الكاتب : معز الباي

صحفي مختصّ في الصحافة الاستقصائية، مكوّن صحفي، شغل عديد المواقع في مؤسسات إعلامية محلية وأجنبية.

يتحدّث توني فيرهيجن مدير البنك الدولي بتونس عن الاحتجاجات التي شهدها في تونس خلال صائفة قضّاها في تونس، سببها الرئيسي المطالبة بتوفير الماء. في مقال له نشر على مدوّنة البنك الدولي بتاريخ أفريل 2019 ينسب الكاتب أزمة المياه في تونس إلى التوزيع غير العادل لهذه الثروة، حيث يبلغ الشطط بالفئات الغنيّة إلى درجة استعمال المياه الصالحة للشرب حتّى في غسل سيّاراتهم وسقي حدائقهم.

فبالإضافة إلى ارتفاع عدد السيّاح الذي يشكّل، حسب رأيه، ضغطا إضافيّا على الموارد المائية، فانّ النزل والمنشآت السياحية الكبرى لا تهتم لكيفيّة استعمال الماء. فيرهيجن ينفي في مقاله، وبشكل صريح، ما قالته الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه حول نقص المياه في الخزّانات والاستهلاك المفرط.

في تقدير فيرهيجن، فإنّ الحلّ هو مراجعة التعريفات الخاصّة باستهلاك المياه، وهو ما يقوله بوضوح في مقاله داعيا القيادات المنتخبة (نظام الرئيس سعيّد) إلى تحمّل مسؤولياتهم إزاء ما يعتبره إهدار أهمّ مورد طبيعي بالبلاد من خلال توفيره بدون تكلفة تقريبا.

وهو الأمر الذي يضغط البنك الدّولي والجهات المانحة على تونس من أجل تنفيذه من خلال مراجعة مجلّة المياه في اتجاه الترفيع في كلفة الاستهلاك ومراجعة التعريفة. هذا التوجّه يرفضه شقّ واسع من المجتمع المدني في تونس ويعتبره حلاّ ترقيعيّا لا يعالج أصل المشكل بل يحمّل فاتورة البيض المكسور للمواطن.

الكاتب : معز الباي

صحفي مختصّ في الصحافة الاستقصائية، مكوّن صحفي، شغل عديد المواقع في مؤسسات إعلامية محلية وأجنبية.

يتحدّث توني فيرهيجن مدير البنك الدولي بتونس عن الاحتجاجات التي شهدها في تونس خلال صائفة قضّاها في تونس، سببها الرئيسي المطالبة بتوفير الماء. في مقال له نشر على مدوّنة البنك الدولي بتاريخ أفريل 2019 ينسب الكاتب أزمة المياه في تونس إلى التوزيع غير العادل لهذه الثروة، حيث يبلغ الشطط بالفئات الغنيّة إلى درجة استعمال المياه الصالحة للشرب حتّى في غسل سيّاراتهم وسقي حدائقهم.

فبالإضافة إلى ارتفاع عدد السيّاح الذي يشكّل، حسب رأيه، ضغطا إضافيّا على الموارد المائية، فانّ النزل والمنشآت السياحية الكبرى لا تهتم لكيفيّة استعمال الماء. فيرهيجن ينفي في مقاله، وبشكل صريح، ما قالته الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه حول نقص المياه في الخزّانات والاستهلاك المفرط.

في تقدير فيرهيجن، فإنّ الحلّ هو مراجعة التعريفات الخاصّة باستهلاك المياه، وهو ما يقوله بوضوح في مقاله داعيا القيادات المنتخبة (نظام الرئيس سعيّد) إلى تحمّل مسؤولياتهم إزاء ما يعتبره إهدار أهمّ مورد طبيعي بالبلاد من خلال توفيره بدون تكلفة تقريبا.

وهو الأمر الذي يضغط البنك الدّولي والجهات المانحة على تونس من أجل تنفيذه من خلال مراجعة مجلّة المياه في اتجاه الترفيع في كلفة الاستهلاك ومراجعة التعريفة. هذا التوجّه يرفضه شقّ واسع من المجتمع المدني في تونس ويعتبره حلاّ ترقيعيّا لا يعالج أصل المشكل بل يحمّل فاتورة البيض المكسور للمواطن.

تتميّز البلاد التونسيّة بمناخ نصف جافّ، مع فوارق شاسعة في التساقطات تتراوح معدّلاتها أحيانا بين أكثر من ألف مليمتر في بعض مناطق الشمال إلى أقل من 100 مليمتر في الجنوب سنويّا. ولكنّها تعدّ من أكثر المناطق المتوسّطيّة شحّا في المياه.

وحسب التقرير الوطني للمياه لسنة 2020، تصنّف تونس عالميّا في خانة القلق المائي بمعدّل حاجة للفرد 420 متر مكعّب لسنة 2020.

وتقدّر الاحتياطات المائيّة في تونس بحوالي 5 مليارات متر مكعّب (قدّرت في 1996 بـ4630 مليار متر مكعّب وهي الأضعف في منطقة المغرب الكبير)، أغلبها في خزّانات، سواء كانت مياها جوفيّة أو سطحيّة.

وتتراوح نسب توفّر المياه السطحيّة بين 49% بالشمال، ثمّ 33% في الوسط، و18% بالجنوب، فيما بلغ مستوى الاستهلاك أكثر من 117%. وتمثّل جملة هذه الموارد حوالي 58%.

أمّا المياه الجوفيّة، وهي موارد غير متجدّدة، فيقدّر مخزونها بحوالي 1400 مليار متر مكعّب، يتركّز أغلبها (60%) في الجنوب، ويبلغ مستوى استهلاكها حوالي 120%. (قدّرت سنة 1996 بقرابة 2000 مليار متر مكعّب متراوحة بين مياه باطنيّة ومياه ارتوازيّة).

وتفقد السدود حوالي 20% من قدرتها التخزينيّة بسبب الترسّبات وضعف الصيانة، حسب الباحث بمركز الأبحاث وتكنولوجيات المياه بتونس حمزة الفيل.

وعلى سبيل المثال فإنّ سدّ سيدي البرّاق، الذي يعدّ من أهمّ السدود التونسيّة، بلغ حجم مياهه المهدورة في البحر منذ إنشائه سنة 2002 إلى حدود 2016 ما قيمته 3.5 مليار متر مكعّب، حسب المعطيات التي استخلصناها من بيانات الإدارة العامّة للسدود والأشغال المائية.

وحسب بيانات الإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى التابعة لوزارة الفلاحة التونسية، يقدّر المخزون العام للسدود لهذا اليوم بـ718.761 مليون متر مكعب، مسجّلا تراجعا بالمقارنة مع متوسّط السنوات الثلاث الأخيرة ( نحو1258.821) مليون متر مكعب، بفارق -540.060 مليون متر مكعب.

وخلافا لما قاله مدير البنك الدولي في تونس توني فيرهيجن، في مقاله “دحض الحجج الواهية وراء توفير المياه بتعريفات رخيصة جدا”، فإنّ مخزون السدود سجّل تراجعا مضطردا خلال السنوات الأخيرة، من 2085 مليون متر مكعب سنة 2015 إلى 791 مليون متر مكعبّ سنة 2020، مع طفرة جزئية فريدة سنة 2019.

أما نسبة المياه المهدورة في قنوات التوزيع التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه فتناهز الـ30% وتتجاوز 40% في قنوات الريّ الزراعي، حسب التقرير الوطني للمياه لسنة 2020.

ويبلغ طول قنوات تزويد المياه الصالحة للشرب حسب الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أكثر من 47 ألف كيلومتر، يعتبر حمزة الفيل أنّ قرابة 40% منها يتجاوز عمرها 29 سنة، و17% يتجاوز الـ49 سنة، الأمر الذي يضعف بشكل كبير فعاليّتها، خاصّة مع التباطئ الكبير في التدخّل وتواتر حالات التلف والتكسير (حوالي 20 ألف كلم سنة 2019)، ما يساهم بشكل جليّ في إهدار الماء المنقول عبرها.

وحسب علاء المرزوقي منسّق المرصد التونسي للمياه (منظّمة تونسية غير حكومية)، فإنّ وزارة الفلاحة كانت قد كلّفت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بتجديد وإصلاح بنيتها التحتيّة باستعمال مواردها الخاصّة، وهو ما اعتبره المرزوقي غير ممكن بسبب الصعوبات المادّية التي تواجهها الشركة التي بلغت ديونها مستوى 52% من رقم معاملاتها سنة 2016، ليصل عجز ميزانيّها إلى قرابة 51 مليون دينار، تضاف إلى ديون حرفائها التي لغت 274 مليون دينار سنة 2014.

ورغم عدم وجود دراسات جدّية حول جودة المياه الصالحة للشرب في تونس، إلاّ أن الملاحظة العامّة تشير إلى تردّي نوعيّة المياه الموزّعة من قبل الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بهدف الاستهلاك المنزلي، وعدم صلوحيّتها للشرب، الأمر الذي يعكسه حجم الاستهلاك الوطني للمياه المعلّبة، حيث تتبوّء تونس، رغم مساحتها الصغيرة، المرتبة الرابعة عالميّا من حيث استهلاك المياه المعدنيّة.

ويبلغ حاليا عدد وحدات إنتاج المياه المعدنية 29 وحدة موزّعة على 12 ولاية (محافظة) تنتج أكثر من 364 ألف قارورة في الساعة، محقّقة نسبة معاملات بقيمة 637 مليون دينار سنويّا. فيما بلغ مستوى الاستهلاك الجملي للمياه المعدنية 2.70 مليار لتر، أي بمعدّل سنوي يناهز 225 لتر للشخص سنة 2020، مقابل 44 لتر فقط سنة 2007 و12 لتر سنة 1995.

لكن من المفارقات أنّ مناطق التركّز الأبرز لوحدات إنتاج المياه المعدنيّة، يعاني سكّانها من العطش، ومن الانقطاعات المتكرّرة والطويلة للتزوّد بالمياه، على غرار منطقتي القيروان (الوسط) والساحل. حيث تصدّرت ولايات الساحل (سوسة والمنستير والمهديّة) مؤشّر العطش لسنة 2021 الذي يعدّه سنويّا المرصد التونسي للمياه، بتسجيل 77 إشكالا متعلّقا بالمياه من أصل 182 تبليغا. فيما بلغ الأمر بسكّان منطقة العلا من ولاية (محافظة) القيروان خلال شهر جويلية 2022 إلى غلق الطريق احتجاجا على حرمانهم من الماء، حيث تعاني مختلف مناطق القيروان من فقدان الماء، رغم وفرة السدود والمنابع والآبار الجوفيّة.

جانب آخر لهدر الموارد المائيّة وسوء التصّرف فيها، يتمثّل في الاستغلال المشطّ للموائد المائية العميقة والسطحيّة. فإلى جانب سوء التصرّف في موارد الموائد المائية السطحيّة التي يتعرّض 31% من مجموعها لاستغلال مشطّ يبلغ نسبة 110%، وتسجّل خسارة جمليّة بقيمة 265 مليون متر مكعّب سنويا، فإنّ المياه العميقة يتمّ استغلالها بمعدّل سنوي يقدّر بـ1844 مليون متر مكعّب أي سيلان افتراضي مقدّر بـ 58441 لتر في الثانية، ما يعادل مستوى استغلال بنسبة 129%. مع العلم أنّ المعدّل العام للمياه الجوفيّة قليلة الملوحة (أقل من 1.5غ/ل) تمثّل فقط 15% من الاحتياطي المائي الجوفي.

وبلغ حجم استخراج الماء عبر الآبار المرخّصة 1324 مليون متر مكعّب (عدد الآبار المرخّصة 13322) سنة 2019، فيما يقدّر الاستغلال السنوي للآبار غير المرخّصة بحوالي 519 مليون متر مكعّب أي أكثر من ثلث استغلال الآبار المرخّصة (يقدّر عدد الآبار غير المرخصة بحوالي 19 ألف وتشهد أوجها في الجنوب التونسي بنسبة 81.5%)

ولا يمكن أن نتعرّض لسوء إدارة ملفّ المياه دون التعريج على الجمعيّات المائية التي تعاني مشاكل جمّة على مستوى سوء التصرّف والمديونية المشطّة تجاه الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه والشركة التونسية للكهرباء والغاز. وقد بلغ عدد الجمعيات المائية سنة 2020، حسب التقرير الوطني للمياه (المشار إليه أعلاه) 2694 جمعية مائية تزوّد 1.546 مليون ساكن وحوالي 229 ألف هكتار من الأراضي الزراعية المرويّة أي قرابة 80% من مساحة الأراضي السقوية.

وعلى إثر تنفيذ مخطّط سنة 2020 المائي، تمّ تسجيل الآتي:

  • تدقيق ومراجعة حسابات مالية لـ265 جمعية مائية
  • إزالة 3244 ربط غير مرخّص
  • إعادة جدولة ديون 217 جمعية مائية لدى الشركة التونسية للكهرباء والغاز و197 جمعية مائية لدى الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه.
  • تسوية ديون للجمعيات المائية بقيمة 2.6 مليون دينار تجاه الشركة التونسية للكهرباء والغاز أي ما يمثّل 33% من الديون، و حوالي 524 ألف دينار لفائدة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أي 18% من الديون.

لكنّ غياب مراجعة جدّية لحوكمة الجمعيّات المائيّة، وخطّة ناجعة لإصلاح هذا القطاع، يجعل من هذه المعالجة وقتيّة وغير ذات جدوى على المدى المتوسّط والطويل.

هذا هو الوضع العامّ لقطاع المياه وتشخيص أزمته، نخلص منه إلى أنّ سوء التصرّف وغياب الحوكمة و”سياسة النعامة” التي تمارسها الدولة منذ ستينات القرن الماضي تجاه هذه الثروة الحيويّة، هي الحلقة المركزيّة في سلسال العطش، وليس الاستهلاك المفرط كما تريد بعض الجهات الدولية وبعض الأصوات الداخلية فرضه.

بقي أن نضع تحت المجهر نموذجين فاضحين من منطقتين مختلفتين لهذا التشخيص العامّ، حيث سنحلّل السياسة المائية في منطقة الحامّة من ولاية (محافظة) قابس بالجنوب الشرقي للبلاد، ومنطقة الحوض المنجمي بولاية (محافظة) قفصة في الوسط الغربي، وسنرى كيف أدّى ويؤدّي سوء الحوكمة والسياسات الخاطئة إلى تفقير وتصحير هاتين المنطقتين وحرمان سكّانهما من الحقّ في الماء والحياة.

الحامّة : مدينة المياه المهدورة

تعتبر ولاية (محافظة) قابس بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية منطقة ذات مناخ جافّ، رغم انتشار الزراعة فيها إلى جانب تركّز هامّ للصناعات الاستخراجيّة، وتحويل الفسفاط أساسا على يد المجمع الكيميائي التونسي، والتي تعتمد على موارد هامّة من المياه. حيث ورغم غياب معلومات رسميّة، يقدّر الاستهلاك اليومي للماء من قبل المجمّع بحوالي 30 ألف متر مكعّب، (ينتج يوميّا حوالي 42 ألف متر مكعّب من طمي الجبس).

هذه المياه، ورغم وفرتها في البحر المجاور للمجمع الكيميائي، إلاّ أنّ هذا الأخير يستخرجها مباشرة وبشكل مشطّ من المائدة المائية المسمّاة “جفارة” وهي موارد غير متجدّدة.

كما أنّ حجم المياه المستعملة المعالجة المعاد استعمالها في الصناعة في قابس بلغت 0.07 مليون متر مكعب/سنة لسنة 2020، وهو حجم ضعيف بالمقارنة مع استهلاك القطاع الصناعي من المياه.

ويغذّي التزوّد بالماء من المائدة الجوفيّة السطحية احتياجات الرّي، فيما تغذّي الموائد الجوفية العميقة احتياجات مياه الشرب (27.6%) والفلاحة (69.3%). وبلغ استهلاك القطاع الصناعي سنة 2019 ما قيمته 4.58 مليون متر مكعّب من مائدة الجفارة، أي ما يمثّل 3.1% من الموارد الجوفية العميقة. ويقدّر احتياطي مائدة الجفارة بحوالي 121.7 مليون متر مكعّب، يقع استغلال 114.61 مليون متر مكعّب منها من خلال 260 بئر.

وتتميّز منطقة الحامّة بمناخها الجافّ مع تساقطات سنويّة بمعدّل 190 مم (بين 150 و220 مم/سنة). وتعدّ الحامّة مدينة مياه منذ العصر الروماني، حيث عرفت بمنابع الماء الساخن. رغم أن ولاية (محافظة) قابس تصنّف في خانة الشحّ المائي المطلق بنسبة وفرة أقل من 500 متر / ساكن في السنة.

لكن، رغم “ثروتها” المائيّة المفترضة هذه، يعاني سكّان الحامّة من انقطاعات يوميّة للماء الصالح للشرب في بعض مناطقها تدوم لفترات طويلة، وضعف الدفق المائي عموما، إلى جانب الجفاف الذي أصاب واحاتها الشهيرة، ما أثّر سلبا على الجانب الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة. حيث تشير الدراسات العلميّة والمقالات المحكّمة التي اطّلعنا عليها إلى تراجع شديد على المستوى الكمّي والنوعي (تتراوح ملوحة المياه بين 2.5 و5.4 غ/ل) للمياه الجوفيّة في المنطقة بسبب الاستغلال المفرط، بل وسوء الاستغلال والهدر الممنهج لهذه الموارد صعبة التجدّد.

يقول عبد السلام غمّاقي (68 سنة) أحد سكّان الحامة للكتيبة إنّ تواتر انقطاع المياه في الحنفيّات أصبح عادة يوميّة منذ سنوات، حيث ينقطع الماء مرة كلّ يومين تقريبا، ليستمر الانقطاع ساعات وأحيانا يوما كاملا.

أصبحنا نعتمد كلّيا على مياه “التحلية” التي نقتنيها في أوعية (10 لترات بدينار إلى دينار ونصف) من بعض الدّكاكين التجارية. وهي مياه يستخرجها الخواصّ من آبار يقومون بحفرها.

وخلصت دراسة علمية للباحثين بلقاسم عقوبي وعادل خرّوبي، إلى أنّ عمق المياه الجوفيّة في حالة غوَر مستمرّ مرتبط بنسب الاستخراج والتساقطات والحرارة. وبيّن النموذج الحسابي الذي أنجزه الباحثان لاستشراف مستوى المياه الجوفية في آفاق 2017-2030 أنّ عمق المياه الجوفية يستمرّ بالغور بمعدّل 0.3 متر/سنة باحتساب نسبة استخراج بقيمة 0.46 مليون متر مكعّب/سنة. مع تسجيل تراجع في معدّل الأمطار منذ سنة 2007، ما أدّى بالتالي إلى تراجع تزويد المائدة المائية الجوفيّة، مقابل ارتفاع الاستهلاك.

ويقول بلقاسم عقوبي، في تصريح لموقع الكتيبة، إنّ ندرة وشحّ الدراسات العلميّة المنجزة حول قطاع المياه بالحامّة يقف حائلا أمام تشخيص سليم وإيجاد حلول مستدامة لأزمة المياه في المنطقة.

من جهته، أفاد ناصف ناجح رئيس المجلس البلدي بالحامّة لموقع الكتيبة أنّ تزويد المجمع الكيميائي بقابس (300 لتر/ثانية) بالمياه من المائدة الجوفيّة بجهة الحامّة يعادل تزويد كلّ من منطقتي الحامّة (200 لتر/ثانية) ومنطقة بن غيلوف (100 لتر/ثانية).

وبدلا من التعجيل بحلّ أزمة استنزاف المائدة المائية الجوفيّة في غسل الفسفاط والاستعمالات الصناعيّة بالمجمع الكيميائي بقابس، وقع تأجيل إطلاق مشروع محطّة تحلية المياه الخاصّة بالمجمع، ذات الطاقة الأوّلية 25 ألف متر مكعّب/اليوم (تهدف إلى بلوغ مستوى 50 ألف متر مكعّب/اليوم)، إلى أجل غير مسمّى بعد أن كان مزمعا بدأ نشاطها في 2021.

وجه آخر من وجوه إهدار الثروة المائيّة النادرة في الحامّة هو الحمّامات الساخنة. وتشير دراسة أجرتها روضة قفراش بمعيّة شبكة Water, Environment and Business for Development، الى أنّ الحمّامات الساخنة في الحامة تنتج حوالي 3000 متر مكعّب يوميّا من المياه (المستعملة)، قد تبلغ أحيانا 3500 متر مكعّب/يوم.

وتشير الدراسة المذكورة إلى أنّ مشروع تجميع وتثمين مياه الحمّامات، يجمع المياه المستعملة من 11 حمّاما من أصل 16، ويربطهم بمحطّة تطهير، بهدف استعمال هذه المياه في ريّ الواحات، مازال قيد الدرس.

في حين صرّح رئيس المجلس البلدي بالحامة ناصف ناجح، لموقع الكتيبة إنّ عدد الحمّامات المرتبطة بشبكة تثمين مياه الحمّامات هي 8 فقط، تضخّ 35 مليون متر مكعّب سنويّا من المياه الرماديّة، التي يقع تثمينها، لكنّها تهدر منذ ثلاث سنوات إلى اليوم في سبخة دون استغلالها في الري كما كان معتزما.

ويضيف ناجح إن البلدية قرّرت إيقاف منح رخص استغلال الحمّامات منذ سنة 2019. علما وأن عددا من الحمّامات تستغلّ آبارا غير مرخّصة ودون عدّاد.

كما عرّجت الدراسة المشار إليها آنفا على قضيّة الجمعيّات المائية، إذ تستغل الجمعية المائية الفلاحيّة بالحامّة مساحة 505 هكتار سقوية، وتتلقى 150 ل/ث دفق افتراضي (Débit fictif) من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، و40 ل/ث من آبار أخرى. ويفترض أن تدفع الجمعية ربع المعلوم الجملي فيما يتكفّل المجلس الجهوي بدفع ثلاثة أرباع المتبقّية، لكن منذ سنوات قرّرت وزارة الداخلية إلغاء دفوعات المجالس الجهوية، لتتوقّف الجمعيّات المائية بدورها عن الدفع. وتبلغ حاليّا ديون الجمعية المائية لدى الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه 1.5 مليون دينار.

علي بن زيد، فلاّح يملك هكتارين ونصف من الأراضي السقوية في منطقتي “بالشيمة” و”بوعطّوش” بالحامّة، يقول في تصريح للكتيبة انّ أرضه مزروعة نخيلا وزياتين تعاني من العطش الدائم، حيث تبلغه دورة المياه (التزويد من خلال الجمعيّة المائيّة) مرّة كلّ ستّة أشهر. ويضيف:

لقد توقّفنا عن زراعة الخضروات الورقية التي كانت تشتهر بها الحامّة. اليوم لا تجد في الأسواق الملفوف والبقدونس والسلق وغيره من الخضروات. واحاتنا تموت، ونخيلنا يتهاوى من العطش.

الزائر لمدينة الحامّة، سيصدم لمنظر الواحات الجافّة، وأجداث النخيل الميّتة المنتشرة فيها، وسيتساءل من زارها في زمن الوفرة أين ذهبت خضرتها المحبّبة، ولماذا غزى اللون الأصفر مساحاتها.

وربّما يعدّ حدثا استثنائيّا أن تفتح الحنفيّة في بعض أحياء الحامّة، فيتدفّق الماء.. في حين، وعلى مسافة عشرات الأمتار، تتدفّق المياه من ينابيع الحمّامات السّاخنة دون تقطّع. لقد أصبح أهالي الحامّة يتعايشون على مضض مع هذا الواقع المليء بالمتناقضات. لكنّ هذا التعايش لم يمنعهم من الانتفاض والرفض والتنظّم بهدف إيصال أصواتهم إلى آذان غار الصوت فيها كما غار الماء، من خلال تنسيقيّة مواطني الحامّة التي شكّلها عدد من شبابهم ومواطنيهم يوم 13 نوفمبر 2022. لكنّ الحلول تبقى رهينة الإرادة السياسية الغائبة والبصيرة الاستشرافية المنعدمة.

الحوض المنجمي: الثروة التي عطش أهلها

تسجّل ولاية (محافظة) قفصة بمدنها المنجميّة (الحوض المنجمي، ويتركّب خاصّة من مدن الرديّف وأم العرايس والممظيلّة) أعلى المعدّلات السنوية لانقطاع المياه، وتعرف مدنها أعلى نسب التحرّكات الاحتجاجية للمطالبة بالحقّ في الماء، حيث سجّلت على سبيل المثال سنة 2020 أكثر من 70 تحرّكا احتجاجيا من جملة قرابة 400 تحرّكا وطنيّا لنفس الأسباب، حسب المرصد التونسي للمياه.

وتعدّ نشاطات استخراج وغسل الفسفاط، التي تمثّل المورد الاقتصادي الأوّل للمنطقة وإحدى الثروات الوطنية التونسية التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد، أكبر مستهلك للمياه في منطقة الحوض المنجمي. إذ تذهب بعض التقديرات غير الرسمية إلى أنّ حجم الاستهلاك اليومي لشركة فسفاط قفصة يبلغ 500 إلى 600 ضعف استهلاك كامل سكّان المنطقة. لكنّ غياب معطيات رسميّة يجعل التقدير الدقيق مستحيلا، نظرا لاعتماد الشركة على آبارها الخاصّة إلى جانب ما تتزوّد به من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وتكتّمها عن حجم المياه المستعملة في نشاطاتها خاصّة في مغاسل الفسفاط.

ويبلغ عدد مغاسل الفسفاط في منطقة الحوض المنجمي 11 مغسلة. وتقدّر بعض الدراسات حجم الماء الذي تمّ استخراجه للغرض منذ سنة 2010 بأكثر من 10 مليون متر مكعّب من 6015 بئر جوفيّة. مع العلم أنّ مخزون المياه الجوفيّة في قفصة يقدّر بـ128 مليون متر مكعّب، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المياه الجوفيّة هي المصدر الرئيسي للماء في قفصة.

هذا الاستغلال المفرط، أدّى إلى تسجيل انخفاض هامّ في مستوى المائدة المائية. فعلى سبيل المثال، سجّلت دراسة علميّة مستوى انخفاض بين 2 و6 متر للمائدة المائية بقفصة الشمالية سنة 2012. وقدّرت دراسة أخرى مجراة على مياه الحوض المنجمي سنة 2009 أنّ الموارد المائية في المنطقة شحيحة وذات نوعيّة رديئة في أغلبها، حيث تشير الدراسة إلى أن حجم المياه الارتوازية القابلة للاستغلال في مائدة أم العرايس-الرديّف تجاور 2.68 مليون متر مكعّب و1.53 مليون متر مكعّب بالنسبة إلى مائدة “سبساب الحمراء” و”شطّ الغرسة”. أمّا بالنسبة الى المياه الجوفيّة العميقة فتقدّر إجمالا بـ49.29 مليون متر مكعّب موزّعة على 3 طبقات جيولوجية مختلفة. من نافلة القول إنّ هذا المخزون تراجع بشكل خطير خلال العشريّة الأخيرة نتيجة لشطط الاستهلاك، وضعف تزويد المائدة بسبب الجفاف وضعف التساقطات.

وكنتيجة لهذا الوضع، والاستغلال المفرط، خاصّة من شركة فسفاط قفصة للموارد المائية النادرة في المنطقة، سجّلت لأوّل مرّة في تونس مواقف رفض رسميّة للسلط المحلّية. حيث رفض المجلس البلدي للمظيلّة سنة 2021 منح ترخيص لوحدتي تحويل فسفاط تابعتين للمجمع الكيميائي التونسي، بعد أن تفطّن المجلس إلى اشتغال إحداهما منذ سنة 1984 بدون رخصة، فيما يستعدّ المجمع لتشغيل الثانية.

وكان رئيس المجلس البلدي للمظيلّة حافظ هنشيري قد صرّح أنّ المجمع يستنزف الثروة المائية الجوفيّة في المدينة، حيث يستخرج حوالي 400 متر مكعّب في الساعة، ويرفض أن يستعمل المياه المكرّرة التي تنتجها محطّة التطهير بعقيلة (قفصة الجنوبيّة).

من جهته كان المجلس البلدي لحامّة الجريد (ولاية توزر) قد رفع قضيّة ضدّ شركة فسفاط قفصة من أجل تلويث وادي غويلفة بفضلات مياه مغاسل الفسفاط.

وفي واقع الأمر فإنّ فضلات الفسفاط تشكّل معضلة بيئيّة واسعة النطاق، فالفسفاط الخام، بعد غربلته وغسله، لا يقع الاحتفاظ منه إلاّ على الجزيئات التي تتراوح بين 80 ميكرومتر و2 مليمتر. ويقع تخزين الجزيئات الضخمة في مساحات مخصّصة، أمّا الجزيئات الدقيقة فيقع لفظها في شكل طمي داخل الوديان. وحسب دراسة منشورة سنة 2016، بلغ حجم الفضلات الدقيقة لإجمالي المغاسل 2500 ألف متر مكعّب و10870 ألف متر مكعّب من الطمي (مستندة إلى معطيات شركة فسفاط قفصة).

تتنافس في قفصة، الصناعة الاستخراجيّة (الفسفاط) مع بقيّة القطاعات على النزر القليل المتوفّر من الماء. ومن المفارقات التي سجّلها الباحثون، تَركّز النشاطات الفلاحيّة في مناطق استخراج الفسفاط لتحاول بذلك افتكاك حصّة غير كافية من المياه، حيث خلصت دراسة أجراها الباحثان عبد الجليل الصغاري و سالم شريحة سنة 2016 (مذكورة آنفا) إلى أنّ نسبة الأراضي السقوية بالحوض المنجمي مقارنة مع المساحة السقوية الجمليّة لكامل ولاية قفصة تعادل 25.5% سنة 2010، و بالتالي أنها تضاعفت خلال 5 سنوات، وهو ما اعتبرته الدراسة مفارقة عجيبة ومنافسة خاسرة إذ أنّ منطقة الحوض المنجمي هي المنطقة التي تستحوذ فيها شركة فسفاط قفصة على المياه الجوفية.

ليس بالغريب إذا أن نرى الواحات وقد جفّت والزراعات التي حاولت الدولة تشجيعها في المنطقة وقد ذهبت أدراج رياح الفسفاط الصفراء.

صرخة في وادي أجرد

ممّا تقدّم من عرض للمعطيات العامّة وتشريح النماذج الخاصّة بإدارة الثروة المائية في منطقتي حامة قابس والحوض المنجمي بقفصة، نخلص إلى أنّ مستوى التوتّر المائي (Stress hydrique) الذي بلغته تونس، والذي سبق استشرافه منذ بداية الألفينات حسب الدراسات التي عرضناها، لم يقع ترجمته إلى قلق سياسي، حيث رغم المخطّطات الاستراتيجيّة و”مخطّطات العطش والجفاف” التي أجرتها الجهات الرسمية، ورغم التحذيرات المتعاقبة وارتفاع مؤشّرات الخطر، تستمرّ سياسات الدولة وخيارات مؤسّساتها في التعامل مع المسألة بشكل سطحيّ، ضاربة على الحلقة الأضعف في سلسلة الماء، وهي المستهلك بتحميله عبء فاتورة الهدر المائي. بضعة أرقام مفزعة نختم بها هذا العرض، علّها تدقّ نواقيس الخطر، فمن المتوقّع أن ينخفض الاحتياطي العام من المياه الجوفيّة القابلة للتجدّد من 1524 مليون متر مكتعّب حاليّا إلى 1000 مليون سنة 2050، وإلى 700 مليون سنة 2010 أي نصف الموارد الحاليّة.

هذه الفاتورة الثقيلة التي يدفع حاليا ثمنها المواطنون.ـات التونسيّون.ـات وستواصل دفعها الأجيال القادمة، سيفاقم من ثقلها حجم التلوّث الذي يسمّم الموارد المائيّة سطحيّة منها أو جوفيّة، وهو ثقل يصعب تقييمه بالأرقام نظرا لغياب الدراسات الشاملة حول هذا الموضوع، ويشهد أوجه في المناطق الصناعيّة المنتشرة على طول الشريط الساحلي للبلاد التونسيّة. إضافة إلى ارتفاع نسبة الملوحة في المياه الجوفيّة نتيجة شطط الاستغلال، ما يجعلها غير صالحة للاستهلاك على المدى القصير والمتوسّط.

وفي ظلّ تقاعس الدّولة في تنفيذ الحلول المقترحة وتهرّب الشركات المعنيّة من مسؤوليّاتها الاجتماعيّة، وارتفاع كلفة الإصلاح الشامل لمنظومة المياه، يبدو أن صرخة العطش سيتردّد صداها في واد أجرد.

كلمة الكتيبة:
يندرج هذا المقال التفسيري في إطار سعي موقع الكتيبة لتسليط الضوء على أزمة المياه في تونس، وتشخيص مواطن الداء المسكوت عنها بالإدارة والتصرّف في الثروة المائية، وفي سياق حقّ الأجيال في الثروة المستدامة والحياة.

كلمة الكتيبة:
يندرج هذا المقال التفسيري في إطار سعي موقع الكتيبة لتسليط الضوء على أزمة المياه في تونس، وتشخيص مواطن الداء المسكوت عنها بالإدارة والتصرّف في الثروة المائية، وفي سياق حقّ الأجيال في الثروة المستدامة والحياة.

الكاتب : معز الباي

اشراف: وليد الماجري
تدقيق: محمد اليوسفي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
اشراف : وليد الماجري
تدقيق : محمد اليوسفي

الكاتب : معز الباي

صحفي مختصّ في الصحافة الاستقصائية، مكوّن صحفي، شغل عديد المواقع في مؤسسات إعلامية محلية وأجنبية.

moez