحرب وتشظي السلطة السياسية.
أهم نتائج التحقيق:
يصف تقرير غير منشور أنجز بناء على تكليف من البرلمان اليمني 30 حادثة تلوّث بيئي قامت بها أكثر من 12 شركة استكشاف نفط وغاز ومؤسسات تابعة لها.
الرئيس الأسبق للهيئة العامة لحماية البيئة د. عبد القادر الخراز يقاضي شركة نفط حكومية للتأثير المستمر على صحة السكان في المناطق التي تولت فيها عمليات استخراج النفط من الشركات الأجنبية
التقرير الذي وضع على الرف منذ إندلاع الحرب في اليمن يتهم شركة نكسن الكندية بـ “التهوّر والإهمال المتعمّد في تلويث البيئة بسوائل النفط”.
الكشوفات العامة:
يصف تقرير غير منشور أنجز بناء على تكليف من البرلمان اليمني 30 حادثة تلوّث بيئي قامت بها أكثر من 12 شركة استكشاف نفط وغاز ومؤسسات تابعة لها.
الرئيس الأسبق للهيئة العامة لحماية البيئة د. عبد القادر الخراز يقاضي شركة نفط حكومية للتأثير المستمر على صحة السكان في المناطق التي تولت فيها عمليات استخراج النفط من الشركات الأجنبية
التقرير الذي وضع على الرف منذ إندلاع الحرب في اليمن يتهم شركة نكسن الكندية بـ “التهوّر والإهمال المتعمّد في تلويث البيئة بسوائل النفط”.
تصوير: أحمد الواسعي
تصوير: أحمد الواسعي
تهوّر وإهمال متعمّد
يوثّق تقرير غير منشور أُنجز نهاية عام 2014 بتكليف من البرلمان اليمني أكثر من 30 انتهاكا بيئيا ارتكبتها عشرات شركات النّفط والغاز ما بين أيام الازدهار في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى حين انزلاق البلاد إلى حرب أهليّة في 2014. وتقدّم المقابلات التي أجراها فريق التحقيق الصحفي مع السكّان المحلّيين والخبراء والمسؤولين، بالإضافة إلى مراجعة سجلّات المحكمة وتقارير أخرى تتعلق باستخراج النفط والغاز، صورة مماثلة عن هذه الممارسات.
تمّ تسليم التقرير إلى المشرّعين نهاية سنة 2014 عندما بدأت البلاد تنحدر إلى حرب أهلية. ومازال التقرير حبيس الأدراج منذ ذلك الحين. بينما غادرت العديد من شركات النفط البلاد مع تردّي الأوضاع الأمنية. وتظهر تقارير OCCRP أن الشركات الحكومية التي استحوذت على الصناعة من الشركات الاجنبية متّهمة الآن بمواصلة الدمار. في إحدى الحالات، يقاضي الرئيس السابق للهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن عبد القادر الخراز شركة حكومية بسبب الآثار الصحّية المستمرّة على الناس في المنطقة.
ويقول درهم أبو حاتم، مدير عام البيئة والسلامة في وزارة النفط والمعادن اليمنية لـ OCCRP إنّ “الشركات عندما تحفر في أي دولة من دول العالم يكون لديها لوائح تنظيمية وخوف على سمعتها. ولكن عندما تعمل في دولة القانون فيها ضعيف تتصرّف الشركات كما تريد دون حسيب أو رقيب خاصّة أنه حينها أيضا لم تكن هناك لوائح وضوابط لتنظيم الأثر البيئي لعملية التنقيب”.
تمت كتابة التقرير المؤلّف من 147 صفحة من قبل أستاذ البيئة المشارك في جامعة صنعاء محمد الحيفي وراجعه المهندس علي عبدالله الذبحاني مدير عام السلامة الكيميائية والنفايات الخطرة في وزارة المياه والبيئة. وتمّ تكليفهما من قبل البرلمان في ظلّ تزايد الشكاوى بشأن مخالفات في قطاع استخراج النفط والغاز.
وبحسب الصور الملتقطة والتحليلات لعيّنات المياه والهواء وعمليّات التفتيش وشكاوى المواطنين، يصف التقرير الحوادث التي تورطت فيها أكثر من 12 شركة نفط دولية، فضلاً عن شركات ومقاولين محلّيين.
على سبيل المثال، شركة النفط الكندية نكسن – التي كانت تعمل حتى عام 2015 بالقرب من قبيلة بن هوطلي – متّهمة بـ “التهوّر والإهمال المتعمّد في تلويث البيئة بسوائل الحفر” بحسب ما ذكر في التقرير البرلماني.
وخلص التقرير كذلك إلى أنّ حجم التلوّث وتكراره يشير إلى “الإصرار المتعمّد على ارتكاب جرائم ضدّ البيئة”.
تظهر صور التقطها فريق الصحفيين العاملين مع OCCRP موفّى 2021 لمواقع حفّارات نكسن بالقرب من المكان الذي يعيش فيه بن هوطلي، وهي منطقة تعرف باسم قطاع 51، كمّيات كبيرة من السوائل الداكنة تتجمّع بين رمال الصحراء. تمّ شراء نكسن من قبل CNOOC الصينية في عام 2015.
صور من التقرير البرلماني تظهر تلوث سوائل الحفر في قطاع 51 الذي كانت تديره شركة نكسن
تقييم الوضع البيئي والصحي والاجتماعي للتلوث الناجم عن قطاع النفط والغاز في محافظتي حضرموت ومأرب بالجمهورية اليمنية – دراسة مقدمة للجنة البيئة والصحة بمجلس النواب
صور من التقرير البرلماني تظهر تلوث سوائل الحفر في قطاع 51 الذي كانت تديره شركة نكسن
تقييم الوضع البيئي والصحي والاجتماعي للتلوث الناجم عن قطاع النفط والغاز في محافظتي حضرموت ومأرب بالجمهورية اليمنية – دراسة مقدمة للجنة البيئة والصحة بمجلس النواب
بدلا من معالجة نفايات الحفر بشكل صحيح، اختارت الشركة الكندية الخيار “الرّخيص والسهل” المتمثّل في خلط سوائل النفط ببساطة في التربة وتركها في حفر مفتوحة، وفق تصريح الخبير الجيولوجي الذي عمل في وزارة النفط اليمينة في أوائل الـ2000، عبد الغني جغمان، بعد مراجعة التفاصيل الواردة في التقرير.
وقال جغمان الذي راقب عمل شركات النفط خلال فترة عمله في الوزارة في مقابلة مع OCCRP إنّ :
“نكسن كانت مهملة بشأن طريقة التخلّص من سوائل الحفر أو معالجتها”
وأضاف “شركة نكسن لم تكن وحدها، بل حتّى الشركات الأخرى العاملة في اليمن”.
وأوضح علي الذبحاني، الرئيس السابق لإدارة النفايات الخطرة في وزارة البيئة، الذي راجع التقرير قبل تقديمه إلى البرلمان ، في حديثه مع OCCRP، أنّ التقرير لا يظهر فقط “تهوّر وإهمال” شركات النفط، ولكن أيضا فشل السلطات اليمنية في تطبيق التعليمات بشكل صحيح.
وبحسب ياسمين الأرياني، المديرة التنفيذية للإنتاج المعرفي بمركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية والتي سلّطت الضوء على تحدّيات قطاع النفط في دراسة لها صدرت في 2020، فقد عرقل اندلاع الحرب الأهلية في اليمن بصورة أكبر جهود إصلاح القطاع. وقالت الارياني لـ OCCRP إنّ “الظروف اليوم أصبحت أكثر صعوبة لسنّ آليّات المساءلة”.
بعد دعم موازنة الحكومة اليمنية لعقود، أصبحت أرباح النفط الآن تشكّل مصدر دخل للفصائل المتحاربة في البلاد. ولا يزال المواطنون مثل الشيخ الهوطلي يعيشون مع هذه التداعيات. ومثل كثيرين في المنطقة، يلقي الشيخ بن هوطلي باللّوم على التلوث النفطي في انخفاض المحاصيل في منطقته وارتفاع الأمراض مثل السرطان وأمراض الكلى.
ويتحسّر قائلا: “أرضنا لم تكن أبدا هكذا. لقد كانت مثمرة والآن أصبحت قاحلة ولا فائدة منها”.
ولم ترد وزارة النفط والمعادن على أسئلة أرسلها فريق الصحفيين الاستقصائيين حول ما وثّقوه وكشفوه.
ويقول المسؤولون الذين حاولوا محاسبة الشركات إنّه تمّ إسكاتهم.
وقال رئيس سابق لهيئة حماية البيئة اليمنية إنه أُستهدف بعد تحدّيه لشركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج التي تديرها الدولة بشأن سجلّها. ومنذ ذلك الحين رفع دعوى قضائية ضد الشركة وفرّ من البلاد. وقال مسؤول كبير آخر في هيئة حماية البيئة إنه طُرد أيضا السنة الفارطة بعد تحدّيه لشركات النفط والسلطات.
مياه ملوّثة
بعد اكتشاف النفط في اليمن في منتصف ثمانينات القرن العشرين، توافدت مجموعة من الشركات الأجنبية على البلاد للحصول على مناطق الامتياز التي قامت الحكومة بتقسيمها إلى “قطاعات” بموجب اتفاقيات مشاركة الإنتاج والتي منحت الشركات حقوق التنقيب عن النفط بشرط أن تتقاسم الإتاوات مع الدولة.
في ذروة الإنتاج في أوائل سنة 2000، كان اليمن يضخّ 450,000 برميل يوميّا. وقبل اندلاع الحرب، كانت عائدات النفط والغاز تمثل حوالي 70 % من ميزانية الدولة.
كانت نيكسن، المعروفة سابقا باسم أوكسيدنتال بتروليوم الكندية، واحدة من أوائل الشركات التي عثرت على النفط في 1991. وبحلول بداية سنة 2000، كانت تدير قطاعين في محافظة حضرموت. لم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ السكّان المحلّيون في الشعور بآثار عملها.
يفصل التقرير البرلماني كيف انزلق ما يقدّر بنحو 450,000 برميل من المياه الزيتية في مارس 2008 من بئر تصريف في منطقة امتياز نكسن الرئيسية، قطاع 14، حيث تم انسكابها لمسافة 3 كيلومترات تقريبا.
يتذكّر الزعيم القبلي عمر سعيد باعباد حادثة التسرّب. وقال باعباد (75 عاما) في مقابلة مع OCCRP خلال زيارة للمنطقة إنّ المياه الملوّثة استمرّت في التدفق لمدة 4 أيام، وغطّت العديد من مزارع المنطقة.
وأضاف:
“الأرض لم تعد كما كانت أبدا… كنا ننتج 40 إلى 50 كيسا من القمح في الموسم الواحد. أما الآن فنحن ننتج 10 فقط ونشتري الباقي”.
وصف مؤلفو التقرير المياه بأنها “مياه مصاحبة”، أي فيها سائل يتمّ ضخّه إلى السطح إلى جانب النفط وغالبا ما يكون ملوثاً بمواد كيميائية خطرة، بعضها مشع.
وأشار التقرير إلى أن الشركات في جميع أنحاء حضرموت ارتكبت “انتهاكات بيئيّة صارخة” عند التخلّص من هذا النوع من النفايات.
يمكن التخلّص من المياه المنتجة عن طريق إعادة حقنها مرّة أخرى في الحوض الذي أتت منه، ولكن يجب أن يتمّ ذلك بعناية لتجنّب تلويث مصادر المياه الجوفية، بحسب توضيحات خبير الجيولوجيا جغمان. يعدّ الخطر شديدا بشكل خاصّ في حضرموت التي تقع فوق أكبر طبقة مياه جوفيّة في اليمن.
وقال جغمان إنّ “المياه المنتجة سامّة، ولا يمكن استخدامها للبشر أو الزراعة ما لم تخضع لمعالجة كبيرة، وهو ما تتجنّبه شركات النفط لأنها عمليّة مكلفة”.
بعد أن غادرت نكسن قطاع 14 في2011، وجدت الشركة التي تديرها الدولة والتي استحوذت على قطاع 14 الموقع في حالة من الفوضى، وفقا لقضيّة تحكيم دولية رفعتها وزارة النفط والمعادن اليمنية ضد الشركة الكندية وشركائها في باريس بعد عامين من مغادرتها اليمن، علما وأنّ المحكمة التجارية متخصّصة في فضّ النزاعات التجارية.
واتهم اليمن الشركات بإعادة حقن المياه المصاحبة بلا مبالاة، والفشل في مراقبة ما إذا كانت الشركات قد لوّثت المياه الجوفية. واعترفت نكسن خلال التحكيم بأنّها ضخّت المياه الملوّثة أسفل طبقة المياه الجوفية العذبة لمدّة 5 سنوات في تسعينات القرن العشرين، لكنها ادّعت أنّها لم تسبّب أيّ ضرر بيئي.
من جهتها، قالت الوزارة في مرافعتها إنّها عثرت على آبار خطرة وناقصة، ونفايات ملقاة أو محترقة في العراء، ومحرقة نفايات مكسورة لم يتمّ إصلاحها منذ سنوات. وعلى الرغم من أنّ القوانين البيئية في اليمن كانت في ذلك الوقت ضعيفة، إلا أنّ وزارة النفط جادلت في محكمة التحكيم الدولية الأولى بأنّ نكسن وشركائها فشلوا في تلبية المعايير الأساسية المنصوص عليها في عقدها.
في حين تمّ رفض بعض الاتهامات – على أساس أنه تم اعتبار الادعاء حول التسبّب في التلوّث بالمياه المنتجة خارج إطار قانون التقادم – أمرت المحكمة شركة نكسن بدفع ما يقارب 10 ملايين دولار على شكل غرامات لاستبدال المحرقة المكسورة ومعدّات أخرى لم تعد فاعلة، وأيضا لدراسة تقييم الأثر البيئي التي لم تقم به الشركة قبل أن تغادر القطاع الذي عملت به.
بالنسبة لليمنيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط في البلاد، يمكن قياس تأثير التلوث بأكثر من الدولارات. حيث أظهرت الدراسات العلمية أن العيش بالقرب من حقول البترول يرتبط بزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع مرض السرطان.
تظهر البيانات الصادرة عن مؤسسة حضرموت لمكافحة السرطان – المنطقة التي عملت فيها شركة نكسن – أن حالات السرطان تضاعفت 3 مرّات تقريبا بين بداية 2000 و2015. وقال مديرها، وليد عبد الله البطاطي، إنّه
“على الرغم من عدم وجود دراسات تثبت أنّ التلوث النفطي تسبّب في ارتفاع الأعداد، فإن المناطق القريبة من الكتل النفطية لديها أعلى معدلات الإصابة بالسرطان مقارنة بالمحافظات الأخرى”.
ويلقي باعباد، الزعيم القبلي الذي تلوّثت أرضه، باللوم على التلوث النفطي الذي يقول إنه كان سبب السرطان الذي أودى بحياة شقيقه قبل بضع سنوات.
وقال للصحفيين في لقاء في منزله “صحّتنا وأراضينا كلها دمّرت بسبب شركات النفط”.
شركات حكومية تسيطر على القطاع
في المنطقة الرئيسية الأخرى المنتجة للنفط في اليمن، على بعد حوالي 30 كيلومترا من مدينة مأرب، يقع القطاع 18، حيث اكتشفت شركة هنت للنفط ومقرّها دالاس في الولايات المتحدة الأمريكية أوّل نفط في اليمن في 1984.
يصف التقرير البرلماني انتهاكات مختلفة خلال فترة ولاية هنت التي استمرت 20 عاما تضمّنت انبعاث مستويات خطيرة من أكاسيد النيتروجين في الهواء إلى التخزين غير السليم لمئات البراميل من المواد الكيميائية منتهية الصلاحية.
كما وجد أن شركة هنت قد دفنت مواد كيميائية في حفرة في الصحراء إلى جانب نفايات الحفر. ويُزعم أنها حاولت دفن “كمّية لا يستهان بها من نفايات الحفر” في موقع آخر قبل أن يوقفها المسؤولون المحلّيون في منتصف الطريق. ورفضت شركة هنت التعليق على ما ورد في التقرير.
خرجت هنت من قطاع 18 في 2005 بعد أن رفض البرلمان تجديد عقد الامتياز. لكن شركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج (SEPOC) التي تديرها الدولة -والتي استحوذت عليها- متّهمة بمواصلة إرث شركة هنت.
إرث مدمر
في عام 2018 ، تلقى عبد القادر الخراز، الذي كان آنذاك رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن، شكوى مفادها أن الشركة الحكومية صافر دفنت نفايات كيميائية خطرة من إحدى وحدات المعالجة التابعة لها في الصحراء. بعد أقلّ من عام، تلقّت الهيئة نفسها شكوى أخرى مفادها أن الشركة كانت تخزّن المواد الكيميائية بشكل غير صحيح، ممّا يجعلها عرضة للعوامل الجوية، في تهديد للمنطقة المحيطة.
بعد فشل جهوده المتعدّدة للحصول على تعاون من شركة صافر، رفع الخراز دعوى قضائية في 2020 ضدّ متّهما إيّاها بدفن المواد الكيميائية الخطرة ونفايات الحفر، وطالبها بالتعويض نيابة عن العشرات من مرضى السرطان.
يدعم الخراز ادعاءاته أمام المحكمة بنتائج بتحليل 65 عيّنة تربة أخذها من مواقع دفن النفايات والقمامة المختلفة في قطاع 18 الذي تديره صافر وقطاعين مجاورين على مدار عدة سنوات. وكشفت الاختبارات المعمليّة أنّها تحتوي على جزيئات هيدروكربونية متطايرة ومعادن يمكن أن تسبّب السرطان مثل الكروم والنحاس والنيكل والرصاص بمستويات أعلى من الحدود الدولية المسموح بها.
في إحدى العيّنات، كان مستوى الرصاص أعلى بأكثر من 120 مرّة من المعيار الدولي المستخدم في المختبر، بينما كان الزنك أعلى بـ 32 مرة.
وزّع الخراز أيضا استبيانا في 2020 على عيّنة عشوائية من 51 شخصا في حريب، وهي مدينة بالقرب من القطاع التي أخذ عيّنات منه، ووجد أن ما يقارب ثلثيهم يعانون من السرطان وأكثر من 17 % يعانون من أمراض الصدر والجهاز التنفسي. وكان معدل الإصابة بسرطان الدماغ أعلى بين الأطفال بحسب ما وثّق.
وفي تصريحات لـ OCCRP، نفت صافر دفن أي مواد خطرة في موقعها أو انتهاك لقانون البيئة اليمني الذي يعاقب على التلوّث المتعمّد الذي يضرّ بالبيئة بالسّجن لمدّة تصل إلى 10 سنوات. ورفض المتحدّث باسم صافر التعليق على دعوى الخراز التي مازالت تراوح مكانها في أروقة المحكمة.
وقالت الشركة إنه منذ تولّيها القطاع 18، اتخذت تدابير لحماية البيئة، مثل تبطين حفر النفايات وحماية إمدادات المياه من خلال تدعيم أفضل للأنابيب تحت الأرض.
صناعة النفط “خط أحمر”
توقفت الإجراءات القانونية التي اتخذها الخراز ضد صافر في المحاكم منذ 2020، حيث يطعن محامو الشركة في التفاصيل الفنّية بينما تنحّى القاضي الأصلي في القضية عن منصبه في ذلك العام، ورفض قضاة آخرون إعادة فتح القضيّة.
وفي الوقت نفسه، قال الخراز إنه قوبل بحملة ترهيب.
في سبتمبر 2019، بعد بضعة أشهر من تقديم شكواه الثانية إلى صافر، تم استبدال الخراز كرئيس الهيئة العامة لحماية البيئة.
وعندما رفع الخراز القضية ضد صافر في العام الموالي، طلب محامي الشركة من النيابة التحقيق معه بتهمة الإخلال بالسلام والإضرار بالمصلحة العامة.
في مرحلة ما من التقاضي، طلب الخراز الحماية بعد أن أخبر محامي صافر المحكمة أنّ السكّان المحلّيين عرضوا على الشركة منعه من رفع قضيّة ضدّ شركة النفط. وقال الخراز إنه ينظر إلى التعليقات على أنها تهديد.
يبيّن الخراز أنه فرّ في نهاية المطاف من اليمن بعد أن تصاعدت التهديدات ضدّه. التهديدات بدأت “كنصيحة” من الأصدقاء ثم تطوّرت إلى الترهيب اللفظي، بما في ذلك من مسؤول حكومي تحدّث إلى والده.
ويعتقد الخراز أن حادثة قصف منازل العائلة في مأرب بصواريخ الدبابات في 9 ديسمبر 2021 بعد شهر على مغادرته البلاد “إنما هو تنفيذ للتهديدات التي يتعرّض إليها بسبب ما كشفه حول الموارد النفطية والقضية التي رفعها ضدّ الشركات النفطية المتعلّقة بالتلوّث النفطي ومطالبته بوقف عمليات دفن المخلفات الخطرة ومعالجة مرضى السرطان بالمنطقة وتعويضهم”، على الرغم من أن OCCRP لم تجد أي دليل يؤكد ذلك.
ويظهر مقطع فيديو تمّ تصويره في مضارب آل الخراز قيادات الجيش في محافظة مأرب يزورون الديوان بعد التوصّل إلى صلح عشائري مع وجهاء العائلة مقرون بتعويض عن الخسائر. ونفى متحدث باسم قائد اللواء 14 التابع للحكومة المعترف بها دوليّا مزاعم الخراز بأن قصف منازل العائلة “كان بناء على أوامر وصلت القيادة المحلّية من جهات داخل الدولة”.
وقال المتحدث ذاته لـOCCRP إنّ “كل ما ذكرتم في رسالتكم مجانب للحقيقة. قضيّة الأخ محمد الخراز تمّ التحكيم فيها بإشراف وجاهات قبليّة وتم تعويض الأخ محمد الخراز بما حَكم به وقد تنازل عن القضيّة برضاه وبعد استلام التعويض وكتب أنه لم يبق له أيّ دعوى أو طلب في الحكم الموجود لدينا “.
من جانبه، صرّح الخراز، الذي يقضي الآن أغلبية وقته متنقّلا بين عديد الدول العربية والأجنبية، أنّ
“الأشخاص النافذون في الحكومة وشركات النفط يحمون مصالحهم من خلال منع التدقيق الفعّال في قطاع استخراج النفط”.
وقال محمد سالم مجور، مدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة في محافظة شبوة الغنيّة بالنفط، إنه تمّ إقصاؤه من الوظيفة أيضا بعد محاولته كشف التلوّث في منطقته.
في 2020، بدأ مكتبه في توثيق التلوّث الذي تقوم به شركات النفط الأجنبية والمحلّية العاملة في المنطقة. وشملت هذه الانتهاكات الفشل في وقف تسرّب النفط المتكرّر وبكمّيات كبيرة من خطّ أنابيب تديره الشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والمعدنية التي تديرها الدولة، ومعالجتها بشكل صحيح.
ولم تردّ الشركة على طلب OCCRP الحصول على تعليق.
وكتب مجور في بيان عام نشر في أفريل 2022 “أنه سرعان ما تمّ تحذيرنا من بعض السلطات بخطورة ذلك الملف لأنه ظلّ لسنوات سابقة “خطّا أحمر” بعيدا عن الرقابة لارتباط القطاعات النفطية بقوى نفوذ تتحكم بها وتحمي تلك الشركات العاملة فيها”.
بعد شهرين، كتب مجور رسالتين إلى محافظ المنطقة يزعم فيها أن مبعوثه أصدر تعليمات إلى الهيئة العامة لحماية البيئة بعدم اتخاذ إجراءات قانونية ضدّ شركات النفط أو الإضرار بسمعتها.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تم استبعاد مجور.
ولم يرد مكتب محافظ شبوة على طلبات متكرّرة للتعليق.
وأبرز مجور نسخة لشكوى الفصل التعسّفي التي رفعها لدى مفوضية حقوق الإنسان اليمنيّة. وأكدت المفوضية استلام الشكوى لكنها لم تقدّم المزيد من التفاصيل. وقال مجور في مقابلة مع OCCRP في شهر مارس/ آذار إن مشكلة التلوّث النفطي لم تحلّ بعد، مبينّا أنّ “التربة الملوّثة ما زالت هناك وعندما تتساقط الأمطار تجرف التربة للمناطق الزراعية”.
عودة الشركات إلى اليمن
على الرغم من أنّ غالبية شركات استكشاف النفط الأجنبية العاملة في اليمن غادرت بعد بدء الحرب أو أوقفت إنتاجها بسبب التحدّيات الأمنية، إلّا أن بعضها عاد إلى العمل. في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2021، زار صحفيّون محلّيون يعملون مع OCCRP على هذا التحقيق الصحفي الاستقصائي منطقة قطاع 9 في حضرموت، حيث كانت تدير العمليات وقتها شركة كالفالي بتروليوم قبرص.
وقال الشيخ عبدالله مبارك بن بدر الذي يقيم في منطقة قريبة من نطاق عمل الشركة إنّه
“عندما تسقط الأمطار تتراكم مادّة سوداء تحت أشجار النخيل”، مضيفا “قبل شهور جرفت الفيضانات هذه المياه الملوّثة من الموقع النفطي إلى الوادي”.
وأقرّ المتحدّث باسم كالفالي بالحادث موضّحا أنّ الشركة دفعت تعويضات من خلال عمليّة رسمية تقودها الحكومة للسكان الذين تضرّروا من التسرّب الذي جاء من الحفر المفتوحة التي غمرتها الأمطار الغزيرة. وقال المتحدث إن الحادث كان بسبب “فيضان استثنائي”.
خلال الزيارة، شاهد الصحفيون حفرة ترابية منفصلة للمياه المنتجة داخل موقع كالفالي وتفتقر إلى أي بطانة. كانت محتويات الحفرة تتدفق إلى الأرض المحيطة من خلال كوة في جدار منهار.
وقال المتحدث باسم الشركة إن هذه البركة شيّدت قبل صدور لائحة تنظيمية في 2010 تتطلّب الآن وجود طبقات واقية للمياه المنتجة وأنّه لا علاقة لها بأحدث تسرّب. وأردف بالقول إنّ خطط كالفالي لإصلاح الحفرة قد تعطّلت بسبب الحرب.
وأضاف “سيتمّ ذلك بمجرد أن تتمكن الشركة من استعادة الإنتاج ويسمح الوضع الأمني في اليمن لشركات الخدمات الدولية بالعودة إلى اليمن”.
بقلم : بقلم : أحمد الواسعي، رنا الصباغ، سلمى مهاود، عبدالواحد العوبلي، مطيع بامزاحم، زاهر بن شيخ بكر (OCCRP)