الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“لابد من التصدّي إلى المحتكرين والمضاربين، وضمان نسق التزويد بالمواد الأساسية في الأسواق”.هذه العبارات لطالما ردّدها الرئيس التونسي قيس سعيّد في عشرات المناسبات كلّما التقى برئيسة الحكومة نجلاء بودن أو عدد من وزرائها على غرار وزيري التجارة والداخلية. ودائما ما يرفق الرئيس سعيّد كلماته تلك بالتذكير بأوامره التي تشدّد على “الضرب بيد من حديد” على أيدي من يصفهم بـ “العابثين بقوت الشعب”.

أيّام قليلة بُعيد تفعيله لإجراءات 25 جويلية/ تموز من سنة 2021، تحوّل الرئيس سعيّد إلى مقرّ مصنع يختصّ في صناعة الحديد ومشتقاته بجهة بن عروس شرقي العاصمة تونس، بعد أن داهمته وحدات أمنية وحرّرت في شأن أصحابه مخالفة ” احتكار البضائع وعدم ترويجها بالسوق”.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“لابد من التصدّي إلى المحتكرين والمضاربين، وضمان نسق التزويد بالمواد الأساسية في الأسواق”.هذه العبارات لطالما ردّدها الرئيس التونسي قيس سعيّد في عشرات المناسبات كلّما التقى برئيسة الحكومة نجلاء بودن أو عدد من وزرائها على غرار وزيري التجارة والداخلية. ودائما ما يرفق الرئيس سعيّد كلماته تلك بالتذكير بأوامره التي تشدّد على “الضرب بيد من حديد” على أيدي من يصفهم بـ “العابثين بقوت الشعب”.

أيّام قليلة بُعيد تفعيله لإجراءات 25 جويلية/ تموز من سنة 2021، تحوّل الرئيس سعيّد إلى مقرّ مصنع يختصّ في صناعة الحديد ومشتقاته بجهة بن عروس شرقي العاصمة تونس، بعد أن داهمته وحدات أمنية وحرّرت في شأن أصحابه مخالفة ” احتكار البضائع وعدم ترويجها بالسوق”.

كانت تلك اللحظة مفصلية بكل ما للكلمة من معنى، أين أعلن الرئيس سعيّد من أمام أكداس الحديد المخزنة بالمصنع آنف الذكر، أنه سيخوض حربا دون هوادة على المحتكرين والمضاربين والعابثين بقوت هذا الشعب متوجها إليهم -أيّ المضاربين والمحتكرين- بالقول: ” ولله سأتعقبهم حيث ما كانوا فوق الأرض، في البحر، تحت الأرض في السماء إن كانوا سيحاولون الهروب وستعود أموال الشعب التونسي إلى الشعب التونسي.”

على العكس من ذلك، فمنذ تلك اللحظات والسوق التونسية تشهد نقصا فادحا في عدد من المواد الأساسية ليصل الأمر في مرّات عديدة إلى فقدان مواد بعينها على غرار مادتي السكر والزيت النباتي، وحتى المياه المعدنية، مؤخرا، فضلا عن غلاء عدد من المنتجات الفلاحية أو حتى فقدانها هي الأخرى.

هذه الوقائع تضعنا أمام فرضيتين: الأولى وهي الأكثر تداولا من أعلى هرم السلطة في تونس والتي تُرجع أسباب نقص المواد الغذائية والأساسية وغلائها إلى وجود خطط محكمة تقوم بها لوبيات تسعى إلى ضرب الدولة من الداخل وتجويع الشعب التونسي. وفرضية أخرى يتداولها المنتجون والموزعون والخبراء، تقول إنّ السياسة الزجرية التي اتبعتها الدولة أفضت إلى ضرب مخزونات استراتيجية لعدد من المواد الحيوية بما جعلها مفقودة في السوق أو فتحت نار المضاربة عليها مما رفّع في أسعارها.

فأي الفرضيتين أقرب إلى الواقع؟ وهل هناك أسباب أخرى تقف وراء هذا الوضع المزري الذي بات عليه المواطن التونسي؟ وهل تتطابق الأرقام مع الخطاب السياسي الرسمي؟

حرب على الاحتكار يدفع ضريبتها المستهلك

من أمام المغازات والمساحات الكبرى والمتوسطة وحتى الصغيرة، طوابير طويلة من المواطنين/ات ينتظرون/ينتظرن مادة السكر. عراك، سباب وشتائم يتبادلها المرابطون/ات أمام مغازات “عزيزة “على وجه الخصوص بصفتها الأكثر انتشارا في المناطق الشعبية، من أجل الحصول على كيس من السكر.

ولا يتعلّق الأمر بمادة السكر فقط، إذ رافقت ذلك، اضطرابات في تزويد السوق بمواد الزيت النباتي، القهوة والمياه المعدنية، إضافة إلى غلاء أسعار بقية المنتجات الفلاحية وأهمها اللحوم البيضاء والحمراء، وشح في مادة حليب.

بالعودة إلى موضوع فقدان مادة السكر، أثّر هذا الوضع على نشاط معامل الصناعات الغذائية المتخصصة في المشروبات الغازية والعصائر والبسكويت، وصل الأمر بعدد منها إلى التوقف كليا عن العمل في الفترة الأخيرة قبل أن تعود لفتح أبوابها من جديد منذ أيّام.

ورغم البلاغات الرسميّة الصادرة عن وزارة التجارة والمتصلة بتفريغ شحنات بآلاف الأطنان من مادة السكر في عدد من الموانئ، إلاّ أنّ النقص المسجّل في السوق والذي يعاني منه المستهلك يوميا يبقى غير منطقي مع الكميات التي تقول الوزارة إنها تولّت استيرادها من البرازيل والهند والجزائر.

وبحسب رئيس مدير عام الديوان الوطني للتجارة إلياس بن عامر، تعود جذور الأزمة، وفق تصريح أدلى به بداية شهر جويلية/تموز من هذا العام إلى إذاعة موزاييك، إلى وجود خلل في عقد مع أحد المزودين الذين يتعامل معهم الديوان، ما انجر عنه تقلّص في المخزونات الاستراتيجية من هذه المادة بعد إلغاء تلك الصفقة المبرمجة في شهر جوان/حزيران، الأمر الذي أدخل اضطرابات في تزويد السوق في الفترات اللاّحقة.

ولا تقتصر المواد المفقودة من السوق على مادة السكر، حيث طالت المياه المعدنية التي يستهلكها التونسيون/ات بشكل لافت للانتباه لاسيما في ظلّ تواصل ارتفاع درجات الحرارة.

ولم تشهد هذه المادة، التي تنتجها عديد المصانع المتخصصة في إنتاج وتعليب المياه المعدنية، اضطرابات في التزود بها كالتي عرفتها البلاد منذ أسابيع.

وقد أرجعت الغرفة الوطنية لتجّار المواد الغذائية بالجملة أسباب فقدان جميع أنواع المياه المعدنية في السوق رغم استقرار معدّلات الإنتاج اليومية، إلى الحملات الأمنية التي وصفتها بالعشوائية والتي طالت عددا من مخازن باعة الجملة، التي تتوفر بها كميات كافية من مخزونات المياه الاستراتيجية كان لها دور أساسي في ضمان وفرة المنتوج في السوق خاصة في الفترات الصيفية.

يقول رئيس الغرفة نبيل العيّادي في تصريح أدلى به عند حضوره في قناة التاسعة، إنّ عددا من تجار الجملة أصبحوا يتجنبون تخزين السلع لديهم خوفا من المداهمات التي تحصل على مخازنهم والمخالفات الاقتصادية التي تُحرّر في شأنهم بشبهة المضاربة والاحتكار.

إضافة إلى فقدان عدد من المواد الأساسية، شهدت بعض المنتجات الفلاحية ارتفاعا في الأسعار على غرار اللحوم البيضاء والحمراء، فضلا عن التحذيرات المتتالية من العاملين في مجال إنتاج وتصنيع الحليب من مغبة فقدان المادة خلال أسابيع.

منذ أشهر يطالب الفلاحون أساسا بالترفيع في سعر الحد الأدنى للبيع من طرفهم والبالغ قدره اليوم 1140 ملّيما للتر الواحد. طلبات جاءت بعد ما شهدته أسعار العلف الحيواني من ارتفاع غير مسبوق بفعل الأزمة المنجرّة عن الحرب الروسية الأوكرانية التي أشعلت لهيب الأسعار في جميع المواد الأساسية والحيوية في السوق الدولية مع تواصل انهيار قيمة الدينار التونسي مقارنة بالعملات الأجنبية وخاصة الدولار، اضطرّت بعدها الحكومة إلى تجميد أسعارها وكبح نسق غلاء المنتجات الحيوانية، في قرار صادر وزارة عن وزارة التجارة وتنمية الصادرات في شهر ماي/ أيار المنقضي.

ارتفاع أسعار العلف لم يؤثر على تكلفة إنتاج الحليب فقط، إنما تجاوز ذلك ليشمل أسعار اللحوم وخاصة منها لحوم الدجاج والديك الرومي الأكثر استعمالا في المطبخ التونسي في السنوات الأخيرة، أين يقدّر سعر الكيلوغرام الواحد من الدجاج الجاهز للطبخ بنهاية شهر سبتمبر من هذا العام بـ 7 دنانير، في حين تجاوزت أسعار شرائح الديك الرومي ما يناهز الـ 16 دينارا وأحيانا الـ17 دينارا للكيلوغرام الواحد.

منتجات مؤطرة من طرف الدولة، إما عبر توجيه الدعم لتخفيف غلاء أسعارها أو عبر تسقيف أسعار بيعها للعموم، ومنتوجات أخرى بأسعار حرّة لا تتدخل فيها الدولة بأي شكل من الأشكال جميعها شهدت لهيبا وفق النشرية الشهرية للمعهد الوطني للإحصاء لشهر سبتمبر المنصرم التي قالت فيها أن نسب التضخم بلغت 9.1%.

يعود هذا الارتفاع في نسبة التضخم بالأساس إلى تسارع نسق ارتفاع أسعار مواد التغذية والمشروبات لتسجّل 13 % في شهر سبتمبر/أيلول بعد أن كانت تقدر بـ9,11 % خلال شهر أوت/ آب الفارط، إضافة إلى ارتفاع أسعار السكن والطاقة المنزلية من 2,6 % إلى 4,6 % وذلك نتيجة التعديل الأخير في أسعار المواد البترولية، الأمر الذي أثّر بدوره على أسعار النقل التي ارتفعت بنسبة 0.3% مقارنة بشهر أوت من السنة الجارية.

وبهذا ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 13% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، كما ارتفعت أسعار الدواجن بنسبة 27.4% فيما ارتفعت أسعار البيض بنحو 25% والزيوت الغذائية بنسبة 21.8% والغلال بـ18.2%

قصف عشوائي يستهدف مسالك التوزيع

سامي (اسم مستعار)، صاحب مصنع صغير للعطور ومواد التجميل، كان قد تمّ إيقافه بداية هذا العام بتهمة الاحتكار والمضاربة في مادة السكر، بعد أن داهمته فرقة مشتركة بين القوات الأمنية وفرق الرقابة الاقتصادية التابعة لوزارة التجارة، وتمّ على إثر ذلك حجز عشرة أطنان من السكر الصناعي غير المدعوم من الدولة.

ورغم إدلائه بما يثبت سلامة إجراءاته، بشكل ينفي عنه تهمة احتكار مواد غذائية مدعمة، تمّ الحكم عليه ابتدائيا بالسجن لمدّة شهر، قبل أن يصدر حكم ثان من محكمة الاستئناف يخلي سبيله ويبرّئه تماما مما تمّ اتهامه به.

يقول سامي في شهادته التي أدلى بها إلى موقع الكتيبة، إن هناك الكثيرين أمثاله، منهم من قضى أسبوعا وراء القضبان بعد أن حجزت قوات الأمن شاحنته التي كانت محملة بكمية من علب الحليب رغم امتلاك الأخير لوثائق سليمة ورغم أنّ مادة الحليب لم تكن تشهد نقصا بالمرّة في تلك الفترة (بداية هذا العام).

“ما استنتجه خلال بقائي شهرا و20 يوما وراء قضبان السجن، أنّ السياسة المتبعة لمكافحة الاحتكار ترتكز على العشوائية وهضم حق الدفاع عن نفسك حتى وإن كانت الوثائق سليمة. وكأن الأمر أصبح: ضع المعني في السجن ودع القضاء ينظر في أمره لاحقا”.

سامي صاحب مصنع

منذ عقود قبل الثورة وبعدها، تعيش السوق التونسية من فترة إلى أخرى شحّا في عدد من المواد الغذائية والفلاحية أو حتى الصناعية، وكانت الأسباب في أغلبها ترجع إلى ممارسات تقوم بها لوبيات الاحتكار والمضاربة بهدف دفع الدولة إلى إقرار زيادة في الأسعار تعود بالنفع على المنتجين والمزوّدين عموما.

في السابق، كانت الدولة تقوم باستيراد كميات من المواد موضوع المضاربة والاحتكار بهدف تعديل السوق وإفشال مخططات اللوبيات الراغبة في إقرار زيادة في أسعار منتجاتهم. غير أنّ وضع المالية العمومية أثّر على سياسات الدولة وجعلها غير قادرة على القيام بخطوات لتعديل السوق عبر استيراد وضخ كميات من المنتج المفقود في السوق.

يتجلّى هذا الوضع في حادثة مداهمة القوّات الأمنية لمصنع إنتاج الحديد ومشتقاته بجهة بن عروس شرقي العاصمة تونس في شهر أوت/ آب من العام الفارط. أيّام قليلة بُعيد المداهمة، استرجع المصنع نشاطه، فيما بقي المحجوز من الحديد ومشتقاته موضوع نزاع قضائي بين أصحاب المصنع ووزارة التجارة.

اللافت للانتباه في تلك الحادثة، أنه وبعد أيّام قليلة من تاريخ المداهمة وكلمات الرئيس سعيّد الشهيرة، صادقت حكومة الرئيس نفسه على مطالب مصنّعي الحديد في إقرار زيادة في الأسعار استجابة لنسق أسعار المعادن التي تعرفها البورصات العالمية.

وتتكرّر هذه الوضعية مع منتجي الحليب والألبان ومربي الماشية ومنتجي اللحوم الحمراء والبيضاء، فبعد الارتفاع المُشطّ في أسعار العلف الحيواني الذي تتوّلى شركات خاصة احتكار توريده، طالب الفلاحون أساسا بضرورة إيجاد حلول جذرية لمشاكلهم المتّصلة بالكلفة العالية التي يتحملونها في تربية الأبقار والدواجن والتي تسبّبت لهم في خسائر جمّة.

جدير بالذكر أنّه في عام 2019، أقرّت حكومة يوسف الشاهد آنذاك زيادة في أسعار بيع الحليب من المنتج (الفلاح) إلى المصنّع يتحمّلها صندوق الدعم دون أن يطرأ تغيير على سعر البيع إلى عموم المستهلكين. في عام 2021 وبفعل جائحة كوفيد-19، أقرّت حكومة هشام المشيشي زيادة بقيمة 100 مليم في أسعار الحليب يتحمّلها المستهلكون، أين أصبح سعر علبة اللتر الواحد من الحليب نصف الدسم -وهو السعر المعمول به حاليا- بـ 1350 ملّيما، فيما يتوقع المنتجون والمصنعون إقرار زيادة جديدة لا تقل عن 400 ملّيم.

وتعاني منظومة إنتاج الحليب مشاكل هيكليّة عميقة تتجلّى في إقرار من الدولة بأنّ كلفة إنتاج لتر واحد من الحليب عند الفلاح بـ1700 ملّيما فيما يقوم الأخير ببيعها بـ 1140 مليما، وهو ما تسبّب في إثقال كاهل الفلاحين الذين اتخذ عدد منهم قرار بيع أبقارهم أو تهريبها إلى الجزائر بحسب شهادات أدلى بها عدد من مربي الأبقار إلى موقع الكتيبة.

وأشار هؤلاء الفلاحون إلى أنّ المستفيدين الوحيدين من منظومة إنتاج الحليب وتصنيعه اليوم في تونس هم أصحاب المصانع والماركات التجارية، التي ضمنت لهم الدولة هامش الربح من خلال تكفّلها بتغطية الفارق بين كلفة إنتاج لتر واحد من الحليب عند المصنع وسعر البيع المعتمد إلى عموم المواطنين.

الحلّ الوقتي الذي توجهت فيه الدولة عام 2019، لتخفيف عبء تكلفة إنتاج الحليب عند الفلاح عبر تحمّل صندوق الدعم لجزء من الكلفة يتم تسديده نقدا إلى مصانع الحليب، لم تقدر حكومة نجلاء بودن على المضي فيه لما تعرفه المالية العمومية من انخرام في موازناتها.

ستة عشر شهرا تخلّفت فيها الدولة عن سداد ديونها المتخلّدة بذمتها لفائدة مصانع الحليب في تونس والمقدّرة بنحو 300 مليون دينار بعنوان الدعم. الشيء الذي جعل من أصحاب هذه المصانع يخوضون تحرّكات ويمارسون ضغوطات من أجل تحرير سعر الحليب وإخراجه من منظومة الدعم.

ويرتكز المصنعون في مطالبتهم بضرورة تحرير أسعار الحليب، على أنّ كلفة اللتر الواحد منه في حال تم تحرير سعره لن يتجاوز الدينارين، وهو سعر منخفض بالمقارنة مع السعر المقدّر في صورة توجه الدولة لاستيراده من الخارج بالعملة الصعبة والذي يصل إلى 3 دنانير حسب قولهم.

ضغوطات وطلبات قد تجد طريقها للتطبيق، خاصة وأنّ سياسات حكومة الرئيس قيس سعيّد بقيادة نجلاء بودن تتجه، بحسب ما أعلنته في برنامجها للإصلاحات الهيكلية، نحو رفع الدعم وتوجيهه عبر منح نقدية إلى مستحقيه.

من خلال تجميع البيانات المنشورة على صفحة وزارة التجارة والمتصلة بعدد المخالفات والمحجوزات التي تم رصدها في الحملات التي قامت بها الفرق المشتركة بين قوات أمنية وفرق المراقبة الاقتصادية التابعة لوزارة التجارة، واعتمادا على جدول محيّن تحصّل عليه موقع الكتيبة، يتضح أنّ أرقام المخالفات والمحجوزات متقاربة من حيث المعدل خلال السنوات الثلاثة الأخيرة وكذلك خلال أشهر رمضان.

ويتضح من قراءة الأرقام أنّ حملات الرقابة التي قامت بها الفرق التابعة لوزارة التجارة بمعيّة مختلف الوحدات الأمنية والتي تواصلت على مدار الأشهر التسع الأولى من هذا العام، تفضي إلى نتائج متقاربة، من حيث المعدّل الشهري العام، مع الحملات التي تقوم بها نفس الفرق خلال حملاتها الموسمية بمناسبة حلول شهر رمضان من كل سنة.

فضلا عن الآنف ذكره، يتضح من خلال الأرقام أنّ المحجوزات من المواد المدعمة على غرار مشتقات الحبوب والزيت النباتي في عام 2020 والذي عرفت فيه تونس أطول فترات الحجر الصحي وغلق الحدود بفعل الجائحة العالمية كوفيد-19 أعلى بكثير من المواد المدعمة التي تمّ حجزها خلال الأشهر التسع الأولى من هذا العام، ما يرجح فرضية عدم توفرها أو أنّها تشهد نقصا فادحا في مخزونات الدولة الإستراتيجية، باعتبارها الموّرد الوحيد لهذه المواد.

ورغم أنّ الرئيس سعيّد جهّز لحربه ضدّ المحتكرين مرسوما جديدا يتعلّق بمكافحة المضاربة والاحتكار، تضمّن أحكاما زجرية صارمة تصل فيها العقوبات إلى عشرات السنوات والسجن مدى الحياة، إلا أنّ المحصلة لم تكن متناسقة بالمرّة مع الاتهامات التي صرّح بها الرئيس سعيّد نفسه في وجود مخططات تسعى لضرب المسار التصحيحي الذي بدأه.

“عدد الملفات التي تمت إحالتها على معنى المرسوم الجديد في حدود الـ20 ملفا متصلا بجرائم كبرى، بقية المخالفات هي مخالفات اقتصادية لا ترتقي إلى ما يجرّمه المرسوم “

حسام الدين التويتي

عشرون ملفا فقط تمت إحالتها على أنظار مختلف المحاكم التونسية وفقا للمرسوم الذي صدر منذ شهر مارس/آذار من العام الجاري، لم يصدر فيها بعد أي حكم قضائي بالإدانة.

تشي هذه الأرقام بمعطيات مخالفة ولو جزئيا، على نقيض سرديّة الرئيس قيس سعيّد المرتكزة على وجود مساع لإرباك الوضع في تونس عبر إفراغ السوق من المواد الغذائية وتجويع الشعب.

أزمة ظرفية أم هيكليّة ؟

في الحقيقة، لم يكن الوضعان الاقتصادي والاجتماعي قبل 25 جويلية/ تموز من العام الماضي على أحسن ما يرام.

وضع سياسي غير مستقرّ، وأزمات منجرّة عن الجائحة الصحية العالمية كوفيد-19، أثّرت بشكل مباشر على حياة المواطنين/ات وعلى قدرتهم الشرائية، فضلا عن سوء إدارة للملف الاقتصادي والمالي منذ سنوات.

بعد تجميع الرئيس التونسي قيس سعيّد للسلطات ومركزتها بيديه ليلة 25 جويلية/تموز 2021، بشكل أصبحت فيه القرارات السياسية والقوانين تصدران عن جهة واحدة، رجّح المتابعون للملف التونسي أنّ مركزة القرار السياسي سيجعل من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تشهد انفراجا لدى المواطنين الذين ضاقوا ذرعا من تذبذب قدرتهم الشرائية.

غير أنّ الزلزال السياسي الذي عرفته تونس، لحقه اجتياح روسيا لأوكرانيا وما خلّفته الأزمة من أوضاع اقتصادية تجلّت في الارتفاع الصاروخي لأسعار الطاقة والمواد الأساسية والأوّلية، فضلا عن صعوبات وأزمات تشهدها حركة نقل البضائع في حوض البحر الأبيض المتوسط والمزاحمة التي عرفتها البلدان الإفريقية على وجه الخصوص من بلدان أوروبية من أجل الظفر بصفقات شراء القمح الأوكراني والمنتجات البترولية.

صعوبة السياق العالمي بفعل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية ليست السبب الوحيد وراء مزيد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، فتأخر الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وغياب رؤية اقتصادية واضحة زادا من تعقيد الأوضاع.

من بين أهم الأحداث التي أكّدت وجود إشكاليات عميقة في المالية العمومية التونسية وانذرت بأوضاع خطيرة، ما حصل في شهر جوان/حزيران الفارط أين شهد قطاع توزيع المنتجات البترولية بجميع محطات توزيع النفط نقصا فادحا ونفاذا لمخزوناتهم. مثلت تلك الحادثة صدمة لدى عموم المواطنين، الذين رأوا في ذلك وضعا مشابها لما يعيشه لبنان.

وكشف المكلّف بإدارة المحروقات صلب وزارة الصناعة والطاقة رشيد بن دالي في تصريح إلى وكالة تونس أفريقيا للأنباء تزامنا مع فقدان المنتجات البترولية من محطات التوزيع في شهر جوان/حزيران الماضي، أنّ تونس لجأت إلى استعمال مخزوناتها الاستراتيجية من المواد البترولية حتى تتمكن من تزويد السوق، مشيرا في ذات التصريح إلى أنّ وضع المالية العمومية والأزمة العالمية وندرة المواد البترولية من الأسباب التي جعلت الدولة تخوض “حربا” لتأمين صفقات التزود بالمواد البترولية.

تلك الأزمة كانت نتيجة فقدان السيولة لدى الشركة التونسية لتوزيع البترول، علاوة على صعوبات أصبحت تعاني منها الشركة مثل أغلب المنشآت العمومية في ما يخص الحصول على تمويلات في شكل قروض بغية إتمام صفقاتها وشراءاتها.

وتعود أزمة المنشآت العمومية على غرار الشركة التونسية لصناعات التكرير (STIR) إلى انحدار مستوى تونس لدى وكالات التصنيف الائتماني، من بينها وكالة موديز التي أصدرت بلاغا موفى شهر سبتمبر المنقضي تقول فيه إنها تدرس إمكانية مزيد الحطّ من مستوى تونس الائتماني، بعد تأخر الدولة في التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

وقد أثّر تراجع تصنيف تونس لدى وكالات التصنيف الائتماني التي وصفها الرئيس سعيّد في إحدى خطاباته بـ”وكالات أمّك صنافة” على علاقة الشركات والدواوين العمومية مع المزوّدين الدوليين، وكذلك مع البنوك الأجنبية، حيث أصبحت تونس ملزمة بتأمين مبلغ الصفقة قبل الظفر بالمنتجات التي تسعى إلى توريدها.

وفي غياب التمويل، لا تجد هذه الدواوين والمنشأت العمومية التي تحتكر توريد مواد أساسية معينة، على غرار المواد البترولية، السيولة الكافية لتأمين صفقاتها وشراءاتها.

ورغم انفراج أزمة التزوّد بالمواد البترولية التي عرفتها البلاد في شهر جوان/حزيران المنقضي، إلا أن نسق تزويد محطات توزيع البترول مازال يشهد اضطرابات، خاصة فيما يتعلّق بمادة البنزين الخالي من الرصاص.

وقد احتدت أزمة الحصول على كميّة من البنزين الخالي من الرصاص في الأيّام الأخيرة، ينضاف إلى ذلك سوء حوكمة وتصرّف من حكومة نجلاء بودن جعل من أزمة المحروقات تتكرّر بشكل شبه دوري.

في اتصال جمع موقع الكتيبة برئيس الغرفة النقابية الوطنية لوكلاء وأصحاب محطات بيع النفط محمد الصادق البديوي، أكّد الأخير أنّ هناك نقصا على مستوى التزود بالبنزين الخالي من الرصاص فيما تعرف بقية المنتجات على غرار مادة الغازوال استقرارا إلى حدّ الآن.

“وزيرة التجارة قالت في تصريح إعلامي إنّ إضطرابات التوزيع التي عرفتها بعض المواد في الفترة الأخيرة لن تتكرر، وهاهو الأمر يتكرّر أمام أعينكم ”

محمد الصادق البديوي

وبيّن البديوي أنّ القاعدة العامة في تزويد محطات توزيع المواد البترولية (الباعة بالتفصيل) تخضع إلى شروط معيّنة، قائلا في هذا السياق: ” أصحاب المحطات يقومون في الأصل بطلب الكميات التي يحتاجونها وفقا لإجراءات مضبوطة ولم يحصل قط أن جاءت طلباتهم منقوصة في السنوات السابقة، إلاّ أنّه ومنذ الأزمة التي عرفها القطاع في شهري ماي/أيار وجوان/حزيران من هذه السنة، أصبحت الكميّة المحدّدة التي يحصلون عليها أقل بكثير مما يطلبونه ما يجعل عدد من المحطات تغلق أبوابها وتعتذر من حرفائها في أوقات مبكرة من النهار وذلك لنفاذ المنتوج.

ويُفسّر البديوي أنّ ما يحصل لا يمكن تسميته بالاضطراب في التوزيع على اعتبار أنه لا يوجد ما يعطل شبكة التوزيع التي تعمل وفق إجراءات مضبوطة ومرقمنة. ويضيف قائلا: “ما يحصل مع منتوج البنزين الخالي من الرصاص الأكثر استعمالا من عموم المواطنين يعود إلى شح وندرة المادة لدّى الموّرد الأصلي وهو الشركة التونسية لصناعات التكرير أي الدولة”.

عجز سياسي

في الخامس من شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من هذا العام، رفّع مجلس إدارة البنك المركزي من نسبة الفائدة المديرية بنحو 25 نقطة، لتبلغ 7.25% وهو الترفيع الثالث منذ بداية هذا العام. قبل ذلك بأيّام أظهرت معطيات البنك أن احتياطاته من العملة الصعبة تراجعت إلى 107 يوم توريد وهو أدنى مستوى تصله تونس خلال الثلاث سنوات الأخيرة. كما أعلن المعهد الوطني للإحصاء ارتفاع نسبة التضخم لتبلغ 9.1% فيما ارتفع التضخم في المواد الغذائية برمتها بنحو 13%.

ويفسّر خبراء اقتصاديون أنّ ارتفاع نسبة التضخم يعود في جزء لا بأس به إلى تضخّم مستورد بفعل الأزمة التي يعرفها العالم (كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية)، مبرزين أنّ المؤشرات تدفع نحو مزيد ارتفاع هذا التضخّم. كما أن البنك المركزي سيضطرّ إلى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية من جديد، وهو ما سيؤثر كذلك على فوائد القروض الاستهلاكية والسكنية لدى المواطنين.

فضلا عن كل هذا، تأخرت حكومة نجلاء بودن في إتمام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، رغم أنّ الإجراءات التي يتضمنها برنامج الإصلاح الذي تفاوض به الحكومة، تلوح متطابقة مع ما يطلبه الصندوق.

أستاذ الاقتصاد بجامعة دينيسون الأمريكية ورئيس المعهد العالمي للازدهار المستدام فاضل قابوب يفسّر في حواره مع موقع الكتيبة، أنّ الأوضاع التي تعيشها تونس هي نتاج طبيعي لمنظومة وتركيبة الاقتصاد التونسي.

ويقول الأستاذ بالجامعات الأمريكية إنّ ارتفاع نسب التضخم، والذي ينتج في جزء كبير منه عن التضخم المستورد، أساسه غياب السيادة الغذائية في تونس، إلى جانب عجز في الميزان الطاقي جرّاء غياب تصوّر لبناء سيادة طاقية والتعويل على الصناعات التركيبية ذات قيمة مضافة ضئيلة، وهو ما يجعل من الدولة التونسية تتأثر بشكل كبير أكثر من دول أخرى بفعل الأزمات العالمية، مشيرا إلى أنّ كل المواد الأساسية بما في ذلك الغذائية تقوم الدولة التونسية باستيرادها وهو ما يستنزف احتياطاتها من العملة الصعبة.

ورجّح الخبير في النظريات النقدية الحديثة أنّ نسب التضخم العام سترتفع أكثر في تونس وستبلغ رقمين وهذا لا مفرّ منه وفقا للمؤشرات الاقتصادية للبلاد، متوقعا كذلك مواصلة إدارة البنك المركزي الترفيع من نسب الفائدة المديرية في قادم الأشهر وقد تبلغ مستويات عالية كآخر الحلول الترقيعية لضمان تماسك الدينار التونسي أمام الدولار واليورو والحد من انهياره أمامهما.

“في ظل هذه التركيبة الاقتصادية، لا حلّ أمام البنك المركزي سوى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية لوضع حدّ لتراجع الدينار أمام الدولار واليورو، بما يساعد على الحفاظ قدر المستطاع على احتياطات العملة الصعبة”

أستاذ الإقتصاد فاضل قابوب

وعن مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي، أشار قابوب إلى أن الصندوق يعمل وفق أيديولوجيا معيّنة وتتحكّم فيه أكبر الاقتصاديات العالمية كالولايات المتحدة الأمريكية، معتبرا أنّ استراتيجياته وكما عرفها الشعب التونسي منذ ثمانينات القرن الماضي تقوم على رفع دعم الدولة عن المواد الغذائية والطاقية وتحرير السوق ودفع الاقتصاد التونسي إلى التعويل على الصناعات التركيبية بهدف جلب الاستثمار والعملة الصعبة، وهي من المسائل التي لا تعطي قيمة مضافة عالية، في المقابل تصب مباشرة في مصلحة المستثمرين لا غير.

ولا ينكر قابوب أنّ الدعم الذي توجّهه تونس إلى مواطنيها يذهب في جزء لا بأس به إلى قطاعات السياحة والمطاعم والمصانع، كما يوجه إلى الفلاح الروسي والأوكراني الذي تشتري منهم تونس منتجاتهم من القمح، معتبرا أنّ المقاربة المتصلة بإصلاح منظومة الدعم كما تطرحها الحكومة الحالية، من خلال توجيهه إلى مستحقيه عبر منح نقدية، سيولّد انفجارا ولخبطة هيكلية بما أن رفع الدعم عن مواد تستعملها النزل ومصانع الصناعات التركيبية أو غيرها سيجعل منتجات وخدمات الأخيرين تشهد ارتفاعا في أسعارها، أي أن نسب التضخم ستصبح في مستويات قياسية.

ويقول قابوب في تعليقه على خطاب الحكومة المرتكز على توجيه الدعم نحو مستحقيه عبر منح نقدية: “إن الاقتصاد التونسي يقوم على جلب الاستثمار الأجنبي.. والمستثمرون الأجانب يأتون إلى تونس أو مصر أو المغرب لضعف أجور العمال بها، فإذا تم رفع الدعم عن هؤلاء العمال سيطالبون حتما بأجور أكبر، وهو ما سيؤثر على نسق الاستثمار وربما يشجع المستثمرين على البحث عن بلدان أخرى بها يد عاملة أقل تكلفة. هذا لا يعني أن هيكلة الإقتصاد الحالي سليمة، لكن الأسلم يكمن في البدء الفوري في إصلاحات هيكلية نابعة من إرادة التونسيين ( حكومة ونقابات ومجتمع مدني وسياسي ) قبل التفكير في رفع الدعم عنهم.”

“رفع الدعم ليس بالسهولة التي تطرحها الحكومة أو عدد من المختصين. الإجراء له تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على هيكلة الاقتصاد التونسي لأنّ المسألة ليست اعتباطية. الدعم في أساسه وفلسفته ليس دعما موجّها للمواطن بقدر ما هو دعم موجه إلى الاقتصاد التونسي برمته”

أستاذ الاقتصاد فاضل قابوب

وللخروج من هذا الوضع الصعب، يقترح قابوب تغيير الفكر الاقتصادي للدولة عبر الاستثمار في الفلاحة ودعم الفلاّح التونسي وخاصة دعم الزراعات التي توفر الغذاء للتونسي كالقمح مثلا عوض التعويل على زراعات سقوية كلفتها عالية يتم تصديرها بحثا عن العملة الصعبة والحال أنها تستنزف مواردنا المائية.

ويدعو قابوب أيضا إلى الاستثمار في الطاقة البديلة بما يحد من نزيف العملة الصعبة، وللحفاظ قدر المستطاع على السيادة الطاقية بما أنّ توليد الكهرباء في تونس في جزء كبير منه يتم عبر المواد البترولية والغازية التي يتم توريدها.

هذه الاستثمارات والإصلاحات ستجعل من الاقتصاد التونسي أكثر تماسكا ومرونة ومحميّا قدر المستطاع من الأزمات العالمية، وفق تعبير نفس المتحدث.

ويختم الأستاذ بجامعة دينيسون مقترحاته، بالإشارة إلى أن الأزمة الروسية الأوكرانية أثبتت أنّه لا مفر من سيادة الدول على أمنها الغذائي والطاقي.

ويضيف قائلا: ” لا بد على الدولة التونسية في خضم مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي أن تكون لها مقترحات تعوّض الإجراءات والإصلاحات التي يطلبها منها الصندوق في شكل حلول ترقيعية والتي ستجعل من تونس تعود إلى الصندوق من جديد لتطلب قرضا جديدا ببرنامج جديد، هذا دون الحديث عن بقية القروض التي تسعى تونس للحصول عليها من السوق العالمية أو في إطار التعاون الثنائي وهو ما يجعل من المديونية الخارجية ثقيلة وقياسية”.

من جانبه، اعتبر أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي أنّ الأوضاع في تونس جدّ خطيرة وأن تأخر الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي ينتظره الاقتصاد التونسي رغم أنه ليس الحلّ للأزمة الهيكلية التي تعيشها البلاد، عمّق المشكلة أكثر.

ويفسّر الشكندالي في تصريح أدلى به إلى موقع الكتيبة أنّ الاتفاق سيفتح الباب أمام تونس لمزيد الاقتراض من السوق العالمية وهو ما سيعطي جرعة أوكسيجين قصيرة المدى تضمن حدّا أدنى من توفر المواد الأولية والأساسية، إلا أنها لن تفي بالحاجة إذا لم تمض البلاد حقا في إصلاحات هيكلية عميقة لإنقاذ الاقتصاد التونسي الذي أثبت محدوديته وعدم نجاعته قبل الأزمات (كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية) التي عرفها العالم وقد تبيّن ذلك أكثر بعدها.

“لا أرى في سياسة الحكومة أو في تصريحات أعضائها أيّة مؤشرات أو توجها لخوض إصلاحات عميقة”

أستاذ الإقتصاد رضا اشكندالي

فضلا عن كل ما سبق، ستكون سنة 2023 سنة دفوعات كبيرة ستقوم بها الدولة لخلاص حصص حلّت آجالها من الديون الخارجية التي تحصلت عليها في السنوات السابقة. وتقدّر هذه الخلاصات وفق تقرير صادر عن البنك الأمريكي JP Morgan في عام 2020، بـ3.3 مليار دولار ما يناهز حجم القرض الجديد موضوع مباحثات تونس حاليا مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من الوضع المحرج الذي تعيشه المالية العمومية ويمثل خطرا متزايدا على احتياطات البنك المركزي من العملة الصعبة في ظل نسب نمو ضئيلة.

عجز الحكومة على أكثر من صعيد لا يتوقف عند تأخر إمضاء اتفاق مع صندوق النقد الدولي، إذ طال عجزها تفعيل فصول قانونية أقرّتها الحكومة نفسها في قانون موازناتها المالية لعام 2022 والتي تمّ تسويقها على تهدف لتعبئة موارد جديدة، يتجلى ذلك على سبيل المثال في الفصل 66 من قانون المالية لسنة 2022 الذي جاء بإجراءات صلحية مع الأشخاص والمؤسّسات التي لها أموال متأتية من أنشطة غير مصرّح بها شريطة إيداع أموالهم في المسالك النظامية.

” ينتفع الأشخاص الطبيعيون الذين بحوزتهم مبالغ متأتية من أنشطة خاضعة للأداء وغير مصرح بها والذين يقومون بإيداع هذه المبالغ في أجل أقصاه موفى شهر جوان 2022 بحساب بنكي أو بريدي، بإبراء ذمتهم من الناحية الجبائية وذلك في حدود المبالغ المودعة على أن يتم دفع ضريبة تحررية بنسبة 10 %من المبالغ المذكورة.”

الفصل 66 من قانون مالية 2022

وأفادت مصادر مطلعة أنّ الإجراء فشل فشلا ذريعا بعدم تسجيل أي طلب للانتفاع بهذا الفصل. للتثبت من صحة المعلومة، اتصلنا بالإدارة العامة للأداءات في أكثر من مناسبة للحصول على توضيح ومعلومات متصلة بعدد الراغبين الذي أودعوا مطالب للانتفاع بهذه الإجراء وحجم الأموال التي تمّت تعبئتها إن وجدت، إلاّ أنّ اتصالاتنا جوبهت بالتسويف والمماطلة.

وعلى الرغم من إجماع الخبراء المختصين على أنّ أزمة تونس الحالية هي أزمة هيكلية ولا يمكن حصرها في ادعاء أنّ الاحتكار والمضاربة هما السبب الرئيسي للمعاناة الاجتماعية لعموم المواطنين والمواطنات لاسيما من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، إلا أنّ رؤية الرئيس التونسي قيس سعيّد تقتصر في مقاربته الإصلاحية على الجوانب الزجرية دون إيلاء الأهمية لأمهات القضايا والمشاكل الهيكلية التي أضحت تهدد مقوّمات العيش الكريم لجزء كبير من الشعب التونسي.

ففي الوقت الذي يتجه فيه زعماء العالم لمخاطبة شعوبهم وتوعيتهم بعمق الأزمة العالمية وندرة المواد الأوّلية وغلائها، يجنح الرئيس سعيّد إلى تعليق فقدان تلك المواد في تونس على شمّاعة المضاربين والمحتكرين بالتزامن مع مفاوضات تجريها حكومته مع صندوق النقد الدولي حول إصلاحات هيكلية مشروطة من هذا الأخير قد تزيد من تعميق المشكل أكثر فأكثر.

كلمة الكتيبة:

يهدف هذا المقال إلى تفسير الأسباب المباشرة والعميقة، الظرفية والهيكلية التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية في تونس لاسيما في الأشهر الأخيرة. وقد استندنا في ذلك إلى البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة التونسية، فضلا عن محاولة تفكيك الخطاب السياسي الرسمي في علاقة بهذا الموضوع الذي بات الشغل الشاغل لعموم التونسيات والتونسيين.

كلمة الكتيبة:
يهدف هذا المقال إلى تفسير الأسباب المباشرة والعميقة، الظرفية والهيكلية التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية في تونس لاسيما في الأشهر الأخيرة. وقد استندنا في ذلك إلى البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة التونسية، فضلا عن محاولة تفكيك الخطاب السياسي الرسمي في علاقة بهذا الموضوع الذي بات الشغل الشاغل لعموم التونسيات والتونسيين.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
مونتاج: حمزة الفزاني
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
مونتاج : حمزة الفزاني

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

wael