الكاتب : رحمة الباهي
صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.
“أنا إنسان من حقي أن أتمتع، كأي مواطن، بالعلاج في المستشفى وأن تكون لي معاملات إدارية مع البريد وغيره.. لا يوجد أي فرق بيننا. العابرون والعابرات جنسيا يجدون/يجدن صعوبات في العثور على عمل ومنزل حتى أنهم/هن يتعرضون للاعتداءات في الطريق وفي المقاهي.. ومن لم يتعرض منا لاعتداء جسدي فمن المؤكد أنه/ها تعرّض لعنف معنوي و لفظي”.
هذه العبارات التي تنضح حزنا ممزوجا بجراح في الذاكرة، ليست سوى أحلاما وأمنيات بسيطة لأحمد التونسي، العابر الجنسي الذي وجد نفسه يعيش في مجتمع ينبذه ودولة تحرمه من أبسط حقوقه وتقمع وجوده، ليس لأنه قاتل يبث الرعب في نفوس المواطنين، وليس لأنه مغتصِب يلاحق ضحاياه في زوايا المدينة المظلمة، بل لأنه ولد مختلفا وخيّر أن يعيش اختلافه في مجتمع يخشى كلّ من يخرج عن السائد والمألوف.
كجلّ أفراد مجتمع الميم عين في تونس، كان أحمد ضحية لاعتداءات تتراوح بين اللفظي والمادي والجسدي، من قبل مواطنين وأعوان أمن اتخذوا من الشريعة والدين و”الأخلاق الحميدة” ذريعة لتبرير اعتداءاتهم وانتهاكاتهم ضد الأقليات وحقوق الإنسان.
الكاتب : رحمة الباهي
صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.
“أنا إنسان من حقي أن أتمتع، كأي مواطن، بالعلاج في المستشفى وأن تكون لي معاملات إدارية مع البريد وغيره.. لا يوجد أي فرق بيننا. العابرون والعابرات جنسيا يجدون/يجدن صعوبات في العثور على عمل ومنزل حتى أنهم/هن يتعرضون للاعتداءات في الطريق وفي المقاهي.. ومن لم يتعرض منا لاعتداء جسدي فمن المؤكد أنه/ها تعرّض لعنف معنوي و لفظي”.
هذه العبارات التي تنضح حزنا ممزوجا بجراح في الذاكرة، ليست سوى أحلاما وأمنيات بسيطة لأحمد التونسي، العابر الجنسي الذي وجد نفسه يعيش في مجتمع ينبذه ودولة تحرمه من أبسط حقوقه وتقمع وجوده، ليس لأنه قاتل يبث الرعب في نفوس المواطنين، وليس لأنه مغتصِب يلاحق ضحاياه في زوايا المدينة المظلمة، بل لأنه ولد مختلفا وخيّر أن يعيش اختلافه في مجتمع يخشى كلّ من يخرج عن السائد والمألوف.
كجلّ أفراد مجتمع الميم عين في تونس، كان أحمد ضحية لاعتداءات تتراوح بين اللفظي والمادي والجسدي، من قبل مواطنين وأعوان أمن اتخذوا من الشريعة والدين و”الأخلاق الحميدة” ذريعة لتبرير اعتداءاتهم وانتهاكاتهم ضد الأقليات وحقوق الإنسان.
مسار ”عبور“ شائك
نشأ أحمد التونسي، ذي الـ38 عاما، في جسد غريب عنه ولا يشبهه، بمنطقة بوسالم التابعة لولاية جندوبة شمالي غرب البلاد، في ظل عائلة محافظة لم تقبل اختلافه البارز منذ نعومة أظافره، فكان فتاة ترتدي ثياب الطفولة وتلعب مع أبناء الحي غير عابئة بألعاب الفتيات وزينتهن وملابسهن.
اختلاف جعله يواجه سخرية وتهكّما من قبل جيرانه وأقاربه وحتى من زملائه في مقاعد الدراسة، كما جعله ضحية عنف جسدي من قبل والده ومن ثم المدرسين في المدرسة التي كان يدرس بها. لم يجد أحمد من كتف يستند عليه سوى والدته التي يحظى بدعمها وتفهمها.
ازدادت الأمور تعقيدا مع بلوغه سن المراهقة وشعوره بالإعجاب نحو فتاة. شعور لم يفهمه وجعله يحاول البحث عن هويته الجنسية والجندرية دون أن يقدر على تحديدها أو يجد من يدلّه، فانغلق على نفسه يفكّر ويبحث عن ذاته وبدأ يجد صعوبة في متابعة دراسته رغم أنه كان من المتفوقين.
ومع بلوغه سن السابعة عشرة، قرّر الانقطاع عن الدراسة ولم يكن يفكر سوى بمسألة واحدة، أن يسافر إلى الخارج ويحاول تغيير جنسه بعد أن قرأ خبرا في إحدى الصحف عن أول عابر جندريا في مصر رغم أنّه لم يفهم بعد الأسباب التي تدفعه إلى هذا التفكير.
تنقل أحمد من عمل إلى آخر دون أن تتوقف محاولاته لفهم حقيقته واضعا نصب عينيه هدفا وحيدا تمثل في السفر إلى مصر وإجراء عملية تصحيح الجنس، وهو ما تحقق سنة 2014 أين بدأ يستعمل الهرمونات ليتغيّر شكله وقد كان له ما أراد حيث تحصّل على موافقة لجنة تصحيح الجنس بنقابة الأطباء المصرية، ليعود إلى تونس ويجري عملية لإزالة الصدر خلسة.
وضعت التغيّرات التي أجراها أحمد على جسده تحديات وصعوبات جديدة، فلم يتمكن من استئجار بيت جديد بسبب التناقض بين وثائقه الرسمية التي يظهر فيها في هيئة فتاة وبين شكله الذكوري الجديد، فوجد نفسه مجبرا على الاستعانة بصديقة له ليستأجر المنزل باسمها.
العثور على عمل أو وظيفة كان بالنسبة إليه أيضا مسألة شبه مستحيلة. ورغم محاولاته العمل كعامل يومي للبناء لم يفلح أحمد في ذلك واضطر للبقاء سنتين عاطلا عن العمل، يعتمد على والدته التي كانت تزوره بشكل دوري وتقدّم له بعض الأموال، قبل أن يعمل لدى بائع خضار في السوق الذي يقطن قربه مقابل مبلغ زهيد.
اعتداءات متكرّرة
لم يخل مسار العبور الجندري لأحمد من انتهاكات طالت كرامته الإنسانية، فوجد نفسه ضحية لاعتداءات متكررة سواء من قبل مواطنين أو أعوان أمن في مناسبات عديدة. ففي إحدى المرات، كان أحمد مارّا أمام حديقة عمومية عندما تعرّف عليه 3 أشخاص من فيديو كان قد صوّره مع صحفية، فقاموا بتعنيفه بشدّة. ولدى مرور شرطيّين على متن دراجة نارية، سألاه عمّا يحصل فأجابهما أحد المعتدين أنهم يضربون “مثليا جنسيا”، ليقوم أحد الشرطيين بشتم أحمد قبل أن يواصلا طريقهما ويسمحا للمعتدين بمواصلة اعتدائهم.
يعود محدثنا بذاكرته إلى حادثة أخرى جدّت في الخامس من شهر أوت/أغسطس 2020، على مقربة من مقرّ السفارة الفرنسية بشارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، حيث تحوّل نقاش دار بين محدثنا والناشطة الكويريّة رانية العمدوني من جهة وشخص قال إنه شرطيّ طلب منهما بطاقات تعريفهما الوطنية إلى اعتداء عنيف على أحمد ورفاقه بعد تدخل عنصريْ شرطة كانا يحرسان مقر السفارة وتجمهر عدد من المواطنين ليصرخ أحدهم “هؤلاء قوم لوط قوموا بتربيتهم”.
”ركض وراءنا رجل أمن وكان يهددنا بالذبح“.
ويروي أحمد بمرارة وألم تفاصيل تلك الحادثة قائلا:
“الأمني ردّ ربّوهم أنتم (قوموا أنتم بتأديبهم).. كان هناك قرابة الـ150 شخصا حولنا و5 أو 6 سيارات شرطة.. تعرّضنا للضرب بشكل لا يوصف”.
كان المعتدون في هذه المرة خليطا من المواطنين والأمنيين، وتم استخدام “الماتراك”(عصا البوليس) في هذا الاعتداء. حاول أحمد الفرار بمعيّة عابر آخر وقد لاحقه عون أمن توعّده بالذبح. وقد أصيب أحمد بنزيف إثر وقوعه بعد ضربه لتبدأ رحلة معاناة جديدة انطلقت لدى توجهه للمستشفى، حيث رفض كل من مستشفى شارل نيكول ومستشفى الرابطة معالجته لكونه “عابر جنسيا” وفق روايته. وطُلب منه التوجه إلى مستشفى وسيلة بورقيبة أين وجد معاملة تليق بـ”كائن فضائي”، وفق تعبيره.
واضطر أحمد، آنذاك، الى الانتظار حوالي ساعة ونصف قبل أن يتم إدخاله إلى مكتب طبيبة تردّدت قبل إسعافه وطلبت منه الذهاب إلى الطبيب/ة الذي/التي أجرى/ت عملية إزالة الصدر له.
مثل هذه الحوادث لا تعدّ حالات معزولة بالنسبة لأفراد مجتمع الميم عين في تونس. ويعتبر أحمد أن العابرين والعابرات جنسيا يعانون/يعانين مضايقات عديدة بسبب الاختلاف بين هيئاتهم/ن وأوراقهم/هن الثبوتية. وفي أحيان كثيرة، تتحوّل عملية مراقبة عادية إلى اعتداء بالعنف، سواء كان اللفظي أو الجسدي، من قبل أعوان الأمن في إحدى الدوريات التي تطلب الاطلاع على بطاقة التعريف الوطنية.
وتيرة الاعتداءات المسلّطة على أفراد مجتمع الميم عين ارتفعت مع انتشار فيروس كورونا وفرض الحجر الصحي الشامل، ولكن بشكل خاص خلال الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها تونس في شتاء 2021.
وكان أحمد التونسي قد تعرّض خلال شهر فيفري 2021 إلى الاعتداء بالعنف من قبل عدد من أعوان الشرطة بعد إجرائه لقاء إعلاميا مع صحفية أجنبية، إذ تمّ اعتراضه ومطالبته بالاستظهار ببطاقة الهوية الوطنية حيث سخر منه الأعوان إذ قال أحدهم “إنه من جماعة يرحم عمي”( تعبير باللهجة العامية التونسية يهدف إلى الوصم والتحقير) قبل أن يقوم بدفعه داخل السيارة وتعنيفه.
ظلّ أحمد يتعرّض إلى الضرب من قبل الأعوان داخل السيارة في طريقهم لنقله إلى مركز الشرطة، إلاّ أنّ أحدهم أوقع بطاقة التعريف الخاصة به ولدى محاولته استعادتها، تم ركل أحمد وإخراجه من السيارة ليفرّ راكضا من الأمنيين.
تيريزا، هي الأخرى عابرة جندريا التقاها موقع “الكتيبة”، وقد كانت أيضا عرضة للاعتداء بالعنف في شهر فيفري 2021، خلال قيامها بتصوير مظاهرة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس اعتقدت أنها لمواطنين لكن تبيّن لاحقا أنّ احدى نقابات الشرطة هي من نظمتها.
كانت تيريزا بصدد تصوير المظاهرة دون أن تقوم بأيّ رد فعل، قبل أن ينتبه إليها المحتجون ولتعبيرها الجندري، ليلتفّ حولها العديد من الأمنيين الذين قاموا بتعنيفها.
أما نانسي، وهي أيضا عابرة جندريا، فقد تعرّضت، خلال شتاء 2021، لاعتداء في منطقة منوبة. وعندما أرادت تقديم شكاية ضدّ المعتدين، تبيّن أن اثنين منهم كانا من الشرطة، في حين أنّ البقية تمكنوا من سرقة أموالها وهاتفها. اعتداءات متكررة تطال هذه الفئة من المجتمع التونسي تمرّ مرور الكرام في ظل إفلات تام من العقاب رغم عديد الشهادات والشكاوى المقدمة في الغرض.
اختلاف بين الهوية الرسمية والهويّة الجندرية
تعتبر المحامية والناشطة الحقوقية هالة بن سالم أنّ أفراد مجتمع الميم عين في تونس يحاسبون/تحاسبن بسبب هوياتهم/هن الجندرية فقط، إذ يمكن أن تقع محاكمتهم/هن لأن شكلهم/هن أزعج البوليس.
ويواجه العابرون والعابرات جندريا صعوبات جمة -فضلا عن العنف والهرسلة والتحرّش- خاصّة أنّ البعض منهم/هن عمّال وعاملات جنس. وقد تظافرت عدة عوامل جعلتهم/هن غير قادرين/قادرات على العمل ففقد/ت الكثيرون/ات مداخليهم/هن ووقع طردهم/هن من المنازل التي كانوا يقطنون/يقطنّ بها، في حين وقع طرد البعض الآخر منهم/هن من قبل عائلاتهم/هن بعد أن وجدوا/ن أنفسهم/هن محجورين/ات بسبب الكورونا وتم اكتشاف هوياتهم/هن الجندرية.
تشير المحامية هالة بن سالم، في هذا الصدد، إلى أنّ بطاقات التعريف الخاصة بالعابرين والعابرات جندريا لا تعكس هوياتهم/هن الجندرية، الأمر الذي يجعل أمرا بسيطا يتعلّق بالتثبت من الأوراق إشكالا بين الشرطي الذي لا يتفهّم المسألة وبين الشخص المعني/ة، لتتطوّر المسألة إلى مشاحنة كلامية ويتم الاحتفاظ بالعابر/ة وتوجيه تهم “هظم جانب موظف عمومي” أو “الاعتداء بفعل الفاحشة” أو “الاعتداء على الأخلاق الحميدة” ضدّه/ا.
وتتمّ معظم الإحالات ضدّ أفراد مجتمع الميم عين بناء على عدّة نصوص من المجلّة الجزائية التي تعود إلى سنة 1913، وبشكل خاص الفصول 226 و226 مكرّر منها، وهي نصوص ذات معنى فضفاض ولا يوجد بها تعريف قانوني واضح لمصطلحات على غرار “الأخلاق الحميدة” التي قد يختلف تحديد مفهومها بين عدة أطراف داخل مجتمع واحد، وفق محدّثنا. ويقع كذلك الاعتماد على الفصل 230 من القانون الجزائي التونسي الذي ينصّ على أنّ “مرتكب اللواط أو المساحقة يُعاقب بالسجن مدة 3 سنوات”، علما أنّ هذا الفصل يطال الذكور أكثر من الإناث.
والجدير بالذكر أنّ الإحصائيات التي قدمتها وزارة العدل لجمعية “دمج للعدالة والمساواة” حسب مطلبي نفاذ إلى المعلومة حول عدد المساجين على أساس الفصل 230 كانت متضاربة. هذا التضارب أرجعته هالة بن سالم إلى غياب إحصائيات رسمية موثوقة تهمّ عدد المسجونين والمسجونات بناء على الفصل المذكور.
جمعية دمج للعدالة والمساواة هي منظمة غير حكومية تعنى بالدفاع عن حقوق الأقليات ومجتمع الميم عين
يشرّع القانون الجزائي، الذي تمت صياغته في عهد الاستعمار الفرنسي، وخاصة في فصله 230 -وقد نُقل بدوره دون تغيير من القانون الجزائي الفرنسي-، للاعتداء والتدخل في الحياة الشخصية للأفراد. وهو أيضا يفتح الباب أمام الفحوص الشرجية، التي تمثل انتهاكا خطيرا يُمارس ضد أفراد مجتمع الميم عين على أيادي السلط الأمنية والطب الشرعي بهدف إثبات المثلية الجنسية، وذلك رغم عدم وجود أي سند علمي أو قانوني لهذه الفحوص، حتى أنّ عمادة الأطباء أصدرت بيانا سنة 2017 أدانت فيه ممارسة مثل هذه الفحوص.
أي فحوص يتمّ إجراؤها على جسد الإنسان دون رغبته ترتقي إلى مرتبة التعذيب وهي تمثل فحوص العار.
هالة بن سالم
”فحوص العار“
وقع العديد من أفراد مجتمع الميم عين بتونس ضحية للفصل 230 وفي بعض الأحيان لفحوص شرجية أخضعوا لها عنوة.
نيكيتا وتيريزا، عابرتان جندريا خضعتا للفحص الشرجي في مستشفى القيروان ووقعت محاكمتهما وفقا لمقتضيات الفصل 230 من المجلّة الجزائية.
تقول نيكيتا في هذا الصدد:
خضعت للفحص الشرجي في القيروان وفي العاصمة تونس ولكنّ الفحص كان في هذه الأخيرة بشكل أفضل.
ففي العاصمة عندما يرفض المعني إجراء الفحص يستجيب الطبيب الشرعي لطلبه ولا يلتزم بأوامر عناصر الشرطة، في حين أنه في القيروان (وسط غربيّ البلاد) يكتفي الطبيب بتنفيذ الأوامر.
أما تيريزا، فقد خضعت لفحص شرجي عندما كانت في السادسة عشر من عمرها بطلب من شقيقها لدى اكتشاف عائلتها حقيقة هويتها الجندرية. وقد جاءت نتيجة الفحص “إيجابية”، وفق قول تيريزا، الأمر الذي دفعها إلى مغادرة منزل أسرتها منذ ذلك الحين.
تعدّدت القضايا التي تمّت خلالها إدانة أفراد من مجتمع الميم عين بناء على الفصل 230، ولكن تبقى قضية محاكمة 6 طلاب من القيروان سنة 2015 بتهمة “اللواط” أكثرها جدلا ورسوخا في أذهان التونسيين. وقد قضت المحكمة الابتدائية بالقيروان بسجنهم لمدة 3 سنوات وإبعادهم عن القيروان لـ3 سنوات إضافية، في حين خففت محكمة الاستئناف بسوسة هذا الحكم القضائي إلى السجن لمدة شهر.
ويتحدث “فادي” (اسم مستعار)، أحد الموقوفين في هذه القضية، قائلا إنه تم إيقافه في شهر ديسمبر 2015، إذ فوجئ لدى وصوله إلى الحيّ الذي يقطن به بوجود سيارة شرطة أمام منزله، وعندما استفسر عمّا يحصل وعلم أعوان الأمن أنّه يعرف الموقوفين أمروه بالصعود معهم إلى السيارة.
في البداية، تم التحقيق مع فادي في قضية إرهابية وكان التعامل معه عاديا، إلاّ أنه لدى فتح حاسوبه الشخصي ومشاهدة بعض الفيديوهات التي كانت موجودة فيه، تغيّرت طريقة التعامل معه حتى أنّ التحقيق أخذ منعطفا آخر بل أصبح الشرطي يحرّر المحضر بنفسه، وفق محدثنا الذي تمّ إجباره على أن يبصم على نصّ محضر القضية التي حملت عنوان “ممارسة اللواط السلبي ونشر قيم الفساد والرذيلة في عاصمة الثقافة الإسلامية (القيروان)”.
وفي اليوم الموالي، تم نقل فادي إلى المستشفى ليقوم عنصران من الشرطة بإدخاله عنوة إلى مكتب الطبيب الشرعي، ووضعه فوق الطاولة حيث تم إخضاعه لفحص شرجي، قبل أن تقع محاكمته ومن ثم سجنه.
الفصل 230 يقصينا من الحياة.. تدخل السجن لسبب تجهله وتذهب إلى الطبيب دون أن تعرف لماذا وعندما تغادر السجن تجد أن دراستك ومستقبلك قد ذهبا سدى.
فادي
اغتيال معنوي
لا يواجه أفراد مجتمع الميم عين قضايا تقوم على الفصل 230 من القانون الجزائي، بل يتم أحيانا اللجوء إلى الفصل 125 المتعلق بـ”هضم جانب موظف عمومي”. ماري (اسم مستعار)، عابرة جندريا، تشاجرت مع شرطي فوجدت نفسها في قسم الشرطة قبل أن يتمّ نقلها إلى المحكمة.
تسترجع ماري أطوار القضية قائلة: “وكيل الجمهورية (النائب العام) رفض مجرّد النظر في عيني. من المحكمة تم نقلي إلى السجن وهناك أدخلوني في غرفة يجرون فيها التفتيش وطُلب مني نزع ثيابي. يُفترض أن يوجد شرطي واحد أو اثنان بتلك الغرفة ولكن في حالتي جميع من كانوا في السجن أرادوا رؤيتي عارية”.
في البداية، رفضت ماري الخضوع لطلبهم بنزع ثيابها إلا أنّها تعرّضت للاعتداء بالعنف الشديد واضطرّت إلى الرضوخ، فقد واجهها عناصر الشرطة الموجودون بوابل من الضحك والسخرية قائلين: “ايجا تفرّج من فوق امرأة ومن لوطة راجل” (تعالوا للمشاهدة.. هيئة امرأة من فوق ورجل من الأسفل)”.
شعرت محدّثتنا بالإهانة جرّاء هذه الحادثة، حيث كان يشاهدها حوالي 50 شرطيا، وكان ذلك خلال فصل الشتاء.
تجربة السجن تكون أيضا قاسية بالنسبة الى أفراد مجتمع الميم عين، فشرطة السجون وبقية الموقوفين يجدون في إدانة المسجونين والمسجونات بتهمة “اللواط” أو وفقا لمقتضيات الفصل 230 مبرّرا لاستباحة أجسادهم/هن وانتهاك حرمتها.
ويروي فادي أنه في ليلة رأس السنة الميلادية جاء قيادي في الشرطة رفيع المستوى إلى الزنزانة التي كان يقبع فيها بمعيّة رفاقه، وقال لـ”كبران الغرفة” إنّ لديه 6 راقصات (في إشارة إلى الطلاب الستة الموقوفين) ينبغي عليه إنزالهن كي يرقصن ويمتعن المساجين.
لم تختلف تجربة تيريزا ونيكيتا في السجن كثيرا عمّا مرّ به فادي، فقد تعرّضتا للاعتداء بالعنف و”الشلابق” (الصفع على الوجه). ووُضِعتا في غرفة خاصة، ولم يقدّم لهما من الطعام سواء ما يبقى من فضلات ما يتناوله بقية المساجين.
معاناة أفراد مجتمع الميم عين في تونس لا تقف عند حدود الشرطة والقضاء. فالعديد من المواطنين ينصّبون أنفسهم متحدثين باسم الدين ويخوّلون لأنفسهم محاكمة من يختلف عنهم. تتنوّع الاعتداءات التي تسلّط على مجتمع الميم عين من شتائم وتهديدات ومعاملة سيئة لتصل إلى الاعتداء بالعنف.
“هناك الكثير من العبارات التي تقال لي والتي تجرح وتمس من كرامة الإنسان مثل (يا … سوف ترى كيف سيحاسبك الله).. أو إنّ الله سيزيد في ميزان حسناتهم إن قاموا بضربي.. البعض يقول لي إنه من المفترض أن يقع رميي من شاهق”. عبارات جارحة ومفزعة كثيرا ما سمعتها ماري وجعلتها تعيش في خوف دائم ممّا قد يحصل لها.
المجتمع ينظر إلي كأني أنذل وأحقر إنسانة خُلقت في التاريخ.
ماري
من جهتها، قرّرت نانسي التوقف عن تناول الهرمونات التي تتناولها في إطار عمليّة عبورها لأنها تؤثر على نفسيتها وتجعلها تنفعل من أي موقف مهما كانت بساطته، وذلك كي تتجنّب الدخول في جدالات تبدأ بالشتائم التي توجّه إليها بشكل يومي وقد تنتهي بزجّها في السجن.
تم الاعتداء علي بالعنف لأني وفق قول المعتدين من “قوم لوط” وأعمل في جمعيات تدافع عن المثلية الجنسية.
أحمد
أما أحمد التونسي، فتعرّض إلى الاعتداء بالعنف الشديد ذات غرة ماي من سنة 2020، من قبل امرأة وابنتها وصديق هذه الأخيرة لا لسبب بل لأنه فقط عابر جندريا. وقام المعتدون بالتشهير به في السوق الذي عمل فيه طيلة أربع سنوات والذي كان يمثل مصدر رزقه الوحيد.
هذه الحادثة كانت لها تداعيات وخيمة على نفسيته ودفعته إلى فقدان الرغبة في مغادرة منزله أسبوعا كاملا أو حتى التحدث إلى أي شخص كان.
جرّاء هذا الاعتداء تعرّض أحمد لإصابات شديدة، إلا أنّه فوجئ لدى وصوله إلى قسم الشرطة بعناصر الشرطة الذين كانوا يسألونه عن سبب مغادرته المنزل بعد بدء حظر الجولان ويطلبون منه العودة في اليوم الموالي رغم أنه كان ينزف، فلم يجد من ردّ إلاّ أن يخلع ثيابه أمامهم ويريهم آثار الضرب على صدره ووجهه، ليحصل إثر ذلك على تسخير توجّه بموجبه إلى مستشفى شارل نيكول بالعاصمة تونس.
فصل مخالف للدستور
يعيش أفراد مجتمع الميم عين بتونس في تهديد مستمرّ خصوصا إذا عبّروا عن هوياتهم الجندرية في الفضاء العام. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى الفصل 230 من المجلّة الجزائية الذي يشرّع لانتهاك عديد المبادئ الدستورية والتعدّي على الحقوق والحريات المضمونة بدستور الجمهورية الثانية.
ومن بين المبادئ الدستورية التي ينتهكها الفصل 230، وفق وثيقة مناصرة أعدّها كلّ من أستاذ القانون العام وحيد الفرشيشي والدكتور في القانون محمد أمين الجلاصي، الحق في المحاكمة العادلة والتي ترد بشكل صريح في الفصلين 27 و108 من الدستور، فضلا عن انتهاك مبدإ عدم التمييز والمساواة أمام القانون والحق في حماية الحياة الخاصة (الفصل 21 من الدستور)، وانتهاك الكرامة والحرمة الجسدية (الفصل 23 من الدستور).
كما يتعارض الفصل 230 مع الضرورة التي تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وينتهك الضوابط المتعلّقة بالحقوق والحريات التي يحددها الفصل 49 من الدستور.
ويعتمد الكثير من نشطاء المجتمع المدني والحقوقيين على ما يمثّله الفصل 230 من خرق للدستور والمعاهدات الدولية التي كانت قد أمضت عليها الدولة التونسية للمطالبة بإلغاء الفحوص الشرجية والفصل المذكور، بالإضافة إلى تنقيح المجلّة الجزائية.
دعوات مازالت تجابه إلى اليوم بآذان صمّاء، حيث لا يعتبر البرلمان التونسي أن الحريات الفردية أولوية تستحق الاهتمام اليوم، بل إن الغالبية السوداء من أعضاء مجلس نواب الشعب تتبنّى مواقف رافضة للاعتراف بالأقليات الجنسية وحقوقها.
برلمان ”رجعي“
في هذا الإطار، توضّح عضو لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بالبرلمان المنتخب في سنة 2019 مريم اللغماني، أنّ مجلس نواب الشعب يعطي الأولوية للنظر في مشاريع القوانين التي تقدّمها رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وهذان الطرفان لم يتقدّما بأي مشروع لتعديل القانون الجزائي أو للنظر في مشروع قانون الحريات الفردية.
بالإضافة إلى ذلك، يعمل البرلمان منذ مارس/آذار 2020 في ظل ظروف استثنائية تجعله مجبرا على تمرير القوانين ذات الصبغة المعاشية دون غيرها.
”مكتب البرلمان رجعي يسيطر عليه الإخوان (الاسلاميون) ولا يحترم الحقوق والحريات“
مريم اللغماني
أما عن المشاكل التي تواجه العابرين والعابرات جندريا بشكل خاص، والمتعلّقة بالاختلاف بين وثائقهم/ن الثبوتية وهيئاتهم/ن، فمن الوارد أن يمثّل مقترح إحداث بطاقات التعريف وجوازات السفر البيومترية حلّا لهم/هن، إلا أنه في المقابل يطرح عديد الإشكاليات التي تمسّ من المعطيات الشخصية والحياة الخاصة للمواطنين، وفق محدثتنا التي تشير إلى أنّه يمكن للنواب أن يطرحوا مبادرة تشريعية في هذا الصدد إلا أن البرلمان يغلب عليه الطابع الرجعي، حسب تعبيرها، الأمر الذي سيحول دون تمرير مثل هذه القوانين.
بعد أكثر من 10 سنوات من تاريخ الثورة في تونس، أصبحت الانتهاكات التي تطال حقوق الأقليات الجنسية من أبرز الظواهر والدوافع المحفزة على طلب اللجوء في دول غربية حيث تمّ تسجيل عديد الحالات في هذا السياق من بينها قضيّة الفنانة والناشطة في الجمعية التونسية للعدالة والمساواة المعروفة اختصارا بجمعية دمج، رانية العمدوني (26 سنة )، التي عانت على امتداد سنوات من الوصم الاجتماعي والعنف البوليسي و القضايا والمحاكمات التي تنتهي بالسجن فضلا عن حملات التكفير والتشويه والتنمر لاسيما على صفحات التواصل الاجتماعي.
الناشطة الكويرية رانية العمدوني كانت قد أعلنت خلال شهر جوان من السنة الحالية 2021 مغادرتها تونس بشكل نهائي متّجهة نحو العاصمة الفرنسية باريس أين قامت بالإجراءات اللازمة للحصول على اللجوء بناء على مساعدة ومرافقة من إحدى الجمعيات التي تعنى بحقوق الأقليات هناك.
هذه الانتهاكات رغم خطورتها وتعددها تبدو مسألة ليست ذات أولوية وأهمية في سياسات الدولة التونسية التي لا تكترث لمعاناة مجتمع الميم عين حيث يعد هذا الموضوع من المحرمات التي يتجنب جلّ المسؤولين الرسميين وحتّى السياسيين الخوض فيه من منطلق حقوقي دستوري مبدئي.
يمثّل أفراد مجتمع الميم عين في تونس اليوم فئة من الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، خصوصا مع الظروف الاستثنائية التي خلّفتها الكورونا وتداعياتها المتعلّقة بالحجر الصحي العام وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية بشكل عام.
هذه الظروف زادت من حدّة الصعوبات التي تواجهها الأقليات الجنسية وذلك في ظلّ غياب نصوص تشريعية تحمي حقوقهم وتقيهم شرّ انتهاكات مجتمع ذكوري يخوّل لنفسه استخدام أجهزة الدولة للتحكم في الحياة الشخصية للأفراد، ودولة تسيطر على مؤسساتها نزعة محافظة تجعل من الحريات الفردية حقوقا دستورية مؤجلة حتى إشعار آخر.
يعكف موقع الكتيبة على تسليط الضوء على القضايا والملفات التي تهم مسألة الحريات الفردية ولاسيما الأقليات في تونس التي تعاني من الحيف الاجتماعي والتسلّط القانوني والنكران السياسي نتيجة موروث ثقافي وتاريخي متعدّد الروافد. نهدف من خلال هذا المحتوى الصحفي إلى أنسنة المضامين الصحفية استنادا إلى بوصلة مبادئ حقوق الإنسان في اتجاه تسليط الضوء على مواضيع مسكوت عنها أو لماما ما يتم التطرق إليها من قبل وسائل الإعلام التونسية التي كثيرا ما تسقط في مطب تسطيح وتتفيه مثل هذه القضايا الحسّاسة.
يعكف موقع الكتيبة على تسليط الضوء على القضايا والملفات التي تهم مسألة الحريات الفردية ولاسيما الأقليات في تونس التي تعاني من الحيف الاجتماعي والتسلّط القانوني والنكران السياسي نتيجة موروث ثقافي وتاريخي متعدّد الروافد. نهدف من خلال هذا المحتوى الصحفي إلى أنسنة المضامين الصحفية استنادا إلى بوصلة مبادئ حقوق الإنسان في اتجاه تسليط الضوء على مواضيع مسكوت عنها أو لماما ما يتم التطرق إليها من قبل وسائل الإعلام التونسية التي كثيرا ما تسقط في مطب تسطيح وتتفيه مثل هذه القضايا الحسّاسة.
الكاتب : رحمة الباهي
صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.
الكاتب : رحمة الباهي
صحفية شغلت عديد الخطط في الصحافة الالكترونية التونسية والعربية.