الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
هم الأكثر نشاطا وحرصا على القيام بأعمالهم. منذ ساعات الصباح الباكر من كلّ يوم، يبدأ أعوان شركة النخبة لاستغلال مواقف السيارات – التابعة لمجموعة شعبان – عملهم. خلال معاينة ميدانية قمنا بها، تمكّنوا، في ساعتين فقط من النشاط، من حجز ما يناهز الـ 20 سيارة مخالفة لقانون الوقوف والتوقف في منطقة البحيرة 2، هذا دون الحديث عن عدد السيارات التي تمّ تكبيلها في المناطق الزرقاء المتناثرة بكامل الأرجاء.
عند دخولك إلى البحيرة 2، اعلم أنك دخلت منطقة تسيطر عليها مجموعة شعبان، انطلاقا من فضائها التجاري “تونيزيا مول” وصولا إلى نزل المجموعة “آدام”. كل سيارة تتجوّل في تلك المنطقة يجب عليها خلاص معلوم وقوفها وتوقفها لفائدة شركة “النخبة”. إن سهوت عن ذلك فإنّ مصير سيارتك الحجز في أحسن الحالات، أما إذا كان حظك سيئا قد تتعرّض سيارتك لحادث أو كسر في زجاجها أو اقتلاع لإحدى مكوّناتها خلال عملية رفعها من طرف أعوان شركة “الشنقال”.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
هم الأكثر نشاطا وحرصا على القيام بأعمالهم. منذ ساعات الصباح الباكر من كلّ يوم، يبدأ أعوان شركة النخبة لاستغلال مواقف السيارات – التابعة لمجموعة شعبان – عملهم. خلال معاينة ميدانية قمنا بها، تمكّنوا، في ساعتين فقط من النشاط، من حجز ما يناهز الـ 20 سيارة مخالفة لقانون الوقوف والتوقف في منطقة البحيرة 2، هذا دون الحديث عن عدد السيارات التي تمّ تكبيلها في المناطق الزرقاء المتناثرة بكامل الأرجاء.
عند دخولك إلى البحيرة 2، اعلم أنك دخلت منطقة تسيطر عليها مجموعة شعبان، انطلاقا من فضائها التجاري “تونيزيا مول” وصولا إلى نزل المجموعة “آدام”. كل سيارة تتجوّل في تلك المنطقة يجب عليها خلاص معلوم وقوفها وتوقفها لفائدة شركة “النخبة”. إن سهوت عن ذلك فإنّ مصير سيارتك الحجز في أحسن الحالات، أما إذا كان حظك سيئا قد تتعرّض سيارتك لحادث أو كسر في زجاجها أو اقتلاع لإحدى مكوّناتها خلال عملية رفعها من طرف أعوان شركة “الشنقال”.
على شاكلة شركة عبد الحميد بن عبد الله في منطقة “لافيات”، التي كشفنا مُخاتلاتها المالية وتصاريحها الجبائية المُسترابة وما يشوبها من شبهات غش وتهرّب ضريبي، فضلا عن تجاوزاتها التي لا تحصى ولا تعد في حق المواطنين، تسير شركة “النخبة” لاستغلال مواقف السيارات لصاحبها رجل الأعمال المعروف ماهر شعبان.
تغيّر المكان واسم البلدية، لكنّ ممارسات الشركات الناشطة في مجال تنظيم التوقف “الشنقال” تبقى هي نفسها، وتُمثل قاسما مشتركا مع منافسيها في تونس الكبرى.
متى فازت الشركة بالصفقة؟ وعلى ماذا ينص العقد الممضى بينها وبين بلدية حلق الوادي؟ وهل تصرّح الشركة بحقيقة معاملاتها المالية، أم أنها تعمد إلى المغالطة في التصاريح الجبائية؟ وهل تقوم بلدية حلق الوادي بدورها في مراقبة معاملات الشركة المالية؟
في هذا الجزء من تحقيقات الكتيبة حول “بارونات الشنقال” في تونس، ننفض الغبار عن أعمال شركة “النخبة” لاستغلال مواقف السيارات، العاملة في منطقة البحيرة 2، وعلاقتها التعاقدية ببلدية حلق الوادي، وكيف قلبت هذه الشركة حياة التونسيين في تلك المنطقة إلى جحيم حقيقي!
صفقة مشبوهة تشرّع للغشّ الجبائي
بعد ثورة جانفي/ كانون الثاني 2011، وخلال فترة ولاية مجلس النيابة الخصوصية لبلدية حلق الوادي الذي كان يرأسه الخبير المحاسب نعيم الكعبي، تعاقدت البلدية مع الوكالة البلدية للتصرّف (مؤسسة عمومية تتبع بلدية تونس) لتنظيم الوقوف بمنطقة البحيرة 2.
عرفت ضفاف البحيرة 2 في الفترة اللاحقة لسنة 2011، تدشين محلات تجارية ضخمة ومجموعة من المقاهي والمطاعم وفضاءات الترفيه الفخمة، والتي أصبحت قبلة لآلاف المواطنين، خاصة وأنّها منطقة تطلّ على موقع جذاب لعشاق الترفيه والتسوّق. هذا الواقع الجديد ساهم بشكل كبير في ارتفاع عدد السيارات التي تتوجه يوميا إلى المنطقة.
في السابق، وفي الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2016، لم تكن في ضفاف البحيرة 2 مناطق زرقاء لوقوف السيارات بمقابل، حيث اقتصرت عملية تنظيم الوقوف على رفع السيارات الرابضة في أماكن يحجّر الوقوف فيها أو التي يكون وقوفها معطّلا لحركة المرور وانسيابية سير السيارات.
وضع استثمرت فيه بعض الشبكات التي قامت باحتلال أرصفة وأراض، قامت بتحويلها إلى مآوي عشوائية بشكل غير منظم.
بعد معاينتها للفوضى التي خلقتها هذه الشبكات المحتلة للأرصفة والأنهج، والتي تتناقض مع استراتيجيتها في تطوير المنطقة، طلبت شركة البحيرة للتطهير والاستصلاح والاستثمار- الشركة التي طوّرت كامل منطقة البحيرة – من بلدية حلق الوادي إعداد المثال المروري لمنطقة البحيرة 2 وإعداد كرّاس الشروط للزمة الوقوف والتوقف على الطريق العام.
البلدية نفسها كانت ترغب في تطوير عائداتها المالية، التي لم تتجاوز – في إطار العقد الذي يجمعها بالوكالة البلدية للتصرّف – الـ 200 ألف دينار، وذلك من خلال استثمار منطقة البحيرة والتفويت في لزمة المآوي وتنظيم الوقوف بها إلى القطاع الخاص.
هذا الوضع أسال لعاب ماهر شعبان، حيث رأى في طلب العروض الذي ستقوم بلدية حلق الوادي بإطلاقه لاحقا لاستلزام المآوي والمناطق الزرقاء وتنظيم الوقوف والتوقف في كامل منطقة البحيرة 2، فرصة لا يمكن تفويتها، معوّلا في ذلك على تجربته في الاستثمار بالمنطقة التي شيّد فيها أضخم فضاء تجاري في تونس “تونيزيا مول” عام 2015، ونزل”آدام” عام 2019، فضلا عن عديد المقاسم السكنية التي دشنها في حي الصنوبر هناك.
في شهر ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2015، أسّس شعبان شركته “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” قبل أن تُعيّن بلدية حلق الوادي مكتب الدراسات الذي ستوكل له مهام إعداد المثال المروري للمنطقة.
بعد 6 أشهر من تأسيس الشركة، صادقت البلدية على كرّاس الشروط الخاصّ بلزمة المآوي وتنظيم الوقوف بمنطقة البحيرة 2، ليتمّ إطلاق طلب العروض في نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2016.
قبل أن يفتتح ماهر شعبان الجزء الثاني من فضائه التجاري “تونيزيا مول” في عام 2017، نجح في الفوز بصفقة لزمة المآوي وتنظيم وقوف السيارات بكامل المنطقة المحيطة بفضائه التجاري ونزله “آدام” الذي سيقوم بتدشينه في عام 2019.
وتمثّلت أولى أنشطة ماهر شعبان بُعيد فوزه باللزمة، في تركيز آلات توزيع تذاكر الوقوف بمقابل في المنطقة المحيطة بفضائه التجاري “تونيزيا مول”، رغم وجود مآوي به. بما يوضح العائدات المالية التي يمكن تحصيلها لفائدته بفعل هذه الصفقة، ويعطي لمحة واضحة حول توجّهات الشركة.
وينص عقد اللزمة على أن تستغل شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” كامل منطقة ضفاف البحيرة 2 لمدّة 7 سنوات لتنظيم التوقف بها، من خلال تحويل كل من منطقتي حدائق البحيرة وحي الصنوبر إلى مناطق زرقاء لوقوف السيارات بمقابل، وعبر رفع السيارات الرابضة في أماكن أصبح الوقوف بها محجّرا وفقا لمثال التهيئة المرورية الجديد المعتمد، بما في ذلك شوارع وأنهج الأحياء السكنية الموجودة بالمنطقة، على مساحة جملية قدّرناها بنحو 164 هكتارا.
ووفقا لذات العقد، فإنّ مدّة اللزمة التي تمّ توقيعها في نهاية سنة 2017، يبدأ احتسابها من تاريخ إمضاء محضر تسلّم المرفق العمومي أي منذ شهر أكتوبر/تشرين الأوّل في سنة 2018، فيما تم إعطاء إشارة انطلاق العمل بآلية رفع وحجز السيارات في بداية عام 2019.
ينصّ عقد اللزمة الممضى بين الطرفين على تحويل نسبة 20.2% من رقم معاملات الشركة لفائدة البلدية. انطلاقا من هذا المعطى يتّضح أن رقم المعاملات الذي تصرّح به الشركة لم يكن في مستوى تطلّعات بلدية حلق الوادي التي قدّرت عائداتها من اللزمة لذات العام في حدود الـ 500 ألف دينار.
في عام 2019، صرّحت الشركة لإدارة الجباية برقم معاملات مقدّر بـ 920 ألف دينار. وهو ما يعني أن النسبة السنوية ( 20.2% من رقم المعاملات) المفترض تحويلها إلى بلدية حلق الوادي تقدّر بنحو 185 ألف دينار. غير أنّ المعطيات المستقاة من البلدية، ووفق تقاريرها المالية، تُفيد أنها تحصّلت في ذات العام على مبلغ 139 ألف دينار فقط.
في لقائنا به وسؤاله عن منظومة الرقابة على نشاط شركة “النخبة”، أفاد لطفي بن عمر كاتب عام بلدية حلق الوادي، أنّ البلدية تولّت تعيين مكتب مختص لمراقبة الشركة في كل ما يتعلّق بنشاطها الميداني، ومدى احترامها لكرّاس الشروط. أما فيما يهم العائدات المالية والأرقام التي تصرّح بها الشركة، فيقول بن عمر: “البلدية كانت واضحة منذ إمضاء العقد بالتنصيص على تحويل نسبة 20.2% من رقم المعاملات السنوي للشركة، يتم دفعه على دفعات. وكل دفعة منها يتمّ ضخها مع نهاية كل شهر لفائدة البلدية. لتجنب الوقوع فيما وقعت فيه بلديات أخرى من إشكاليات مالية مع شركات خاصة.”
“لتجنب أي إشكالات أو معطيات مغلوطة تقدّمها الشركة، فرضنا تحويل نسبة 20.2% من رقم المعاملات وليس من الأرباح، هكذا ننأى بالبلدية عن أية متاهات مالية”
كاتب عام بلدية حلق الوادي لطفي بن عمر
وبحسب تفسير كاتب عام بلدية حلق الوادي، فإنّ هذا المقترح كان من طرف رئيس البلدية السابق نعيم الكعبي، بصفته خبيرا محاسبا. وذلك لتجنيب البلدية أية مسؤولية رقابية على المعاملات المالية للشركة، وترك الأمر إلى مصالح الجباية التونسية باعتبارها الجهة الوحيدة المخوّل لها إجراء عملية تدقيق معمق على نشاط الشركات.
جملة هذه المعطيات وأخرى متصلة بما يفترض أن تجنيه الشركة سنويا من مداخيل لزمة الوقوف إطّلع عليها خبير جبائي فضّل عدم ذكر اسمه – كان موقع الكتيبة قد استشاره – ليأكّد أنّ المعطيات تقود نحو شبهة جريمة جبائية عنوانها “ازدواجية المحاسبة”، وهي من الآليات التي عادة ما تستعملها الشركات للتهرّب من دفع الضريبة والتصريح بحقيقة معاملاتها. مضيفا أنّ الأرقام التي تصرّح بها الشركة كعائدات سنوية تلوح قليلة أمام ما يفترض أن تجنيه.
تصرّح الشركة سنويا بعقود كراء مآوي لعدد من الشركات الخاصة. منذ عام 2019، ومع بداية نشاطها، أمضت النخبة لاستغلال مواقف السيارات خمسة عقود مع كلّ من جامعتين خاصتين وشركة الاتصالات أوريدو وشركة الإخوة العقارية ومكتب محاسبات دولي، بقيمة جملية بلغت 568 ألف دينار وهو ما يمثل حوالي 60% من رقم معاملات الشركة المصرح به في نفس العام . وهو رقم لا يبدو منطقيّا، إذ لا تمثّل عائدات الشركة من نشاطات “الشنقال” والكبّالات والمناطق الزرقاء (4500 مكان لوقوف بمقابل) واشتراكات الوقوف للمتساكنين والعملة، حسب هذا التصريح إلا 40% فقط من إجمالي العائدات.
عائدات الشركة المتأتية من 5 عقود كراء مآوي، تفضح بشكل واضح أنّ فكرة تفويت بلدية حلق الوادي للزمة المآوي وتنظيم وقوف العربات بمنطقة البحيرة 2 إلى القطاع الخاص تدخل في إطار سوء الحوكمة والتدبير. إذ كان بإمكان بلدية حلق الوادي جني عائدات أكبر بكثير مما تغنمه سنويا من شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” بمجرّد كراء تلك المآوي لذات الشركات بشكل مباشر دون المرور بوسيط خاص، وفق تعبير مصدرنا من داخل إدارة الجباية.
وتعليقا منه على هذه المعطيات، أكّد الخبير الجبائي ـ رفض نشر اسمه ـ أنّ النتائج السنوية الصافية تبدو مدروسة بشكل جيّد. مبينا أنّ العقود الممضاة مع عدد من الشركات الخاصة والتي تمثّل قيمتها نصف رقم معاملات الشركة في عام 2019 مثلا، تخضع من تاريخ إمضائها وتسجيلها بالقباضة المالية إلى الضريبة على المصدر، وتتولى الشركة فيما بعد تسجيل ما دفعته من جباية للدولة في خصوص تلك العقود أو في خصوص مشترياتها الخاضعة للأداء، كتسبقة على ما يستوجب منها دفعه من ضريبة على أرباحها، حيث تقوم الشركات بالتصريح بأرباح مدروسة عبر تضخيم المصاريف وتقليل المداخيل بما يعفيها من مزيد دفع الجباية، وفق تعبيره.
معطيات توجهنا بها إلى صاحب الشركة ماهر شعبان للتفاعل معها والتعليق عليها إلا أنه خيّر الصمت.
“محلّة” ماهر شعبان …شجرة البهرج التي تخفي غابة التجاوزات
ضفاف البحيرة شمالي العاصمة تونس، هي وجهة الأثرياء وقبلة المستثمرين والسياح الأجانب لاسيما من دول الجوار. منذ أن استثمرت فيها شركة البحيرة وطوّرت في بنيتها التحتية، أصبحت منطقة ضفاف البحيرة إحدى أهم الأقطاب الاقتصادية في تونس الكبرى.
تتمركز هناك مقرّات كبريات الشركات العالمية والماركات التجارية المعروفة والمقاهي والمطاعم الفاخرة، إضافة إلى جامعات ومدارس خاصة وعمومية ومقرّات حكومية وسفارات دول أجنبية وغيرها.
وتنقسم ضفاف البحيرة إلى جزءين، كلّ جزء منها يتبع بلدية، الأوّل والذي يطلق عليه اسم ضفاف البحيرة 1 يتبع إداريا بلدية تونس، أما الجزء الثاني وهو ضفاف البحيرة 2، فيتبع إداريا بلدية حلق الوادي. وفي الواقع تسيطر على الجزء الثاني مجموعة شعبان، سيطرة كلّية.
يرتاد المنطقة يوميا عشرات الآلاف من المواطنين التونسيين ومن الجالية الليبية المستقرّة بتونس، فضلا عن زوّار المنطقة من مختلف جنسيات بلدان الجوار لتونس الذين يأتون للتداوي في المصحات الخاصة الموجودة هناك.
في المقابل، تعرف المنطقة انعداما شبه تام للنقل العمومي، خطان أو ثلاث للحافلات، وبين رحلة حافلة وأخرى ساعات طويلة من الانتظار. هذا أحد أهم الأسباب التي تدفع التونسيين.ـات إلى امتطاء سياراتهم الخاصة لتسهيل حياتهم اليومية والوصول إلى مقرات أعمالهم هناك.
قبل أن تصبح منطقة البحيرة على ما هي عليه اليوم، يجب الرجوع بالزمن إلى عام 1983، تاريخ إنشاء شركة البحيرة للتطوير والإستثمار في شراكة بين الدولة التونسية ومستثمرين سعوديين لتطوير كامل منطقة البحيرة.
بعد تدشين القسم الأوّل والمسمّى ضفاف البحيرة 1، والذي اتسم بالمباني الكبرى والمباني الإدارية ومقرات السفارات، تمّ تدشين قسم البحيرة الثاني في أوائل العام 2000، والمنقسم بدوره إلى ثلاثة أجزاء كبرى تتكوّن من منطقة حدائق البحيرة وحي الصنوبر وفضاء الأعمال، على مساحة جملية مقدّرة بـ 194هكتارا.
هذه المنطقة أخذت منحى اقتصاديا، ومثلت وجهة الشركات العالمية والمصحات الخاصة والمقاهي والنُزل الفاخرة، إضافة إلى وحدات سكنية بشقق فاخرة.
خلف هذه الحركية الاقتصادية للمنطقة، يعمل آلاف الموظفين والعملة في مختلف الشركات الموجودة بمنطقة البحيرة 2، فضلا عن آلاف الزوار الذين يرتادونها للتداوي أو للترفيه في المقاهي والمطاعم الفخمة هناك.
هؤلاء جميعهم، بمختلف الأسباب التي تدفعهم للقدوم إلى منطقة البحيرة، مجبرون على خلاص معلوم الوقوف هناك في المنطقة الزرقاء أو في المآوي البلدية المستغلّة من طرف شركة شعبان، خلاف ذلك من المؤكد أنهم سيقعون في مصيدة رافعات “الشنقال”.
“سكينة”، موظفة بإحدى مكاتب الدراسات المتواجدة في منطقة البحيرة 2، تتقاضى أجرا شهريا يقارب الـ 1200 دينار. تروي الشابة الثلاثينية قصّة معاناتها مع “الشنقال” كما يسميه التونسيون، وتقول في هذا السياق إنّ سيارتها تعرّضت خلال الأيّام الأولى من مباشرة عملها إلى الرفع في أربع مناسبات متتالية.
بهدف الحفاظ قدر المُستطاع على جرايتها بما يسمح لها بمجابهة مصاريفها اليومية، كانت “سكينة” تقوم بركن سيارتها في الأنهج المتفرّعة عن الشوارع الكبرى لمنطقة البحيرة 2 والتي عادة ما تكون أحياء سكنية. لكن ذلك مخالف للقانون بحسب مثال التهيئة المرورية الجديد المعتمد من طرف بلدية حلق الوادي، والذي على ضوئه تعاقدت مع شركة خاصة في إطار عقد لزمة.
هناك في ضفاف البحيرة 2 شمال العاصمة تونس، تعربد شاحنات “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” التابعة لمجموعة شعبان مستغلّة ما يمنحه لها المثال المروري من صلاحيات لرفع السيارات حتى وإن كانت رابضة في أنهج سكنية لا تشكّل بأي حال من الأحوال أي عائق أمام انسيابية حركة المرور بالمنطقة.
بسرعة جنونية، تمرّ كل بضع دقائق إحدى شاحنات الشركة آنفة الذكر تجرّ وراءها إحدى السيارات المخالفة لقانون الوقوف والتوقف، فشركة “النخبة” تمتلك أكبر أسطول من شاحنات رفع السيارات، تجوب كامل أرجاء منطقة ضفاف البحيرة بما في ذلك الأحياء السكنية منها والهدف واضح، جمع أكبر عدد من السيارات ” المخالفة لقانون الوقوف والتوقف “.
في ظلّ هذا الوضع، وجدت “سكينة” ضالتها في مأوى عشوائي تركن فيه سيارتها يوميّا مقابل دينارين لليوم الواحد.
تقول في هذا الصدد: “ديناران في اليوم أقل بكثير من اشتراك شهري سعّرته بلدية حلق الوادي مرجع نظر منطقة البحيرة 2، في حدود الثمانين دينارا (لا علم لها بقرار التخفيض في قيمة الاشتراك) أما المناطق الزرقاء فهي باهضة الثمن والمآوي النظامية قليلة”.
هذا المأوى العشوائي الذي تركن فيه “سكينة” وغيرها من العملة والموظفين في قلب البحيرة، والذي مثّل ملجأهم الذي تحتمي فيه سياراتهم من سطوة “الشنقال” لوحده يمثّل قصّة غريبة.
أمام المدرسة الإعدادية النموذجية بالبحيرة 2، وسط المباني الشاهقة، توجد قطعة أرض مهملة تمّ تحويلها إلى مأوى يحرسه عنصران مفتولا العضلات.
في إطار المعاينة الميدانية التي قمنا بها، هممنا بدخول المأوى لركن سيارتنا هناك، حينها توجهنا بالسؤال إلى الحارس إن كان هذا المأوى نظاميا ويتبع بلدية حلق الوادي أم لا؟، فكانت الإجابة تعكس مفارقة غريبة.
نعم هو مأوى يتبع بلدية حلق الوادي لكن لا توجد به تذاكر.
حارس مأوى عشوائي بمنطقة البحيرة 2
ونحن بصدد الحديث مع حارس المأوى، مرّت شاحنة “شنقال” تتبع شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات”، ألقى سائقها التحية علينا وعلى والحارس سائلا: “هل الأمور على ما يرام”؟! فأجاب الأخير بأن الأمور تسير كالمعتاد.
يشي هذا المشهد بالتنسيق الكامل بين أعوان الشركة وحرّاس المأوى العشوائي، ويفضح العلاقة غير المعلنة بينهما، والتي لا تهدف سوى إلى مزيد محاصرة المواطنين والتنكيل بهم عبر ابتزازهم. إذ لا يوجد بكامل منطقة البحيرة 2 مكان واحد يمكنك الوقوف فيه دون أن تدفع مقابلا لذلك.
بالنظر إلى اللهفة منقطعة النظير التي يتسمّ بها أعوان “شركة النخبة” في رفع سيارات المواطنين، وغياب المآوي الكفيلة باستيعاب العدد الهائل من السيارات التي تتدفق يوميّا على منطقة البحيرة 2، وجد بعض المواطنين حلّا في ركن سياراتهم في المجال الترابي التابع لبلدية الكرم التي ليس بها “شنقال”، وفقا لما أدلوا به من شهادات إلى موقع الكتيبة.
قبالة الفضاء التجاري “تونيزيا مول”، وعلى كامل الطريق، يركن عشرات المواطنين سياراتهم هناك، هربا من الشنقال. وآخرون استغلّوا قرار وزارة الداخلية بغلق كامل الطريق المؤدية إلى مقرّ السفارة الأمريكية ليحوّلوه إلى مكان آمن لركن سياراتهم بعيدا عن أعين أعوان شاحنات “الشنقال” التابع لشركة “النخبة”.
“محمد” شاب تونسي يعمل في إحدى المحلات التجارية بفضاء “تونيزيا مول”، ومن بين الذين يركنون سياراتهم على حافة الطريق المقابل للفضاء التجاري. يقول بشكل ساخر إنّ مشغله صاحب المحل لا يعوّض له ولزملائه مقابل ما يدفعونه لوقوف سيارتهم في المناطق الزرقاء، كما أنه يرفض تحمّل مصاريف الاشتراك الشهري للوقوف بمنطقة البحيرة.
“أمام هذه المهزلة التي أصبحنا نعيشها، قمنا بتهريب سياراتنا إلى حافة الطريق باعتبارها منطقة تتبع ترابيّا بلدية الكرم، ولا يحق لأعوان الشنقال رفع أي سيارة فيها بما أنها تخرج عن نطاق إشرافهم. علينا أن نتحايل حتى نتمكن من العيش”
محمد عامل بإحدى المحلات التجارية بتونيزيا مول
في المقابل، وعلى مدار يوم كامل من العمل، حصدت شركة “النخبة”، وفق ما قمنا بمعاينته ميدانيا خلال تسع ساعات، محصول ما لا يقلّ عن 80 سيارة تمّ رفعها واقتيادها إلى مستودع الحجز. هذا دون احتساب عدد السيارات التي تمّ تكبيلها في المناطق الزرقاء.
في الأنهج الخلفية لشارع البورصة، أكبر شوارع منطقة ضفاف البحيرة 2 وشريانها المروري، تتمركز عديد الأحياء السكنية من مجمعات وفيلات.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعطّل وقوف سيارة بأحد تلك الأنهج حركة المرور، فهي رابضة في منطقة هادئة وقليلة الحركة. لكن شاحنات “الشنقال” تقوم برفع السيارات المتوقّفة هناك مباشرة وذلك لأن وقوفها مخالف للقانون بحسب المثال المروري الجديد.
للوقوف على حجم التجاوزات التي أشارت لها شهادات عدد من المواطنين العاملين بمنطقة البحيرة 2، قمنا بركن سيارتنا بأحد الأنهج في المنطقة السكنية بالبحيرة 2. في لمح البصر وبعد مرور دقيقة واحدة فقط من نزولنا من السيارة، حلّت بالمكان شاحنة ” الشنقال ” لتتولّى رفعها إلى مستودع الحجز.
ورغم أنّ سيارتنا كانت مركونة في وضع لا يعطّل بأي شكل حركة مرور السيارات، في أحد الأنهج التي ليس بها ضغط مروري أصلا، ورابضة على حافة طريق غير مطلية باللونين الأحمر والأبيض اللذين يرمزان إلى تحجير الوقوف وفقا لقانون الطرقات التونسي، إلا أنّ أعوان النخبة كان لهم رأي آخر.
وكغيرها من الشركات الناشطة في مجال تنظيم الوقوف والتوقف، لا تلتزم شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات”، بما تنصّ عليه فصول عقد اللزمة من ضرورة وجود عنصر أمني عند معاينة سيارة مخالفة وتحرير المحضر في شأنها.
عند الوصول إلى مستودع الحجز لنقوم بخلاص الغرامة المالية للمخالفة وتحرير السيارة، طالبنا أعوان الشركة بمدّنا بنسخة من محضر رفع السيارة، حتى يتسنى لنا معاينة نوعية المخالفة، غير أنّ إحدى الموظفات قالت إنّ حجز السيارة لا يستوجب منهم محضرا.
“عند حجز السيارة لا نقوم بتحرير محاضر. المحاضر مقتصرة فقط على المخالفة المرتكبة في المناطق الزرقاء”
موظفة بشركة النخبة
تفاعلا منه مع نقطة غياب الأمن عند معاينة المخالفات وتحريرها، أفاد كاتب عام بلدية حلق الوادي لطفي بن عمر أنّهم طلبوا مرارا من الشركة ضرورة تواجد عنصر أمني يرافق أعمال أعوان الشركة عند تكبيل السيارات أو رفعها واقتيادها إلى الحجز، قائلا: “رغم توصياتنا وتأكيدنا على ضرورة تواجد العنصر الأمني إلا أنّ الشركة لا تلتزم، وتتعلّل بأنّ العنصر الأمني غالبا ما يكون بزي مدني، وهو ما يخرج عن سيطرتنا لأنه يستحيل علينا فرض رقابة لصيقة على أعمالها”.
غياب العنصر الأمني المنوط بعهدته تحرير المخالفات القانونية، يمثّل لوحده مدخلا لتلاعب الشركة بأرقام معاملاتها المالية وعدد السيارات التي يتم في شأنها تحرير مخالفات. وهو ما يتبيّن في وصل الخلاص الذي استلمناه من طرف شركة النخبة عند تحرير سيارتنا من مستودع الحجز والذي يفتقر إلى أبسط مقوّمات الفوترة كالختم وإمضاء العون ومعرّف الشركة.
في هذا الإطار، توجّهنا بطلب إلى بلدية حلق الوادي، باعتبار أنّ العقد الممضى بينها وبين شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” ينصّ على أنّ توفّر الأخيرة شهريا تقارير فنية متصلة بنشاطها الميداني (عدد السيارات التي يتم رفعها وتكبيلها ونسبة الإقبال على المناطق الزرقاء)، غير أن كاتب عام البلدية أفادنا أن جملة هذه المعطيات متوفرة لدى الشركة دون سواها.
الشركة نفسها، ورغم أنّ لديها مديرا عاما تنفيذيا وممثلين قانونيين بحسب ما هو متوفر من معلومات لدى السجل الوطني للمؤسسات، رفض صاحبها ماهر شعبان طرح استفساراتنا على أي شخص غيره، كما طلب منا انتظار عودته إلى أرض الوطن في موعد لاحق دون أن يحدّد تاريخه.
تنصلّ من المسؤولية
في أكثر من تدخل إعلامي لها، حاولت رئيسة بلدية حلق الوادي آمال ليمام بشكل غير مباشر دفع الانتقادات التي تطالها وتطال مجلس بلدية حلق الوادي الذي تمّ انتخابه في أكتوبر/تشرين الأوّل من سنة 2018، عبر تحميل مسؤولية المثال المروري، الذي تمّ على ضوئه إعداد كرّاس الشروط وطلب العروض في خصوص لزمة التصرف في المآوي وتنظيم الوقوف بمنطقة البحيرة 2، إلى المجلس النيابي السابق لها والذي كان يرأسه نعيم الكعبي.
“كراس الشروط والمثال المروري والعقد تمّ إعدادهم خلال فترة النيابات الخصوصية، ونحن عندما أتينا في عام 2018 وجدنا الملف قد تمّ إغلاقه ولم يبقى أمامنا سوى تطبيق ما تمّ الإتفاق عليه”
أمال ليمام رئيسة بلدية حلق الوادي
ويتجلّى، وفق آراء متقاطعة لمتساكني ضفاف البحيرة 2 والعاملين بها، أنّ المثال المروري الذي تمّ إحداثه غريب الأطوار ولا يخدم سوى شركة ماهر شعبان، ليصبح الأخير بمثابة الملك المتوّج على رأس المنطقة وفقا لوصف أحد المتساكنين.
خلال عام 2020، عقدت بلدية حلق الوادي جلسات مع متساكني ضفاف البحيرة وممثلين عن موظفي الشركات الموجودة هناك. بعد ساعات طويلة من السماعات وإبداء الآراء، تمّ الاتفاق على إدخال بعض التعديلات على عقد اللزمة، بالتخفيف في سعر الإشتراك الشهري من 180 دينار – كسعر مقترح من طرف شركة “النخبة لاستغلال مواقف السيارات” – الى 80 دينار، أي ما يعادل 960 دينارا سنويا. في قرار تمّ اتخاذه في 24 جويلية/ تموز من ذات العام.
قبل ذلك التعديل، وتحضيرا لإمكانية التخفيض في سعر الإشتراك، صادق مجلس بلدية حلق الوادي بالإجماع في فيفري/ شباط من عام 2020، على الترفيع في معلوم الوقوف والتوقف بالمناطق الزرقاء للوقوف بمقابل وقيمة المخالفات بنسبة 40%.
غير أنّ السعر المتفق عليه يبقى باهضا أمام قدرة شرائية مهترئة للموظفين العاملين بمنطقة البحيرة 2، فضلا عن أنّ متساكني المنطقة أصبحوا يتذمّرون بشكل كبير بسبب ما يعتبرونه إجحافا في حقّهم.
بنبرة غاضبة علّقت “مريم”، مواطنة تقطن في شقة بمنطقة البحيرة 2: “سكّان منطقة البحيرة يدفعون ما عليهم من جباية محلّية لفائدة البلدية، ويدفعون كذلك مقابل وقوف سياراتهم أمام منازلهم. كيف يحصل هذا؟ المحكمة الإدارية ستكون فيصلا بيننا”.
تفاعلا منها مع هذه الانتقادات، اتخذت بلدية حلق الوادي قرارا جديدا يقضي بالتخفيف مجدّدا في قيمة الاشتراكات للطلبة والموظفين بالمؤسسات إلى 40 دينارا شهريا مقابل الوقوف بالمأوى (الذي لم يدخل بعد حيز الاستغلال) و50 دينارا شهريا للوقوف بالمناطق الزرقاء (600 دينار سنويا). أما بالنسبة لمتساكني المنطقة، فقد أضحت أسعار الاشتراكات الخاصة بهم في حدود الـ 30 دينارا سنويا للسيارة الأولى والثانية.
قرار يبقى دون المأمول ولا يعالج جوهر الإشكال، بحسب شهادات عدد من متساكني منطقة البحيرة 2 والموظفين العاملين بها الذين تقدّموا بشكاية إلى المحكمة الإدارية لم تتضح بعد مآلاتها.
رغم أنّ عقد اللزمة ينص على استغلال شركة “النخبة” لمآوي بطاقات استيعاب متفاوتة تتسع لـ 1555 مكان سيارة، وبعد تدشين أكبر المآوى رسميا (طاقة استيعاب تفوق الـ 700 مكان) منذ سنة في حفل حضرته رئيسة البلدية وممثلون عن كل من شركة البحيرة وشركة “النخبة”، بقي الحال على ماهو عليه وذلك لعدم دخول هذا المأوى حيّز الإستغلال رسميا.
أمر لا يخدم سوى مصالح شركة ماهر شعبان بترك المجال أمامها لاصطياد مزيد من السيارات الرابضة في وضعية مخالفة للقانون.
في الوقت الذي تواصل فيه المآوي النظامية غلق أبوابها أمام سيّارات زوار المنطقة والعاملين بها، حوّلت بعض المقاهي والمطاعم الموجودة هناك عددا من الأراضي المهملة إلى مآوي عشوائية، مخصّصة بالأساس إلى حرفائها. مقابل دينارين فقط، يمكن لسيارتك البقاء في تلك المآوي العشوائية يوما كاملا.
مصادر من داخل بلدية حلق الوادي أكّدت لموقع “الكتيبة ” أنّ أصحاب هذه المقاهي اتفقوا بشكل غير معلن مع أعوان الشركة لعدم رفع السيارات الراكنة في تلك المآوي مقابل مبلغ مالي يتسلّمونه يوميا.
ولا يقتصر الوضع على أصحاب المقاهي في تحويل بعض الأراضي إلى مناطق خاصة بهم، فصاحب الشركة نفسه، ماهر شعبان، كان قد أغلق في وقت سابق عددا من المناطق الزرقاء (طرقات مخصصة للوقوف بمقابل) والمحيطة بنزله “آدام” الذي دشّنه في عام 2019، والفضاء العائلي الذي افتتحه في العام المنقضي واعتبرها أماكن مخصّصة فقط لحرفاء النزل والفضاء.
ولا تقتصر الإخلالات المتصلة بعقد اللزمة الممضى بين بلدية حلق الوادي وشركة “النخبة” عند هذا الحدّ، حيث ينصّ الفصل 12 من كرّاس الشروط على:
“لا يمكن للمشغّل التصرّف فيما أسند إليه بكرائه أو نقل جزء منه أو كل الحقوق الحاصلة نتيجة هذه الاتفاقية لأي شخص آخر ماديا أو معنويا”
الفصل 12 من كرّاس الشروط
هذا الفصل لا يتطابق مع ما تقوم به الشركة على أرض الواقع من خلال التفويت عبر الكراء في عدد من المآوي إلى شركات خاصة كما كشفنا آنفا.
لزمة المآوي وتنظيم الوقوف والتوقف في منطقة البحيرة 2، تشبه في تفاصيلها ما حصل سابقا في لزمة تنظيم الوقوف بمنطقة صفاقس جنوبي تونس قبل الثورة والتي أسالت كثيرا من الحبر.
وكانت صفقة لزمة الوقوف بمنطقة صفاقس إحدى أهم الملفات التي اشتغلت عليها اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد التي تشكّلت بُعيدة ثورة 2011، من ذلك وجود شبهات قوية في توجيه الصفقة واستغلال معلومات ممتازة وإعداد مثال مروري على مقاس الشركة التي فازت بالصفقة. جملة هذه الشبهات تبدو متقاربة مع ما يحصل في لزمة المآوي وتنظيم الوقوف والتوقف بمنطقة البحيرة 2.
عامل يومي في جبّة رجل أعمال؟!
في السنوات التي تلت 2011، احتفت العديد من وسائل الإعلام التونسيّة برجل الأعمال ماهر شعبان، مشيدة بما تعتبره قصص نجاح في تونس وخارجها.
يقدّم ماهر شعبان نفسه كرائد في ميدان المقاولات، أشغال بناء عديدة أنجزتها شركاته في تونس وفي الخارج، خاصة في دولة ليبيا تحت حكم نظام معمر القذافي وحتى بعده.
بدأ اسم ماهر شعبان يطفو على السطح بشكل بارز في السنوات اللاحقة لثورة جانفي/ كانون الثاني 2011. وفي عام 2014 كان ماهر شعبان من بين رجال الأعمال الذين أسال لعابهم بهرج أضواء النشاط السياسي ، فالتحق بحزب نداء تونس كداعم لها ثمّ كعضو بها، ليترشّح باسمها رسميّا للانتخابات التشريعية في عام 2019 ممثلا عن جهة صفاقس، لكنه فشل في نيل ثقة أبناء منطقته.
في الأعوام السابقة لتقديم ترشحه للانتخابات، نمت استثمارات ماهر شعبان بشكل لافت للانتباه. خلال سنوات قليلة دشّن فضاءه التجاري العملاق “تونيزيا مول” ونزل “آدام”، فضلا عن عديد الفضاءات الأخرى، بالإضافة إلى عدد من المقاسم السكنية، جميعها بمنطقة البحيرة 2 التي أسّس فيها شركة تختص في مجال مآوي ووقوف السيارات، ونجح في الفوز بعقد مع بلدية حلق الوادي لتنظيم الوقوف والتوقف بذات المنطقة.
يستعدّ شعبان لتدشين فضائين تجاريين جديدين بكل من منطقة حي النصر بالعاصمة تونس وبجهة صفاقس في الجنوب التونسي، مسقط رأسه، ليكون بذلك أكثر رجل أعمال امتلاكا لفضاءات تجارية ضخمة في الجمهورية التونسيّة.
رغم امتلاكه لـ 16 شركة تنشط في مجالات المقاولات والسياحة والخدمات والحديد وغيرها، يقدّم رجل الأعمال ماهر شعبان نفسه إلى مصالح الجباية التونسية على أنه عامل يومي.
نجح شعبان بشكل ما في التهرّب من دفع الجباية طيلة كل هذه السنوات. مصادرنا من داخل إدارة الجباية أكّدت أنّ الرجل يصرّح في السنوات الأخيرة بمدخول سنوي لا يتجاوز الـ 28 ألف دينار فقط رغم ثروته المتراكمة سنة بعد سنة.
على شاكلة ماهر شعبان، يستفيد العديد من رجال الأعمال في تونس من ضعف إمكانيات أجهزة الرقابة خاصة المتصلة بإدارة الجباية، فضلا عن كثرة المتدخلين وغياب تنسيق المعلومات بين مختلف الإدارات. ففي الوقت الذي يعرّف ماهر شعبان إعلاميا نفسه كرجل أعمال ناجح وله استثمارات ضخمة في تونس وخارجها، تعرّفه سجلّات إدارة الجبائية على أنه عامل يومي.
في وقت قياسي، تحوّل ماهر شعبان إلى ما يشبه “باي الأمحال” ـ نسبة إلى المحلّة وهي فرقة عسكرية ـ الذي يقوم بجمع المجبى بحقّ أو دون حقّ خلال عهد البايات الحسينيّين في تونس، منصبا نفسه في هيئة الرجل القوي صاحب النفوذ الواسع في منطقة البحيرة 2، مستفيدا من شركة “النخبة” وسياراتها التي تجوب المنطقة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لجمع أكثر ما يمكن من عائدات “الشنقال” الماليّة من جيوب المواطنين التونسيين والسياح الأجانب على حدّ سواء، دون مراعاة لأدنى مقتضيات القوانين والالتزامات المنظمة للعملية.
وتُمثل جريمة التهرب الضريبي ثقبا في خاصرة الدولة التونسية التي لم تتقدّم في السنوات الماضية بحلول جذرية لإصلاح المنظومة الجبائية ومنظومة الرقابة على الشركات. فيما اقتصرت سياساتها على بعض الإجراءات التي يتم تضمينها في عدد من القوانين المالية بغرض الحدّ من التهرّب الضريبي، من ذلك الضريبة على الدخل الفردي والتي بقيت مقتصرة فقط على الأجراء.
ورغم وجود عديد الفصول القانونية المتعلّقة بتجريم الغش والتهرب الضريبيين، إلا أنّ المداخيل الجبائية المتأتية من الشركات الناشطة في تونس لا تمثّل سوى النزر القليل من إجمالي عائدات الدولة من الضرائب المباشرة التي تفرضها على مواطنيها.
يهدف هذا التحقيق المعمّق الذي ينشر على أجزاء في موقع الكتيبة إلى تفكيك منظومة الريع في قطاع "الشنقال" في تونس الكبرى كمثال، بالإضافة إلى تعرية التهربّ الضريبي والغشّ الجبائي الذين تقوم بهما عديد الشركات الخاصة، في الوقت الذي تعاني فيه الدولة التونسية من اختلال فادح في موازناتها المالية، ما تسبّب في تزايد حجم التداين الخارجي.
يهدف هذا التحقيق المعمّق الذي ينشر على أجزاء في موقع الكتيبة إلى تفكيك منظومة الريع في قطاع "الشنقال" في تونس الكبرى كمثال، بالإضافة إلى تعرية التهربّ الضريبي والغشّ الجبائي الذين تقوم بهما عديد الشركات الخاصة، في الوقت الذي تعاني فيه الدولة التونسية من اختلال فادح في موازناتها المالية، ما تسبّب في تزايد حجم التداين الخارجي.
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي
الكاتب : وائل ونيفي
صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي