الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
100 عام هو عنوان فيلم صادر في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 لن يتم عرضه إلاّ بنهاية قرن كامل أي في التاريخ نفسه من سنة 2115 بعد أن تمّ حفظه في تكنولوجيا فائقة الأمان في زجاج محمي من الرصاص. الفيلم أعتبر قطعة نادرة من الفن وأثارت فكرته ضجّة إعلامية كبيرة.
وحين سئل صاحب السيناريو والبطولة الممثل العالمي جون مالكوفيتش عن مغزى منتوج فنّي لن يراه الجمهور الحالي أجاب أنّ أصعب الأشياء على الإطلاق هي كيفية ربط ديناميكية 100 عام من الزمن.
تجول هذه الصورة الاستعارية مع ما نألفه غالبا من ” تاريخ معلّب” أو فتح ثغرات مؤقتة في الذاكرة ولوجود زمن “ثقيل تاريخيا وسياسيا” أربك تداوله فيروس خفيف ويتعلّق بإتمام الحركة الشيوعية وتفريعاتها اليسارية في البلاد التونسية لـ 100 عام من الوجود وما تفتحه دفاتر التاريخ لمعالجة هذا الإرث المشحون وما يبدو من “حيرة شيوعي” عند طرح الأسئلة المتجذرة في الماضي والحاضر والمستقبل وهي:
كيف سارت الحركة الشيوعية التونسية وملحقاتها المختلفة طيلة 100 عام تأسيسا وتنظيما وتجربة سياسية ونضالية بعيدا عن “المخالب الأيديولوجية المتوثبة” عند التقييم والتقويم؟
لماذا حوصرت السردية الشيوعية واليسارية في تونس بأسيجة المسألة الوطنية والمجتمعية والدين رغم تعدّد قراءاتها ونصوصها للوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟
هل يستقيم القول إنّ اليسار التونسي بشكله الحالي أصبح التراجيديا التي تسكن الجسم السياسي أم أنّ “الراية الحمراء” مازالت تحمل العنوان والمضمون؟
ما هي أوجه التشكّل الجديد للفكر الشيوعي واليساري أو اليسار المفتوح البعيد عن التبعية السياسية والأيديولوجية المذيلة بالشيوعيّة والماركسية والاشتراكية؟
إنّ الإجابة عن جملة هذه الأسئلة /الإشكالات/القراءات تستدعي أوّلا تفكيك الحركة الشيوعية في الزمن والتنظيم.
الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
100 عام هو عنوان فيلم صادر في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 لن يتم عرضه إلاّ بنهاية قرن كامل أي في التاريخ نفسه من سنة 2115 بعد أن تمّ حفظه في تكنولوجيا فائقة الأمان في زجاج محمي من الرصاص. الفيلم أعتبر قطعة نادرة من الفن وأثارت فكرته ضجّة إعلامية كبيرة.
وحين سئل صاحب السيناريو والبطولة الممثل العالمي جون مالكوفيتش عن مغزى منتوج فنّي لن يراه الجمهور الحالي أجاب أنّ أصعب الأشياء على الإطلاق هي كيفية ربط ديناميكية 100 عام من الزمن.
تجول هذه الصورة الاستعارية مع ما نألفه غالبا من ” تاريخ معلّب” أو فتح ثغرات مؤقتة في الذاكرة ولوجود زمن “ثقيل تاريخيا وسياسيا” أربك تداوله فيروس خفيف ويتعلّق بإتمام الحركة الشيوعية وتفريعاتها اليسارية في البلاد التونسية لـ 100 عام من الوجود وما تفتحه دفاتر التاريخ لمعالجة هذا الإرث المشحون وما يبدو من “حيرة شيوعي” عند طرح الأسئلة المتجذرة في الماضي والحاضر والمستقبل وهي:
كيف سارت الحركة الشيوعية التونسية وملحقاتها المختلفة طيلة 100 عام تأسيسا وتنظيما وتجربة سياسية ونضالية بعيدا عن “المخالب الأيديولوجية المتوثبة” عند التقييم والتقويم؟
لماذا حوصرت السردية الشيوعية واليسارية في تونس بأسيجة المسألة الوطنية والمجتمعية والدين رغم تعدّد قراءاتها ونصوصها للوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟
هل يستقيم القول إنّ اليسار التونسي بشكله الحالي أصبح التراجيديا التي تسكن الجسم السياسي أم أنّ “الراية الحمراء” مازالت تحمل العنوان والمضمون؟
ما هي أوجه التشكّل الجديد للفكر الشيوعي واليساري أو اليسار المفتوح البعيد عن التبعية السياسية والأيديولوجية المذيلة بالشيوعيّة والماركسية والاشتراكية؟
إنّ الإجابة عن جملة هذه الأسئلة /الإشكالات/القراءات تستدعي أوّلا تفكيك الحركة الشيوعية في الزمن والتنظيم.
الحركة الشيوعية في تونس.. إشكالية التحقيب والتبويب
قبل قرن من الزمن، ظهرت أوّل نواة شيوعية في تاريخ تونس. كانت ولادة الحركة الشيوعية عسيرة في بلد يرزح وقتها تحت الاستعمار الفرنسي حيث لم يكن من اليسير على الشعب التونسي تقبّل أطروحات تبدو غريبة على فئات في معظمها محافظة. لكن الفكرة الشيوعية التي ستتغلغل في أوساط المجتمع التونسي تدريجيا وستتم ترجمتها في مكاسب اجتماعية عديدة مثلت منطلقا لبروز تيارات شتّى من اليسار التونسي الذي سيكون له شأن في مختلف المجالات والقطاعات.
تقول المقاربة المفهومية إن الشيوعية هي الوجه السياسي والعملي لحصيلة الاجتهاد النظري الفلسفي لكارل ماركس فبعد ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1917 وإعلان الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي تحوّل المسار الكامل للشيوعية من النشاط النظري إلى التأصيل الواقعي ما جعل “ظلّها الطويل” أو ما يعرف بالأمميّة الشيوعية العالمية تمتد في بلدان العالم كبوصلة نضال الأحزاب الشيوعية
وإذا أخذنا اليسار كتعبير واسع لا يضع قيودا أيديولوجية متشعبة مع الشيوعية أو يأخذ بالحدود الفكرية والتنظيمية الفاصلة لهذا اليسار (ماركسي، قومي، اشتراكي) فإننا سنكون داخل أرضية مرنة تجعل من الشيوعية كمذهب فكري جزءا من هذه التعبيرة الواسعة وأساسها التاريخي اليسار الماركسي بتنوّعاته حيث لم تكن تونس بعيدة عن النتاج التاريخي لثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 وما اعتبره البيان الأوّل للأممية الشيوعية “بداية عصر جديد، عصر تنهار فيه الرأسمالية وتعفنها الداخلي، عصر الثورة الشيوعية البروليتارية “.
ولمّا نتّجه إلى تحقيب زمني مختصر للحركة الشيوعية واليسارية في تونس خلال قرن فإنه يمكن ترتيبه وفق التدقيقات المصطلحية الآتية:
1- التأسيس
انطلق منذ عشرينات القرن الماضي بانبعاث أول نواة شيوعية وصولا إلى حظر نشاط الحزب الشيوعي التونسي بداية العام 1963.
2- التبلور
تمّ بانبعاث خط يساري جديد قطع مع الأحاديّة التنظيميّة وذلك بظهور تنظيم تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس المعروف بحركة “آفاق” في صيف 1963.
3- التشكّل
توضّح بعد نضج تجربة آفاق وفتحها لمراجعات خصوصا بعد نكسة 1967 ومحاكمات أوت 1968 والتي انتهت بولادة تنظيم “العامل التونسي”.
4- التفرّع والتعدّد
جرى بين سنوات 1970 وأواسط الثمانينات بنشوء حركات يسارية أخرى تبنّت الأيديولوجيا الماركسية أهمها “اللجان الماركسية اللينينية” ” CMLT ” و”التجمع الماركسي اللينيني” GMLT والتي ستقود إلى بروز التيار الوطني الديمقراطي وذهاب تجربة العامل التونسي نحو خطين أساسيين: الخط السائد وانتهى بتأسيس “حزب العمال الشيوعي التونسي” و خط المراجعين وأنتج الإعلان عن “التجمع الاشتراكي التقدمي” ونهج ثالث منفصل قطع مع الصرامة الأيديولوجية.
5- التصحّر
رمى بظلاله بين بداية التسعينات إلى نهاية 2010 بعد محاكمات ومتابعات وتضييقات على الأحزاب القانونية الجدية والتنظيمات اليسارية التي كانت تنشط في الغالب في السريّة أو تحت أغطية نقابية وطلابية وحقوقية ومدنية ونسوية.
6- التفتّت والتجمّع
حدث بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأوّل 2010 / 14 جانفي/يناير 2011 وذلك إثر ما وصف بـ”الانفجار الحزبي” بعد الإعلان عن جملة أحزاب تختلف فقط في الاسم وخوض تجارب ائتلافية وتحالفيّة كان أهمها القطب الحداثي الديمقراطي الذي جمع أحزاب التجديد والعمل والقطب ومستقلين، والجبهة الشعبية التي جمعت اليسار الماركسي والعروبي والبعثي والبيئي ومستقلّين.
إن هذا التحقيب الزمني الذي يغطي أبرز ما حدث طيلة 100 عام من المراكمة التنظيمية والسياسية والأيديولوجية والفكرية يمكّننا من تبويب الحركة الشيوعية وتفريعاتها اليسارية إلى العناوين التالية:
- اليسار التاريخي أو الكلاسيكي من الحقبة الاستعمارية إلى بواكير الاستقلال
- اليسار الجديد من الستينات إلى نهاية السبعينات
- اليسار الطلابي والثقافي والجمعياتي والمدني من السبعينات إلى الآن
- اليسار المفتوح أو ما بعد الأيديولوجيا من 2012 إلى الآن
ويقود كلّ ذلك إلى تفصيل الحركة الشيوعية “كعائلة بيولوجية سياسية كبرى” منذ العشرينات مقابل تفريعات ترتّبت عنها على مسار 100 عام.
سردية التأسيس.. في البدء كانت نواة
انغرست الحركة الشيوعية مبكرا في الفكر السياسي التونسي كقاعدة أيديولوجية أولى لليسار، فمع تواتر المجهود الدعائي والمحاضرات للجامعة الشيوعية بتونس بعدّة مدن داخلية حول الوضع العالمي والأمميّة الشيوعية والثورة الروسية، انعقد في شهر مارس/آذار من عام 1921 المؤتمر التأسيسي لهذه الجامعة بمدينة فيري فيل (منزل بورقيبة حاليا) وبذلك تركّزت النواة الأولى للحزب الشيوعي التونسي.
ومن الثابت أن التنظيم الشيوعي الوليد ساند الحزب الحر الدستوري ومؤسّسه عبد العزيز الثعالبي في مطالبه التحرريّة من الاستعمار الذي لم يعتبره منذ البداية “حركة تمدينية” وسار وطنيا عكس الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي نشأت كتعبيرة طبقية في إطار الصراع ضد الرأسمالية والبرجوازية.
تابع الحزب الشيوعي بالقطر التونسي بتسميته الجديدة سنة 1936 هذه المساندة مع الفصيل الحزبي المنشق والجديد بقيادة الحبيب بورقيبة تحت تسمية الحزب الحر الدستوري الجديد رغم الصراع “المغلّف بالوحدة الوطنية “بين الشيوعيين والدستوريين في عدة فترات من الاستعمار كما ساند المصلح الطاهر الحداد في “محنته التحرّرية” بعد الكتاب الثوري “إمرأتنا في الشريعة والمجتمع”.
وحول هذا “الإسناد النقدي”، يؤكد المؤرخ المختص في تاريخ الحركة الشيوعية في تونس الحبيب القزدغلي بعبارات الفخر أن الحزب “تبنّى منذ رعيله الأول كلّ القضايا الوطنية لذلك كانت هناك كلمات رائعة منذ العام 1922 يرسمها شيوعيون بالقول إلى أصدقائهم في الحزب الدستوري: نحن نساندكم”.
وتجسّد الالتقاء المصلحي بوضوح بعد مسار “التونسة ” الذي اتخذه الحزب منذ صعود علي جراد إلى الأمانة العامة سنة 1939 وتخلّصه من “العباءة الشيوعية الفرنسية” ثمّ تشكيل اللجنة التونسية للحرّية والسّلم بمبادرة شيوعية ضمّت عضو الديوان السياسي علي البلهوان وسليمان بن سليمان الدستوري صديق الشيوعيين، وانخراطه منذ 1951 عبر لسان حاله الحزبي جريدة “الطليعة ” في الدعوة إلى تدعيم الكفاح المسلّح عبر جبهة وطنية واسعة لتحقيق الاستقلال.
استوعبت الحركة الشيوعية أيضا في بداياتها الجانب النقابي الاجتماعي بمشاركة مناضلين نقابيين شيوعيين في تأسيس جامعة عموم العملة التونسية بقيادة محمد علي الحامي ولم تتأخر في الوقوف إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل بعد انصهار الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي ذي الأغلبية الشيوعية مع المنظمة الشغيلة ما دفع المؤرخ المختص في تاريخ اليسار التونسي عبد الجليل بوقرّة إلى التشديد على أهمية نوع من الاستثناء والخصوصية المتميزة في الحركة الشيوعية التونسية بوصفها “من الحركات القليلة أو الوحيدة التي يتقاطع فيها السياسي والفكري مع الاجتماعي والنقابي”.
لم يمنع كل ذلك القيادي التاريخي الراحل في الحزب الشيوعي التونسي محمد حرمل في شهادة له بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات نشرت بالصحافة المحليّة في جوان 2005 من القول:
“إن الانتماء إلى الشيوعية في تلك الأوقات كان يشبه السباحة ضد التيّار باعتبارنا كنّا أقلية ثم لارتكابنا عدّة أخطاء: طرد علي جراد بعد تغليبه البعد الوطني عن العالمي، الموقف المعادي للمنصف باي، الموقف من المسألة الوطنية، القضية الفلسطينية.”
أخطاء حتّمت على الحزب القيام بنقد ذاتي معمّق حول “انحرافات المرحلة التحرّرية” وجعلته وفق المؤرخ الحبيب القزدغلي “الحزب الوحيد الذي عقد مؤتمرا وانتقد فيه نفسه عبر مجموعة من المثقفين من الذين قادوا الحركة الثقافية والفكرية في تونس كتوفيق بكار وعبد الحميد بن مصطفى وصالح القرمادي وحبيب عطيّة حد فصل بعضهم من الحزب”.
بعد الانتهاء من “التكفير عن ذنب الأمميّة البروليتارية” التي وضعها قبل القضيّة، لم يمهل الزمن والنظام كثيرا الحزب الشيوعي بعد انتصار الشقّ المؤيد لاتخاذ موقع المعارضة والانتصار للعمّال والمنظمة الشغيلة على الطرح المنادي بالتفاعل الإيجابي مع السلطة الوطنية الجديدة بقيادة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة فعصفت المحاولة الانقلابية بقيادة الأزهر الشرايطي على النظام سنة 1962 بالنشاط العلني للحزب مفتتح 1963 وتمّ تحجير نشاطه واعتقال قياداته حدّ وفاة المناضل الشيوعي والنقابي حسن السعداوي بمخافر الشرطة في باب سويقة إذ اعتبر النظام أن الشيوعيين ساهموا في “المؤامرة” بكتاباتهم وبياناتهم و”خرطوا علينا الناس” وفق العبارة البورقيبية الشهيرة المستقاة من اللهجة التونسية.
إن اصطدام اليسار الشيوعي التونسي المبكر بموجة الحزب الواحد السائدة عربيّا وإفريقيّا رغم محاولاته إقناع السلطة الحاكمة بأن “الديمقراطية كل لا يتجزأ ” فتح الطريق لظهور ما عرف باليسار الجديد في تونس في بداية الستينات بعد إعلان قيادات طلابية مهجرية بفرنسا إنشاء “تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” المعروف اختصارا بـ”برسبكتيف” أو حركة آفاق استنادا إلى النشرية التي أصدرها التنظيم بعد التأسيس.
اليسار الجديد.. خطوط متقاطعة وأخرى متعارضة
لم يحمل “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” (برسبكتيف Perspectives) الذي تأسّس صيف 1963 بباريس ملامح حزب سياسي أو هدف الوصول إلى السلطة إذ جمع تركيبة طلابية منشقّة عن الاتحاد العام لطلبة تونس مكوّنة من الماركسيين والتروتسكيين والماويين والبعثيين والناصريين الثوريين لكنّه كان إفرازا لتحوّلات الظرف. فالعرب خرجوا من استعمار مباشر نحو آخر غير مباشر وأوروبا عموما وفرنسا خصوصا شهدت منذ بداية الستينات انتشار الحركات الماوية والتروتسكية وفي تونس قضى بورقيبة على ترسّبات المعارضة اليوسفية وحاصر الحزب الشيوعي وبدأ دور الحزب الاشتراكي الدستوري في الاهتراء لدى الشباب الطلابي وآن موعد التبشير بـ”الثورة البروليتارية العاجلة”.
عندما أعلن التنظيم عن نفسه باتت الخارطة اليسارية في تونس أمام يسارين حسب الأستاذ بجامعة تونس والباحث في علم الاجتماع السياسي المولدي القسومي: ” يسار ينحدر من الحزب الشيوعي وآخر من برسبكتيف ومشتقاتها وسيتواصل ذلك إلى أن التقيا في أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 ثمّ الثورة في 2011 وجبهة الإنقاذ سنة 2013 ليتفرّقا مجدّدا”.
تموقعت الحركة على يسار الحزب الشيوعي وكان التباين في “توجيه بوصلة الحج الثوري” إلى الصين بدل الاتحاد السوفياتي بعد اتخاذ التنظيم الجديد خطّا ثوريّا معاديا للأنظمة الشيوعية التاريخية فالبرسبكتيفيون كانوا يعتبرون الشيوعيين تحريفيين للفكر الماركسي في حين يردّ الشيوعيون بأنّ البرسبكتيفيين لهم خلفية يسراوية تتحدث عن بروليتاريا لم توجد بعد في تونس.
لكن هذا اليسار الجديد ممثّلا في التنظيم الوليد هو” الذي سيتولّى مقود قيادة المشهد اليساري بالشعارات التي رفعها ووجدناها فيما بعد في اتحاد الشغل وعمادة المحامين ورابطة حقوق الإنسان”، حسب المؤرخ عبد الجليل بوقرّة.
اجتمعت نقاشات “الآباء المؤسسين والأبناء الملتحقين” لبرسبكتيف منذ البداية على كلمة سواء حول الحرّيات العامة والحكم الفردي وتصنيم الذوات فحمل أول عدد من نشرية آفاق في ديسمبر 1963 شعار “لأجل تونس أفضل في الحرّيات والتعدّدية” وضمّ التنظيم ومشتقاته الأيديولوجية وجوها لعبت دورا مهمّا في الحياة السياسية والحقوقية والثقافية بينها محمد الشرفي وعزيز كريشان وأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي ومحمد الكيلاني وجلبار نقاش ورشيد بللونة ونور الدين بن خضر والشريف الفرجاني وحفناوي عمايرية وفتحي بلحاج يحي.
وبعد “التفرنس التأسيسي” تمّ التثبيت التنظيمي للقيادة في تونس بعد اجتماع في مؤتمر شراحيل قرب مدينة المكنين في أوت 1964 لتدخل الحركة اختبار الحقيقة النضالية.
توسّع التنظيم سريعا في محيطة الجامعي وبدأ يتلمس التربة الشعبية الخصبة بتوزيع المناشير السرية في الأحياء الشعبية حدّ إنشائه فروعا وشبكات سرّية بعدد من الجهات لكن محاكمات 1968 بحق برسبكتيف والشيوعيين والبعثيين والضربات التي تلقّاها وسلسلة المحاكمات والرحلة السجنية القاسية شلّت نسيجه التنظيمي ما عجّل بما يصفه البعض بحركة التصحيح والبعض الآخر بالانقلاب حين قرّرت قيادات داخل الفروع المهجرية الفرنسية تحمّل مسؤولية الداخل وشد أزر “الرفاق في محنتهم” ومحاسبة القياديين بالخارج على سلبّيتهم.
إن انعكاسات حرب 1967 وما ورد في كرّاس الحركة بعنوان “القضية الفلسطينية” وتبنّي خطّ جديد يعتبر المنظمة جزء من حركة التحرّر العربي ورافدا لرأس حربتها الثورة الفلسطينية سيولد “هوية قومية جديدة” بعد أن طرحت المنظمة قبل نكسة جوان باقتضاب شديد في وثيقة تعرف بـ”النشرية الصفراء” فكرة إنشاء دولة بروليتارية على أرض فلسطين بقيادة الطبقة الشغيلة الفلسطينية واليهودية على حد السواء أو ما سمي بالرؤية الأممية لهذه القضية المستندة إلى قيام دولة وطنية مزدوجة القومية وتأكد أن موسم الهجرة بالمنظمة نحو الشرق حسم رغم تباينها مع مسائل القومية العربية التي تصفها أدبياتها “بالترهات الرجعية التي تقوم على أخوة الدم والعرق والدين”.
أما الأهم محلّيا فهو الإنتهاء من مقولات الشخصية التونسية التي يتماهى فيها التنظيم مع الرؤية البورقيبية لمفهوم الأمّة التونسية ومعارضة الطرح القائل إن الثورة المقبلة هي ثورة اشتراكية عبر موقف يرى ضرورة اتخاذ المدخل الماوي عنوانا نحو الثورة التي لم تكتمل في المجتمع التونسي كمرحلة لبناء الاشتراكية مثل النمط الصيني وهذا جوهر الخلاف بين المعسكرين القديم والجديد في برسبكتيف.
خلاف أرجعه الكاتب والمناضل صلب برسبكتيف العامل التونسي فتحي بلحاج يحي وقتها إلى”الجمود العقلي” للتنظيم الأول وما اعتبره في كتابه “الحبس كذاب والحي يروّح” بـ”رسم حدود الثورة داخل الوطن التونسي وفي ارتباطها ببعدها الاشتراكي العالمي “، وهو ما قاد إلى بروز تنظيم برسبكتيف العامل التونسي على أنقاضها ثم العامل التونسي على أنقاضهما وبالتالي تجديد اليسار الجديد في السبعينات بعد المراجعات السجنية العميقة والوقوف على الأخطاء.
اليسار الماركسي اللينيني.. تحوّلات مثقلة بالأيديولوجيا
مثّلت السبعينات ربيع الحركة الشيوعية في تونس بتفرّع شجرتها السياسية والتنظيمية بعد خروج القيادات والرموز البرسبكتيفية من السجن بمقتضى ما اعتبره النظام “عفوا أبويا رئاسيا” سنة 1970، فبرسبكتيف العامل التونسي وبعد العمليات القمعية التي طالتها وسط السبعينات لم تطرح في البداية حسب أحد مناضليها أبو السعود الحميدي “مسألة الإيديولوجيا بتاتا على ماركسييها باستثناء التباين الطبيعي مع الفكر الماركسي ذي النزعة السوفييتية لكنها عادت إلى طرحها من مبدإ التمايز عبر الراديكالية باعتبارها طريقا لتواصل النشاط التنظيمي والاستقطاب والالتحام بالطبقة العاملة والفئات الشعبية.”
هذا المنعرج الراديكالي الثوري للعامل التونسي حمل خطابا وصف بثورة الأبناء ضد الآباء بعد أن أعلن التنظيم نفسه “لسان حال الثورة العربية في تونس” وركّز نشاطه التنظيمي والسياسي العميق صلب الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس ما مكّنه من تأسيس اتجاه نقابي ديمقراطي صلب القاعدتين العمالية والطلابية” وجعل، حسب الحقوقي والسياسي بشير العبيدي “العمل النقابي يطغى على العمل السياسي صلب العامل التونسي في فترات عدّة لارتباط العمل النقابي بالطبقة العاملة التي ستقود الثورة وفق ما تقوله تنظيرات التنظيم” ،وفق تعبيره.
تجسّد ذلك صلب الجامعة التونسية عندما قادت تيارات يسارية انتفاضة 5 فيفري 1972 ضد الانقلاب الدستوري على نتائج مؤتمر قربة الثامن عشر سنة 1971 الذي تعزّزت فيه المعارضة القاعدية داخل الاتحاد العام لطلبة تونس واقتربت من المصادقة بأغلبيّتها على اللوائح والتنقيحات المفصلة لقوانين المنظمة وتكريس استقلاليتها عن الحزب الحاكم لولا الاستناد إلى أجهزة القمع وتنصيب هيئة إدارية موالية، فكانت حركة فيفري نقلة نوعيّة في تاريخ العمل النقابي والسياسي والنضالي وفي تملّك اليسار لأسوار الجامعة إثر سقوط الشعار الدستوري “يحيا المجاهد الأكبر” أمام الشعار الطلابي اليساري “لا مجاهد أكبر إلا الشعب” وتشكيل القوى التقدمية للهياكل النقابية المؤقتة في جانفي 1973 ورفع شعارين مركزيين: “القطيعة السياسية والتنظيمية مع السلطة” و”جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية”.
في الجانب الأيديولوجي النابع أيضا من الماركسية اللينينية، تشكّلت فصائل وأحزاب تتبنّى الطرح الوطني الديمقراطي الساعي إلى ثورة وطنية ديمقراطية تكون إحدى لبنات التحوّل إلى الاشتراكية إذ عرفت سنة 1972 ظهور حزب الشعب الثوري وهو – حزب طرح الإطاحة بنظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عبر الكفاح المسلّح – وإعلان تنظيمين متوازيين هما اللجان الماركسية اللينينية التونسية Comité marxiste -léniniste tunisien CMLT التي تأسست في فرنسا وانبثق عنها تنظيم الشعلة والمجمع الماركسي اللينيني التونسي GMLT Groupement marxiste –léniniste tunisien الذي انسلخ مؤسسوه عن آفاق وتولّد عنه فيما بعد الوطد التنظيم الأم للوطنيين الديمقراطيين وهو مسار تختلف حول بعض تفاصيله إلى الآن المدوّنة المكتوبة والشفوية وربما المحفوظة للعائلة الوطنية الديمقراطية حسب دفع كل تيّار فيها.
وبشأن الجدل حول وثائق الشعلة، يؤكد الصحفي والناشط اليساري الطلابي والنقابي سابقا منجي الخضراوي بمنطق الحسم أنّ “أوّل وثيقة صدرت عن تنظيم الشعلة حملت عنوان ” سيدفع المعتدون الصهاينة غاليا ثمن جرائمهم في 12 أكتوبر 1973 وذلك في الشعلة: نشرية الوعي البروليتاري”، مضيفا “أن عدة وثائق تنتظر الإفراج والكشف بالنظر إلى ثراء المكتبة السياسية للعائلة الوطنية الديمقراطية”.
أما الأستاذ الجامعي والناشط السياسي اليساري في فصائل العائلة الوطنية الديمقراطية عبد الله بن سعد فيقول بنوع من المرارة إن “التواريخ والأحداث المتعلّقة بالحركة الشيوعية برمّتها ترتبط دوما بمن صاغها لكن هناك نصوص داخلية غير منشورة حول الوطد ستقطع بعض التضارب بعد نشرها في مؤلفات مكتوبة قريبا”.
بعد تأسيس “الوطد” لأوّل تنظيم له في الجامعة التونسية في أكتوبر 1975 تحت اسم “حركة الطلبة الوطنيون الديمقراطيون”، ثمّ تحوّله في أفريل 1981 إلى تنظيم “الوطنيون الديمقراطيون ” “الوطد” (بين نجمتين) وإخراج نشاطه إلى الساحة الشعبية وما حصل من انفصالات بين “الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة” (وطج) والوطنيون الديمقراطيون فرع الحقوق وإثر حمل العامل التونسي لبذور الانقسام بين روافده الماوية والجيفارية والبعثية والقومية العربية والناصرية وتغطية ساحات النضال الجامعي لثقل الأيديولوجيا ستتبلور داخل هذه الصراعات الإيديولوجية أطروحتان كبيرتان حول واقع المجتمع التونسي وطبيعته ستؤديان فيما بعد إلى جداول حزبية ماركسية لينينية أخرى:
1- طرح يعتبر أن هذا المجتمع رأسمالي تابع وأن طبيعة الثورة المقبلة اشتراكية يتم فيها افتكاك السلطة من قبل البروليتاريا وهو تقييم أدى إلى تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي وبقية تفرعاته.
2- طرح يعتبر أن المجتمع التونسي شبه مستعمر شبه إقطاعي لم تكتمل فيه مرحلة الثورة بل أن الثورة الوطنية الديمقراطية هي مرحلة ضرورية للانتقال إلى الثورة الاشتراكية وهو تقييم أدى إلى بروز الخط الوطني الديمقراطي (الوطد وبقية مشتقاته).
وسيرحّل هذان الطّرحان المختلفان أدبيّاتهما إلى الجامعات والنقابات والأنشطة المدنية ما سينعكس داخلها بفتح “بؤر توتر أيديولوجي” كتلك التي حدثت بشكل عميق في المؤتمر 19 للاتحاد العام لطلبة تونس بين العمال والوطد وما يحدث في الهياكل الوسطى والقاعدية لاتحاد الشغل وأخيرا ما وصف بـ”الانتحار الانتخابي” لكلا الفصيلين المكوّنين للجبهة الشعبية في آخر محطة انتخابية في 2019 ولو بشيء من التنسيب.
وبذلك ستنتهي الشجرة السياسية لبرسبكتيف إلى أحزاب وأذرع طلابية ومجموعات صغيرة. فعن العامل التونسي اتجه الخط “الثوري” بقيادة أحمد نجيب الشابي لتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي سنة 1983 قبل تحوّله فيما بعد إلى الحزب الديمقراطي التقدمي فالجمهوري في حين انتهت مجموعة الخط السائد إلى تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي سنة 1986 بقيادة حمة الهمامي ومحمد الكيلاني، أما عن العائلة الوطنية الديمقراطية فقد انتهى الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة (وطج) إلى إعلان حركة الوطنيين الديمقراطيين سنة 2011 قبل الدخول في وحدة عضوية مع مجموعة من العمل الوطني الديمقراطي (العود) تحت يافطة حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد.
يختصر الجامعي المولدي القسومي كل هذه “القفزات الأيديولوجية السريعة” فوق حبال التحالفات بالقول “إن ذلك أبرز تجسيد لصراع الأجيال داخل اليسار التونسي”.
أما الكاتب والمناضل اليساري فتحي بلحاج يحي فقد نقل بمسحة حزينة “أنه وعدد آخر من مناضلي برسبكتيف محبطون من عناصر الجيل القديم لأنه استنفد وقته وإن كان لديهم بعض الوقت الآخر أو المساهمة فليمضوها في تسليم المشعل وليس البقاء في القيادة”،وفق تعبيره.
اليسار التونسي فوق ألغام الدين
عاد الحزب الشيوعي للنشاط سنة 1981 بتبنّي حكومة محمد مزالي ما عرف بسياسة “الانفتاح” رغم ما رافق الانتخابات التشريعية لنفس السنة من تزييف وعاش نوعا من الهدنة المؤقتة مع نظام بورقيبة. فحين كان بورقيبة يوصي حرفيّا محمد حرمل في لقاء شهير بقصر صقانس بالمنستير في يوم رمضاني من سنة 1981 بلهجة عامية أثقلها المرض “تمشيش ادور علي” بعد منح حزبه رخصة النشاط مجدّدا كانت الطعنة الخلفية تأتيه من أقرب أجنحة نظامه سنة 1987 المتقاطع مصلحيّا مع التيّار الإسلامي ما أعطى وقتها للحزب الشيوعي فرصة لالتقاط “نفس ديمقراطي مرحلي” لمحاولة جمع العائلة التقدمية حول الخطر الأصولي الديني القادم ومحاولة جمع أطراف المعارضة “لإيقاف التدهور”، وهو شعار مؤتمر الحزب في جوان 1987 قبيل تنحية بورقيبة بأشهر قليلة وكأنه كان يستبق حدوث الخطر المحدق وفق العبارة اللينينية حيث ستكون سنوات الثمانين إعادة إحياء الصراع بين ثنائية الإيمان والإلحاد أو اللعب في الخاصرة الشعبية الرخوة للحركة الشيوعية واليسار عموما.
ومع سير البلاد طيلة عقد فوق ألغام سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية (الخميس الأسود 78، أحداث قفصة المسلّحة 1980، انتفاضة الخبز 1984، احتدام صراع خلافة بورقيبة بين أجنحة الحكم)، كانت الحركة الشيوعية باختلاف تياراتها بالموازاة مع ذلك تخوض في الجامعة والشارع والإعلام “صراعا مزدوجا” ضد النظام والإسلاميين الذين جمعوا الغطاء الدعوي بالسياسي العلني وهو ما يشبه بإعادة التاريخ لنفسه، إذ يرى المؤرخ عبد الجليل بوقرّة أنه “بعد أن تمت مهاجمة الفرع الشيوعي بشكل كاسح من طرف محافظين زيتونيين ودستوريين تكرّر الأمر في الثمانينات لكل التشكيلات اليسارية ثمّ بعد الثورة عبر التهمة الجاهزة وهي معاداة الدين والإلحاد”.
أما فتحي بلحاج يحي فيذهب إلى أبعد من ذلك بالجزم أنه استنتج بعد “تقييم رجل سبعيني” وما عايشه منذ تجربة برسبكتيف إلى اليوم أن “اليسار عليه أن يقبل بالضرورة في ذهنّيته ووعيه أنه حركة أقلّية لزمن معيّن قد يطول مثلما هو الحال لبقية اليسار في كل البلدان العربية الإسلامية”.
وبالتوازي مع قيام أحزاب بحذف كلمة الشيوعي أو طمسها وفق البعض الآخر وكأنها تحوّلت إلى ” وصم ديني” قبل الثورة وبعدها (الحزب الشيوعي التونسي تحول إلى حركة التجديد سنة 1993 ثم المسار الديمقراطي الاجتماعي سنة 2012، حزب العمال الشيوعي التونسي أصبح العمال سنة 2012)، فإن القضيّة حسب المؤرخ الحبيب القزدغلي ليست اسمية بل مضمونية – رغم استغلال الخصوم الإسلاميين لذلك- وأن الحركة الشيوعية تتحدّى أيّا كان أن يأتي بوثيقة كبرنامج سياسي وليس فلسفي فيها ما يشير إلى الدعوة إلى الإلحاد أو الناس للخروج عن دينهم.”
ورغم ثراء المكتبة اليسارية العربية لاجتهادات وقراءات ماركسية معمّقة للمسألة الدينية تركها الطيب تيزيني وحسين مروة ومعين بسيسو وجيلبار الأشقر، ووجود نصوص ولوائح حزبية ونصوص شيوعية محلّية تناقش مسائل الدين والتراث والهوية وحسم جميع السرديات السياسية الوطنية لموقفها من الفصل الأول من دستور 2014، فإنها ظلّت تشبه اللّغم الذي تسير فوقه الحركة الشيوعية منذ 100 عام وتأكيد كلّ جيل أنه لا بد من معالجتها بعيدا عن المقاربات الماضوية دون حسم نهائي لتبقى تدور حول ترحيلها “كابرا عن كابر” أو تهرب بها إلى الأمام أو تعالج آثارها في اللحظات الانتخابية والمنابر الإعلامية العابرة لدرء الخطر الانتخابي الشعبي رغم الدفع دوما بأن الماركسية ليست دينا أو معادية للدين أو تعويضا له لأن جوهرها ينطلق من الإنسان ما يفرض حتما احترامها لحقه في العبادة وقطيعتها مع الفهم الأصولي للدين الذي يحاول فرض عقيدته أو مذهبه على الآخر.
الساعة الرملية للسياسة
بعد القبضة البوليسية لنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وتصحّر المشهد السياسي تماما بعد سنة 1991، ورغم تقاسم مساحة المعارضة مع الإسلاميين والقوميين فإن اليسار وإن اتجه بعض أفراده في البداية إلى “يسار دخولي” ضد العدو الأصولي المشترك وتحريك نظام السابع من نوفمبر من الداخل وآخر “خروجي راديكالي ” لم يذهب منذ اللحظة الأولى إلى الميثاق الوطني ( العمال + بيان للوطد ضد الانقلاب الطبي واعتبار ما حدث مجرد تبادل مواقع داخل النظام) وثالث مهادن أو حذر أو منتظر لما سيأتي، فإن الحركة الشيوعية ظلّت كما الساعة الرملية السياسية التي تقلب كلّما فرغ ترابها الأعلى لتعود تملأ ذاتها وتنقلب وهي في المكان ذاته وإن بتناقضات غريبة وهنا أهم سبعة أمثلة مع اختلاف الواقع والظرف والسياق:
- 1- قدمت في ساعتها سنة 2004 مبادرة ديمقراطية رشحت خلالها محمد علي الحلواني للسباق الرئاسي وحرّكت مياه المعارضة الراكدة.
- 2- وضعت مكوّنات أساسية منها أو فرعية عنها (العمال الشيوعي والديمقراطي التقدمي) أسس هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات خريف 2005 لتكون إطار عمل سياسي مع الإسلاميين مقابل وصف ذلك في بيان ناري ممضى من 150 شخصية يسارية مستقلة صدر في فيفري 2006 بأن إعلان الهيئة هو احتفال لحركة النهضة بـ "الزواج" من المعارضة الجادّة رغم مواصلة ولائها للآباء المؤسسين للأصولية.
- 3- تداعت مكوّنات أخرى سنة 2008 (التجديد والاشتراكي اليساري والعمل الوطني الديمقراطي) إلى إطلاق مبادرة وطنية من أجل الديمقراطية.
- 4- اجتمعت لا إراديا وحركت داخل الهياكل النقابية الوسطى وقواعدها الجهوية والحقوقية بعض مجريات ثورة 17 / 14 ليدفع التياران الرئيسيان فيها (الشيوعي والوطد) إثر تهاوي نظام بن علي بكلّ قوّة نحو انتخابات مجلس وطني تأسيسي يتولّى صياغة دستور جديد للبلاد ويؤسس لفترة انتقالية بقيت ضبابية لولا الحوار الوطني.
- 5 - انخرطت أهم مكوّناتها في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ضمّت أيضا الخصم التاريخي الممثّل في التيار الإسلامي وغرقت بعلم ودون علم في معركة الشحن الأيديولوجي والهوياتي الخاسرة سلفا في تلك المرحلة.
- 6 - دخلت إثر اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في جبهة إنقاذ وطني في جويلية 2013 مع مكوّنات كانت تعارضها لعقود خلت تحت غطاء أولوية الاستراتيجي على التكتيكي وقادت اعتصام الرحيل بباردو قبل أن يقطف نداء تونس الثمرة انتخابيا وتبحث مكوّناتها اليسارية عن إنقاذ نفسها من جبهة جعلت أساسا للإنقاذ.
- 7 - نجح الشهيد شكري بلعيد في رسم أولى تآلفات سياسية وأيديولوجية شبه مستحيلة لليسار التونسي عند تأسيس الجبهة الشعبية وتشييد أولى لبنات "توافق يساري تاريخي" لأجل حلمه الأكبر وهو الحزب اليساري الكبير لكن رحيله سرّع تشظي هذا التحالف وأعاد كشف حالة الانفصام السياسي والأيديوبوجي السائدة بعد أن حلّت الجبهة ثالثة في الرئاسية ورابعة في البرلمانية في انتخابات 2014 لتتحصّل تفريعاتها على النسب الصفرية المعتادة في 2019.
إن هذا السير في هذه المساحات المتباينة يقود إلى طرح يتبنّاه بوثوق تام الناشط السياسي اليساري رضا شهاب المكي الذي يدفع بقوة باتجاه رؤية جديدة تتناقض واليسار المتكلس أو ما يسميه “الكتلة التاريخية الجديدة التي يشكلها ثالوث الثقافة والاقتصاد والاجتماع “.
في حين يقدّر المؤرخ الحبيب القزدغلي الأمر بصيغة مختلفة ترى وجوبا أن “الفكر العقلاني ينظر أوّلا فيما حقّقه لكن مع النظر إلى الماضي بعين تفيد الحاضر والمستقبل.”
أما في المحصلة فإن ما هو جامع أن الحركة الشيوعية واليسار عموما عاش في أغلب اللحظات الفارقة منفى داخلي وخارجي فلا هو حقق يوتوبيا الحلم الثوري والطهارة النضالية ولا هو واصل طريقه المحفوف بالتناقضات ما جعل خواتيمه دوما إما غائمة أو ضبابية وهو الواقع الذي يعيشه إلى اليوم.
في أفق قرن جديد: ما العمل؟
بإتمام الحركة الشيوعية في تونس لقرن من الزمن تستعيد هذه الأخيرة مجدّدا السؤال اللينيني “ما العمل؟” وضرورة وضع ما اعتبره المؤرخ الحبيب القزدغلي “قواسم مشتركة بين الجميع اليوم قبل الغد”، إذ هي مسألة ملحّة شبه متفق عليها بعد مراحل التقييم والتقويم ليسار داخل يسارات فضلا عن تشكّل نوع جديد من اليسار بعد كل انكسارات السابقين ظاهره ما بعد الماركسية أو العقائد الأيديولوجية الصارمة التي تبحث عن هوية بعيدة عن السائد الحالي ونرى ذلك خصوصا في التشكيلات الشبابية التي قادت الاحتجاجات مؤخرا و”اليسار العميق” المبثوث في المكوّنات المدنية الحقوقية والنسوية والشبابية والفنية والثقافية.
يقول المناضل في برسبكتيف الهاشمي بن فرج بنبرة جازمة في إجابته عن سؤال “ما العمل؟”: إنّ “الإرث يجب أن يقيّمه الشباب وليس نحن ودورنا يقف عند تسليمهم المادّة لمعرفة التاريخ وإثراء أفكارهم وتحاليلهم”. ويسانده بشكل مشروط رفيقه في التنظيم نفسه فتحي بلحاج يحي بالدعوة “إلى يسار جديد نحن بصدد اكتشافه حين نتابع تحرّكات الشباب مؤخرا بصفة عفوية مثل – تعلّم عوم ومانيش مسامح والجيل الخطأ – لأنها تحمل بذرة لأناس لديهم أريحية أكثر في التعامل مع الأيديولوجيا أو هم ليسوا مقولبين،” وفق تقديره.
أما المناضلة في الحزب الشيوعي سابقا ليلى عدّة فإنها تصرح بكبرياء نضالي “يجب أن لا نخجل من وصفنا بجماعة الصفر فاصل فنحن يمكننا دوما لعب دور برلماني ومدني لكن علينا طرح السؤال المركزي: لماذا نحن صفر فاصل؟”.
لكن المؤرخ عبد الجليل بوقرّة يخالف كل ذلك بشكل واضح حين اعتبر أن “اليسار لم يدرس وضعه منذ ثلاثين سنة رغم أن الحركة الشيوعية واليسار هي حركة فكرية بالأساس، وعليه فإنه لا بدّ من تنظيم ندوة فكرية تقيّمه كل خمس سنوات بعد أن نظّم آخر ندوة له عام 1989 وهو أمر غير مقبول بتاتا”.
لا شكّ في أنّ مشروعية طرح سؤال “ما العمل؟” على قيادات ومناضلي اليسار التونسي تزداد إلحاحا لاسيما بعد زلزال 25 جويلية 2021 إثر قرارات الرئيس قيس سعيّد الذي قام بتفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي واضعا بذلك حدّا فاصلا لمرحلة سياسية عرفتها البلاد التونسية منذ 2011.
لقد عمّقت التدابير الاستثنائية للرئيس سعيّد أزمة اليسار التونسي الذي انقسم مجدّدا إلى معسكرين بين مساند لهذه الإجراءات معتبرا إياها فرصة لتصحيح مسار الثورة وبين من مضى قدما في وصفها انقلابا على الديمقراطية وعلى الدستور.
هذا الإنقسام صلب الجسم الحزبي اليساري المهترئ بطبعه في ظلّ ضعفه التنظيمي والشعبي رغم قوّة حضور اليسار وأفكاره وأطروحاته التقدميّة صلب المجتمع المدني يزيد في إثارة أسئلة لا تقلّ أهمية عن سؤال “ما العمل؟”، خاصة في ظلّ هجرة العديد من الشخصيات القيادية ومن شباب الأحزاب والتنظيمات اليسارية نحو المشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد الذي اتخذ له عنوان “التأسيس الجديد” و”البناء القاعدي”. فهل تتزامن ذكرى مئوية ولادة الحركة الشيوعية مع نهاية اليسار التونسي في شكله القديم بقياداته وتنظيماته وأطروحاته التي في جزء منها باتت عناوين رئيسية وشعارات جذابة لفئات من الشعب التونسي ولكن هذه المرّة على لسان الرئيس قيس سعيّد؟
لقد قدّمت الحركة الشيوعية بكل تفريعاتها شهداء ومناضلين ورسمت أثرا وطنيا وسياسيا واجتماعيا ونقابيا وثقافيا ومازالت تبحث عن الارتقاء بحالتها التنظيمية والفكرية أو على الأقل إعادة عجنها في ظل التشرذم والتفتّت بعد السقوط الانتخابي المدوّي في 2019، خصوصا مع تواصل حرب الزعامات التاريخية وتمترس كل مكوّن في قلاعه الإيديولوجية كلما طفح خلاف ولو كان بسيطا، وتتابع إلى الآن وبعد قرن من الزمن البحث عن الوعي التاريخي الغائب بتقليب إرث يمتد لمائة عام علها تستقرئ العبرة التي خرج بها الكاتب والمفكر اليساري الفلسطيني سلامة كيلة والقائلة إن “اليسار الذي حاول أن ينهض من سرير الموت كرّر السياسات ذاتها التي أوصلته إلى القبر”.
يعدّ هذا المقال محاولة جدّية لسبر أغوار تاريخ الحركة الشيوعية في تونس والعائلات اليسارية بمختلف روافدها وتشكيلاتها وتفرعاتها في المجتمع التونسي بوصفها جزءا لا يتجزأ من التراث الوطني والكوني لليسار العالمي. وقد بذلنا جهد الطاقة في التحقّق من كلّ المعطيات التاريخية التي قمنا بتجميعها وتوثيقها في نصّ هو أشبه بالفيلم الوثائقي في نسخة مكتوبة. وعلى الرغم من سعينا للدقّة الصحفية فإنّنا نضع مضمون هذا المقال القصصي التأريخي على ذمة القرّاء والمتابعين للتدقيق في أيّ معطى تاريخي يستحق مزيد التمحيص. كما أنه من المهم التنويه بأنّنا استأنسنا في هذا العمل بشهادات تاريخية لقيادات يسارية وثّقها مكتب التعاون الأكاديمي بمؤسسة روزا لوكسمبرغ فرع تونس في إطار مشروع مئوية الحركة الشيوعية.
يعدّ هذا المقال محاولة جدّية لسبر أغوار تاريخ الحركة الشيوعية في تونس والعائلات اليسارية بمختلف روافدها وتشكيلاتها وتفرعاتها في المجتمع التونسي بوصفها جزءا لا يتجزأ من التراث الوطني والكوني لليسار العالمي. وقد بذلنا جهد الطاقة في التحقّق من كلّ المعطيات التاريخية التي قمنا بتجميعها وتوثيقها في نصّ هو أشبه بالفيلم الوثائقي في نسخة مكتوبة. وعلى الرغم من سعينا للدقّة الصحفية فإنّنا نضع مضمون هذا المقال القصصي التأريخي على ذمة القرّاء والمتابعين للتدقيق في أيّ معطى تاريخي يستحق مزيد التمحيص. كما أنه من المهم التنويه بأنّنا استأنسنا في هذا العمل بشهادات تاريخية لقيادات يسارية وثّقها مكتب التعاون الأكاديمي بمؤسسة روزا لوكسمبرغ فرع تونس في إطار مشروع مئوية الحركة الشيوعية.
الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
الكاتب : فطين بن حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية