الكاتب : طارق الكحلاوي
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة جنوب المتوسط في تونس. دكتوراة من جامعة بنسلفانيا. مدير عام سابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
تطرح كُتب بوب وودوارد، و آخرها كتاب “حرب” (صدر في سبتمبر 2024) ، معضلة أساسية. إذ هي من جهة تفيض بالتغطية الحصريّة للكواليس الحميميّة لدوائر الحكم، وبهذا المعنى هي جذّابة ويمكن أن تقودنا إلى فخّ لذةّ التلصّص (voyeurism).
لكنّها، من جهة أخرى، تعكس نسخة انتقائية وفي كثير من الأحيان مُلغّمة بأجندات سياسية متباينة، وعلى رأسها أجندة الكاتب نفسه. الوعي بهذه المفارقة أساسي من أجل السعي لـ”تصفية” مضمون الكتاب وعدم الوقوع ضحيّة لمحاولة التلاعب بالقارئ، و استعصار ما يمكن أن يرتقي إلى “المعطى” ومن ثمّة ما يمكن أن يساعد في فهم ما يتجاوز موضوع وزمن الكتاب.
وهنا سنركّز تحديدا على ماهيّة المُحدّدات الاستراتيجيّة الأمريكيّة خاصّة في سياقات إقليمية محدّدة، الأطلسية والشرق أوسطيّة، في إطار مرحلة زمنيّة تشهد موجة متصاعدة من الحروب. “حرب”، يغطّي حربين، في الأساس الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على غزّة، لكن يسمح لنا أيضا برصد دوافع وسياقات سلوكات الإدارة الأمريكية في مرحلة تؤشّر على بداية زلازل واصطدامات تكتونية في النظام الدولي.
الكاتب : طارق الكحلاوي
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة جنوب المتوسط في تونس. دكتوراة من جامعة بنسلفانيا. مدير عام سابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
تطرح كُتب بوب وودوارد، و آخرها كتاب “حرب” (صدر في سبتمبر 2024) ، معضلة أساسية. إذ هي من جهة تفيض بالتغطية الحصريّة للكواليس الحميميّة لدوائر الحكم، وبهذا المعنى هي جذّابة ويمكن أن تقودنا إلى فخّ لذةّ التلصّص (voyeurism).
لكنّها، من جهة أخرى، تعكس نسخة انتقائية وفي كثير من الأحيان مُلغّمة بأجندات سياسية متباينة، وعلى رأسها أجندة الكاتب نفسه. الوعي بهذه المفارقة أساسي من أجل السعي لـ”تصفية” مضمون الكتاب وعدم الوقوع ضحيّة لمحاولة التلاعب بالقارئ، و استعصار ما يمكن أن يرتقي إلى “المعطى” ومن ثمّة ما يمكن أن يساعد في فهم ما يتجاوز موضوع وزمن الكتاب.
وهنا سنركّز تحديدا على ماهيّة المُحدّدات الاستراتيجيّة الأمريكيّة خاصّة في سياقات إقليمية محدّدة، الأطلسية والشرق أوسطيّة، في إطار مرحلة زمنيّة تشهد موجة متصاعدة من الحروب. “حرب”، يغطّي حربين، في الأساس الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على غزّة، لكن يسمح لنا أيضا برصد دوافع وسياقات سلوكات الإدارة الأمريكية في مرحلة تؤشّر على بداية زلازل واصطدامات تكتونية في النظام الدولي.


رافق وودوورد، الصحفي المخضرم منذ سبعينات القرن الماضي، عبر أربعة عشر كتابا (كتبها بمفرده أو بمعية آخرين، وكانت عادة من الأكثر مبيعا)، إدارات أمريكية متتالية وحقب سياسية أمريكية ودوليّة عديدة. والأهمّ أنّه قد كانت له مفاتيح الأبواب الخلفية، لمركز الحكم الأكثر تأثيرا في العالم، أي البيت الأبيض.
ويطرح علينا باستمرار إشكالية واضحة المعالم، وهي المتعلّقة بنوع كتابته (genre) وأسس المنهجية التي يعتمدها، حيث أنّ ميزة كتبه بوصفها تفترض خصوصيّة النفاذ إلى كواليس صناعة القرار ومن ثمة كأنها سلسلة طويلة من الأخبار الحصريّة. لكنّها لا تحمل بالضرورة مفاجآت أو مسائل لم يتمّ التعرّض إليها في الصحافة.
يبقى وودوورد في الجوهر صحفيّا رغم أنه يمكن أن تنسحب عليه أيضا صفة كاتب لتاريخ الزمن الراهن (histoire du temps présent)، والأصحّ أنه يسعى للتوليف بين الاثنين، إذ أننا بصدد نوع كتابة تشبه كتب “التاريخ” ما قبل الحديثة، التي تعلن قربا من مركز الحكم والبلاطات الملكية وتتبع سردا زمنيّا متتابعا، أحيانا يصل إلى سرد يوميّات الحاكم، أو ما يعرف في الأدب التاريخي بـ”سجلات السّرد الزمني” (chronicles).
تبقى الآن معضلة جدّية المعطيات. من الضروري هنا التمييز بين صدقية ما ينقله الكاتب عن المصادر وبين صدقيّة هذه المصادر نفسها بما أنّها تحمل أجندتها الخاصة وأسبابها أيضا لتسريب معطيات دون أخرى. إذًا يجب الانتباه إلى أنّ صحّة التسريب لا تعني أنّ مضمون التسريب صحيح بالضرورة، لكنّه أيضا يستمدّ منسوب صدقية كبيرة إن لم يتمّ نفيه من المعنيّين بالأمر بعد النشر.
كما أنّ للكاتب نفسه أيضا أجندته السياسيّة، حيث أنّ توقيت النشر قبيل الانتخابات وتعرّض وودوارد لترامب بشكل متكرّر من زاوية نقدية صارخة، مع مديحه لبايدن، وخروجه للإعلام للتسويق للكتاب بدا كأنه جزء من الحملة الانتخابية للديمقراطيين، حتى إنّ إحدى الروايات التي أوردها في كتاب “حرب” حول توصيف أحد الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين لترامب بأنه “فاشي” استشهدت بها المرشّحة الديمقراطية كاميلا هاريس عديد المرات.
لا يخفي عموما وودوارد ميله للديمقراطيين أو على الأقلّ مسافته من السياسيين الجمهوريين، وربّما ترامب هو الأبعد على قلبه.
عموما، الاتجاه العام لدى وودوارد هو التالي، بايدن قائد حكيم وعقلاني يتشاور بعمق مع مساعديه قبل اتخاذ أيّ قرار، وترامب شخص خطير لا يفضّل التشاور ويتّخذ قرارات سريعة بدوافع عاطفية. طبعا كان عليه أيضا اقحام كاميلا هاريس في الصورة عندما تراجع بايدن عن الترشّح تحت ضغط الديمقراطيين منتصف صيف 2024، ومنحها أيضا حيّزا يظهر ذات الصفات، رغم أنّها لم تكن موجودة بقوّة في مسار اتخاذ القرار.


انتهت إدارة بايدن وبدأت إدارة ترامب في الاستقرار في مركز صناعة القرار حتى قبل تعميدها رسميّا في جانفي الماضي. لكن أهمّية الكتاب لا تزال في رأيي قائمة. يجب التعامل مع “حرب” وكتابات التغطية الحصريّة لكواليس الحكم ليس لأنّها بالضرورة تحمل معطيات نهائية وتامّة، بل بما هي عناصر تساعد على التحليل بما يتجاوز التركيز على الراهن إلى محاولة تعميق الفهم للخُطوط العامة للسياسة الدولية للقوّة الأكبر في عالمنا.
رتّب وودوارد فصول الكتاب الـ77، وهي في أغلبها لا تضمّ سوى بضع صفحات، بشكل تسلسل كرونولوجي، يخصّ حدثا محدّدا بارزا ومصادره بفصل خاصّ. يعتمد في كلّ فصل عادة مصدرا او اثنين، وفي الأغلب من داخل الإدارة الأمريكية، وأهم الشخصيات التي اعتمد عليها، تتعلّق بمساعدي بايدن الأساسيين وليس الرئيس نفسه، ومن بينهم مستشار الأمن القومي جايك سولفيان، وأنتوني بلينكن وزير الخارجية، ووزير الدفاع لويد أوستين، ومدير وكالة المخابرات المركزية الديبلوماسي السابق ويليام بيرنز، ونائب مستشار الأمن القومي للمنطقة الشرق الأوسط بريت ماغورك.
وهكذا فإنّنا بصدد محاور متناثرة تبرز حسب تطوّر الأحداث وحسب المصدر أو المصادر وعلاقتهم بالحدث. لهذا سنعتمد في مراجعة الكتاب منهجيّة مختلفة عن الكتاب، عوض تتبّع مساره الكرونولوجي، سنتتبّع مضمونه عبر محاور نراها أساسية فيه، وهي الحرب الروسية الأوكرانية، ثمّ الحرب على غزة، وسنركّز بشكل خاصّ أيضا في علاقة بالحرب على العلاقة المركبة بين أوساط الحكم في واشنطن وقيادة الكيان، وننتهي بخاتمة تسعى لاستشراف ما سيأتي بعد “حرب”.


الحرب الروسية الأوكرانية: استراتيجيا “التركيز” الأمريكي على مواجهة روسيا
المسألة الأساسية التي سنركّز عليها هنا هي إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار الصراع مع روسيا هو الصراع الرئيسي بالنسبة للدولة في الولايات المتحدة، وليس الصراع مع الصين كما تمّ الإعلان عن ذلك من قبل الإدارة الأمريكية زمن أوباما سنة 2011، وتمّ التأكيد على ذلك من قبل المؤسسات الاستخباراتية والتقارير الاستراتيجية الأمريكية منذ ذلك الوقت تحت عنوان “التركيز على الصين” (Pivoting/Rebalancing to China). سنطرح ذلك من زاوية العوامل المؤثرة في صناعة القرار سواء الصراع الداخلي بين الديمقراطيين والجمهوريين خاصّة ضد ترامب وأهمية علاقته ببوتين، أو في علاقة بالتهديد النووي الروسي.
ولم تكن إدارة بايدن لتنتظر كثيرا حتى ينفجر أمامها أحد أهم وأكبر الصراعات العسكرية بين الدول (inter-state war)، وهو النوع الذي تراجع بشكل كبير في العقود الأخيرة، أمام صعود “الحرب الأهلية” في الدولة الواحدة. ولم تكن أيّ دولتين، بل القوة العسكرية الثانية الأهمّ في العالم في مواجهة دولة تستعد أن تكون حليفة لواشنطن.
الصراع بين إدارة بايدن الديمقراطية وروسيا بوتين، يعود إلى سنوات طويلة، وأصبح مكونا أساسيا من صراع الديمقراطيين ضدّ ترامب، المتّهم من قبلهم ولكن أيضا من قبل “أجهزة الدولة” (ما يطلق عليه البعض “الدولة العميقة”) و”نخبتها” كذلك، بأنه “تحت تأثير” بوتين.


يركّز وودوارد في فصول الكتاب على هذه العلاقة المباشرة، الصراع مع روسيا والعلاقة الوثيقة بين ترامب وبوتين.
ومن المعلوم هنا أن ترامب مثّل مشهدية الاختراق الروسي السياسي والاستعلاماتي للولايات المتحدة، أو هكذا هي السردية السائدة في الإعلام الأمريكي “الليبرالي”. في حين يؤكّد وودوارد في المقابل على تفوّق الأجهزة الاستعلاماتيّة الأمريكية في التجسّس على روسيا، وأن ذلك وفّر لواشنطن القدرة على استباق الأحداث. يطرح ذلك مثلا في الفصل (2) في أفريل 2021 حين يشير جايك ساليفان، مستشار الأمن القومي، الى الحشود العسكرية الروسية قرب أوكرانيا التي رصدتها صور الأقمار الصناعية وما إذا كان ذلك مقدمة لغزو روسي.
لكن موضوع الاستطلاع الاستعلاماتي ودوره الأساسي في صناعة القرار السياسي يعود خاصّة في سياق الحرب ذاتها خاصة في الفصل (35) بدءا من شهر سبتمبر 2022 حين يتعرّض وودوارد لما يعتبره أزمة مشابهة لأزمة “الصواريخ الكوبيّة” خلال إدارة كينيدي، عندما شارف العالم على اندلاع حرب نووية بين واشنطن وموسكو. يشير ساليفان إلى تأكّده من معطيات استعلاماتية حول نيّة بوتين استعمال أسلحة نووية تكتيكيّة بسبب هزائم متتالية شرق أوكرانيا في مواقع تبعد 30 ميل على الحدود الروسية.
يكتب وودوارد: “وسرعان ما وجّه بايدن مستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان: “تواصلوا على جميع القنوات مع الروس (…) أخبرهم بما سنفعله ردّا على ذلك”. ينقل وودوارد أنّ بايدن طلب من فريقه استخدام “لغة التهديد دون أن تكون تهديدًا مباشرًا”. وبحسب ما ورد قال بايدن: “نحن بحاجة إلى فتح قناة، ليس بشأن التفاوض بشأن أوكرانيا، بل بشأن تجنّب الولايات المتحدة وروسيا وقوع كارثة”.
أرسل مدير السي أي إي للحديث مع نظيره الروسي، لكن ربما أهم رسالة وأوضحها وجّهها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستين: “في محادثة هاتفية في أكتوبر/تشرين الأول، حذّر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن نظيره الروسي، وزير الدفاع آنذاك سيرجي شويجو: “لقد قال قادتنا وقادتكم مرارا وتكرارا إنه لا يمكن الفوز بحرب نووية أبدا ولا ينبغي أبدا خوضها. وهذا قد يضعنا على طريق المواجهة التي ستكون لها آثار وجودية عليكم وعلينا. لا تخطو على هذا المنحدر الزلق.” وعندما ردّ شويجو بأنه لا يحبّ التعرّض للتهديد، ردّ أوستن قائلاً: “سيدي. سيدي الوزير، أنا قائد أقوى جيش في تاريخ العالم. أنا لا أوجّه تهديدات”، بحسب رواية وودوارد.


وبعد يومين، اتّصل شويجو وادّعى كذبا أنّ الأوكرانيين كانوا يخطّطون لاستخدام “قنبلة قذرة”، والتي اعتقدت الولايات المتحدة أنّ الكرملين كان يستخدمها كذريعة لنشر سلاح نووي. قال أوستن، بحسب وودوارد: “نحن لا نصدّقك. لا نرى أيّ مؤشرات على ذلك، وسيرى العالم ذلك من خلاله (…) لا تفعل ذلك.”
النقطة الأخرى المهمّة في هذه الحادثة المثيرة أنّ بايدن كان يرى في الرئيس الصيني طرفا مساعدا وليس خصما بما يحيلنا على أنّ الصراع الرئيسي ليس مع بكين. حيث في ذات الاتّجاه قام بايدن أيضا بالضغط على بوتين عبر دول أخرى أهمها الصين، بناء على تقدير استعلاماتي حول تأثير الرئيس الصيني القوي على بوتين. “واتّصل بايدن بشي وأكّد ضرورة ردع روسيا عن استخدام سلاح نووي في أوكرانيا. وإذا تمكّن بوتين من فكّ الختم المتعلق بالاستخدام النووي، فإن ذلك سوف يشكّل حدثاً هائلاً بالنسبة للعالم. وافق الرئيس شي. وكان سيحذّر بوتين من الذهاب إلى هناك. حتى أن شي فعل ذلك علنًا. قال الرئيس شي من بكين في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 “يجب عدم خوض حروب نووية”. ودعا الدول إلى معارضة الاستخدام النووي أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية.”
من المهمّ في المقابل الإشارة أيضا إلى أن هذه “الصرامة” الأمريكية تُجاه روسيا التي يعرضها وودوارد، تفهم أيضا حدود المواجهة معها، وتبدو إدارة بايدن منقسمة هنا للمفارقة بين رغبة من قبل رئيس الدبلوماسيين فيها لمزيد من التسليح مقابل حرص وحذر البنتاغون أمام أي توجّه لتوسيع نطاق تسليح الجيش الأوكراني. كما ينقل مثلا في الفصل (38) عندما سعى بلينكن خلال مشاركته في فيفري 2023 في مؤتمر ميونيخ للأمن، في تناغم مع دول أوروبية تسليم طائرات اف-16 لأوكرانيا، حيث عارض البنتاغون الخطوة لأنها غير ضرورية ولا تتماشى مع الخطة الأوكرانية العسكرية، وسيستغرق تكوين الطيّارين الأوكرانيين كثيرا من الوقت. ورغم محاولات بلينكن بإقناعه، في نهاية الأمر بايدن وافق فقط على الانطلاق في تدريب الطيارين وليس تسليم الطائرات.
في حالات أُخرى، كان البنتاغون مقتنعا بضرورة بمزيد التسليح بما في ذلك بنوع خطير من الأسلحة المحرّمة دوليّا. يسرد وودوارد في الفصل (40) نقاشا خاصّة حول احتمال مدّ أوكرانيا بالقنابل العنقودية المحرّمة دوليّا، وتمّ تبرير ذلك بضرورات المعركة، حيث يكتب: “وقد عبّر أحد تقييمات الاستخبارات الأمريكية عن الأمر بشكل صارخ: إذا لم يتمّ تقديم القنابل العنقودية، فسيكون لدى الجيش الروسي ميزة بنسبة 5 إلى 1 أو 10 إلى 1 في قذائف المدفعية المتاحة له – وهو تفاوت معوق. وكان المعنى الضمني هو أنّ أوكرانيا لن تخسر الحرب فحسب، بل ستكون مذبحة. خلال الموجز اليومي للرئيس في 29 جوان/ حزيران (2023)، كان جميع الرؤساء العسكريين متفقين مع بعضهم البعض. قدّم أوستن ومارك ميلي (رئيس الاركان) التوصية لبايدن: أرسل القنابل.”


ورغم تراجع تركيز إدارة بايدن على الملف الأوكراني مع انطلاق الحرب في غزّة، فإنّ موضوع تسليح أوكرانيا بقي في قلب اهتمامها، لكن أيضا من زاوية تأثير الصراع في أوكرانيا على الخيارات الصينية. ينقل مثلا في ربيع سنة 2024 في الفصل (59) عن مدير وكالة المخابرات المركزية بيرنز، تناقص الذخيرة وأثره على قدرة أوكرانيا في مواجهة روسيا، وتردّد الكونغرس وغالبيّته الجمهوريين في دعم أوكرانيا.
وقام بيرنز آخر أفريل/ نيسان بلقاءات مع أعضاء الكونغرس الجمهوريين لتغيير سلوكهم. وبالنسبة إلى بيرنز أهمية الحرب في أوكرانيا لا تكمن في روسيا بل أساسا في الصين، حيث يقول حسب وودوارد، إنّ الرئيس الصيني تشي جينبنغ “يشاهد ما يحدث”، وإنّ أي تعثّر روسي في أوكرانيا سيجعل الزعيم الصيني يعيد التفكير في سيناريوهاته في خصوص تايوان. المقياس هنا ليس في قدرة أوكرانيا فقط بل خاصّة في مستوى تصميم واشنطن على مواصلة الدعم والوقوف أمام روسيا.
كما ينقل وودوارد عن بيرنز، في الفصل (72)، قلقه بسبب إطلاق روسيا القمر الصناعي “كوسموس 2576” (COSMOS 2576) والذي يمثّل بالنسبة إلى واشنطن سلاحا نوويّا فضائيّا لدى روسيا يمكن أن تحطم به الأقمار الصناعية. نقل بيرنز قلقه خاصة للقيادة الصينية على أساس أنّ استعمال هذا السلاح الروسي إذا تمّ استعماله سيستهدف التجهيزات الفضائية لكل الدول “دون تمييز” بما فيها الصينية.
يذكر بورنز بمناسبة حديثه عن لقاءاته مع القيادة الصينية قلقها من التحالف العسكري المُتزايد بين روسيا وكوريا الشمالية لأن ذلك يمكن أن يقوي الزعيم الكوري ويجعله أكثر استعدادا للمخاطرة بعيدا عن أفق بكين. بالنسبة إلى الولايات المتحدة أيّ “ثقة زائدة” للزعيم الكوري خاصّة عبر التحالف مع موسكو يمكن أن تؤدي إلى تطوير برنامجه في تطوير صواريخ بالستية حاملة للرؤوس النووية عابرة للقارّات وبالتالي إمكانية ضرب للأراضي الأمريكية.
ومن ثمّة من هذه الزاوية، التصميم الأمريكي في أوكرانيا لا يواجه فقط روسيا بل هو أيضا لردع الصين. بما يعيدنا الى المربع الأول، وهو أن حتى “التركيز” على روسيا، يأتي وفق منظور -على الأقلّ- جزء من الدولة في سياق هدف أشمل وأهم أي “التركيز” على الصين عبر احتوائها.


من بين آخر التقييمات الأساسية إدارة بايدن للصراع في أوكرانيا، في ماي 2024 في الفصل (63)، تعكس تواصل التخوّف الأمريكي من عدم دفع بوتين إلى الزاوية واستفزاز ردّ فعل روسي نووي. ينقل وودوارد مثلا عن دليب، سينغ نائب مستشار الأمن القومي المكلّف بالاقتصاد الدولي (وصفه وودوارد بأنه “مهندس” العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد روسيا)، جزمه أنّ العقوبات ستحقّق أهدافها سواء من خلال التضخّم أو المديونية العالية بما سيؤدي بالضرورة إلى “خنق النمو”، ليس فقط في المدى المنظور بل أيضا “عبر أجيال قادمة”. لكن أفريل هاينز مديرة المخابرات العامة (DNI) تحذّر أيضا من دفع روسيا إلى حافة الهاوية وهو “ما لا يجب أن تفعله مع دولة نووية ضخمة مثل روسيا”. هنا يقول بايدن لمساعديه “لا يجب أن تحاصر شخصا في الزاوية وتجعل مخرجه الوحيد عبرك أنت، يجب أن تخلق له مخرجا آخر”. يستحضر وودوارد في المقابل كلمات بوتين في كتاب سيرته (تمّ نشره سنة 2000) لابراز مدى عناده.
من جهة أخرى، هناك إشارات متكرّرة عبر الكتاب لعلاقة ترامب المتواصلة وهو خارج السلطة بالسياسة الخارجية عبر الملف الأوكراني، خاصّة عبر تواصله مع بوتين وقيادات أخرى وحديث عن تواصل اتصال ترامب بالرئيس بوتين بعد نهاية عهدته وتوصيف ذلك بأنه يمكن أن تنطبق عليه أحد القوانين الأمريكية القديمة التي تمنع اتصالات أمريكيين بأطراف معادية دون موافقة الدولة. في خصوص تواصل أنشطة ترامب في علاقة بالملف الأوكراني، من الملفت أيضا عن لقائه برئيس الوزراء البولوني الشعبوي دودا، في الفصل (61)، يتحدث إلى وودوارد عن التركيز البولوني على مواجهة روسيا كخطر وجودي، والحاجة لدعم أمريكي مباشر، وعلاقة دودا القوية أيضا بترامب بوصفه شعبويّا يمينيّا مثله.


الحرب على غزة: في “غرفة الكهف” الخاصّة بالنظام العربي الرسمي
من الواضح أنّ الوضع في المنطقة العربية لم يكن من بين أولويات الإدارة الأساسية مقارنة بتطوّرات الوضع في أوكرانيا، ولكنّه أصبح محور نشاط الإدارة الأمريكية منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل بما غطّى في أحيان كثيرة على الملف الأوكراني. يبقى أنّه من أهم مميزات المروية التي ينقلها وودوارد عن المنطقة هو أنّ لواشنطن منفذ حصري لـ”غرفة الكهف” للنظام العربي الرسمي. و”غرفة الكهف” هنا هي غرفة في القصر الملكي الأردني التقى فيها وزير الخارجية بلينكن بالعاهل الأردني، وتبدو حسب وصفه غريبة الشكل، لكنّها ترمز الى الجزء الحميمي من البلاطات العربية، مثل خيمة ولي العهد السعودي أيضا حيث التقى بلينكن به مرتين على الأقلّ، وتشير في الأساس إلى قلب صناعة القرار في العواصم العربية.
الساعات الأولى لاتصالات القيادتين الأمريكية والإسرائيلية يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل (الفصل 42) لا تحمل جديدا، فهي تؤكد عموما على “المفاجأة” و”الدهشة” الاستعلاماتية ليس فقط إسرائيليا بل أيضا أمريكيّا. لكن ما يثير الانتباه هي حالة الهلع الإسرائيلية من إمكانية أن يكون هناك هجوم منسّق بشكل شامل يقوده أيضا حزب الله.
يكتب وودوارد: “في اتصال هاتفي في وقت لاحق من ذلك اليوم، قال نتنياهو لبايدن إنّ “إسرائيل ستنتصر” في الحرب ضدّ حماس. ولم يكن تركيزه منصبّا على هجوم حماس، بل على ما قد يحدث بعد ذلك. وقال نتنياهو لبايدن: “عليك أن تبدأ بمراسلة حزب الله ليبقى خارجا.” يضيف: “يحتاج حزب الله إلى تلقّي الرسالة من الولايات المتّحدة: لا تدخل الحرب. لا تدخل الحرب. ابق بعيدا عن الحرب.”
وكان نتنياهو، الذي بدا مهتزّا، قلقا من أنّ حزب الله، الميليشيا القويّة المدعومة من إيران في لبنان، سوف يهاجم إسرائيل من الشمال. وقال نتنياهو: “هؤلاء الرّجال يعتقدون أنّنا ضعفاء”. وفي الشرق الأوسط، إذا كنت ضعيفا، فأنت طريدة معنيّة بالقتل على حافة الطريق”. ثم اتصل نتنياهو بجيك سوليفان مباشرة. وناشده نتنياهو: “جيك، نحن بحاجة إليك لتهديد حزب الله بشكل أساسي”. “هذا ما نحتاج منك أن تفعله. نريدك أن تخبرهم أنهم إذا عبثوا معنا، فسوف يعني هذا أنهم يعبثون معكم”.” وهكذا تمّ: “تحريك أسطول المتوسّط وحاملة الطائرات فورد إلى شرق المتوسط كإشارة ضمنية أمريكية أنّ واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي في حال توسّع الهجوم، لكنّها إشارة محسوبة ودون أيّ خطاب عدائي وحربيّ ومن ثمّة لا تريد أن تضخّم أيضا الصراع.”


من الاتصالات الأمريكية المبكرة كانت في اتجاه قطر، التي سبق أن أشار مسؤولوها إلى أنّ وجود قيادات حركة حماس على أراضيها كان في سياق طلب أمريكي. يقول وودوارد في الفصل (44): “اتصل وزير الخارجية توني بلينكن برئيس حكومة قطر ورئيس الوزراء ووزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. وقال بلينكن لـرئيس الحكومة بشكل عاجل: “هناك رهائن أمريكيون”. قال بتركيز: “إنها تغير قواعد اللعبة بالنسبة لنا”.
وقال رئيس الحكومة القطري عبر الهاتف مع جيك سوليفان بعد بضعة أيام: “لدينا قناة مع حماس”. وكان المستشار الأكثر ثقة للأمير تميم وشغل منصب وزير الخارجية منذ عام 2016، وفي مارس/ آذار 2023 عيّنه الأمير ليتولّى أيضًا منصب رئيس الوزراء. “أنت بحاجة إلى إنشاء خليّة ستعمل مع فريقي”، قال رئيس الحكومة القطري لسوليفان، وهو يعني مجموعة أساسية من الأمريكيين والإسرائيليين مكرسة للعمل على إخراج الرهائن.” واختارت واشنطن وأيضا اسرائيل قياداتها الاستعلاماتية بيل بورنز ورئيس الموساد.”
ثم كانت هناك الجولة الأولى للمنطقة أيام 12 و13 و14 أكتوبر/ تشرين الأوّل، والتي التقى خلالها بلينكن عددا من زعماء المنطقة بالإضافة إلى نتنياهو. كواليس هذه الجولة تمثّل مناسبة للتعرّف على طبيعة علاقة واشنطن بعدد من عواصم المنطقة لكنها أيضا مناسبة لفهم طريقة تفكير قادة هذه الدول داخل الغرف المغلقة بعيدا عن ضوضاء الإعلام وبيانات الديبلوماسية الخشبية، وأيضا استعداد واشنطن لتسريب هذه الكواليس لكاتب مثل وودوارد بما يعني ميزان القوى غير المتكافئ وعلى الأرجح سعي واشنطن للضغط على هذه العواصم لإجبارها على التناسق بين تعهداتها السرّية وأفعالها.
صباح 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، ذهب بلينكن للقاء الملك عبد الله الثاني. وقال الملك عبد الله: “قلنا لإسرائيل ألّا تفعل ذلك… قلنا لهم ألا يقتربوا من حماس. حماس هم الإخوان المسلمون”. وقال الملك عبد الله لبلينكن: “لا بدّ من هزيمة حماس”. وأوضح: “لن نقول ذلك، لكنّنا نؤيد هزيمة حماس ويجب على إسرائيل هزيمة حماس.” يضيف العاهل الاردني حسب وودوارد: “لم يكن عليهم أن يناموا معهم في المقام الأول. كان عليهم أن يتعاملوا بالفعل مع السلطة الفلسطينية ويعملوا معها”. وقال الملك: “إنّ إسرائيل دعمت حماس لسنوات. وتدفقت عشرات الملايين من الدولارات إلى حماس بعلم إسرائيل ورضاها استنادا إلى الحجّة القائلة إنّ الأموال حسّنت الحياة وساعدت على استقرار غزة.”
وبعد ساعات قليلة، التقى بلينكن بأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في الدوحة بينما كانت القيادة السياسية لحماس تعمل في مكتبها السياسي ليس بعيدا عن اللقاء. وقال الأمير لبلينكن: “لقد أوضحنا لحماس أن لا أحد يقبل ذلك. ولا أحد يقبل ما فعلوه. لم يبق لديك أصدقاء. ماذا تتوقعون منّا أن نقول للأميركيين والإسرائيليين؟”. قال الأمير إنه ليس من الواضح ما إذا كان قادة حماس في الدوحة على علم بـ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل مقدما. وأضاف: “من المحتمل أنّ السنوار فعل ذلك من تلقاء نفسه”. “لكن من الممكن أيضًا أنّهم يعرفون ولا يريدون السماح لأيّ شخص بمعرفة ذلك”. في المقابل قال بلينكن للأمير: “شيئان بالنيابة عن الرئيس، أنتم الآن تتعاملون مع حماس من أجل الرهائن. نحن ندرك قيمة وجود قناة للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن”، قال بلينكن، “ولكن عندما ينتهي هذا، لا يمكن الاستمرار في العمل كالمعتاد مع حماس. هذا انتهى.”
في صباح اليوم التّالي، 14 أكتوبر/تشرين الأوّل، التقى بلينكن بوزير الخارجيّة السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، ومن الواضح أنّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان ماطل في لقائه وكان عليه أن يعود بعد يوم لكي يقبل استضافته. وقال وزير الخارجية السعودي: “كان ينبغي على بيبي أن يعرف الأمر بشكل أفضل… الجميع قال لهم ألا يفعلوا ذلك مع حماس. قلنا له. كان يجب أن يعرف بشكل أفضل على أي حال. لكنّنا أخبرناه بالتأكيد ألا يفعل هذا. وأضاف الأمير: “حماس هي الإخوان المسلمون”. لقد سمع بلينكن هذا كثيرًا. الجماعات الإرهابية لا تريد القضاء على إسرائيل فحسب، بل أرادت الإطاحة بزعماء آخرين. وقال الأمير: “نحن قلقون بشأن تأثير العمليات الإسرائيلية على أمننا بالكامل”. “ما سيأتي بعد حماس قد يكون أسوأ”. وقال: “أنتم تعرفون داعش”، وهو المصطلح الذي يطلقونه على داعش، وأضاف: “كان داعش أسوأ من تنظيم القاعدة”. وسأل بلينكن عن الدعم السعودي لإعادة إعمار غزّة بعد الصراع. وقال الأمير: “لن ندفع مقابل تنظيف الفوضى التي أحدثها بيبي. إذا دمّرت إسرائيل كلّ هذا، فلن ندفع المال لإعادة بنائه”.


حتّى تلقّي موعد مع ولي العهد السعودي، غادر بلينكن إلى الإمارات العربيّة المتحدة للقاء الرئيس الشيخ محمد بن زايد. ينقل وودوارد عن بلينكن أوّل ردّ فعل لبن زايد: “يجب القضاء على حماس”. مضيفا: “يمكننا أن نعطي إسرائيل المساحة لتدمير حماس، لكن على إسرائيل أن تعطينا المساحة. السماح بدخول المساعدات الإنسانية. إنشاء مناطق آمنة للتأكد من أنّها لا تقتل المدنيين. السيطرة على عنف المستوطنين في الضفة الغربية”. وأضاف محمد بن زايد أن “إسرائيل تقدّم دعمًا ماليًا خلفيًا لحماس. لقد حذّرنا إسرائيل من القيام بذلك مع حماس. إنهم الإخوان المسلمون”. في الأثناء قبل العودة إلى السعودية، قام الوزير بلينكن وموظفوه بجولة في “بيت العائلة الإبراهيمية”، المجمع الديني متعدد الأديان في الإمارات حيث تمّ بناء مسجد وكنيسة ومعبد يهودي على جناح علماني للزوار. وقال الرئيس الإماراتي لبلينكن إنه يمثّل “طريقا للتعايش، طريقا للمنطقة.” كان ذلك المكان ولا يزال أحد أهم رموز “الاتفاقات الإبراهيمية” التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب، والتي قامت الإمارات بإعلان التطبيع في سياقها مع تل أبيب.
عاد بلينكن إلى الرياض للقاء وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي “وافق مبدئيا على اللقاء” كما ينقل وودوارد أجواء هذا اللقاء المؤجل والمماطلة التي صاحبته.
دخل وزير الخارجية الأمريكي ومساعدوه إلى فندق راديسون بلو في الحي الدبلوماسي، وطُلب منهم أن يكونوا مستعدّين لإعلامهم بتوقيت حول اجتماع إما في وقت لاحق من تلك الليلة أو في وقت مبكر من صباح اليوم التالي. يعلّق وودوورد: “لقد كانت بضعة أيام مرهقة بالنسبة لبلينكن وموظفيه، الذين كانوا يستيقظون وهم يتساءلون عن البلد الذي يعيشون فيه. لكنهم انتظروا بجوار هواتفهم. أبقاهم محمد بن سلمان مستيقظين، وظلّ ينتظر حتى الساعة السابعة صباحًا يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأوّل.


كان بلينكن يعلم أنّ هذا لم يكن أمرًا فريدًا بالنسبة إليه. لقد حدث ذلك لجميع أنواع الناس. كان السعوديّون يحبّون الليل لأن الأمسيات كانت أكثر برودة من النهار، لكن محمد بن سلمان أخذ الأمر إلى أقصى الحدود.” ينقل هنا الكاتب عن بلينكن تعليقه على هذه المعاملة التي تعكس العلاقة الفاترة بين إدارة بايدن والرياض:
“لم يكن محمد بن سلمان أكثر من مجرّد طفل مدلّل.” قال محمد بن سلمان لبلينكن عندما التقيا أخيرًا، “أريد فقط أن تختفي المشاكل التي نشأت بحلول 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل” وقال محمد بن سلمان: “أودّ العودة إلى تلك الرؤية (“رؤية 2030″ التي ترمز لانفتاح شامل داخلي وخارجي يشمل بالمحصلة التطبيع)، لكن غزّة يجب أن تكون هادئة.” يواصل ولي العهد: “التطبيع لم يمت. من الواضح أنّنا لا نستطيع متابعة ذلك الآن. إنهم على وشك شن حرب. لكنني أحبّ أن أعود إلى هناك في وقت ما.”
بقيت زيارة مصر الى آخر يوم. قبل عودته إلى إسرائيل، توجّه بلينكن إلى القاهرة للقاء الرئيس السيسي. طلب السيسي خروج مساعدي بلينكن، فلم يبق سواه هو ووزير الخارجية الأمريكي. ينقل وودوارد عن فحوى اللقاء فقط ما يلي:
“كان للسيسي هدف واحد، وهو الحفاظ على السلام مع إسرائيل الذي توسط فيه الرئيس جيمي كارتر في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979.” وتوجّه فريق بلينكن، الذي ضمّ نائب رئيس الأركان توم سوليفان، والمستشار ديريك شوليت، والمتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميللر، للقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل.
وعرض كامل للأمريكيين تقييمات حول مدى عمق واتساع أنفاق حماس تحت غزة. وأوضح أنّ حماس متحصّنة في غزة وسيكون من الصعب للغاية القضاء عليها. ينقل وودوارد هنا التالي عمّا قاله عبّاس كامل: “لا ينبغي لإسرائيل أن تدخل دفعة واحدة” اجلس وانتظرهم حتى يظهروا ويقطعوا رؤوسهم”. ثم يعلّق وودوارد: “لقد أدرك الأمريكيون أنه لم يكن يمزح.”


بقي بلينكن في المنطقة حيث كان يتوقع مجيء الرئيس بايدن وزيارة المنطقة، وإقناع نتنياهو بترك المساعدات الإنسانية تدخل للقطاع كشرط رئيس قبل مجيء بايدن، مردّدا نصيحة الرئيس الإماراتي. ثمّ حدثت يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل مجرزة المستشفى المعمداني. كان بلينكن، الموجود حينها في الأردن، يتناول العشاء مع الملك عبد الله في “كهف الرجال” الخاصّ بالملك، التي يصفها وودوارد كالتالي:
“وهي غرفة جميلة في منزله بها حانة، ولكن لا يوجد بها مشروبات كحوليّة”. عاد بلينكن إلى الفندق الذي يقيم فيه وتمّ الاتصال بالرئيس، الذي كان معه سوليفان وجون فاينر وماكغورك المنهك وموظفون آخرون على الخطّ. ماذا يجب أن يفعلوا؟ هل يجب عليهم إلغاء الرحلة؟ سأل بايدن. ويبدو من التقارير الإعلامية أن إسرائيل ارتكبت عملاً فظيعاً بقصف أحد المستشفيات. وكان الرئيس المصري السيسي، الذي كان من المقرّر أن يلتقي به بايدن في الجزء الخاصّ بالشرق الأوسط من رحلته، قد ألغى للتوّ اجتماعاته معه. وكذلك فعل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس. وأضاف بلينكن الملك عبد الله إلى القائمة. وقال بلينكن إنّ الملك عبد الله يقول إنّ الرئيس لا يمكنه القدوم إلى الأردن.
اتّصل الرئيس بايدن بالملك عبد الله عاهل الأردن. قال الأخير حسب وودوارد: “جو إنّ الجو ساخن جدًا. أريدك أن تأتي لكنّهم غاضبون للغاية”… هذه مأساة. لا يمكنك أن تأتي الآن.” ثم اتّصل بايدن ببيبي. “لم نكن نحن يا جو!” قال بيبي بتحدّ. “هذه حماس.. لم نكن نحن، أنا أقول لك. سأثبت ذلك. لقد حصلت على المعلومات.” لقد كان الأمر كلاسيكيًا،” كما اعتقد مستشار بايدن للمنطقة ماكجورك. ينقل عنه وودوارد: “لقد ادعى الإسرائيليون دائمًا أن لديهم المعلومات.”
عاد بلينكن إلى المنطقة مرّات عديدة. لكن ربّما من أهمّ اللقاءات كانت يوم 8 جانفي/ كانون الثاني مع وليّ العهد السعودي. اللقاء مع بن سلمان: بلينكن ذهب مباشرة للموضوع، سأل بن سلمان إن كان يريد الذهاب الى التطبيع أم لا. أجابه: نعم بل وعلى الفور.. لكن مع شرطين “الهدوء في غزة”، و”طريق” نحو دولة فلسطينية.
أراد بلينكن الاستيضاح أكثر: “أضاف بلينكن: “إذا أبرمنا اتفاقياتنا، ما الذي تحتاجه من إسرائيل من أجل القيام بالتطبيع فعليّا؟” قال محمد بن سلمان: “أحتاج إلى شيئين”. أحتاج إلى الهدوء في غزّة وأحتاج إلى مسار سياسي واضح للفلسطينيين من أجل الدولة”. “صاحب السمو الملكي، الكلمة السائدة في إسرائيل هي أنّه عندما يتعلق الأمر بالدولة الفلسطينية فإنك لا تقصد ذلك حقًا وأنك لا تريده حقًا. أنت تدفع ثمنها بالكلام. قال بلينكن: إذن أخبرني فقط، ما هو الجواب؟
كان للعائلة المالكة السعودية تاريخ طويل من خيبة الأمل من القيادة الفلسطينية. “هل أريد ذلك؟” قال محمد بن سلمان ونقر على قلبه. “لا يهمّ كثيرا. هل أحتاجه؟ قطعاً.” وتابع: “وأنا أحتاجه لسببين. أوّلاً، لديّ 70% من السكان أصغر مني سنّا. قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل لم يعيروا أيّ اهتمام لفلسطين والصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
قال محمد بن سلمان: “منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، هذا هو كلّ ما يركّزون عليه. وهناك دول أخرى في العالم العربي وفي العالم الإسلامي تهتمّ بشدة ولن أخون شعبي.” وقال محمد بن سلمان: “لن أخون شبابي أو العالم العربي والإسلامي”. “هل يمكنني أن أقول ذلك لبيبي؟” سأل بلينكن. ومن المقرّر أن يسافر إلى إسرائيل بعد ذلك. قال محمد بن سلمان: “نعم”. سأله بلينكن “بهذه الكلمات؟”، فأجابه: “نعم، بهذه الكلمات.”


من الواضح أن هذه المسألة على رأس أولويات نتنياهو. حيث نقل إليه بلينكن مضمون لقائه مع بن سلمان حول التطبيع: “كان بيبي مفعمًا بالحيوية. قال على الفور: “أريد أن أفعل هذا”. “ماذا تعتقد أنه يعني بالهدوء في غزة؟” وقال بلينكن: “حسنا، أستطيع أن أخبرك أن ما قاله لي هو: لا توجد قوّات إسرائيلية على الأرض”… لقد قلت جيدًا أنّ هذا قد يكون هدفًا مرتفعًا جدًا للوصول إليه.” حينها قال نتينياهو: “سوف نعمل على هذا الأمر”. ثم توقّف مرّة أخرى. “المسار الفلسطيني. ماذا يعني ذلك؟”. ينقل وودوارد: “كان بيبي، طوال حياته السياسية، يعارض بشدّة قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة. “يجب أن تكون ذات مصداقية. يجب أن يكون لا رجعة فيه. قال بلينكن: “يجب أن يكون شيئًا يمكن للناس أن يؤمنوا به حقًا ويقتنعوا به”. “نحن نتفهّم أنه يجب أن تكون هناك بعض الشروط خصيصًا لتجعلك واثقًا بشأن أمانك. لكن يجب أن يكون مسارًا واضحًا ولا رجعة فيه”. قال بيبي: “حسناً، أنظر، أعتقد أنّه يمكننا أن نعمل شيئاً ما. يمكننا أن نعمل شيئا. سنحتاج إلى صياغة كلمات إبداعية في هذا الشأن. وقال بلينكن: “لا، لا، لا، يبدو أنك لم تفهم”، قال له بلينكن. “لا يمكن – ليس صياغة الكلمات الإبداعية. يجب أن تكون حقيقيّة. إذا كان الأمر يتعلّق بصياغة الكلمات بشكل إبداعي، فلا يوجد شخص على هذا الكوكب لن يصدق أنك ستجد طريقة للتخلص من أي كلمات تكتبها على قطعة من الورق. هذا لن يكفي”. حينها قال نتنياهو: “لا، لا، سنعمل على ذلك.”
من الواضح أنّ هذه النقطة تحديدا كانت وستبقى المعضلة الأساسية في تطبيع سعودي، يبقى من غير الواضح إن كان الطلب السعودي “سعيا جادا نحو دولة”، أم “إقامة دولة” كشرط قبلي للتطبيع. لكن التطبيع ليس إلا جزءا من حزمة أكبر من اتفاق استراتيجي جديد يتمّ التخطيط له بين واشنطن والرياض، مماثل للاتفاق التاريخي بين مؤسس المملكة الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت.
السعودية ستبقى في الأشهر اللاحقة في قلب الاهتمام الأمريكي سواء من قبل إدارة بايدن أو المترشّح الرئاسي حينها، الرئيس الحالي، دونالد ترامب. يعلّق وودوارد في هذا السياق (الفصل 54): “كان لديهم التحدّي الإضافي المتمثل في الحصول على جزء من المعاهدة الأمريكية مع السعوديين من خلال الكونجرس. كانت الاتفاقية الأولى، وهي اتفاقية للتعاون الدفاعي، قريبة من مبدأ الحماية بموجب المادة 5 من حلف شمال الأطلسي ولكنها مماثلة لاتفاقيات الدفاع التي أبرمتها الولايات المتحدة مع اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية. ووعدت بأنه إذا تعرضت المملكة العربية السعودية لهجوم، فإن الولايات المتحدة ستهبّ للدفاع عنها.”
ليندسي غراهام، زعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس والنائب المؤثر ذي العلاقة الحيوية مع كلّ من ترامب ولكن أيضا إدارة بايدن، لعب دورا أساسيا في مناقشة هذه الترتيبات الاستراتيجية مع المملكة، رغم أنه عُرف بانتقاداته لولي العهد السعودي إثر اغتيال الخاشقجي.


ينقل وودوارد كواليس زيارته ولقائه مع الأمير بن سلمان في شهر مارس/ آذار 2024. يكتب وودوارد: “يحتفظ بن سلمان بهواتف بسيطة في كيس كلّ واحد منها مخصّص للتحادث مع قيادات أمريكيّة. بن سلمان كان يتحدّث مع الإدارة ومعارضتها، مع جايك سوليفان ومع ترامب. في المكالمة مع ترامب يقول الأخير إنّ غراهام حاول إقناعه بالسعي للإطاحة ببن سلمان من السلطة، بشكل يقرب إلى الدعابة لكن بالطبيعة يتضمن معطى حقيقي، إذ أن غراهام شنّ حملة قوية ضد الأمير السعودي بعد اغتيال خاشقجي وقال إنّه “لن يعود الى المملكة إذا بقي بن سلمان يمسك بمقاليد الحكم.”
غراهام يقول حينها في تفاعل مع ترامب إنه “كان خاطئا بشأن الأمير.” لا يوضح وودوارد سبب التغيّر الراديكالي في موقف غراهام لكن من الواضح أن استعداد الأمير السعودي المبدئي للتطبيع أحد أهم أسباب تحوّل غراهام من خصم إلى صديق للأمير. غراهام أكثر من زياراته للمملكة منذ سنة 2022 وكان محورها الأساسي هو الدفع نحو التطبيع.
يواصل وودوارد: “وبعد أن أنهوا المكالمة، هذه المرّة مع ترامب، ضغط السيناتور غراهام على محمد بن سلمان بشأن محادثات معاهدة التطبيع السعودية مع إسرائيل. وقال غراهام: “إذا كنت تريد الاعتراف بإسرائيل، فعليك أن تفعل ذلك تحت إشراف بايدن”. “من المستحيل أن تجعل الديمقراطيين يصوّتون لصالح اتفاقية دفاعية لخوض الحرب مع المملكة العربية السعودية قدّمها دونالد ترامب”.


وكانت الجزرة التي واصلت الولايات المتحدة عرضها أمام محمد بن سلمان هي احتمال إبرام اتفاقية تعاون دفاعي ثنائية جادة مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أنه إذا تعرّضت المملكة العربية السعودية لهجوم، فإن الولايات المتحدة ستهبّ للدفاع عنها. وذكّر غراهام محمد بن سلمان قائلاً: “إنها صفقة كبيرة”. إنها بوليصة تأمين ضدّ إيران. إنها بمثابة كش ملك ضد إيران”.
وأشار محمد بن سلمان إلى الغضب السائد في شوارعه من الوضع في غزّة. ولم يكن من الممكن أن يوقّع على المعاهدة مع إسرائيل ما لم يكن هناك بعض الالتزام بالسير نحو إقامة دولة فلسطينية على مدى فترة من الزمن. ولكن بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، عرف غراهام أنّ نتنياهو والمجتمع الإسرائيلي أصبحا أكثر تشدّدا ضدّ فكرة حلّ الدولتين. وقال محمد بن سلمان إنّه لا يزال يرغب في تخصيب اليورانيوم في السعودية لتنويع قطاع الطاقة لديه ليشمل الطاقة النووية. قال غراهام: “حسنًا، سيكون من الصعب القيام بذلك لأن الناس يخافون من صنع قنبلة”. وقال محمد بن سلمان: “لست بحاجة إلى اليورانيوم لصنع قنبلة”. “سأشتري واحدة فقط من باكستان.” وكانت باكستان واحدة من الدول التسعة التي تمتلك أسلحة نووية.”
لخّص وودوارد جوهر هذه الترتيبات كما يلي: “كان غراهام قد أبلغ الإدارة الأمريكية بعد زيارته بن سلمان مباشرة إثر 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل أنّ الأمير مستعدّ للتطبيع إذا ضمن اتفاقية دفاعية تضعه مباشرة وبوضوح تحت حماية المظلّة النووية الأمريكية، وأنه وعده بضمان 45 صوتا من الجمهوريين لتمرير الاتفاقية في عهد بايدن. غراهام حاجج بأنّ اتفاقية يمرّرها بايدن لديها أكثر حظوظا للمرور من اتفاقية يمرّرها ترامب لأن الديمقراطيين سيقفون ضدّها فقط لأنّ ترامب قدّمها. في كلّ الحالات، نحن إزاء مؤشّر آخر على بديهة أساسية أن الحزبين قادرين على التفاهم بشكل واضح إذا تعلّق الأمر بدعم التطبيع مع إسرائيل. الاتفاقيات الإبراهيمية بدأها ترامب لكنّها ليست ميراثه الشخصي، ولهذا إدارة بايدن معنيّة بمواصلتها وتوسيعها خاصّة في اتجاه “الهديّة الكبرى” (the big prize) أي المملكة. لكن كما نلاحظ أعلاه فإنّ الأمير السعودي بصدد الضغط أيضا على واشنطن عند التأكيد أنه ليس معنيّا بمظلّة نووية امريكية إذا واصلت ابتزازها حيث يمكنه “شراء” قنبلة باكستانية. طبعا مواقف الأمير لا يجب النظر إليها بالظاهر، حيث أنّه لا يعني ضرورة ما يقوله. لكن يبدو أيضا أن واشنطن تأخذها بجدّية حيث أنه شخص غير متوقّع من حيث ردود الأفعال وأهم مثال اغتيال خاشقجي.”


من المثير أنّ العلاقة مع الزعماء العرب كما نرى من خلال هذه التفاصيل تتّصف بعدد من الخصائص:
أوّلا، إنّ هناك حنقا حقيقيّا على “حماس” ليس فقط لأنّها طرف إخواني فقط بل أساسا حول أي توجّه يتقاطع مع إيران في المنطقة. أصبح من البديهي في الموقف العربي الغالب والحقيقي والباطني، المتمايز عمّا هو ظاهر، أن الخصم الرئيسي هو طهران، وأنّ تلّ أبيب حليف موضوعي واستراتيجي.
ثانيا، إنّه رغم العلاقة القويّة بين واشنطن بشقّيها وعدد من الزعماء العرب فإن العلاقة أيضا تشوبها حالة من الشك والارتياب، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالترتيبات الجديدة التي سيتمّ بها تشكيل المنطقة بشكل عامّ سواء حول أهداف التطبيع وعلى رأسها طبيعة المآل الفلسطيني، وأيضا على مستوى الترتيبات المباشرة بين واشنطن وعدد من العواصم وعلى رأسها الاتفاق الاستراتيجي الجديد الذي يتمّ ترتيبه بين الولايات المتحدة والمملكة.


في كواليس العلاقة المركّبة بين مركز الحكم الأمريكي وقيادة الكيان
يتيح كتاب وودوارد مناسبة لاستكشاف العلاقة المركّبة بين الدولة الأمريكية وقيادة دولة الكيان. هنا نحن عموما إزاء جدل جوهره التالي: هل يقرّر الكيان بدعم من اللوبي طبيعة السياسة الأمريكية في المنطقة، كما يحاجج أستاذ العلاقات الدولية جون ميرشايمر في مؤلّفه الشهير الذي نشره سنة 2006، آم أنّ اللوبي ومصالح الكيان جزء من غرفة صناعة القرار في واشنطن لكن يبقى الحسم محدّدا برؤية وأولويات القيادة الأمريكية التي ترى الوضع الدولي في مستوى أشمل من المنطقة العربية ومصالح الكيان.
موضوع ضرب إيران وبقيّة حلفائها في المنطقة، وتمايز الموقف بين تلّ أبيب وواشنطن هو أحد الأمثلة على اختبار طبيعة العلاقة. خلال النقاش حول “الضربة الاستباقية” في الأسبوع الأوّل لما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، كان نتنياهو عنيدا في النقاش، لكن الأهمّ هو تركيزه على التمييز بين المصالح الإسرائيلية وتلك الأمريكية متى يرى رفضا أمريكيّا واضحا لتصوّره في الحرب. “قال نتنياهو إنّ حكومته ستجتمع الآن لمناقشة توجيه ضربة استباقية لحزب الله”. وأضاف نتنياهو: “سنواصل مناقشة الأمر. سنتخذ القرار بناء على المصالح الإسرائيلية وهذا لا يعني أننا لن نمضي قدما”.
يواصل وودوارد: “تذكّر الوزير بلينكن أحد الحقائق المركزية في العلاقات الخارجية. وحتى مع وجود أقرب حليف، فإنّ كلّ دولة تتّخذ في نهاية المطاف قراراتها الخاصّة. شعر بلينكن بإحساس بالضعف العالمي، على عكس أيّ شيء شعر به خلال 30 عامًا من العمل في مجال الأمن القومي. وإذا قرّرت إسرائيل إطلاق الصاروخ فإن ذلك قد يؤدّي إلى حرب تهز العالم أجمع. وأخيرا قال نتنياهو لبايدن: “ربما يتعيّن علينا أن نفعل ذلك. ربّما يتعين علينا فقط القيام بذلك.”


بقي في الأثناء موضوع القيام “بضربة استباقية” ضدّ حزب الله الموضوع الرئيسي على طاولة النقاش في الأسبوع الأول للضربة. كان هناك تجاذب بين الإدارة وتلّ أبيب، برز خاصّة في مختلف النقاشات بين الطرفين وأهمها بين بايدن ونتنياهو، وكان التخوّف الرئيسي للأوّل انفلات الوضع نحو حرب إقليمية شاملة وكان يشك أن الثاني بصدد جرّه إلى ذلك المآل.
ينقل وودوارد أحد هذه الاتصالات، حيث قال بايدن: “لا شكّ أنّه بإمكانكم إلحاق ضرر كبير بحزب الله، لكنّ الضّرر الذي سيلحقونه بكم وبمدنكم وبين شعبكم عظيم. ترسانتهم ضخمة وقادرة على الوصول إلى جميع المدن الإسرائيلية الكبرى تقريبًا. لقد تحدثت للتو مع رئيس هيئة الأركان المشتركة. لقد تحدثت للتو مع جميع أفراد المخابرات، وتحدثت للتو مع العسكريين. ما تفكرون فيه يا رفاق هنا لن ينجح.”
وأضاف الرئيس: “مهلا، هل نتّفق جميعا على أننا لا نريد أن تصبح هذه حربا إقليمية أوسع؟ ستكون كارثة.” قال بيبي: “بالطبع يا جو. وهذا ما لا نريده. ولكن ليس لدينا خيار وهذا سيختصر الحرب.” بعد أخذ وردّ يختصر بايدن المكالمة بالقول: “إذا هاجموك، وإذا هاجموا إسرائيل، فإن الولايات المتحدة ستدافع دائما عن أمن إسرائيل. لكن إذا شنتم حربا استباقية كهذه فإننا لا نؤيدها”.
موضوع الحرب الإقليمية كان شاغلا رئيسيا. حرص الأمريكيون على تجنّب تأثير تلّ أبيب هنا وفتحوا قناة مباشرة مع طهران. في شهر جانفي/كانون الثاني، استمرّت هجمات الحوثيين. وأخبر بايدن ماكغورك أنه يريد تجربة الدبلوماسية مع الإيرانيين بالإضافة إلى التهديدات واستخدام القوة. كان لا بدّ من إدارة الشرق الأوسط بعناية. كان لدى بايدن ثلاث رسائل واضحة للإيرانيين. وقال بايدن لماكغورك: “نحن لا نبحث عن صراع كبير في الشرق الأوسط هنا، بل نريد احتواء هذا الصراع في غزّة ولا نبحث عن حرب مع إيران”. وقال بايدن: “لكن، ولكن، ولكن، ولكن، سنحمي شعبنا وسنحمي مصالحنا”. وطلب من ماكغورك أن يحذّر الإيرانيين: “إما أن توقفوا هذا وإلا”.


طار ماكغورك إلى مسقط، عاصمة سلطنة عمان. ولم تتواصل الولايات المتحدة بشكل مباشر مع الإيرانيين، ولكنها استخدمت وسطاء، مثل العمانيين. لقد كانت رحلة شاقة لمسافة تزيد عن 7000 ميل. وقال ماكغورك في رسالة تمّ تمريرها عبر العمانيين إلى علي باقري كاني، نائب وزير الخارجية الإيراني وكبير المفاوضين النوويين: “عليك أن تسيطر على الحوثيين الذين يطلقون هذه الصواريخ على السفن”. كان الإعداد دائمًا غريبًا بالنسبة لماكغورك. كان بإمكانه رؤية الإيرانيين على الجانب الآخر من الغرفة وكان بإمكانهم رؤيته. لكنّهم لم يتحدثوا مع بعضهم البعض بشكل مباشر.
قام العمانيون بتمرير الرسائل ذهابًا وإيابًا. ومع ذلك، كان هذا أفضل خيار اتّصال شخصي متاح للولايات المتحدة لتوصيل رسالة إلى المرشد الأعلى لإيران. وأجاب الممثّلون الإيرانيون: “لا يمكننا السيطرة عليهم”. سمع ماكغورك هذه الإجابة كثيرًا منهم. كان يعلم أن إيران قد أوقفت تمامًا، على الأقل مؤقتًا، الهجمات على القوات الأمريكية في العراق. ويعتقد ماكغورك أنّه حتى يتمكّنوا من إيقاف تشغيله في البحر الأحمر. ونقل تحذير بايدن. وقال ماكغورك: “إذا لم تتمكّن من إيقاف الحوثيين، فسنستهدفهم مباشرة”. “ويمكننا استهدافك بشكل مباشر لأننا نحمّلك المسؤولية”. لم تمنح إيران ماكغورك أي التزام.” في المقابل تواصلت هجمات المنظمات العراقية واليمنية المدعومة من إيران ولم يتحقّق الردع.. حتى بعد الضربات الأمريكية التي لم تشمل إيران نفسها.. ومن ثمّة تصاعد نقد الجمهوريين الذين اعتبروا سياساته أدت إلى تقوية إيران…
قامت تلّ أبيب بضربة مفاجئة في أفريل/ نيسان 2024، استهدفت قيادة الحرس الثوري في المنطقة. ينقل ماكغورك نائب مستشار الأمن القومي للمنطقة لوودوارد: “قام السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة مايكل هيرزوغ، وهو جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي، بسحب بريت ماكغورك جانباً خلال اجتماع في البيت الأبيض بعد ظهر يوم الاثنين الموافق 1 أفريل/ نيسان.
وقال هرتزوغ،: “لقد قمنا للتو بضربة وقتلنا قائد الحرس الثوري الإيراني محمد رضا زاهدي في دمشق، سوريا. إلى جانب ستة أعضاء آخرين في الحرس الثوري الإيراني”.”أنت فعلت ماذا؟” قال ماكجورك. “هل فكرتم حقّا في العواقب؟”. الفكرة هنا أنّ الكيان لا يستشير واشنطن في قرارات عسكريّة أساسيّة من نوع استهداف قيادات أساسيّة في النظام الإيراني بما يمكن أن يؤدّي إلى حرب إقليميّة. من غير الواضح أن ذلك ناتج عن عادة قديمة، أم بسبب العلاقة الريبية بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو.


الموضوع الآخر الذي يعكس توتّرا هو كيفيّة التعامل مع سكّان غزة. سرعان ما أصبح موضوع التهجير مبكرا على الطاولة خاصّة في الاتصالات بين واشنطن وتلّ أبيب أيام 12 و13 و14 أكتوبر/ تشرين الأوّل على خلفية جولة بلينكن في المنطقة ولقائه الزعماء العرب. ينقل وودوارد خاصّة النقاش بين بلينكن وبايدن: وبالانتقال إلى السؤال المباشر الذي طرحه بلينكن، “ماذا ستفعل إسرائيل بشأن المدنيين في غزة؟” وكان لدى نتنياهو ردّ جاهز على سؤال بلينكن. وقال بيبي: “دعونا نقيم ممرّا إنسانيا. سوف نأخذهم جميعًا إلى مصر ونسمح لهم بالذهاب إلى هناك.”
يواصل وودوارد: “هل مجرّد إخراج جميع الفلسطينيين من غزة إلى مصر؟ تلك كانت الخطة؟ وكان بلينكن يعلم أنّ السيسي، الزعيم المصري لما يقرب من 10 سنوات، سيشعر بالغضب. فهو لن يريد أو يقبل مئات الآلاف، بل وربما مليون، لاجئ فلسطيني. وقال بلينكن للقادة الإسرائيليين: “قد تكون هناك مخاوف بشأن ذلك ولكن دعونا نتحدث مع الآخرين”. ومن المقرّر أن يجتمع مع زعماء من جميع أنحاء العالم العربي في الأيام القليلة المقبلة. وقال ديرمر: “لن تكون هناك أزمة إنسانية في غزة إذا لم يكن هناك مدنيون”. “رجل واحد – السيسي – لا يستطيع أن يقف في الطريق. دون فتح المعبر المصري، ماذا تفعل في هذه الأثناء؟ أنت بحاجة إلى إيجاد طريقة لإدخال مواد العيش”. كان ديرمر مصرّا. إسرائيل لن تدعمها طالما أن الرهائن محتجزون”. قال بلينكن: “عليك أن تفعل شيئاً بشأن الطعام والماء”. وكرّر ديرمر: “لن نفعل أيّ شيء الآن طالما أنّ الرهائن محتجزون”، متمسّكًا بما كان من الواضح أن النتيجة النهائية لنتنياهو.
من الجهة الأخرى، لدينا علاقة ترامب وفريقه بالحرب. ينقل وودوارد كواليس زيارة الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ أحد مستشاري ترامب إلى تلّ أبيب في مارس/ آذار 2024. نرى هنا تصوّر أوساط ترامب لمستقبل الصراع في تلك المرحلة. كيث كيلوغ (Kellogg) من الجنرالات المتقاعدين القلائل الذين يعلنون بوضوح دعم ترامب. كان أحد أهم المستشارين في مجلس الأمن القومي في العهدة الأولى لترامب.
من أهم خلاصات كيلوغ بعد زيارته ولقائه بنتنياهو أنه لم يعد من الممكن الحديث عن “حلّ الدولتين في المدى المنظور”، وأنّ بايدن لا يفهم “حاجة إسرائيل لاستئصال حماس” قبل الحديث عن وقف إطلاق النار… تقريره إلى ترامب من خمسة نقاط تضمن التالي: “أولاً، نحن بحاجة إلى دعم دولة إسرائيل وإدارة بيبي نتنياهو. ثانيا، يجب أن نفهم أنّ حلّ الدولتين لن يحدث. إنه ليس كذلك. ثالثاً، سيكون لدى إسرائيل وقف لإطلاق النار، لكنه سيكون وقفاً قصير الأمد لإطلاق النار لمحاولة إخراج الرهائن. رابعا، هذه حرب. بعض المشاهد التي تراها لن تكون جميلة. فقط تقبّل ذلك. خامسًا، يتمّ حلّ هذه المشكلة من قبل الولايات المتحدة والسعوديين.” نحن على الأرجح هنا إزاء النقاط الرئيسية لموقف إدارة ترامب القادمة تجاه الحرب في المنطقة.


خاتمة: ما بعد “حرب”، مزيد من الحرب
ترامب، الشخص صاحب التصرّفات غير المتوقعة، وعلاقته المتوتّرة مع المؤسسة العسكرية. توجد أحد أهم الفقرات عند حديث وودوارد مع الجنرال ميلي في مارس/ آذار 2023 في الفصل (39)، حيث قال ميلي: “لم يكن أحد على الإطلاق يشكّل خطورة على هذا البلد مثل دونالد ترامب”. وأضاف: “هل تدركون، هل ترون ما هو هذا الرجل؟ لقد لمحته عندما تحدثت إليك مرة أخرى، في كتابي “خطر”، لكنني أعرفه الآن. أعرف ذلك الآن.” لقد شاركني ميلي مخاوفه بشأن الاستقرار العقلي لترامب وسيطرته على الأسلحة النووية في كتاب “خطر” الذي شاركت في تأليفه مع روبرت كوستا. واصلنا أنا وميلي الحديث، لنثبت أنه من الممكن إجراء محادثة خاصة جدًا في وسط غرفة مزدحمة. “علينا أن نوقفه!” قال ميلي. “عليك أن توقفه!” وكان يقصد بكلمة “أنت” الصحافة على نطاق واسع. “إنه أخطر شخص على الإطلاق. كانت لدي شكوك عندما تحدثت معك عن تدهوره العقلي وما إلى ذلك، لكنني أدركت الآن أنه فاشي تمامًا. إنه أخطر شخص على هذا البلد.”
من غير الواضح أنّ شخصا بطموحات ترامب التوسعية التي تريد ضمّ كندا وامتلاك غزّة يمكن أن تتحقّق فقط عبر الضغط الأقصى الاقتصادي. اذا واصل في التصعيد فإنه سيكون معنيّا بعمليّة عسكرية. وهنا ليس من الواضح كيف ستتعامل المؤسسة العسكرية مع هذه الطموحات التي يرى الكثيرون أنها “مجنونة”.
قام ترامب بتغييرات كبيرة وغير معتادة بالنسبة لبداية عهدة رئاسية على مستوى القيادات الرئاسية للمؤسسة العسكرية. وايضا ترك بعض المناصب الأساسية شاغرة، حيث أعفى بدون تعيين، وهو أمر غير معهود.
هناك قلق داخل المؤسسة العسكرية وتخوف من استغلال موضوع المثليين داخل الجيش للقيام بعملية “تطهير” (purge).
إن موضوع استقرار المؤسسة العسكرية في عهد ترامب لن يكون فقط مسألة علاقات دولية بل أيضا مسألة أساسية في موازين القوى الداخلية، قياسا برغبة ترامب القديمة والمتجددة لاقحام المؤسسة العسكرية في الاصطفافات السياسية.
يبقى أن من أكبر الأسئلة إلى أي مدى يمكن لسياسة المخاطرات القصوى والضغط الأقصى التي يعتمدها في مختلف الملفات أن لا تجر واشنطن نحو حرب تنزلق اليها حتى لو لم تخطط لذلك.
نحن إزاء تأرجح بين توجه انعزالي يتجه لتقليص كبير للقوات الأمريكية بما في ذلك في منطقتنا، وفي المقابل توجه يحتاج للعصا العسكرية لمواصلة التهديدات وفرض نظام اقليمي جديد.
هذا التأرجح والضغط في كل الاتجاهات حتى على المؤسسة العسكرية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة وليست مخطط لها بالضرورة. وهذا في حد ذاته أمر خطير جدا في منطقة مليئة بالبارود مثل منطقتنا.

الكاتب : طارق الكحلاوي
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة جنوب المتوسط في تونس. دكتوراة من جامعة بنسلفانيا. مدير عام سابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.


الكاتب : طارق الكحلاوي
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة جنوب المتوسط في تونس. دكتوراة من جامعة بنسلفانيا. مدير عام سابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
