الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

غادر لتوّه مقرّ الإدارة الفرعية للشركة التونسية للكهرباء والغاز بمنطقة حي الزهور غربي العاصمة تونس. موسى رجل سبعيني لم تمض سوى ثلاثة أيّام على استلامه لجراية تقاعده المقدّرة بـ580 دينارا تونسيا، نصفها ذهب لخلاص فواتير استهلاك الكهرباء والماء ومصاريف خدماتية أخرى.

منذ أن كان يعمل سائق سيّارة أجرة، لم يتخلّف موسى عن مواعيد خلاص فواتير استهلاك الكهرباء والماء في الآجال المحدّدة. يقطن موسى في منزل صغير بالحي الشعبي الآنف ذكره.

هذا الانتظام الذي عرف به في السابق في دفع المستحقات المتخلدة بذمته تجاه شركتي الكهرباء والماء، شهد اضطرابا في السنوات الأخيرة بعد أن تدهورت مقدرته الشرائية جرّاء وقع الزيادات المتتالية في أسعار أكثر من مادة حيوية، حتى أضحت الفواتير تتكدّس مثقلة كاهله وهو صاحب الجراية الضعيفة المتأتية من التقاعد.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

غادر لتوّه مقرّ الإدارة الفرعية للشركة التونسية للكهرباء والغاز بمنطقة حي الزهور غربي العاصمة تونس. موسى رجل سبعيني لم تمض سوى ثلاثة أيّام على استلامه لجراية تقاعده المقدّرة بـ580 دينارا تونسيا، نصفها ذهب لخلاص فواتير استهلاك الكهرباء والماء ومصاريف خدماتية أخرى.

منذ أن كان يعمل سائق سيّارة أجرة، لم يتخلّف موسى عن مواعيد خلاص فواتير استهلاك الكهرباء والماء في الآجال المحدّدة. يقطن موسى في منزل صغير بالحي الشعبي الآنف ذكره.

هذا الانتظام الذي عرف به في السابق في دفع المستحقات المتخلدة بذمته تجاه شركتي الكهرباء والماء، شهد اضطرابا في السنوات الأخيرة بعد أن تدهورت مقدرته الشرائية جرّاء وقع الزيادات المتتالية في أسعار أكثر من مادة حيوية، حتى أضحت الفواتير تتكدّس مثقلة كاهله وهو صاحب الجراية الضعيفة المتأتية من التقاعد.

تلقى الرجل السبعيني خبر الزيادات الأخيرة في سعر الكهرباء والغاز بكثير من الحيرة والريبة والحنق، وقد حاول جاهدا ، وفق ما صرّح به لموقع الكتيبة، أن يفهم كيف له أن يبقى في مستوى الحرفاء غير المعنيين بالزيادات، حاله في ذلك كحال أغلب المتقاعدين/ات وعموم المواطنين/ات التونسيين/ات الذين ضاقوا/ن ذرعا من الزيادات المشطة في أسعار كل ما هو حيوي وحياتي من ذلك معاليم الكهرباء والغاز أمام مقدرة شرائية ضعيفة بات من الصعب الظفر من خلالها بما يحقّق الحد الأدنى من العيش كريم.

في هذا المقال التفسيري سنحاول الاجابة عن حيرة مواطن تونسي. كيف تُحتسب فواتير الكهرباء والغاز في تونس؟ لماذا يشعر المواطن ضعيف الحال أنه الوحيد الذي يتحمّل أعباء هذه الزيادات في حين تتمتّع بقيّة القطاعات تحت عدّة آليات بتسهيلات في الدفع أو بإسقاط جزء من ديونها؟

وهل فعلا أنّ 85 % من حرفاء الشركة غير معنيين بالزيادات الجديدة؟ ولماذا أقرّت الحكومة التونسية هذه الزيادات؟ وهل فعلا أنّ التونسيين باتوا مهدّدين بانقطاعات في الكهرباء ؟

وهل يمكن فهم نسق الزيادات المتصاعدة بما يرى فيه لفيف من الخبراء حالة شبه إفلاس تعيشها الشركة التونسية للكهرباء والغاز جرّاء تأخر الإصلاح وسوء الحوكمة التي قد ينجر عنها التفويت في المؤسسة أو خصخصة جزء منها اتساقا بما ينادي به صندوق النقد الدولي من شروط قد تدفع نحو رفع الدعم عن العديد من الخدمات والمواد الحيوية؟

إدفع أوّلا واستفسر لاحقا!

عند دخولك لأي فرع من فروع الشركة التونسية للكهرباء والغاز الموزّعة على كامل تراب الجمهورية لا يمكن لك إلا أن تشاهد بشكل شبه يومي مشهدا يتكرّر. نقاشات حادّة تتواتر بين حرفاء يؤكدون أن استهلاكهم للكهرباء لم يتغيّر، مستغربين من تضخّم قيمة الفاتورة من جهة. ومسؤولون يجيبون بأن الموضوع يتجاوزهم فالأمر يتعلق حسب قولهم دائما بمعايير وأسعار أقرتها الدولة في موازناتها المالية من جهة أخرى.

تنتهي تلك النقاشات العقيمة في أغلب الأحيان بتسديد الحريف لفاتورته في ظل وعود من المسؤول بمراجعة الموضوع في قادم الفواتير.

هذا المشهد الذي أصبح اعتياديا في تونس، قد يشهد مزيدا من التوتر في العلاقة التي تجمع الشركة التونسية للكهرباء والغاز بحرفائها من المواطنين/ات التونسيين/ات بعد المراجعة الأخيرة لأسعار الكهرباء والغاز والزيادات التي قد تدخل حيز التنفيذ في الفترة القادمة.

في شهر ماي/ أيار من السنة الجارية أقرّت الحكومة التونسية تعديلات جديدة في أسعار الكهرباء والغاز بنسب تتراوح بين الـ 12.2 و الـ 16 بالمائة لحرفاء الشركة المنزليين و 15 بالمائة للصناعيين. وهي الزيادة الأولى التي تحصل منذ عام 2019.

في وقت سابق صرّح منير الغابري مدير الاتصال والعلاقة مع المواطن بالشركة التونسية للكهرباء والغاز إلى وسائل إعلام محلّية بأن العائلات التونسية التي لا يتجاوز استهلاكها الـ 200 كيلوات/ساعة في الشهر الواحد لن تكون معنيّة بالزيادة الجديدة.

” العائلات التي لن تكون مشمولة بالزيادات تمثل 85 بالمائة من إجمالي حرفاء الشركة وعددهم 3.6 مليون حريف.”

منير الغابري

في الحقيقة، بالإطلاع على الآليات الجديدة المعتمدة في احتساب أسعار الكهرباء والغاز المنشورة بموقع الشركة التونسية للكهرباء والغاز، ومقارنة بتعديلات سابقة خلال سنوات 2018 و2019 وما صاحبها من بلاغات تفسيرية، يتّضح أن المسألة تتجاوز هذا التصنيف السطحي الشائع إعلاميا، إذ سبق لمسؤولي الشركة نفسها والوزارة المُشرفة عليها أن برّروا الزيادة في أسعار الكهرباء عام 2019، على أنها لن تشمل إلا 6% من حرفاء الشركة أساسا الصناعيين والمستهلكين الكبار.

ومقارنة مع أسعار الكهرباء وفق المعطيات والتعريفة المعتمدة منذ آخر زيادة عام 2019، يتضح أن هناك نسبة كبيرة من حرفاء الشركة معرّضة لزيادة مشطّة في مبلغ الفاتورة قد تصل بمجرّد تجاوز سقف الـ 200 كيلوات/ ساعة شهريا بكيلوات وحيد إلى 60% وفقا لما تظبطه التسعيرة الجديدة التي تمّ إقرارها بداية من شهر ماي/أيار من السنة الجارية.

وقد قدّرت الشركة عدد حرفائها من الجهد المنخفض، وفق آخر تقرير راجع لسنة 2020، بـ 4.2 مليون حريف ينقسمون إلى صناعيين ومنزليين، موزعين على 6 شرائح حسب كمية الاستهلاك.

نفس التصنيف تقريبا تعتمده الشركة عند فوترة استهلاك حرفائها من الغاز، إذ تنقسم الشرائح كذلك بحسب نسبة الاستهلاك. ورغم أنّ الاهتمام انصب في الآونة الأخيرة على الزيادة في أسعار الكهرباء، إلاّ أن الزيادة في الغاز تعتبر عالية وهي تصل إلى 16 في المائة، إذ بيّنت الشركة أنّ الترفيع لن يستهدف حرفائها ممّن لا يتجاوز استهلاكه الـ 30 متر مكعب شهريا.

خلال ظهورهم الإعلامي لتفسير الزيادات أو المراجعات الأخيرة في تسعيرة الكهرباء والغاز، يقول كبار مسؤولي الوزارة والشركة إنّ الزيادات تمّ إقرارها في قانون موازنات الدولة لعام 2022.

بيد أنه عند الاطلاع على قانون المالية غير المتضمّن بصريح النص على مراجعة تسعيرة الكهرباء والغاز ولا نسب الزيادات التي سيتم اعتمادها مستقبلا، يتضح أنّ الدولة التونسية اعتمدت سعر 75 دولار لبرميل النفط والذي لم ينزل سعره منذ بداية العام عن الـ129 دولار في السوق الدولية.

هذه الفجوة بين السعر المعتمد في موازنات الدولة والسعر الحقيقي في السوق العالمية يخلّف خسائر تزيد من وطأة العجز الطاقي في تونس والذي بلغ مستويات خطيرة، مما يؤثر آليا على موازنات الشركة التونسية للكهرباء والغاز والتي بدورها تجد نفسها مضطرّة لمجاراة النسق العالمي والترفيع في الأسعار.

وعلى إثر ما صرّحت به الجامعة العامة للكهرباء والغاز حول الاضطراب في التزود بالغاز الجزائري بعد زيادة الطلب على هذا الأخير من دول أوروبية متضرّرة من الحرب الروسية – الأوكرانية، وتبعات ذلك على تأمين الكهرباء خلال هذه الصائفة، توجّهنا بالسؤال إلى مدير عام الكهرباء والانتقال الطاقي بوزارة الصناعة والطاقة بلحسن شيبوب حول فرضية الترفيع مجددا خلال نفس هذا العام في أسعار الكهرباء خاصة وأنّ أسعار والنفط الغاز في العالم تشهد منحى تصاعديا غير مسبوق، إلاّ أنه رفض الإجابة.

تضليل ممنهج يخفي عجز الدولة

رغم سعينا إلى إتاحة الفرصة للتوضيح، رفض منير الغابري مدير الاتصال والعلاقة بالمواطنين بالشركة التونسية للكهرباء والغاز مدّنا بحوار حول جملة استفساراتنا المتّصلة بالزيادات الأخيرة.

ويتّضح من خلال التصريحات الإعلامية لأكثر من مسؤول رفيع المستوى بالشركة أو بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم على غرار مدير عام الكهرباء والانتقال الطاقي بلحسن شيبوب، أنّ هناك سياسة اتصالية اعتمدتها كل من الوزارة والشركة التونسية للكهرباء والغاز تشدّد على أنّ 85% من حرفاء الشركة غير معنيين بالتعديلات الأخيرة في تسعيرة الكهرباء. فهل هذا صحيح؟

من خلال هذا الرسم البياني، يتبيّن أنّ منزلا صغيرا لعائلة متوسطة الدخل لا تتجاوز مساحته الـ 100 متر مربع يحتوي على تجهيزات كهرومنزلية عادية، يتجاوز استهلاكه الشهري بالضرورة الـ 250 كيلووات/ساعة.

ومع العمل على صورة تقريبية لمتوسط استهلاك عائلة تونسية من الطبقة الوسطى، حاولنا جاهدين مزيد التثبت من تصريحات ممثلي وزارة الطاقة والشركة التونسية للكهرباء والغاز التي تقول إنّ 85 بالمائة من حرفاء الشركة لن يكونوا معرّضين لزيادة جديدة في فواتيرهم.

قمنا بالتوجه إلى الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة علّنا نتحصل على دراسات تتعلّق بنصيب الفرد من الكهرباء ومتوسط استهلاك العائلة وغيرها من الدراسات التي من المفترض أن تنجزها الوكالة، غير أن محاولاتنا باءت بالفشل، بعد أن اتضح لنا أنّه لا دراسات تذكر للوكالة التي طالبتنا بدورها بالتوجه إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز.

بعد استنفاد جميع المحاولات قمنا بالنبش في مختلف التصريحات القديمة منها والجديدة لمسؤولي الوزارة، ففي تصريح سابق له لوكالة تونس أفريقيا للأنباء العام الماضي، قال بلحسن شيبوب مدير عام الكهرباء والانتقال الطاقي بوزارة الصناعة والطاقة إنّ دراساتهم المتصلة بتعديل أسعار استهلاك الكهرباء ستركّز على الشريحة “الملتهمة” للطاقة الكهربائية بـ 200 كيلوات/ساعة في الشهر بتعريفة 176 مليما للكيلوات/ساعة، مبرزا في ذات التصريح أن عدد حرفاء هذه الشريحة يناهز الـ 2.5 مليون حريف.

وتجدر الإشارة إلى أنّ احتساب كمّية الاستهلاك من قبل الشركة يكون على قاعدة معدّل الشهرين في الأوساط الحضرية والمدن وعلى معدّل الاستهلاك خلال أربعة أشهر في الأوساط الريفية، إذ تخضع العملية إلى جاهزية الشركة في توزيع أعوانها لرفع نسبة استهلاك حرفائها في عدّاداتهم المنزلية والتي في غالب الأحيان لا تُفضي إلى نتائج ملموسة لاستحالة الرقابة الدورية على استهلاك أكثر من 4.2 مليون حريف للشركة.

في المُقابل، تُشير تقارير البنك الدولي المنشورة على موقعه أن متوسّط استهلاك الفرد الواحد للكهرباء في تونس بنهاية سنة 2014 تمّ تقديره بنحو 1455 ألف كيلوات/ ساعة في العام بما يعني أن متوسّط استهلاك الفرد شهريا يناهز الـ 125 كيلوات/ساعة. يجرّنا هذا إلى استنتاج أنّ متوسط استهلاك عائلة تتكون من أربعة أفراد يتجاوز بالضرورة الـ 200 كيلوات/ساعة شهريا.

بدورها، تقرّ محكمة المحاسبات في مهمتها الرقابية المتعلّقة بمنظومة التحكم في الطاقة والصادر بتقريرها لسنة 2018، أن العائلات التونسية مستهلكة للطاقة بشكل لافت للانتباه وذلك راجع إلى أنّ التجهيزات الكهرومنزلية التي تدخل البلاد لا تخضع إلى رقابة مسبقة في علاقة باستجابتها إلى الشروط الدنيا في التحكم بالطاقة. وهو ما يُساهم في تطوّر نسبة الاستهلاك المنزلي للكهرباء.

وبحسب ذات التقرير فإن استراتيجية ترشيد استهلاك الكهرباء للآلات الكهرومنزلية المُتّبعة منذ سنة 2004 والمتمثّلة في إحداث برنامج التأشير الطاقي لهذه الأجهزة لم يبلغ أهدافه بالمرّة.

وقد اعتمدت الدولة التونسية منذ عام 2004 معايير في ترتيب هذه الأجهزة حسب قوّة استهلاكها للطاقة الكهربائية، والتأشير فقط للأجهزة المُقتصدة ومتوسطة الاستهلاك لطرحها للبيع بالأسواق المحلّية مع اتباع سياسات تتصدّى لعمليات ترويج الآلات والتجهيزات عالية الاستهلاك والمُتأتية أساسا من التهريب.

ورغم مرور أكثر من 10 سنوات على انطلاق هذا البرنامج إلا أن استهلاك الآلات الكهرومنزلية للكهرباء ارتفع من 3216 جيغاوات/ساعة في 2009 إلى 3981 جيغاوات/ساعة في سنة 2014 وهو ما يعادل نسبة تطوّر في حدود 24%.

كما بيّنت المحكمة في تقريرها أنّ الآلات الكهرومنزلية الخاضعة للتأشير المسبق لا تتجاوز آلات التبريد من ثلاجات ومكيّفات، مشيرة إلى أنه ورغم تلك الإجراءات فإنّ 80 بالمائة من المكيّفات المُستعلمة من طرف التونسيين غير اقتصادية وتمّ اقتناؤها من الأسواق الموازية (المُكيّفات المهربة).

إضافة إلى ذلك لا تخضع بقية الأجهزة المطروحة للبيع في الأسواق التونسية لأي رقابة مسبقة حول نسبة استهلاكها للكهرباء من بينها أجهزة التلفاز وآلات الغسيل وغيرها مع تفاقم ظاهرة تهريب هذه التجهيزات وضعف الرقابة عليها.

ولم تقتصر ملاحظات المحكمة عند هذه النقاط فقط، إذ أشارت الى أنّ السياسة المتبعة من طرف الدولة التونسية في استبدال الفوانيس عالية الاستهلاك بفوانيس اقتصادية فشلت فشلا ذريعا رغم التقدّم في استبدال الفوانيس المتوهجة بأخرى اقتصادية، موضّحة أنّ الإنارة في الإستهلاك المنزلي بقيت تستحوذ على 33% من إجمالي استهلاك حرفاء الشركة المنزليين.

كما حذرت المحكمة من المباني المشيّدة من طرف المقاولين دون التأشير على مثال التهيئة من طرف السلط المتدخلة، حيث أشارت إلى أنّ 28 % من البنايات السكنية الجديدة المنجزة من طرف باعثين عقاريين بالقطاع الخاص في الفترة المنحصرة بين 2010 و 2016 حصلت على رخص دون أن تمتثل إلى الشروط المنصوص عليها في التقنين الحراري (مباني تحفظ البرودة والحرارة).

” قيمة كميّة الطاقة التي كان يمكن توفيرها في صورة استجابة البنايات للشروط في حدود الـ 23 مليون دينار “

محكمة المحاسبات

في حواره مع موقع الكتيبة، أقرّ الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للكهرباء والغاز منجي خليفة، بأنّ الأرقام التي قدّمتها الوزارة مغلوطة، مؤكدا أن معدّل استهلاك عائلة متوسطة الدخل يتراوح بين الـ 200 كيلوات والـ 400 كيلوات وأحيانا أكثر. وبيّن في ذات الصدد أن سعر كلفة إنتاج كيلوات/ ساعة من الكهرباء مقدّر في الوقت الراهن بما يتجاوز الـ 300 ملّيما.

وتقول مصادر من داخل الشركة التونسية للكهرباء والغاز، تسنّى لموقع الكتيبة التواصل معها، وقد طلبت عدم الإفصاح عن هويتها، إنّ الوزارة عمدت إلى مغالطة التونسيين، مشيرة إلى أنّ الطبقة المتوسطة هي بالضرورة أكثر استهلاكا للطاقة من العائلات محدودة الدخل، نظرا إلى أنّ إمكانياتها تسمح باقتناء أجهزة كهرومنزلية متعدّدة.

وأبرزت المصادر ذاتها أن الطبقة المتوسطة هي الشريحة الأكثر تمثيلية في خارطة حرفاء الشركة من مشتركي الجهد المنخفض، مشيرة إلى أن الـ 3.5 مليون حريف الممثلين لنسبة 85% من حرفاء الجهد المنخفض للشركة ليس جميعهم عائلات إذا تشمل كذلك الحرفاء غير السكنيين والمحلات العشوائية المُسجّلة على أنها منازل والحال أنها تمارس أنشطة تجارية وخدماتية.

من جانبه، أكّد رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي أنّ الطريقة المعتمدة من طرف الدولة في احتساب الاستهلاك حسب الشرائح ليست إلا مغالطة كبيرة من طرفها.

وبيّن الرياحي أنّ أعوان الشركة التونسية للكهرباء والغاز يتمتعون وفق محاضر اتفاق قديمة بين نقابتهم والدولة باستهلاك مجاني للكهرباء وفقا لنسب معيّنة تمّ ظبطها اعتمادا على متوسط استهلاك العائلة.

ويتمتع أعوان الشركة التونسية للكهرباء والغاز وفقا للمعلومات المُستقاة من داخل الشركة بـ 4500 كيلوات/ساعة في العام مجانا ما يُساوي 375 كيلووات/ساعة في الشهر فيما يتمتع كوادر ( إطارات سامية ) الشركة بـ 9 آلاف كيلووات/ساعة في العام ما يُقابل 750 كيلوات/ ساعة في الشهر.

“أعوان وإطارات الشركة التونسية للكهرباء والغاز باعتبارهم عيّنة واضحة لاستهلاك عائلة تونسية متوسطة الدخل يستهلكون شهريا ما لا يقلّ عن 300 كيلوات/ساعة في الشهر وهذا لوحده كفيل بتقدير متوسط استهلاك العائلة التونسية”

لطفي الرياحي

محكمة المحاسبات، أشارت كذلك في تقريرها حول منظومة التحكم في الطاقة، إلى الكلفة العالية لاستهلاك أعوان الشركة وإطاراتها من الكهرباء والتي قدّرتها بنهاية عام 2014 في حدود 11.4 مليون دينار. ودعت في ذات التقرير إلى ضرورة مراجعة هذا الامتياز وترشيده بما يضمن الحق النقابي للأعوان وموازنات الشركة، مقترحة أن يتولى الأعوان والكوادر خلاص جزء من نسبة استهلاكهم للكهرباء.

ويضيف الرياحي في حواره مع موقع الكتيبة أنّ الـ 2.5 مليون حريف التي تصرّح بهم الشركة على أنهم حرفاء لا يتجاوز استهلاكهم الـ 200 كيلوات/ساعة يعدّ رقما غير دقيق، معتبرا أنّ هذه الشريحة تشمل المحلات العشوائية ومكاتب الخدمات وبقية الحرفاء غير السكنيين.

ويوضح نفس المتحدث أن التصريح بـ 2.5 مليون حريف هم من العائلات التونسية مغالطة كبرى تنضاف إلى سجل مغالطات الشركة التونسية للكهرباء والغاز والوزارة المكلفة بالطاقة.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ التعديل الجزئي في احتساب أسعار استهلاك الكهرباء خلال شهر ماي/أيار المنقضي، جاء استباقا للفترة التي يرتفع فيها استهلاك العائلات للطاقة وهي الفترة الصيفية والتي أضحت طويلة بعض الشيء بفعل التغيّرات المناخية إذ تمتدّ من شهر ماي إلى غاية موفى أكتوبر من كل سنة، ما يعادل ثلاثة فواتير كهربائية.

ورغم ملاحظات محكمة المحاسبات في ضرورة اتباع سياسات ناجعة للتحكم في الطاقة من بينها ترشيد استهلاك الكهرباء عبر تشديد الرقابة على الأجهزة المطروحة للبيع في الأسواق أو اتباع سياسات تسهّل على المواطنين وتشجعهم على تركيز لوائح شمسية، إلا أنّ السياسات العمومية للدولة تتجه دائما نحو الحلول السهلة بترفيع أسعار الكهرباء والغاز للضغط على عجز الميزان الطاقي من جهة والضغط على المواطنين لتقليص استهلاكهم من الكهرباء من جهة أخرى.

دعم حكومي صوري

في الخامس من فيفري/شباط من هذا العام، أصدرت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة القنجي أمرا بتكليف لجنة تعمل على وضع التصورات والآليات اللازمة لمراجعة الدعم الموجه لاستهلاك الكهرباء والغاز الطبيعي.

هذه اللجنة أنهت المهمة المناطة بعهدتها في غضون شهرين من تاريخ تكليفها، بعد أن رفعت مقترحاتها بخصوص مراجعة آليات احتساب استهلاك الكهرباء بحسب الفئات والذي صدر رسميا في مقرّر وزاري بتاريخ 10 أفريل من العام الجاري 2022.

يتّضح من خلال القرار الممضى من طرف وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة أنّ قطاعي الصناعة والفلاحة سيعرفان زيادات شهرية في أسعار استهلاكهم للكهرباء، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية والفلاحية.

علاوة على ذلك، نشرت رئاسة الحكومة ملامح برنامجها للإصلاحات الاقتصادية الذي ذهبت في نهجه البلاد منذ بداية عام 2022 وهو نفس البرنامج قيد التفاوض مع صندوق النقد الدولي. فقد قرّرت حكومة نجلاء بودن المضي قدما في رفع الدعم عن العديد من المواد الأساسية بما في ذلك الطاقية من كهرباء وغاز في أفق 2026 وتعويضه بمنح نقدية لفائدة العائلات ضعيفة الحال.

وتجدر الإشارة إلى أنّ أصحاب الاستهلاك الضعيف ممّن لا يتجاوز استهلاكهم الـ 100 كيلوات/ساعة في الشهر يتمتعون حاليا، بدعم من الدولة مقدّر بنحو الـ 70 في المائة ( 96 ملّيم كيلووات/ساعة كسعر للبيع من كلفة إنتاج مُقدّرة بـ 330 مليم للكيلوات / ساعة ). أمّا المُستهلكون ممن ينحصر استهلاكهم للكهرباء بين الـ100 و200 كيلوات/ساعة في الشهر، ينزل مستوى الدعم لهم في حدود الـ 47 في المائة وبمجرّد تجاوز سقف الـ 200 كيلوات/ ساعة برقم وحيد يتقلّص دعم الدولة لحريف الشركة من مشتركي الضغط المنخفض إلى أقل من 35%.

وتُشير تقارير محلّية ودولية إلى أنّ العائلات ضعيفة الحال ليست بالشرائح المُستهلكة للطاقة إذا يقتصر استهلاكها للكهرباء في بعض التجهيزات الكهرومنزلية، وقوارير الغاز المُسيل المُعد للاستهلاك المنزلي، والذي بحسب ما صرّحت به الوزيرة المكلفة بالطاقة نائلة القنجي خلال ندوة صحفية عقدتها الحكومة بمناسبة الكشف عن برنامج إصلاحاتها الاقتصادية، أنه سيتم مراجعة سعر قارورة الغاز بداية من العام القادم حتى يبلغ سعرها الحقيقي في أفق 2024 وتعويض الدعم الحكومي في سعر القارورة بمنحة مالية لفائدة تلك العائلات.

في ذات السياق، قال الكاتب العام المُساعد لجامعة الطاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل منجي خليفة إنّ دعم الدولة في منظومة الكهرباء مسألة لا تعدو أن تكون سوى ذرّ رماد على العيون، موضحا أنّ الدولة تتدخل في تحديد أسعار البيع للمواطنين، مقابل منحة سنوية تقدّمها للشركة وأحيانا تتخلّف عنها، مضيفا أنّها لا تغطي حجم الإنفاق في إنتاج الكهرباء للفئات التي تدعمها، وهو ما يشكّل ضغطا متزايدا على موازنات الشركة، حسب تعبيره.

وأضاف خليفة، أنّ الشركة تعتمد الغاز في توليد 90 % من الكهرباء والذي يكلّفها أموالا طائلة بالعملة الصعبة.

“جميع الاقتناءات من الغاز إن كان مستوردا من شركة صوناتراك الجزائرية أو الغاز الذي يتم إنتاجه محلّيا أو المتأتي للدولة مجانا كإتاوة من أنبوب الغاز الجزائري العابر للتراب التونسي تشتريها الشركة بالعملة الصعبة”

منجي خليفة

وقدّرت الشركة التونسية للكهرباء والغاز حاجاتها من دعم الدولة لشراء الغاز لإنتاج الكهرباء بالنسبة لعام 2022 بما يعادل الـ 2200 مليون دينار، تتولّى الدولة تمويلها عبر منح مالية مباشرة في حدود 1600 مليون دينار أما بقية الدعم فتولت الحكومة ترحيله إلى ما سيتم تحصيله من عائدات بعد دخول الزيادة الجديد المعلنة في ماي/أيار من هذا العام حيز التنفيذ، بحسب ما صرّح به سابقا كاتب عام الجامعة العامة للكهرباء والغاز عبد القادر الجلاصي.

وأبرز الجلاصي أيضا خلال ندوة علمية نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل في 14 من شهر ماي/أيار المنقضي حول منظومة الدعم، أنّ تبعات الحرب الروسية الأوكرانية أحدثت اضطرابا كبيرا على الموازنات المالية للشركة، مشيرا إلى أنّ الأخيرة قدّرت كلفة اقتناء الغاز وفق إطاراتها بما يتجاوز الـ10 آلاف مليون دينار.

وبالنظر إلى قانون الموازنات المالية لعام 2022، يتّضح أن الحكومة اعتمدت سعر 75 دولارا لبرميل النفط كسعر مرجعي وسعر صرف 1 دولار في حدود 2.81 دينار تونسي. في حين أن سعر برميل النفط في السوق العالمية تجاوز عتبة الـ129 دولار.ومن المهم الاشارة إلى أنّ الدينار شهدت قيمته انهيارا أمام الدولار منذ بداية عام 2022 ( 1 دولار = 3.07 دينار تونس).

وعادة ما يروّج مسؤولو الشركة والمديرون العامّون بالوزارة أنّ النسبة الأكبر من الخسائر متأتية من المواطنين إمّا عبر عدم دفع الأخيرين لمستحقاتهم أو من خلال سرقة الكهرباء. غير أنه وبالتدقيق في التقارير المالية ومختلف التصريحات الإعلامية للمسؤولين يتضح أنّ الدولة لوحدها تستحوذ على ما يُقارب الـ 50 بالمائة من الديون غير المُستخلصة من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز، فضلا عن خسائر بملايين الدينارات بفعل الفاقد الكهربائي المسجّل سنويّا وهو الفارق بين كمية الكهرباء التي يتمّ إنتاجها والكمّية التي تتمّ فوترتها.

أموال غير مُستخلصة، ديون متراكمة ومليارات في مهب الريح

منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، تعاني الشركة التونسية للكهرباء والغاز من سوء الحوكمة، ديون لها وديون عليها، وعجز في موازناتها المالية يتفاقم من عام إلى آخر، أين بلغ بحلول موفى عام 2018 ما قيمته 2093.5 مليون دينار (نتيجة صافية سلبية) قبل أن يتحسّن عام 2019 أين سجّلت الشركة نتيجة صافية إيجابية بقيمة 106.4 مليون دينار. ومردّ هذا التحسّن كان بفضل الزيادات في أسعار الكهرباء خلال نفس السنة، لتعود نحو المنحى التنازلي محققة عجزا بقيمة 60.2 مليون دينار موفى عام 2020.

والمُلاحظ في القائمات المالية للشركة لسنوات 2018 و2019 و2020، أنّ الأخيرة لا إيرادات مالية ذاتية لها وهو ما يُفسر عجزها عن رصد الاعتمادات لتطوير أنشطتها واستثماراتها.

في عام 2020، سجّلت الشركة التونسية للكهرباء والغاز ديونا غير مستخلصة فاقت الـ 2201 مليون دينار تونسي، مسجلة ارتفاعا بنحو 39 % مقارنة بأرقام عام 2019.

ويرجع هذا التطور في الديون غير المُستخلصة من طرف الشركة إلى جائحة كوفيد-19 بعد فترات الحجر الصحي المطوّلة نسبيّا التي عرفتها البلاد والإجراءات الحكومية ذات الصلة بتعليق آجال الخلاصات المستوجبة على المواطنين.

واللافت للانتباه أنّ نصف هذه الديون المتراكمة لدى حرفاء الشركة تستحوذ عليها الدولة عبر وزاراتها ومقرّاتها أين بلغ حجم الدين الحكومي المسجل بذمة الوزارات والإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية، ما يناهز الـ 1083 مليون دينار.

وفي تصريح سابق لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، قال المدير المكلّف بإدارة الاستخلاص وتقليص الفاقد الطاقي بالشركة، منصف مهبلي إنّ مُستحقات الشركة المُسجلة بذمة الرئاسات الثلاث ( رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس نواب الشعب ) ناهزت الـ 6 مليون دينار بموفى سنة 2019.

وتُشير آخر التقارير المالية للشركة بالنسبة لعام 2021 إلى أن هذه الديون غير المُستخلصة ناهزت فعلا الـ 2470 مليون دينار مع تقديرات بمزيد تفاقم الوضع أمام ما تعرفه البلاد من أزمة اقتصادية.

مُقابل ذلك، تتعلّق بذمةّ الشركة التونسية للكهرباء والغاز ووفقا لتقارير وزارة المالية حول المنشآت العمومية لسنة 2022، ديون تناهز 12900 مليون دينار وذلك بموفى سنة 2020، الجزء الأهم من هذه الديون لدى البنوك المحلّية والأجنبية.

في قراءة منه للوضعية المالية للشركة، يقول المحلّل المالي بسّام النيفر، إنّه على الرغم من أهمية رقم المعاملات التي تسجّلها سنويا الشركة إلاّ أنها تعيش وضعية صعبة ومعقدة جدّا ومستقبلا غامضا في علاقة بديمومة المؤسسة.

ولا تتوقف أزمة الشركة عند ديونها إمّا المتخلّد بذمتها أو غير المُستخلصة من طرفها، إذ تتجاوز ذلك لتطال سوء حوكمة وتصرّف وترك الأمور على ما هي عليه رغم قيمة الخسائر المُسجلة سنويا. هنا نتحدث عن الخسائر المنجرّة بفعل الفاقد الكهربائي وهو الفارق بين ما تنتجه الشركة وما يتم فوترته أين تجاوزت نسبته مع موفى عام 2020 الـ 18.24 %، وفق تقرير صادر عن الشركة نفسها.

وينقسم هذا الفاقد إلى نوعين، الأوّل عند الانتاج والنقل والثاني عند التوزيع وهو ما يُطلق عليه بسرقة الكهرباء.
بعد الثورة في 2011 ازدادت وطأة سرقة الكهرباء. وقالت الشركة في تقارير داخلية لها، تمكن موقع الكتيبة من الحصول على نسخ منها، إنّ هناك صعوبات كبيرة حالت دون استخلاص مستحقاتها من ذلك وجود سبع أحياء كبرى في مدن تونسية مسجلة كنقاط سوداء.

فضلا عن ذلك، فإنّ ظاهرة سرقة الكهرباء لا تقتصر فقط على المواطنين العاديين من ذوي الاستهلاك المنزلي، إذ تستحوذ نسبة هامة من المتاجر والمحلّات الموزّعة على كامل تراب الجمهورية على نسبة محترمة من سرقة الكهرباء، بالإضافة إلى تزايد المخالفات المُسجّلة بعدد من المنتجعات السياحية والأقطاب الصناعية والفلاحية، وذلك بحسب مصادر من داخل المؤسسة رفضت الإفصاح عن هويتها.

وبلغ الفاقد الكهربائي مستويات خطيرة بحلول موفى عام 2020، فاقت تكلفته الـ 1000 مليون دينار، وهو ما يمثّل 20 في المائة من عائدات الشركة خلال ذات السنة على سبيل المثال.

وقد نادت الجامعة العامة للطاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل في مارس من عام 2020 خلال برقية إعلام بإضرابها عن العمل إلى ضرورة فتح تحقيق جدّي في استفحال ظاهرة الفاقد الكهربائي والأسباب التقنية التي تقف وراء ذلك في إشارة منهم إلى التشكيك في جودة المعدّات الفنية التي تقتنيها الشركة والتي تُساهم في تزايد نسبة الخسائر من سنة إلى أخرى.

وتُثبت تقارير داخلية للاجتماعات الفنية لمديري المراكز الجهوية لتوليد الكهرباء بالشركة التونسية للكهرباء والغاز، أنّ هناك نسبة كبيرة من الطاقة الكهربائية يتم إهدارها على مستوى الإنتاج والنقل قبل الوصول إلى التوزيع.

وتُشير نفس التقارير إلى أنّ شبكة نقل الكهرباء البالغ طولها 6793 كلم مع موفى عام 2020 والممتدّة على كامل تراب الجمهورية وبفعل التغيّرات المناخية وارتفاع حرارة الطقس وضعف جودة الأجهزة الفنية المُقتناة من طرف الشركة، تأثرت بشكل واضح، خاصة من حيث سرعة نقل الكهرباء في المسالك الكهربائية.

وخلص تقنيو الشركة إلى ضرورة العمل على تحسين جودة الشبكة عبر تعزيزها بتجهيزات فنية عالية الجودة لتفادي الخسائر المتمثلة في تبخر الطاقة على مستوى الإنتاج والنقل، وهي استثمارات تستوجب اعتمادات مالية هامة لا تقدر الشركة التي تعيش أوضاعا ماليّة صعبة على المُضي فيها في الوقت الراهن ولا في المدى القريب.

التحوّل الطاقي في تونس.. دوّامة الحلقات المفرغة

خلال ندوة صحفية عقدت نهاية شهر جوان/يونيو من هذه السنة، أطلق المجمع المهني لمنتجي الطاقات المتجددة بكنفدرالية المؤسسات المواطنة “كونكت”، وهي منظمة تدافع عن مصالح أرباب العمل، حملة تحت شعار “سيّب التريسيتي” (أطلق سراح الكهرباء)، احتجاجا منهم على ما أسموه التعطيل الممنهج للمشاريع المزمع إحداثها والمتعلّقة بالمحطات الشمسية لتوليد الكهرباء وربطها مع الشبكة الوطنية.

ومنذ دخول القانون عدد 15 لسنة 2015 المتعلّق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، طفت على السطح عراقيل عديدة أمام تطبيق السياسات المتجهة نحو التحوّل الطاقي في تونس من أهمّها اختلاف عميق في وجهات النظر بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومات.

وتعتبر الجامعة العامة للطاقة أنّ الشركة التونسية للكهرباء والغاز هي الأولى بإحداث محطات لتوليد الكهرباء وتطلب من الدولة تمويل الشركة التونسية للكهرباء والغاز وضمان مساهمتها في إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في المحطات المزمع إحداثها بما يجعلها تستفيد من عائدات مالية واقتسام المرابيح وضمان ديمومة المؤسسة.

في حواره مع موقع الكتيبة، يُبرز منجي خليفة الكاتب العام المساعد بالجامعة العامة للطاقة، أنّ السياسات العمومية المتّصلة بمشاريع التحوّل الطاقي ستُفضي في نهاية المطاف إلى إفلاس الشركة التونسية للكهرباء والغاز أو خصخصتها.

“إنتاج الكهرباء عبر الطاقات المتجددة وتصديره تختص به الشركات الخاصة والأجنبية ودور الشركة التونسية للكهرباء يقتصر في تسخير شبكتها الوطنية لنقل ذلك الإنتاح بمقابل زهيد يساوي 07 ملّيم عن كيلوات/ساعة .”

منجي خليفة

ويعتبر خليفة أنّ التوجه المعتمد من طرف الحكومات المتعاقبة بما في ذلك حكومة نجلاء بودن يرتكز على توفير كل التسهيلات للمستثمرين الأجانب في حين تضع الدولة كل العراقيل أمام مؤسسات القطاع، مبرزا ذلك من خلال مثال المحطة الفولطوضوئية التي تمّ تركيزها بمحافظة تطاوين جنوبي تونس، في شراكة بين شركة إيني الإيطالية والشركة التونسية للأنشطة البترولية مع استثناء الشركة التونسية للكهرباء والغاز وإحجام دور الأخيرة وتلخيص نشاطها في تسخير شبكتها لنقل الكهرباء وذلك مقابل 07 مليّم لنقل الكيلوات وهي كلفة لا تغطي بالمرّة التكلفة الحقيقية لنقل الكهرباء، على حدّ قوله.

وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد أكّد سابقا عدم معارضته تشريك القطاع الخاص في توليد الكهرباء من الطاقات المتجددة، مشيرا إلى أنّ مطالبه تهدف إلى الحفاظ على ديمومة الشركة وموازناتها المالية كأحد أهم شركات القطاع العام في تونس خاصة وأنها متّصلة بقطاع حيوي لا يمكن بأي حال من الأحوال تركه لقمة سائغة للمستثمرين الأجانب خصوصا وأنه قطاع مربح.

ويضيف خليفة في ذات السياق أنّ السياسة المعتمدة من طرف الدولة عبر فصل الأنشطة التي تقوم بها الشركة وهي الإنتاج والنقل والتوزيع يفضي في نهاية الأمر إلى خصخصة جزء لا بأس به من الأنشطة الاقتصادية الموكولة للشركة العمومية وهو ما سيعود بالضرر عليها ويهدّد ديمومتها بشكل خاص.

من جانبه، لم يخف رئيس المجمع المهني للطاقات المتجددة بمنظمة كونكت عبد اللطيف حمودة أنّ اتحاد الشغل يقف عائقا أمام تنفيذ المشاريع الاستثمارية مشيرا إلى أنّ عددا من الشركات قد غادرت البلاد بسبب تلك العراقيل.

“الاتحاد يريد بقاء قطاع توليد الكهرباء نشاطا تحتكره الدولة والشركة التونسية للكهرباء والغاز ”

عبد اللطيف حمودة

وأبرز حمودة في حواره مع موقع الكتيبة أنّ اتحاد الشغل له مشكل أساسي مع الأمر عدد 105 الذي يعطي حقوق توليد الكهرباء من الطاقات المتجددة لشركات خفية الإسم يمكنها بيع إنتاجها وتصديره وهو أمر يرفضه الاتحاد وينادي بسحب الأمر المذكور، قائلا إنّ اسناد صفقات توليد وتصدير الكهرباء للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب أمر معمول به في كافة دول العالم.

” إنتاج الكهرباء في تونس يعتمد على 96.7% من الغاز و 3.3 % من الطاقات المتجددة و0.1 % من مادّة القازوال”

تقرير شركة الستاغ لعام 2020

ويُضيف رئيس المجمع المهني للطاقات المتجدّدة قائلا: “إن الشركة التونسية للكهرباء والغاز والمستثمرين التونسيين لا يملك أي أحد منهم الخبرة المطلوبة في مشاريع إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة التي تستوجب استثمارات كبيرة لا تقدر الشركة والدولة في الوقت الراهن على المُضي فيها نظرا إلى الوضعية الصعبة التي تعيشها المالية العمومية، وأن بلوغ هدف إنتاج 35% من الكهرباء بالطاقات المتجددة والذي بالمناسبة تأخر بشكل كبير يستوجب التعويل على المستثمرين الأجانب أصحاب الخبرة في المجال وفتح المجال أمام المستثمرين التونسيين لمراكمة الخبرة عبر تشريكهم في إنجاز تلك المشاريع”.

تأخرت الدولة التونسية والحكومات المتعاقبة في إجراء إصلاح عميق وجذري للشركة التونسية للكهرباء والغاز وإعادة هيكلتها بما يساعدها على تجاوز أزماتها المالية والهيكلية. واتضح من خلال العمل على هذا التحقيق أنّ الشركة دخلت منذ ما يزيد عن عقد من الزمن في دوامة المديونية واضطرابات في استخلاص فواتيرها، فضلا عن اضطرابات متكررة في حصولها على منح من الدولة بعنوان الدعم.

ووضعت الدولة التونسية خطة لبلوغ هدف إنتاج 35 بالمائة من الكهرباء عن طريق الطاقات المتجدّدة بحلول سنة 2035 وقاطرتها في ذلك الاستثمار الأجنبي كآخر الحلول الممكنة لتجاوز العجز المُسجّل في الميزان الطاقي المتأتي في جزء لا بأس به من استعمال 75 في المائة من حاجيات تونس للغاز في توليد الكهرباء.

هذا المجال الحيوي والذي يلوح مربحا مستقبلا، أضحى نقطة صراع كبير بين خيارات حكومية تسعى لتخفيف أعبائها المالية وعجز ميزانها الطاقي المتفاقم كأحد أهم شروط الجهات المانحة لمواصلة إقراض تونس على غرار صندوق النقد الدولي، وبين طرف اجتماعي يرفض المساس بسيادة الدولة على قطاع الطاقة الكهربائية. علاقة متوترة ستزيد من حجم الهوة بين الإتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التي إتخذت قرار المرور بقوّة وربط محطة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية بتطاوين بالشبكة الوطنية نقل وتوزيع الكهرباء، رغم معارضة الإتحاد العام التونسي للشغل لذلك.

لكن في الأثناء يظلّ المواطن هو الخاسر الأكبر من فشل السياسات الحكومية التي من الواضح أنها ستزيد في تعميق تراجع المقدرة الشرائية والاستهلاكية لاسيما للطبقة الوسطى التي ما انفكت تقترب شيئا فشيئا فئات عديدة منها نحو عتبة الفقر.

هذا الوضع المتأزم حال بشكل أو بآخر، وبقطع النظر عن الاختلاف في المقاربات، دون أن تتمكّن الشركة التي كانت رائدة منذ سبعينيات القرن الماضي، بُعيد تأميمها، في المُضي قدما نحو إنجاز مشاريع في التحوّل الطاقي، فمع العجز المُسجل سنويا على مستوى الأموال الذاتية للشركة وقصر نظر الدولة في وضع خطة استراتيجية كاملة، يجد القطاع الخاص والشركات الأجنبية المُستثمرة الطريق مفتوحة أمامهم للاستثمار في قطاع مربح كتوليد الكهرباء من الطاقات المتجددة لما تزخر به البلاد وموقعها الجغرافي الممتاز من ثروات طبيعية (شمس ورياح).

كلمة الكتيبة:

تمّ انتاج هذا المحتوى التفسيري بدعم من معهد حوكمة الموارد الطبيعية

كلمة الكتيبة:

تمّ انتاج هذا المحتوى التفسيري بدعم من معهد حوكمة الموارد الطبيعية

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

إشراف: وليد الماجري
تدقيق: محمد اليوسفي
مونتاج: حمزة الفزاني
غرافيك: منال بن رجب
غرافيك: أميرة درويش
تطوير تقني: بلال الشارني
غرافيك: منال بن رجب
غرافيك: أميرة درويش
تطوير تقني: بلال الشارني
اشراف : وليد الماجري
تدقيق : محمد اليوسفي
مونتاج : حمزة الفزاني

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

wael