الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

في سجلات بنك “كريدي سويس” المسرّبة والتي تشمل بيانات تهم أكثر من 18000 حساب بنكي في هذا العملاق المصرفي سيء السمعة، نعثر على معطيات متعلقة بأكثر من 400 حساب بنكي -بعضها شخصي والآخر مشترك- لشركات تابعة لمجموعات اقتصادية وعائلات وشخصيات تحمل الجنسية التونسية أو تقيم في تونس و/أو يحمل أصحابها جنسيات أخرى وتلاحقهم العدالة في بلدانهم بسبب شبهات التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال أو الفساد المالي والإداري والسياسي أو أنشطة يجرمها القانون من قبيل تجارة المخدرات.

فمن هي أبرز الشخصيات الاقتصادية التونسية التي وردت أسماؤها في هذا التحقيق الدولي؟ وما قصتها مع هذا البنك السويسري الذي يصنّف على أنّه ملاذ للأموال المشبوهة؟ وكيف كان مصير الأموال التي أودعت في هذا البنك؟ وكيف ستكون ردود هذه الشخصيات التي تنحدر من مجموعات اقتصادية عائلية لها ثقل كبير في الاقتصاد التونسي على جملة المعطيات التي تسنّى لموقع الكتيبة التحقّق منها؟ وماذا يقول القانون التونسي في مثل هذه الوضعيات وفق مجلة الصرف؟

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

في سجلات بنك “كريدي سويس” المسرّبة والتي تشمل بيانات تهم أكثر من 18000 حساب بنكي في هذا العملاق المصرفي سيء السمعة، نعثر على معطيات متعلقة بأكثر من 400 حساب بنكي -بعضها شخصي والآخر مشترك- لشركات تابعة لمجموعات اقتصادية وعائلات وشخصيات تحمل الجنسية التونسية أو تقيم في تونس و/أو يحمل أصحابها جنسيات أخرى وتلاحقهم العدالة في بلدانهم بسبب شبهات التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال أو الفساد المالي والإداري والسياسي أو أنشطة يجرمها القانون من قبيل تجارة المخدرات.

فمن هي أبرز الشخصيات الاقتصادية التونسية التي وردت أسماؤها في هذا التحقيق الدولي؟ وما قصتها مع هذا البنك السويسري الذي يصنّف على أنّه ملاذ للأموال المشبوهة؟ وكيف كان مصير الأموال التي أودعت في هذا البنك؟ وكيف ستكون ردود هذه الشخصيات التي تنحدر من مجموعات اقتصادية عائلية لها ثقل كبير في الاقتصاد التونسي على جملة المعطيات التي تسنّى لموقع الكتيبة التحقّق منها؟ وماذا يقول القانون التونسي في مثل هذه الوضعيات وفق مجلة الصرف؟

ريع تونسي في خزائن سويسريّة

على امتداد العشرية الماضية التي تلت سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بين 2011 و 2021، اهتزّت تونس على وقع عديد الفضائح المتعلقة بتسريبات وتحقيقات استقصائية دولية كشفت النقاب عن أموال ضخمة لرجال ونساء أعمال وشخصيات سياسيّة وأخرى من العائلة الحاكمة ومسؤولين سابقين في الدولة قبل الثورة تم إيداعها بشكل سرّي في حسابات بنكية تمثل ملاذا آمنا وجنّات ضريبيّة لكل من يروم مثل هذه العمليات التي تكون في غالب الأمر مخالفة للقانون بغية التهرّب الضريبي وغسل الأموال الكريهة.

وبعد فضيحة “سويسليكس” في 2015 و”أوراق بنما” في 2016 و “وثائق باندورا” في 2021، يظهر اليوم مشروع “أسرار سويسرية ” الذي أماط اللثام عن فصل جديد من فصول الأموال التونسية التي ظلّت لسنوات عدّة مخفيّة في خزائن بنك “كريدي سويس” الذي نعثر في خباياه هذه المرّة على أسماء شخصيات جديدة تكشف لأوّل مرّة وأخرى وردت في تحقيقات سابقة. الرابط الذي يجمع هذه الحسابات البنكية هو طابعها العائلي المشترك فهي تعود بالملكية لـعائلات من كبار المستثمرين المتحكّمين في قطاعات بعينها في مفاصل الاقتصاد التونسي.

من بين هذه العائلات نعثر على حساب بنكي مشترك لعائلة بوشماوي ذائعة الصيت التي تضم عديد الإخوة. يعود تاريخ فتح هذا الحساب إلى شهر جويلية من سنة 2004. وقد بلغت قيمة أكبر مبلغ مضمّن في هذا الحساب تحديدا 13.142.588 فرنك سويسري (ما يعادل أكثر من 40 مليون دينار تونسي حاليا) وذلك بتاريخ شهر نوفمبر 2008. غير أنّ رياح الثورة التي هبّت على تونس في 2011 لم تُعجّل بغلق هذا الحساب مثلما حصل في عديد الوضعيات الأخرى. لقد ظلّ هذا الحساب المشترك مفتوحا إلى غاية شهر جويلية من سنة 2015 تاريخ غلقه.

في نفس السنة التي تمّ فيها غلق هذا الحساب البنكي، كانت وقتها وداد بوشماوي محور حديث الصحافة التونسية والدولية حيث تصدّرت صورها واسمها عناوين الأخبار والصفحات الأولى من الصحف والمجلات والتقارير التلفزية بعد فوزها بجائزة نوبل للسلام بصفتها رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (2011-2018) وهو أكبر منظمة لأرباب العمل في تونس.

حصول بوشماوي ممثّلة عن منظمة الأعراف التونسية على هذه الجائزة الدولية المرموقة لم يكن بشكل فردي بل كان في إطار جماعي في سياق تقدير مجهودات الرباعي الراعي للحوار الوطني المتكوّن من منظّمة الأعراف واتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان في تونس سنة 2015 بعد الدور الذي لعبه في إيجاد تسوية بين الفرقاء السياسيين في أعقاب الأزمة التي عصفت بالبلاد عقب اغتيالين سياسيين كادا أن ينزلقا بتونس نحو مستنقع الاقتتال الأهلي.

كانت وداد بوشماوي (61 سنة) طيلة السنوات التي تلت الثورة في تونس توصف بـ”المرأة القوية”. في الحقيقة هي لا تحبذ كثيرا الظهور الإعلامي. علامات الهدوء الغامض كثيرا ما تبدو على محياها في إطلالاتها في الفضاءات العامة سواء المتعلقة بنشاطها الاقتصادي أو في علاقة بنشاطها صلب منظمة الأعراف سابقا. وقد تمّ تداول اسمها في أكثر من مرّة في كواليس المشهد السياسي وفي تقارير صحفية حول ترشيحها من أطراف سياسية لتولي منصب رئيسة الحكومة التونسية.

وداد بوشماوي التي تعدّ شريكا في الحساب البنكي العائلي المذكور في “كريدي سويس” رفقة بقية إخوتها و والدها هادي بوشماوي (توفي سنة 2009) ابتعدت عن الأضواء بشكل ملحوظ منذ نهاية رئاستها لمنظمة الأعراف. وقد علمنا أنّها انتقلت للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية.

تمتلك عائلة بوشماوي (7 إخوة) اليوم واحدة من أكبر المجموعات الاقتصادية التي تنشط في عديد المجالات كقطاع النفط والغاز وتوزيع السيارات والزراعة والتطوير العقاري والخدمات المالية والتوزيع المتخصص بالإضافة إلى أنشطة أخرى.

لم تتردّد وداد بوشماوي كثيرا في الردّ على مراسلاتنا الالكترونية التي تضمنّت مجموعة من الأسئلة الموجهة لشخصها حول مدى قانونية وشفافية هذا الحساب البنكي المشترك في “كريدي سويس” والمبالغ المالية التي كانت مودعة به. أجابت بشكل مقتضب وكيّس حيث طلبت التواصل مع شقيقها طارق بوشماوي لكي يردّ على جملة المعطيات التي تسّنى لموقع الكتيبة التحقّق منها وذلك بالنيابة عنها وعن بقيّة إخوتها بخصوص هذا الموضوع.

دقائق معدودات كانت كافية لكي يتصل بنا طارق بوشماوي بطلب من شقيقته عبر تطبيق الواتساب. خاطبنا بصوت متهدّج معربا عن رغبته في لقائنا فور عودته إلى تونس بعد أيّام من أجل توضيح بعض النقاط، وفق تعبيره.

في الحقيقة لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي يظهر فيها اسم طارق بوشماوي (55 سنة) في تحقيق استقصائي دولي حيث سبق أن كشفت تسريبات “سويسليكس” في سنة 2015 عن امتلاكه لحساب بنكي فتح بتاريخ جويلية 2004 في بنك HSBC أي تحديدا في نفس الفترة التي فتح فيها الحساب العائلي المشترك لعائلة بوشماوي في بنك “كريدي سويس”. وقد ناهز وقتها أعلى مبلغ تم إيداعه في البنك الأوّل قيمة 48 مليون دولار.

وقد ورد في نفس التحقيق أنّ طارق بوشماوي يملك أربع حسابات بنكية على علاقة به. وبالإضافة إلى حسابه الشخصي، هنالك حسابان يتعلّقان بفرع تابع للمجموعة العائلية يحمل اسم “هادي بوشماوي وأبناؤه” (HBS International Ltd)، أحدهما تمّ فتحه سنة 1996، في حين يوجد حساب رابع يتعلّق بشركة غير مقيمة تحمل اسم le trust Mellow Trust. وبحسب البيانات البنكية المسرّبة من البنك المذكور فإنّ هذه الشركات الثلاثة تمّ توطينها في الباهاماس وهي احدى الجنّات الضريبية.

كانت تلك المعطيات التي تمّ كشفها منطلقا لفتح بحث قضائي في القطب القضائي المالي في تونس بتهم تتعلّق بالتهرّب الضريبي التي طالت عديد الشخصيات لكن نتائجه ظلّت غامضة إلى غاية اليوم في ظلّ تكتّم شديد من السلطات القضائية التونسية حول هذا الموضوع.

بالعودة إلى تسريبات “كريدي سويس”، نجد أسماء أخرى من عائلة بوشماوي بالإضافة إلى طارق و وداد. فهذا الحساب يضمّ أيضا بقيّة الإخوة وهم: زياد بوشماوي عضو مجلس إدارة شركة “سيتي كارز” المتخصّصة في بيع السيارات من نوع “كيا” والتي كانت قبل الثورة على ملك صخر الماطري صهر الرئيس الأسبق بن علي قبل أن تتمّ مصادرتها من قبل الدولة والتفويت فيها في عام 2012 لصالح مجمع “بوشماوي شبشوب”. فضلا عن منى بوشماوي وآمال بوشماوي الرئيسة السابقة لغرفة التجارة الأمريكية بتونس وخالد بوشماوي المسؤول عن شركة “هوندا” للسيارات بتونس ورئيس مؤسسة الهادي بوشماوي للأعمال الخيرية ورجاء بوشماوي والأم رشيدة ونيّس أرملة الهادي بوشماوي.

غازي بوشماوي (من مواليد 1970) ابن عمّ وداد وطارق (ابن عبد المجيد بوشماوي) لم يكن هو الآخر بمنأى عن هذه التسريبات التي كشفت امتلاكه لحساب بنكي في “كريدي سويس”. هذا الحساب السرّي تمّ فتحه في سنة 2004 وقد بلغت قيمة أكبر مبلغ مضمنّ فيه 204.975 فرنك سويسري بتاريخ 30 أفريل 2015.

بادر رجل الأعمال والمسؤول السابق بالاتحادين الإفريقي (الكاف) والدولي لكرة القدم (الفيفا) طارق بوشماوي بالاتصال بنا عبر تطبيق “واتساب” طالبا في البداية إمهاله بعض الوقت في انتظار أن يعود إلى تونس.

يشدّد طارق بوشماوي في حديثنا معه على أنّ عائلته “معروفة” في تونس وأنّ والده كان قد عمل في وقت سابق بالخارج وله صفتي مقيم وغير مقيم من البنك المركزي التونسي، وفق قوله.
ويضيف بوشماوي: “لي شركة في مصر منذ 1996، عدّة ملايين الدولارات أرسلناها إلى تونس قبل وخاصة بعد الثورة للقيام باستثمارات ضخمة واخوتي جميعهم غير مقيمين في تونس منذ أكثر من 20 سنة وشركاتنا في الداخل التونسي يسيرها مديرون”.

لديّ العديد من الحسابات البنكية في الخارج وليس فقط الحساب المشار إليه في كريدي سويس. نحن (عائلة بوشماوي) قمنا بعديد الاستثمارات في تونس لاسيما بعد الثورة في الوقت الذي يقوم فيه البعض الآخر بتهريب الأموال إلى الخارج.

طارق بوشماوي

ردّا على سؤالنا حول أسباب فتح هذا الحساب العائلي المشترك في كريدي سويس في الخارج وليس في تونس لاسيما وأنّ القانون التونسي يتيح امتلاك حسابات بنكية للمستثمرين بالعملة الصعبة، يجيب بوشماوي قائلا : “قبل الثورة لم نكن نستطيع أن نقوم بالأنشطة الاستثمارية التي نريدها نظرا للمناخ السياسي… أنا لم أتعامل لمدّة طويلة مع هذا البنك الذي لم يعجبني التعامل معه…إذا كان هناك مشكل ما في هذا البنك يجب ألّا نضع الجميع في سلّة واحدة …المجموعة الاقتصادية التي تحسن التصرّف يجب ألاّ تضع جميع أموالها في بنك واحد… مصدر الأموال متأت من عملي في مصر..أرجو إبعاد أختي وداد عن هذا الموضوع …هي ليست لها أيّة علاقة به… وهي متحصلة على إقامة من دولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنة 1998 على ما أظن وهي الآن تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية .”

في حقيقة الأمر وعلى عكس ما ورد في ردّ طارق بوشماوي فإنّ الحساب المذكور ظلّ مفتوحا لمدّة طويلة ناهزت قرابة 12 سنة (2004-2015) وليس لمدّة قصيرة. كما أنّ شقيقته وداد بوشماوي كانت مستقرة بتونس طيلة الفترة التي تلت الثورة على الأقل بحكم رئاستها للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (2011-2018). علما أنّ بوشماوي كانت أيضا عضوا بالمكتب التنفيذي لمنظمة الأعراف في تونس بين 2006 و2011.

على امتداد المحادثة التي جمعتنا به كان طارق بوشماوي كثير الحديث عن الاستثمارات التي قامت بها عائلته في تونس لاسيما بعد الثورة لكنّه رفض في المقابل الإفصاح عن مصير الأموال التي كانت مودعة في بنك” كريدي سويس” قائلا:

لا أريد أن أجيب عن هذا السؤال ..هل الأموال عادت إلى تونس أم بقيت في الخارج؟ ..هذا سؤال لا يمكن أن أجيب عنه في اتصال هاتفي.

طارق بوشماوي

عائلة البياحي .. في دهاليز “كريدي سويس”

لم تكن عائلة بوشماوي الوحيدة من بين العائلات الاقتصادية التونسية الثريّة التي اتخذت من بنك “كريدي سويس” صندوقا أسود لإيداع الأموال في الخارج رغم أنّ هذه المؤسسة المصرفية تصنّف على أنّها ملاذ للأموال المهربة بطرق غير قانونية.

ففي نفس التسريبات نعثر على معطيات تخصّ عائلة البياحي التي تمتلك هي الأخرى مجموعة إقتصادية ذات ثقل كبير: “مجموعة البياحي” التي يعود الفضل في تأسيسها إلى الأب يوسف البياحي (فارق الحياة) والتي تمتلك أكثر من 30 شركة وقد قدرت أرباحها سنة 2006 بـ 200 مليون دينار.

وتضمّ مجموعة البياحي الإخوة الطيب البياحي الرئيس الحالي للمعهد العربي لرؤساء المؤسسات والطاهر البياحي أحد المساهمين في إذاعة شمس اف ام المصادرة التي كانت على ملك سيرين بن علي ابنة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي ورئيس الغرفة التجارية التونسية الصينية (موجود حاليا في فرنسا بحالة فرار بعد أن صدر ضده حكم بالسجن لمدّة سنتين من قبل القضاء التونسي)، بالإضافة إلى يحي البياحي رئيس مجلس إدارة شركة تونس لمجنبات الألومنيوم وعضو مجلس إدارة البنك العربي لتونس زيادة عن مسؤولياته ومساهماته في شركات أخرى عائلية تابعة لنفس المجموعة.

تمتلك مجموعة البياحي شبكة من الشركات الموزّعة على عديد القطاعات والمجالات. ومن بين أبرز هذه الشركات نذكر شركة المغازة العامّة المتخصّصة في مجال المساحات التجارية. في أواخر عهد الرئيس الأسبق بن علي تمكّنت “مجموعة البياحي” رفقة “مجموعة بولينا” من اقتناء مساهمة الدولة البالغة أكثر من 70 بالمائة في المغازة العامة لتُهَيمن بذلك على ما يقارب ثلث السوق.

تكشف بيانات بنك “كريدي سويس” النقاب عن حساب آخر على ذمّة عائلة البياحي. هذا الحساب المشترك الذي يضمّ الأب يوسف (من مواليد 1920) والإبن يحيى البياحي (66 سنة) فتح بتاريخ 1998 وقد أغلق بعد 12 سنة أي بتاريخ 22 فيفري 2010. وقد بلغت قيمة أكبر مبلغ مضمّن في هذا الحساب السرّي 1.610.629 فرنك سويسري(أكثر من 5 مليون دينار تونسي حاليا) وذلك بتاريخ 29 فيفري 2004.

على عكس عمر جنيح و وطارق بوشماوي اللذين قبلا مبدأ المواجهة ومارسا حقّ الردّ فإنّ يحي البياحي امتنع عن الردّ على اتصالاتنا الهاتفية والارساليات القصيرة التي أرسلناها إليه عبر هاتفه الجوال.

وعلى الرغم من القيام بمحاولة أخيرة عبر إرسال بريد إلكتروني تضمن تعريفا بموقع الكتيبة وشركائنا في “مشروع تتبُّع الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود” بالإضافة إلى جملة من الأسئلة الدقيقة والمباشرة في علاقة بموضوع هذا التحقيق وذلك عبر عنوانه الشخصي الذي يحمل أيضا اسم الشركة التي يديرها، فإنّ الصمت كان العنوان الأبرز لكلّ هذه المحاولات التي لم تجد أي ردّ لنبقى بذلك إزاء تساؤلات حارقة قد يكون القضاء التونسي هو الفيصل في الإجابة عنها.

في نفس السجلات تبرز أيضا أسماء من عائلة جنيح التي تعدّ من أكبر العائلات المهيمنة على القطاع السياحي في المناطق الساحلية التونسية. ففي شهر نوفمبر من سنة 2005 فتح المالك الحالي للقناة التلفزية الخاصة “التاسعة” عمر جنيّح حسابا بنكيا في “كريدي سويس” بصفة مشتركة مع شركة وهمية مقرها المزعوم بكوستاريكا تحمل اسم “كوبولا أدفايزرز”. هذا الحساب سيظلّ لسنوات عديدة مفتوحا بشكل غير معلوم. عثمان جنيّح الأب (72 سنة) الرئيس السابق لفريق النجم الرياضي الساحلي (1993-2006) كان هو الآخر قد فتح حسابا باسمه في نفس البنك بتاريخ 12 أفريل 2005.

وتعدّ عائلة جنيح من العائلات المؤثرة في الحياة العامة في تونس قبل الثورة وبعدها. وقد برز اسم عمر جنيح (41 سنة) بشكل كبير خاصة في السنوات الأخيرة بعد امتلاكه لقناة “التاسعة” التلفزية وصعود نجم شقيقه حسين جنيح المستشار البلدي السابق بسوسة عن حزب نداء تونس والقيادي الحالي بحركة تحيا تونس حزب رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد. وقد فاز حسين جنيح بمقعد في البرلمان التونسي المعلقة صلاحياته حاليا وذلك في انتخابات 2019 عن حركة تحيا تونس ممثلا لولاية سوسة الساحلية مسقط رأسه. وهو حاليا عضو بالمكتب التنفيذي باتّحاد كرة القدم في تونس. كما سبق أن تقلد مسؤوليات في نادي النجم الرياضي الساحلي.

تنشط عائلة جنيح في مجال السياحة والفندقة وهي تمتلك عديد الشركات والمحلات والمطاعم كان آخرها سلسلة “برغر كينغ” التي تحصّل عمر جنيح على رخص استغلالها في تونس في أواخر فترة حكم رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد. جمعت عمر جنيح، سابقا، علاقة مصاهرة مع رجل الأعمال لزهر سطا الذي يقبع حاليا في السجن حيث وجهت له اتهامات بالاستفادة من نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي والتورط في قضايا فساد.

منذ الوهلة الأولى وحتى قبل أن ننهي كلمتنا التمهيدية لتقديم موقع الكتيبة والإطار العام لهذا التحقيق الاستقصائي الدولي حول الحسابات البنكية التي أودعت فيها أموال تونسية المصدر في “كريدي سويس”، سارع رجل الأعمال الأربعيني عمر جنيح بالقول: “أنتم تتحدثون عن موضوع يعود على ما أظن إلى سنة 2005 أو 2006 أليس كذلك؟”.

جنيّح دخل مباشرة في صلب الموضوع ليؤكد امتلاكه لهذا الحساب قبل أن يستدرك قائلا:

كنت أعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وقبل العودة إلى تونس ذهبت إلى سويسرا لكي أقتني سيارة. وقتها كانت هناك تضييقات كبيرة من قبل جهاز الديوانة (الجمارك) التونسية وفي هذا السياق قمت بفتح الحساب المشار إليه لإغلاق الباب أمام الإجراءات البيروقراطية التي تنتهي عادة بابتزازي.

ومن المعلوم أنّ عمر جنيّح يعتبر من بين رجال الأعمال الذين لا يحبذون الظهور في المجال العمومي لاسيما في وسائل الإعلام حتّى أنّ صوره المنشورة في محرك البحث “غوغل” نادرة وقليلة جدا. كما لا نعثر له على أي حوار إذاعي أو تلفزي على عكس العديد من الشخصيات الفاعلة في المجال الاقتصادي والإعلامي.

كان الاتصال الهاتفي الذي جمعنا بجنيح قصيرا ومباشرا طالما أنّ الموضوع معلوم. سألناه عن المدة التي بقي فيها هذا الحساب مفتوحا فأجاب: “أنا عدت إلى تونس في 2006 أو 2007 إن لم تخنّي الذاكرة. والحساب البنكي الذي تتحدثون عنه ظلّ مفتوحا بين 2004 و2005 على ما أظن وقد صرّحت بالسيارة التي اقتنيتها في الديوانة التونسية.”

في حقيقة الأمر وعلى عكس ما صرّح به عمر جنيح فإنّ هذا الحساب ظلّ مفتوحا إلى غاية عام 2014 حيث أغلق بتاريخ 9 أكتوبر من السنة ذاتها أي بعد مدّة طويلة من عودته للإقامة في تونس. المؤكد أيضا بالنسبة إلينا في قصّة تواريخ فتح وغلق الحسابات حين نقارع رواية عمر جنيح بالمعطيات التي تحصلنا عليها والتي تمكنا من التحري منها أنّ الحساب الذي أشار اليه محدثنا هو يعود في الأصل بالملكية لوالده عثمان الذي لم يدم تعامله مع بنك “كريدي سويس” سوى سنة ونيف حيث أغلق حسابه في سنة 2006. حول هذا الحساب يقول عمر جنيّح انّ والده كان عضوا بإحدى هيئات الاتحاد الدولي لكرة القدم، وقد كانت سياسة الاتحاد آنذاك تمنع الحصول على العلاوات والأجور نقدا وهو ما دفعه إلى فتح حساب مؤقّت في بنك “كريدي سويس” من أجل استلام مبلغ مالي وصفه بالصغير من الاتحاد ليقوم على اثر ذلك بغلق الحساب وفق قوله.

حينما سألنا عمر جنيح عن قصّة علاقته بالشركة الوهمية “كوبولا ادفايزرز” التي يقع مقرّها في كوستاريكا وفق بيانات “كريدي سويس” بحسب سجلات الحساب البنكي المشترك الذي ورد فيه اسمه أجاب قائلا:

” البنك(كريدي سويس) هو الذي له علاقة بهذه الشركة الوهمية، وهو الذي ربط الصلة بيني وبينها من أجل فتح حساب قصد تحويل أموال لسداد ثمن السيارة. أنا لا أعرف كوستاريكا أصلا. وهذه الشركة أغلقت منذ 2006 ولم تقم بأي معاملات مالية”.

ويضيف جنيح الابن في نفس الإطار في البداية قبل أن يستدرك لاحقا: “لم يكن لي سابقا علم بأنّ والدي له حساب في “كريدي سويس”، كل ما في أمر أني اقتنيت سيارة بقيمة 50000 أو 60000 أورو…أنا كنت أدرس في الولايات المتحدة الأمريكية وقد جمعت المال هناك…الموضوع قديم ولهذا سأبحث عن الوثائق التي تؤكد قانونية وضعيتي…”.

شبهات تهرب ضريبي وغسيل أموال

تفرض التشريعات التونسية قيودا تمنع المقيمين على الأراضي التونسية من فتح واستعمال حسابات في الخارج أو مواصلة استعمال حساباتهم بالخارج في حال تغيّر مكان إقامتهم إلى تونس دون التصريح بذلك.

وتنصّ مجلّة الصرف والتجارة الخارجية، في فصليها 16 و18، على أنه في صورة تغيير الإقامة من بلد أجنبي والعودة للإقامة في تونس، يتوجّب على المعنيين التصريح بممتلكاتهم وحساباتهم بالخارج لدى البنك المركزي.

الفصل 20 من المجلّة ذاتها ينصّ بدوره على أنه يجب على كلّ شخص طبيعي مكان إقامته العادي بالبلاد التونسية، وعلى كلّ شخص معنوي تونسي أو أجنبي بالنسبة لمؤسّساته بالبلاد التونسية أن يعيد إلى هذه الأخيرة كامل العملات التي يتحصّل عليها من تصدير بضائع إلى الخارج أو مقابل إسداء خدمات في الخارج وبصفة عامة كل ما يحققه بالخارج من مداخيل ومحاصيل وذلك حسب الشروط وفي الآجال التي يحدّدها البنك المركزي التونسي.

يقول الكاتب العام للجنة التونسية للتحاليل المالية بالبنك المركزي التونسي لطفي الحشيشة في حديثه مع موقع الكتيبة، إنه يحق للتونسيين المقيمين بالخارج فتح حسابات خارج تونس. وفي حالة غيّر أحدهم مكان إقامته وعاد إلى تونس فهو يصبح مطالبا بالتصريح بالأموال التي يمتلكها في الخارج لدى البنك المركزي. ويتعيّن عليه آنذاك إدخال المبلغ الذي بحوزته إلى تونس أين يخوّل له القانون التونسي فتح حساب بالعملة الصعبة.

وبالنسبة الى الأشخاص الطبيعيين الذين يقيمون في تونس ويقدّمون خدمات مقابل مبالغ مالية لفائدة شركات أو منظمات أو حرفاء في الخارج فيسمح لهم القانون كذلك بفتح حساب بالعملة الصعبة داخل البلاد التونسية.
في المقابل، لا يمكن أن يكون للأشخاص الطبيعيين المقيمين في تونس بشكل دائم فتح حسابات في الخارج. وإذا تبيّن أنّ شخصا مقيما على التراب التونسي يمتلك حسابا بنكيا يتضمّن مبالغ مالية في الخارج فانّه محلّ تتبّع من قبل الإدارة العامة للديوانة، وفق المتحدّث ذاته.

“الشخص المقيم بتونس والذي يفتح حسابا بالخارج دون احترام للضوابط القانونية يضع نفسه في شبهة التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال”.

لطفي الحشيشة

لطفي الحشيشة تطرّق كذلك إلى الحالات التي يكون فيها شخص مقيم بتونس ولكنه يمتلك أسهما في شركة مصدّرة مقرّها تونس، ويكون لديه في الآن ذاته مبالغ مالية أو أملاك عقارية أو حسابات في البورصة في الخارج.
قدّم المشرّع لمثل هؤلاء الأشخاص الحقّ في استعمال 20 في المائة من أرباح صادراتهم خلال تواجدهم في الخارج للعلاج والدراسة وشراء العقارات إلخ، أي أنّ هذه الأموال يمكن تحويلها إلى الخارج وشراء عقارات أو أسهم في إطار القانون.

ويعتبر لطفي الحشيشة أنّ الشخص المقيم بتونس والذي يفتح حسابا بالخارج يضع نفسه في شبهة التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال إلا إذا كان لديه ترخيص خاص للشركات التي تعمل في الخارج.
ويمكن أن يلجأ من يريد تهريب الأموال، على سبيل المثال، إلى التلاعب بفواتير عمليات التصدير أو الاستيراد التي يقوم بها، من خلال تضخيمها أو التخفيض من قيمتها، على أن يوضع المبلغ الإضافي الذي يتم اكتسابه في حساب في الخارج قد يحمل اسمه أو اسم ابنه وفق ما أفادنا به محدثنا.

وفي هذا السياق، يبرز تقرير صادر عن البنك الدولي بتاريخ 24 جوان/ حزيران 2015، أنّ الشركات التي كانت تتمتع بعلاقات مع نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وبسبب التلاعب في أسعار الواردات، استطاعت التهرّب من دفع رسوم جمركية بلغت 1.2 مليار دولار على الأقل بين سنتي 2002 و2009.

ولئن رصد التقرير تراجعا في التهرب الضريبي بنسبة 16.2 % بعد الثورة في خطوط الإنتاج التي تهيمن عليها الشركات التي كانت تتمتع بعلاقات سياسية مع النظام السابق، إلا أنه وثق زيادة متزامنة في التهرب الضريبي بنسبة 5.7 %في خطوط الإنتاج الأخرى.

وقد بلغت قيمة التهرّب الضريبي في تونس بين 2011 و2019 حوالي 25 مليار دينار (أي ما يناهز 8.3 مليار دولار) وفق المستشار الأسبق برئاسة الحكومة فيصل دربال.

وكان رئيس الجمهورية قيس سعيّد قد قال في تصريح سابق، عقب لقائه برئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سمير ماجول، يوم 28 جويلية/ تموز 2021، إنّ 460 شخصا سرقوا 13,5 مليار دينار (4,8 مليار دولار) من المال العام، مؤكدا ضرورة استردادها ممن وصفهم بـ”الفاسدين”. وأشار إلى أنّه سيصدر أمرا رئاسيا مخصصا للأموال المنهوبة التي سيقع استرجاعها لفائدة الجهات المحرومة وفق ترتيب تنازلي لها مع كل من يجنح للصلح من رجال الأعمال المعنيين في إطار ما أسماه بالصلح الجزائي.

كلمة الكتيبة:

"اسرار سويسرية" هو مشروع صحفي تشاركي يستند إلى بيانات حسابات مصرفية مسربة قدمها مصدر مجهول لصحيفة زوددويتشه تسايتونغ Süddeutsche Zeitung الألمانية، التي شاركته مع OCCRP و47 شريكا إعلاميا آخر في جميع أنحاء العالم. قام الصحفيون في القارات الخمس بتمشيط الآلاف من السجلات المصرفية وأجروا مقابلات مع المطلعين والمنظمين والمدعين العامين الجنائيين، فضلا عن البحث في سجلات المحاكم والإفصاحات المالية لتأكيد النتائج التي توصلوا إليها. وتغطي البيانات أكثر من 18,000 حساب تم فتحها منذ أربعينات القرن العشرين وحتى العقد الماضي. معا ً ، كانت هذه الحسابات تحتوي أموال تزيد قيمتها على 100 مليار دولار. وقال المُبلغ عن المخالفات فى بيان له " اعتقد ان قوانين السرية المصرفية السويسرية غير أخلاقية " . "إن ذريعة حماية الخصوصية المالية هي ورقة توت تغطي الدور المخزي للمصارف السويسرية كمتعاونين مع المتهربين من الضرائب. وهذا الوضع يمكن من الفساد والجوع في البلدان النامية التي تحرم من إيرادات الضريبية التي هي في أمس الحاجة إليها. هذه البلدان التي تعاني أكثر من غيرها بسبب الحيلة العكسية افي سويسرا ل روبن هود ".

كلمة الكتيبة:
"اسرار سويسرية" هو مشروع صحفي تشاركي يستند إلى بيانات حسابات مصرفية مسربة قدمها مصدر مجهول لصحيفة زوددويتشه تسايتونغ Süddeutsche Zeitung الألمانية، التي شاركته مع OCCRP و47 شريكا إعلاميا آخر في جميع أنحاء العالم. قام الصحفيون في القارات الخمس بتمشيط الآلاف من السجلات المصرفية وأجروا مقابلات مع المطلعين والمنظمين والمدعين العامين الجنائيين، فضلا عن البحث في سجلات المحاكم والإفصاحات المالية لتأكيد النتائج التي توصلوا إليها. وتغطي البيانات أكثر من 18,000 حساب تم فتحها منذ أربعينات القرن العشرين وحتى العقد الماضي. معا ً ، كانت هذه الحسابات تحتوي أموال تزيد قيمتها على 100 مليار دولار. وقال المُبلغ عن المخالفات فى بيان له " اعتقد ان قوانين السرية المصرفية السويسرية غير أخلاقية " . "إن ذريعة حماية الخصوصية المالية هي ورقة توت تغطي الدور المخزي للمصارف السويسرية كمتعاونين مع المتهربين من الضرائب. وهذا الوضع يمكن من الفساد والجوع في البلدان النامية التي تحرم من إيرادات الضريبية التي هي في أمس الحاجة إليها. هذه البلدان التي تعاني أكثر من غيرها بسبب الحيلة العكسية افي سويسرا ل روبن هود ".

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

ساعد في التحقيق :رحمة الباهي
تدقيق : وليد الماجري
رسوم: معاذ عيادي
تطوير تقني: بلال الشارني
رسوم : معاذ العيادي
تطوير تقني: بلال الشارني
ساعد في التحقيق : رحمة الباهي
تدقيق: وليد الماجري

الكاتب : محمد اليوسفي

رئيس تحرير القسم العربي بموقع الكتيبة

Youssoufi