الكاتب : حسان العيّادي

صحفي مهتم بالشأن السياسي والاقتصادي في تونس وشمال إفريقيا

“عيشوا حياتكم… وبلاش هري “، كلمات بالعامية المصرية معناها أن تواصل نسق حياتك الطبيعي دون حديث، توجّه بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطاب له ضمن فعاليات افتتاح مؤتمر “حياة كريمة” باستاد القاهرة الدولي يوم 16 جويلية/يوليو 2021 ليضيف أن “القلق لدى المصريين من قضية المياه مشروع”. بهذا الشكل الخطابي نسف السيسي عرفا مصريا منذ الفراعنة مفاده ” إذا انخفض منسوب النهر، فليهرع كل جنود الفرعون ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه”.

إسقاط العرف وإقرار أن “الهري” ممنوع أي منع الحديث وفرض الصمت هي القاعدة التي تتبعها السلطات المصرية في معالجة أشد أزمة تواجهها مصر في تاريخها الحديث، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي التي بلغت أوجّها مع تحديد إثيوبيا تاريخ القيام بعملية ملء ثانية لسد النهضة أو “هيداسي” كما يطلق عليه في إثيوبيا، بعد أن استكملت عملية الملء الأولى في جوان 2020.

الكاتب : حسان العيّادي

صحفي مهتم بالشأن السياسي والاقتصادي في تونس وشمال إفريقيا

“عيشوا حياتكم… وبلاش هري “، كلمات بالعامية المصرية معناها أن تواصل نسق حياتك الطبيعي دون حديث، توجّه بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطاب له ضمن فعاليات افتتاح مؤتمر “حياة كريمة” باستاد القاهرة الدولي يوم 16 جويلية/يوليو 2021 ليضيف أن “القلق لدى المصريين من قضية المياه مشروع”. بهذا الشكل الخطابي نسف السيسي عرفا مصريا منذ الفراعنة مفاده ” إذا انخفض منسوب النهر، فليهرع كل جنود الفرعون ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه”.

إسقاط العرف وإقرار أن “الهري” ممنوع أي منع الحديث وفرض الصمت هي القاعدة التي تتبعها السلطات المصرية في معالجة أشد أزمة تواجهها مصر في تاريخها الحديث، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي التي بلغت أوجّها مع تحديد إثيوبيا تاريخ القيام بعملية ملء ثانية لسد النهضة أو “هيداسي” كما يطلق عليه في إثيوبيا، بعد أن استكملت عملية الملء الأولى في جوان 2020.

في هذا المقال التفسيري محاولة لتفكيك جذور الأزمة القائمة بين مصر وإثيوبيا من خلال العودة على أهم المحطات التاريخية التي عرفتها قضيّة سدّ النهضة، فضلا عن شرح أبرز الرهانات المتعلقة بهذا الملف الحارق داخليا وخارجيا بالنسبة لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والذي بات يستعمله كورقة لطمس الانتهاكات والجرائم الحقوقية والاخفاقات الاقتصادية والاجتماعية.

معركة وجود

عملية ملء سد النهضة الثانية انطلقت منتصف جويلية 2021 بالتزامن مع بداية موسم الأمطار في حوض النيل، قبل أن تتوقف لأسباب تقنية تستغلها السلطات الإثيوبية اليوم لتبيّن حسن نواياها قبل العودة لجولة جديدة من المفاوضات مع دول المصب ومنها مصر. وذلك بعد أن أوصى مجلس الأمن الدولي المنعقد في 8 من جويلية/يوليو بدعوة من تونس – العضو غير الدائم – إلى الذهاب للمفاوضات في إطار الوساطة الافريقية.

تواجه مصر أزمتها منذ فيفري 2011 تاريخ إعلان إثيوبيا عن عزمها إحياء “المشروع إكس” في خمسينيات القرن الماضي تحت اسم سد الألفية الذي عدّل ليصبح سدّ النهضة في أفريل/أبريل 2011 تاريخ وضع أول حجر أساس في السد من قبل رئيس الوزراء “ملس زيناوي”.

ومنذ ذلك اليوم، باتت مصر مهدّدة في وجودها لا فقط في تراجع منسوب مياه النيل، وانخفاض خصوبة الأرض الزراعية أو نقص في الكهرباء المنتجة في السد العالي، فالخطر يهدّد كل عناصر الحياة في مصر، والنيل للمصريين ليس مجرد نهر إنما هو الحياة.

هذا ما عكسه قول هيدروت “إنما مصر هدية من هدايا النيل” أو سبقه إليه المصريون القدامى الذين تركوا نصا هيلوغريفيا مضمونه التالي “فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امرىء أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر”، ليصبح النيل “إلها” خالقا لمصر، فهو يوفر لها 93٪ من احتياجاتها المائية، إضافة إلى توفير حوالي 12٪ من إجمالي الطاقة الكهربائية المركبة في مصر ما بين سنوات 2009 و2013.

وهذا يفسر تنامي غضب المصريين في فترة حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بسبب تخبط معالجته لأزمة النيل والتسجيل المسرب من الرئاسة الذي قدم تصورات معالجة الأزمة، وهو غضب لم تنجح تلويحات الرجل بأن النيل خطّ أحمر وأن “قطرة الماء دونها دماء” في وئده.

أزمة كانت من بين عوامل إسقاط حكم الرئيس السابق محمد مرسي ومعه الإخوان المسلمون في مصر وصعود نظام عبد الفتاح السيسي الذي لم ينجح بدوره في معالجة الأزمة طوال السنوات السبع المنقضية التي أنفقها النظام في تثبيت أركان حكمه وفرض قبضته الحديدية على كافة أوجه الحياة في بلد بات اليوم على مشارف ما يشبه الشدّة المستنصرية.

المشروع إكس.. من مجرد فكرة إلى مشروع وطني

البدايات تعود إلى ما بين عامَيْ 1956-1964، الفترة التي احتاجها مكتب الولايات المتحدة الأمريكية لاستصلاح الأراضي لإجراء مسح شامل للنيل الأزرق لتحديد أنسب الأماكن لإقامة سد ضخم على النيل الأزرق في زمان رئيس الوزراء الإثيوبي أكليلو هابتي ولد، وتحت حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي آخر الأباطرة الإثيوبيين.

كان من المنتظر حينها أن يُمَوَّل السد الكبير بواسطة الولايات المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية، ولكن هذه الخطط سقطت بانهيار الملكية الإثيوبية إثر الانقلاب الذي قاده ضباط الدرج عام 1974، لتدخل إثيوبيا في حقبة طويلة من الحكم العسكري المدعوم من السوفييت.

وعلى مدار العقود، أفل نجم المشروع إكس نظرا إلى أن أديس أبابا الفقيرة لم تكن تملك أي موارد تُمكِّنها من بناء المشروع الضخم بنفسها، كما أن مصر -دولة المصب الرئيسية والقوة الأبرز في حوض النيل- وحلفائها الغربيين خاصة الولايات المتحدة الأمريكية لم يكونوا ليسمحوا بالسيطرة على حوض النيل بواسطة سد ضخم ممول من الاتحاد السوفياتي.

لكن هذا لم يقضي على طموحات الإثيوبيين في السيطرة على النيل ورفع “المظلومية” التي كانوا يشعرون بها نتيجة الحرمان من استغلالهم مواردهم المائية. سردية نجح “ملس زيناوي”، الذي وصل إلى السلطة في أديس أبابا بعد الإطاحة بالحكومة العسكرية في تسعينيات القرن الماضي، في استغلالها لتوحيد إثيوبيا خلف حلم مشترك.

ذلك جعل زيناوي، مهندس الاقلاع الاقتصادي لإثيوبيا، رؤيته الاقتصادية والتنموية قائمة حول استغلال موارد البلاد المائية بإقامة عدد من السدود الضخمة على أحواض 12 نهرا تشق الأراضي الإثيوبية لتغذية دول الجوار بالمياه.

حلم إثيوبيا في استغلال النيل الأزرق انطلق في 2002 مع سد تيكيزي، الذي شُيِّد على نهر عطبرة، أحد روافد نهر النيل، بتكلفة بلغت 224 مليون دولار، وانتُهي منه بالفعل في عام 2009 بسعة إجمالية للمياه تبلغ 9 مليارات متر مكعب ولكنه احتجز ما لا يقل عن 30% من الطمي الذي كان النيل يحمله إلى الأراضي المصرية مُتسبِّبا في انخفاض خصوبتها.

إثر هذا، نجحت أديس أبابا في توقيع عقود مبدئية لبناء 5 سدود أخرى، أبرزها مشروع “إكس” كما كان يسمى في الأروقة الرسمية، بتكلفة مُقدَّرة مبدئيا بـ 5 مليارات دولار وهو ما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا لسنة 2018.

مما جعل المشروع تحديا صعبا، ناهيك عن الأبعاد السياسية والأمنية الكبيرة المرتبطة ببناء السد، وتأثيره المؤكد على أمن دول المصب، وهو ما يهدد استقرار منطقة حوض النيل المركزية بالنسبة للقوى الغربية، وهو ما يعني أن تمويل المشروع بالاعتماد على طرق التمويل التقليدية واللجوء إلى المؤسسات المالية الدولية لم يكن يكلل بالنجاح نظرا لقدرة القاهرة حينها على حشد نفوذها السياسي والاقتصادي لإعاقة التمويل.

لكن مع حلول سنة 2011 وقيام الثورة في مصر والزخم السياسي الذي عاشته البلاد والذي جعلها منشغلة في شؤونها الداخلية، استغلت إثيوبيا الأمر وأعلنت في الشهر الثاني من السنة ذاتها عن مشروع سد الألفية قبل أن تضع حجر الأساس في أفريل/ أبريل من العام نفسه.

ملف سد النهضة لدى الرئاسة والمخابرات الحربية والعامة اي ان السيسي كان لديه الملف منذ 2013 وانا زرت موقع السد ولم تكن هناك أشغال متقدمة

الصحفي مصطفى عاشور 

ويرى الصحفي مصطفى عاشور مؤلف كتاب “شاهد على السد” أنّ أزمة سدّ النهضة الإثيوبي تعمقت بسبب تراخي الأجهزة المصرية في معالجتها من فترة حسني مبارك الرئيس المصري السابق الذي قال إنه” اعترف بسد النهضة في 2008″.

تراخى المعالجة استمر من قبل مصر الثورة وفق الصحفي مصطفى عاشور الذي قال إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تغاضى عن مذكرة تقدّم بها له محمد نصر الدين علاّم يحذر فيها من السدّ. ويعتبر محدثنا أنّ كل معطيات سدّ النهضة الإثيوبي كانت متوفرة لدى المؤسسة العسكرية المصرية وأجهزة مخابراتها ولكنها لم تقم بأية خطوة.

تأخر في التحرك واختيار نهج لمجابهة أزمة السدّ مثّل فرصة مناسبة لتطلق إثيوبيا جهود جلب التمويل مستغلة عملية الانتقال السياسي في مصر عقب سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، لتتمكنّ أديس أبابا من جمع أكثر من 450 مليون دولار من مصادر التمويل المحلي ما بين 2011 و2014 وتشرع في أعمال الإنشاءات الأوليّة التي توقفت سنة 2015 لغياب التمويل.

ويبدو أن هذا ما قاد مصر إلى سوء تقدير الأوضاع بعد اعتقاد الجهات الرسمية فيها أن استكمال إثيوبيا لمشروعها شبه مستحيل لغياب التمويلات اللازمة، وقلّلت من قيمة الخطر رغم إدراكها له بشكل جزئي قبل أن يتضح لها كـ”بعبع” يهدّدها هي والسودان.

فمن التداعيات المحتملة لسدّ النهضة الانخفاض المؤقت في كمية المياه المتوافرة. ويتوقع أيضا أن يقع فقدان ما بين 11 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنويا، ممّا سينجر عنه خسارة مليوني مزارع مداخيلهم، علاوة عن إمكانية التأثير سلبا على إنتاج الكهرباء بنسب تقدّر بـ 25% نظرا إلى إمكانية أن يؤدي ملء سد النهضة الإثيوبي إلى خفض دائم في منسوب المياه في بحيرة ناصر، ويقلّل من قدرة إنتاج السد العالي في أسوان للطاقة الكهرمائية.

هذه مخاطر حينما استشرفتها السلطات المصرية باتت تلوّح على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي “أن أحدا لن يستطيع أخذ نقطة مياه واحدة من مصر” التي قال إن “ذراعها طويلة وقادرة على مواجهة أي تهديد”. لكن هذه الذراع لم تطل إلا على الداخل. أما إثيوبيا فقد أبرمت معها مصر والسودان اتفاقا ثلاثيا في 23 مارس 2015، أسقط بموجبه اتفاق 1929 المحدد لكيفية اقتسام مياه النيل بين دول المنبع والمصب واتفاق 1959.

الأرض تتحرك تحت أقدام مصر

هذا الاتفاق الذي سوّقته القاهرة على أنه انتصار لها كان الدفعة التي احتاجتها إثيوبيا لتغطية مشروعها سياسيا بما يسمح لها بالقيام بجولة تمويل جديدة، وهو ما يضاف إلى معطى سابق يتمثل في دخول الصين كلاعب قوي في منطقة حوض النيل وتقديم نفسها كأحد مصادر التمويل البديلة لمشروعات التنمية في القارة الإفريقية لتمويل بناء السدود في 22 دولة إفريقية خلال العشر سنوات الأخيرة، من 2011 إلى 2021.

الصين، التي سبق لها في 2002 تمويل سدّ تيكيزي بقيمة 224 مليون دولار واستثمار 500 مليون دولار أميركي في سد “جايب 3″، تجنّبت تقديم قروض مباشرة لبناء سد النهضة وجعلتها قروض بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل خطوط الكهرباء والبنية التحتية المقرّر أن تنقل الكهرباء المولد من السد.

ولم تكن الصين هي الوحيدة التي دعمت إثيوبيا في مشروعها بل إن جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لديها شركات تعمل في سد النهضة، مما يعنى صعوبة اتخاذ أي مواقف منحازة ضدّ مصالح إثيوبيا بشأن قضية سدّ النهضة، حال لم تثر القضية في أيٍّ من المنتديات والمحافل العالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي منح إثيوبيا هامشا للمناورة بإصدار توصية بالذهاب الى جولة تفاوضية جديدة دون شرط مُلزم بوقف أعمال البناء لحين إتمام المفاوضات، وما مثله ذلك من دعم سياسي لإثيوبيا التي باتت قادرة على معادلة النفوذ التاريخي لمصر.

وهو ما انعكس لاحقا في تبنيها خطابا عدوانيا وهجوميا ضد مصر خلال الأشهر الأخيرة، مؤكدة أنها ستمضي قُدما في خطتها لملء وتشغيل السد سواء توصّلت إلى اتفاق مع القاهرة أم لا، وهو كذلك ما قامت به لتعلن في 19 جويلية 2021 عن إنهاء عملية الملء الثانية بعد الوصول إلى منسوب مياه في السدّ يسمح بإنتاج الكهرباء لكنه دون عتبة الـ 9 مليار مكعب التي سعت إليها.

تهديد تلقفته القاهرة منذ فيفري 2021 وباتت تسابق الوقت لتجنّبه، مما دفعها إلى التلويح بأنها قد تلجأ إلى الخيار العسكري لمعالجة الأزمة، وهو خطاب تنامى منذ أفريل 2021، تاريخ انطلاق الجولة الإفريقية لوزير الخارجية المصري سامح شكري الذي يبحث عن تدارك غياب الدبلوماسية المصرية في إفريقيا وسدّ الفجوة بينها وبين إثيوبيا التي حشدت عدة حلفاء يدافعون عن حقها في بناء السدّ أبرزهم دولة جنوب إفريقيا.

محاولة إحياء الجهود الدبلوماسية والقيام بجولة إفريقية تزامن مع التلويح بخيار الحرب الذي برز بالأساس في الخطاب الإعلامي المقرب من الرئاسة المصرية، تحدث عن وجود استعدادات لدى الدولة المصرية إلى اللجوء للخيار العسكري كحل للأزمة، مع نشر تصريحات منسوبة لمصادر غير معلنة تشير الى أن اجتماعات الدائرة المصرية المعنية بالملف “تناقش خطة الحل العسكري”، وتشدّد على أن هذه الخطة “جاهزة في حال أصدرت القيادة السياسية أوامرها للقوات المسلحة”.

خطة نقلت أدق تفاصيلها إلى الجانب السوداني وهي “تتضمن عدة سيناريوهات عسكرية، أقلها ترجيحا خيار توجيه ضربة جوية مباغتة”. كما أن مصر أبلغت قوى إقليمية بخيار لجوئها إلى الحلّ العسكري في حال استمرت إثيوبيا في التصعيد، وأعربت عن انزعاجها من القوى الدولية الكبرى، التي لوحت بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على مصر والسودان في حال إقدامهم على عمل عسكري ضد السدّ.

تلويح دفع مصر إلى تكثيف جهودها الدبلوماسية بهدف إيجاد مخرج من الأزمة التي وضعت فيها نتيجة انخرام الأولويات لدى القاهرة التي انشغلت في الفترة الممتدة من 2013 إلى انفجار ملف السد بقمع الداخل وإسكات معارضي النظام المصري وملاحقتهم. لكن هذه التحركات لا تقنع مصطفى يوسف الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، الذي يعتبر أزمة السد مفتعلة من قبل النظام وفق تصريحه لموقع كتيبة حيث يرى أنّ “السيسي تعمد افتعال الازمة وجعل مصر رهينة القرار الصهيو-الإماراتي”.

الحرب المقدسة.. فزاعة لتبرير قمع الداخل

لعلّ الوصف الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لصديقه عبد الفتاح السيسي الرئيس المصري بأنّه “دكتاتوره المفضل” وفق ما نقلته صحيفة وال ستريت جورنال عن حيثيات لقاء ثنائي جمع الرجلين على هامش قمة الدول السبعة التي عقدت في جولية 2019 بباريس، خير ما يختزل مرحلة حكم الرئيس المصري.

فالرجل ومنذ اعتلائه سدّة الحكم في مصر، عقب انقلاب 3 جوان/ يونيو 2013، كشف بشكل جليّ عن اعتماده سياسة القبضة الحديديّة والعودة بمصر إلى ما قبل ثورة يناير/ جانفي 2011، وهو ما أكدته التقارير الصادرة عن منظمات حقوقية دولية ومحليّة أشارت إلى أن النظام ينتهك حقوق الإنسان ويصادر الحريات والحقوق، ومنها التقرير الذي أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش في سبتمبر 2014 وانتقدت فيه حالة حقوق الإنسان في مصر تحت حكم السيسي.

حيث انتقدت المنظمة استمرار الحملات القمعية على الحريات الأساسية، وسجن المعارضين السياسيين على نطاق واسع، وإصدار أحكام الإعدام الجماعية، وغياب المحاسبة على مقتل أكثر من ألف متظاهر بأيدي قوات الأمن في 2013.

وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني من السنة نفسها، وصفت المنظمة، هيومن رايتس ووتش أن حقوق الإنسان تراجعت تحت حكم السيسي واستشهدت باستمرار قانون التظاهر وحملات الاعتقال الواسعة للناشطين السياسيين ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وارتفاع عدد الأحكام بالإعدام من 109 سنة 2013 إلى 509 سنة 2014، وقد أعدم قرابة 179 شخصا في الفترة الممتدة بين 2014 إلى ماي 2019، من بينهم 33 مدنيا أعدموا وفق أحكام صدرت عن القضاء العسكري منذ 2015.

هذا بالإضافة إلى الأحكام الصادرة في المحاكمة الجماعية التي ضمت 740 شخصا اتهمتهم السلطات المصرية بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وحيازة أسلحة نارية، وارتكاب جرائم قتل. وحكمت المحكمة على 75 من المتهمين بالإعدام، وعلى 47 بالسجن مدى الحياة، وعلى 215 بالسجن لمدة 15 عاماً، وعلى 23 آخرين بالسجن لمدة 10 سنوات، وعلى 374 بالسجن لمدة خمس سنوات. وقد استمرت بعض المحاكمات التي شملت مئات المتهمين، خاصة في القضايا المتعلقة بالتظاهرات المتعاطفة مع الرئيس السابق مرسي والإخوان المسلمين في عامي 2013 و2014.

الإعدام ليس فقط سلاح السيسي الذي جابه به خصومه ومعارضيه، فالنظام المصري فعّل سياسة الاختفاء القسري، إذ وفق منظمات دولية ومحلية مدافعة عن حقوق الإنسان باستمرار وجود أعداد كبيرة من حالات الاختفاء القسري، وثّقت المنظمات غير الحكومية المحلية 336 حالة اختفاء قسري بين 2018 و2019 وحوالي 500 حالة منذ جويلية 2019. ووثّقت منظمة غير حكومية محليّة أخرى 492 حالة اختفاء.

وتراوحت فترات الاختفاء التي وثّقتها المنظمة غير الحكومية المحلية بين بضعة أيام إلى أكثر من 12 شهرا. وأشارت إلى أن أغلب الضحايا وقع إخفاؤهم لفترات تتراوح بين شهرين وستة شهور. وذكرت منظمة غير حكومية محلية أنها تلقت أكثر من 5600 تقرير عن حالات اختفاء قسري منذ عام 2013، ولكنها تمكنت فقط من توثيق 1856 حالة نظرا لشح الموارد.

كما تشير التقارير إلى أن السلطات العسكرية واصلت احتجاز مدنيين سرا في سجن العزولي داخل معسكر الجلاء العسكري في الإسماعيلية. ووفق التقرير السنوي لعام 2019 للفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي التابع لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، كان الفريق يراجع مئات من حالات الاختفاء القسري.

ولا تقتصر السياسية الأمنية والعسكرية المتبعة في مصر على الاختفاء القسري، بل تستعين أيضا بما يوفره القضاء المدني أو العسكري من غطاء لاحتجاز معارضين لفترات تصل إلى سنتين دون توجيه تهم أو تقديمهم للمحاكمة، إذ أن تقريرا صدر عن جمعيات ومنظمات مصرية ذكر أن هناك 1500 قيد الحجز في أربع محافظات دون كفالة لمدة تزيد عن عامين دون أن تصدر ضدهم أحكام إدانة وهم في مراحل مختلفة من الإجراءات القضائية، وذلك سنة 2016. أما في 2018، فقد ذكر رئيس اللجنة البرلمانية المعنية بحقوق الإنسان أن ما بين 25 إلى 30 ألف شخص قد ظلوا في الاحتجاز قبل المحاكمة أو الاحتجاز دون صدور حكم نهائي بحقهم.

قمع الأصوات المعارضة وملاحقة كل من ينتقد النظام امتد ليشمل ملف سدّ النهضة وكيفية إدارة السلطات المصرية له. والسبب هو الخشية من أن يولّد الغضب من إدارة ملف أزمة النيل احتجاجات شعبية تعمّ مصر كما حدث مع ملف الجزر المصرية، تيران وصنافير التي تخلت عنهما مصر لصالح المملكة العربية السعودية في أفريل 2016 بموجب اتفاقية تعيين الحدود البحرية السعودية المصرية.

النظام المصري لن يحارب كل هذا فزاعة ليحشر الناس خلفه ويبرر القمع ويستدعى شعور الانتماء الزائف

مصطفى يوسف

معضلة تديرها السلطات المصرية عبر توليفة تجمع بين محاولة إرضاء الشارع المصري ودعوته إلى عدم القلق، فمصر لديها عدة خيارات ومنها الحرب التي لوّح الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة بالذهاب إليها إن استمر التعنت الإثيوبي، وبين ملاحقة من ينتقد كيفية إدارة الملف لمنع تشكل كرة الثلج، وقد سبق أن أصدرت 22 منظمة مصرية في 19 فيفري /شباط بيان مشترك قالت فيه إن العائلات في مصر التي لها أقارب نشطاء وحقوقيون في الخارج تتعرض لاستهداف متصاعد من قبل السلطات، التي تبرهن عن نمط واضح من التخويف والمضايقات.

السلطات في مصر تشتغل داخليا وفق مسارين متّصلين، تعزيز القبضة الأمنية ومنع بروز أية دعوات للاحتجاج مع التلويح دائما بخيار الحرب الذي تراهن السلطات على أن يحشد خلفها الشارع ويقلص من الضغوط الداخلية. مما جعله لا يتردد في معاقبة أي صوت ينتقد سياسة النظام في إدارة ملف سدّ النهضة. وهو ما قد يعزز قول مصطفي يوسف بأن “النظام لن يذهب إلى الحرب وأن الأصوات التي ترتفع هي فزاعة”. ومثله يرى الصحفي مصطفى عاشور الذي يعتبر أن السيسي لن يتجه إلى الحرب نظرا لكلفتها الباهضة ونتائجها المحتملة لاسيما في علاقة بأعلى هرم السلطة في مصر.

آخر من طالهم بطش نظام السيسي، كان عبد الناصر سلامة رئيس تحرير سابق بجريدة الأهرام القومية خلال سنتي 2012 و2013، على خلفية مطالبة الأخير الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتنحي عن الحكم وتقديم نفسه للمحاكمة، بسبب ما قال عنه في مقال نشره عبر صفحته الشخصية على فيسبوك،”الهزيمة الثقيلة أمام إثيوبيا، وإضاعة حق مصر التاريخي في مياه النيل”.

مقال كان سببا في تحرك “آلة” النظام لتقديم بلاغات ضد صاحبه تتهمه فيه بنشر بلاغات كاذبة اضافة الى حملة تشهير وتشويه على شبكات التواصل الاجتماعي تتهمه بالخيانة، قبل ان تصدر النيابة العامة في مصر بتاريخ 22 جويلية الفارط قراراً بحبس الكاتب الصحفي عبد الناصر سلامة لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيقات، ووجهت له تهمة ارتكاب جريمة من جرائم تمويل الإرهاب، والانضمام لجماعة إرهابية أسست على خلاف أحكام القانون.

حرب السيسي التي يلوح بها كحل لمجابهة أزمة سد النيل، تواجه عقبات عدة أبرزها أن القوى الدولية تعارضها بل وتلوّح أنها ستسلّط عقوبات على مصر إن أشعلت فتيلها او قامت بأي عمل عسكري يستهدف السدّ. عقوبات من شأنها أن تكشف وهم “الرخاء الاقتصادي” و”المعجزة” التي يتحدث عنها النظام المصري.

معجزة يسوقها النظام على أساس أن “مصر السيسي” حقّقت انجازات تنموية هامة وتمكنت من تسجيل أرقام قياسية في النمو، والحال أن مصر مع السيسي لم تقترب من تحقيق نسب نمو سبق تسجيلها في فترة حكم حسني مبارك أو في فترة أنور السادات حينما حقّق نسبة نمو بـ13 نقطة في نهاية السبعينات فمصر السيسي حقّقت خلال السنة الفارطة 2020 نسبة نمو قدرتها مجموعة البنك الدولي بـ 3,57 مقابل 2,3 لسنة 2021 في حين كانت أفضل نسبة نمو تسجلها في فترة السيسي هي التي حققتها في 2019 بنسبة نمو قدرت بـ5،9.

نمو، يسوقه نظام عبد الفتاح السيسي على أنه منجز فيما يدفع عبر أذرعه الإعلامية إلى عدم التعليق ولو بالإشارة إلى التطوّر اللافت والمفزع للمديونية لمصر بين بدايات حكمه واليوم، حيث يسجل ارتفاعا كبيرا، فوفق تقرير للبنك المركزي المصري في 2014 بلغ إجمالي الدين العام المحلي بنهاية جوان/ يونيو لذات السنة نحو 1.817 تريليون جنيه.

مقابل ذلك سجّلت مصر مع منتصف سنة 2020 مؤشرات قدمها التقرير السنوي للبنك المركزي المصري تكشف أن الدين العام المحلي بلغ 270 مليار دولار ما قدره 69.5% من الناتج المحلي، فيما بلغ الدين العام الخارجي 112.6 مليار دولار وهو ما يمثل 33% من الناتج المحلي، ليكون بذلك الدين العام الكلي لمصر في حدود 86% من الناتج المحلي، كما أنّ إجمالي فوائد خدمة الدين العام قدرت بـ35.3 مليار دولار في 2020.

في المحصلة، تبدو أزمة سدّ النهضة قضيّة مصيرية في علاقة بمصير ومستقبل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظامه في مصر. أزمة بقدر ما نجح النظام الحاكم في تحويلها ظاهريا إلى ذريعة وفزاعة لتوحيد الداخل المصري ولو جزئيا على أرضية هشّة فإنها تكشف بوجه سافر حدود حصاد فترة حكم السيسي خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والدبلوماسي بالإضافة إلى الحصيلة السوداوية في علاقة بملف حقوق الإنسان. وضع يضع نظام السيسي على المحك تجاه عديد السيناريوهات المستقبلية الممكنة التي قد تدفع نحو تغيير الكثير من المعادلات داخليا وفي المنطقة كللّ.

كلمة الكتيبة:

يندرج هذا المقال التفسيري ضمن سلسلة مقالات يعكف موقع الكتيبة على انتاجها في علاقة بالشأن المصري أين تحاصر حرية الإعلام ويطغى على الصحافة المحلية الخطاب الواحد والأوحد المنتصر لسردية النظام الحاكم وأجهزته الدعائية.

ويهدف هذا المقال الذي سيكون مشفوعا بسلسلة من التحقيقات والحوارات والانتاجات السمعية-البصرية إلى معالجة ملف سدّ النهضة وغيره من القضايا والملفات التي تهمّ جمهور موقع الكتيبة في مصر وشمال إفريقيا عموما من زاوية مختلفة عن المقاربة الصحفية التي يقدمها الإعلام الرسمي في مصر بشكل موجه ودعائي.

كلمة الكتيبة:

يندرج هذا المقال التفسيري ضمن سلسلة مقالات يعكف موقع الكتيبة على انتاجها في علاقة بالشأن المصري أين تحاصر حرية الإعلام ويطغى على الصحافة المحلية الخطاب الواحد والأوحد المنتصر لسردية النظام الحاكم وأجهزته الدعائية.

ويهدف هذا المقال الذي سيكون مشفوعا بسلسلة من التحقيقات والحوارات والانتاجات السمعية-البصرية إلى معالجة ملف سدّ النهضة وغيره من القضايا والملفات التي تهمّ جمهور موقع الكتيبة في مصر وشمال إفريقيا عموما من زاوية مختلفة عن المقاربة الصحفية التي يقدمها الإعلام الرسمي في مصر بشكل موجه ودعائي.

الكاتب : حسّان العيادي

صحفي مهتم بالشأن السياسي والاقتصادي في تونس وشمال إفريقيا.

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
مونتاج: حمزة الفزاني
غرافيك: منال بن رجب
غرافيك: معاذ عيادي
تطوير تقني: أيوب الحيدوسي
غرافيك: منال بن رجب
رسوم: معاذ عيادي
تطوير تقني: أيوب الحيدوسي
اشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
مونتاج: حمزة الفزاني

الكاتب : حسان العيّادي

صحفي مهتم بالشأن السياسي والاقتصادي في تونس وشمال إفريقيا

Hassenayedi