الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“لو كان الأمر متاحا، لقمت بتسجيل ابنتي بمدرسة خاصّة، لكن كما يقول المثل المصري العين بصيرة واليد قصيرة، لا أمتلك حقّا ما يكفي من المال لضمان حدّ أدنى من جودة التعليم لابنتي، أقوم بما في وسعي من أجل توفير بعض الأموال قصد تمكينها من حصص تدارك في بعض الموادّ، خاصّة الفرنسية لأنّ معلّمتها تجبرها وزملائها على ذلك”. بنبرة حانقة أجاب محمد، وهو عامل يومي في مجال البناء يقطن بمنطقة الكرم بالضاحية الشمالية لتونس العاصمة، عن سؤالنا حول استعداداته للعودة المدرسيّة.

يضيف محمد أنّ لا شيء يعنيه في هذه الحياة سوى ابنته أميرة التي وصفها برأس ماله الوحيد الذي يريد أن يستثمر فيه على أمل أن يكون مستقبلها زاهرا تستطيع فيه الحصول على فرصة عمل يكفل لها وله العيش الكريم وإن كان ذلك بعد عشرين سنة.

رغم حرص الوالد على ضمان حدّ أدنى من جودة التعليم لابنته، أخذ مستوى الأخيرة حسب ما يشرحه إلى موقع الكتيبة يتراجع من سنة إلى أخرى.

يفسّر محمد أنّ هذا التراجع، يعود إلى سببين رئيسيين أوّلهما أنه غير متعلّم فلا يستطيع أن يقدّم لها أي دعم سوى توفير لوازم الدراسة، وثاني الأسباب حسب تعبيره يعود إلى الإضطراب في نسق التدريس، وكثرة غيابات المعلّمين فضلا عن تواتر الإضرابات كما حصل في الأعوام الأخيرة، قائلا: أنا أقوم بكلّ ما في وسعي، لكن إن شاءت الأقدار ألّا يكون لابنتي مسار دراسي موفّق فرجائي من الله أن يكتب لها مستقبلا أفضل”.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

“لو كان الأمر متاحا، لقمت بتسجيل ابنتي بمدرسة خاصّة، لكن كما يقول المثل المصري العين بصيرة واليد قصيرة، لا أمتلك حقّا ما يكفي من المال لضمان حدّ أدنى من جودة التعليم لابنتي، أقوم بما في وسعي من أجل توفير بعض الأموال قصد تمكينها من حصص تدارك في بعض الموادّ، خاصّة الفرنسية لأنّ معلّمتها تجبرها وزملائها على ذلك”. بنبرة حانقة أجاب محمد، وهو عامل يومي في مجال البناء يقطن بمنطقة الكرم بالضاحية الشمالية لتونس العاصمة، عن سؤالنا حول استعداداته للعودة المدرسيّة.

يضيف محمد أنّ لا شيء يعنيه في هذه الحياة سوى ابنته أميرة التي وصفها برأس ماله الوحيد الذي يريد أن يستثمر فيه على أمل أن يكون مستقبلها زاهرا تستطيع فيه الحصول على فرصة عمل يكفل لها وله العيش الكريم وإن كان ذلك بعد عشرين سنة.

رغم حرص الوالد على ضمان حدّ أدنى من جودة التعليم لابنته، أخذ مستوى الأخيرة حسب ما يشرحه إلى موقع الكتيبة يتراجع من سنة إلى أخرى.

يفسّر محمد أنّ هذا التراجع، يعود إلى سببين رئيسيين أوّلهما أنه غير متعلّم فلا يستطيع أن يقدّم لها أي دعم سوى توفير لوازم الدراسة، وثاني الأسباب حسب تعبيره يعود إلى الإضطراب في نسق التدريس، وكثرة غيابات المعلّمين فضلا عن تواتر الإضرابات كما حصل في الأعوام الأخيرة، قائلا: أنا أقوم بكلّ ما في وسعي، لكن إن شاءت الأقدار ألّا يكون لابنتي مسار دراسي موفّق فرجائي من الله أن يكتب لها مستقبلا أفضل”.

منذ ما يزيد عن العقدين، تعيش المنظومة التربوية في تونس أزمة هيكليّة من حيث البنية التحتية وجودة التعليم بها، وضع تؤكّده أرقام وزارة التربية حول نسب الرّسوب العالية في مختلف المستويات الدراسيّة، فضلا عن تواصل ظاهرة الانقطاع المبكّر عن الدراسة، بما يشي بأنّ وضع المدارس العمومية أصبح منفّرا للتلاميذ.

على نقيض حال المدرسة العموميّة، يبدو وضع مؤسسات التعليم الخاص في تونس مزدهرا من سنة إلى أخرى، الأمر الذي تؤكّده الأرقام الرسميّة حول الارتفاع المهول في عدد هذه المؤسسات وعدد التلاميذ الملتحقين بها والفوارق الواضحة في نسب النجاح بينها وبين المدارس العمومية خاصّة في المناظرات الوطنيّة، ممّا يزيد من إقبال الأولياء عليها لتسجيل أبنائهم وبناتهم.

فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الوضع؟ ولماذا تأخّر الإصلاح في منظومة التعليم العمومي رغم إجماع مختلف الفاعلين على تراجعها؟ وهل مازال من الممكن الحديث في تونس عن مساواة في حق الولوج إلى تعليم راقي؟

القطاع الخاصّ يكسب رهان المرحلة الإبتدائية والإعدادية

تستعدّ وفاء، شابّة تونسية، للاحتفاء بابنها البكر بمناسبة بداية مشواره الدراسي. تقول في حديثها لموقع الكتيبة إنّه وبالرغم من إمكانياتها المتوسّطة، إلا أنّها مصرّة على تسجيل ابنها بإحدى المدارس الخاصّة وسط العاصمة تونس، لما لها من سمعة طيّبة في تكوين الناشئة وفق قولها.

تُرجع وفاء قرارها الذي اتخذته بالتوافق مع زوجها، رغم أنهما موظفان لا يتجاوز أجرهما معا 3000 دينار تونسي، إلى إلى ما وصفته بالوضع المزري الذي أصبحت عليه منظومة التعليم العمومي وكثرة الإضرابات التي تؤثّر سلبا على مستوى التلاميذ، فضلا عن عدم قدرتها على مجاراة جداول التوقيت التي تفرضها المؤسسات العمومية بما أنها تعمل بدوام كامل.

إذا نظرنا إلى الأمر من منظور مادّي بحت، تسجيل ابني في مدرسة عمومية يستوجب منّي دفع مستحقات المرافقة والحضانة وغيرها من الخدمات التي لا تقوم بها المدرسة العموميّة، فالأسهل لي تسجيله في مدرسة خاصّة بها جميع الأنشطة وأقوم باصطحابه مع نهاية الدوام.

وفاء مواطنة تونسية

في العقدين الأخيرين، تدهورت صورة التّعليم العمومي في تونس بشكل لافت للانتباه وتعمّقت أكثر بُعيد ثورة جانفي/ كانون الثاني 2011 بفعل الأزمة التي لم تلق طريقها نحو الانفراج بين نقابات التعليم والوزارة. وضع غير طبيعي استثمرته المدارس الخاصّة لتوسيع أنشطتها والتسويق لخدماتها غير المتوفّرة في مؤسسات التعليم العمومي.

بلغ عدد المدارس الخاصّة المرخّص لها بالنّشاط من طرف وزارة التّربية التونسيّة إلى موفى شهر أوت/ آب من عام 2023، نحو 724 مدرسة. في وقت ليس ببعيد كان عدد هذه المدارس لا يتجاوز الـ 100 في عام 2010.
هذا الارتفاع اللافت لعدد المؤسّسات الخاصّة يكشف وجود سلوك جديد عند التونسيين.ـات يميل إلى التّعليم الخاصّ أكثر من العمومي في المرحلة الإبتدائية، ويتّضح أكثر من خلال ارتفاع عدد التلاميذ الملتحقين بالمدارس الخاصّة والذي ارتفع من 21 ألف في عام 2010 إلى نحو 122 ألف في عام 2022، مقابل استقرار نسبي في أعداد التلاميذ الملتحقين بالمدارس العمومية سنويّا.

ويجد سلوك التونسيين.ـات في تفضيل القطاع الخاصّ لتدريس أبنائهم، سنده في أرقام وزارة التربية. ففي الوقت الذي تعمل فيه المدارس الخاصّة على الاستجابة إلى المعايير الدولية، تقبع مؤسّسات التعليم العمومي في نفس الدوّامة.

يتّضح هذا من خلال مقارنة نسبة كثافة الفصول بين القطاعين العامّ والخاصّ وعدد التلاميذ لكل مدرّس، حيث يبلغ معدّل كثافة الفصل في المدارس الخاصة نحو 18 تلميذا في الوقت الذي يبلغ نفس المعدل في المدارس العمومية الـ 24 تلميذا ويصل في بعض المدن على غرار تونس العاصمة وولاية أريانة إلى نحو الـ 28 تلميذا بكل فصل.

وتوفّر المدارس الخاصة مدرّسا لكلّ 11 تلميذا، في حين توفّر المدارس العموميّة مدرّسا لكلّ 16 تلميذا وفق إحصائيات وزارة التربية الخاصّة بالسنة الدراسية لعام 2022 – 2023.
وما يشجّع الأولياء أكثر على إلحاق أبنائهم وبناتهم بمدارس التّعليم الخاصّ في المرحلة الإبتدائيّة، هي الأنشطة المتنوّعة التي توفّرها تلك المدارس داخل أوقات الدّراسة وخارجها، الشيء الذي تفتقر له المدارس العموميّة. ولعلّ أبرز مثال على هذا غياب مدرّسي التربية البدنيّة في عدد لا بأس به منها حيث يبلغ عدد هؤلاء 2426 أستاذا موزّعين على 4583 مدرسة عموميّة.

وما يوضّح أكثر تراجع منظومة التربية العموميّة، الأرقام التي تحقّقها المدارس الخاصّة في المناظرات الوطنيّة على غرار مناظرة الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية وهي مدارس عموميّة مخصّصة فقط للمتفوقين.
تمثّل المدارس النموذجية طموح أغلب الأولياء الرّاغبين في تحصيل تكوين متميّز لأبنائهم لما تختصّ به من بنية تحتيّة ممتازة وإطار تدريسي كفؤ، فضلا عن أنها تمثّل عنوانا للتمايز الاجتماعي بالنسبة الى عدّة تونسيين.ـات.

وكسبت المدارس الإبتدائيّة الخاصّة رهان المناظرة الوطنيّة للدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية أو ما يطلق عليها التونسيون.ـات مناظرة “السيزيام”، حيث تمكّن 17% من مجموع المتقدّمين منها من اجتياز الامتحان الوطني في عام 2022 بنجاح في حين كانت نسبة المدارس العموميّة في حدود الـ 4.6%.

ويبدو أنّ المستثمرين في قطاع التعليم الخاصّ لم يعودوا مقتصرين على مرحلة التعليم الابتدائي فقط، إنّما تجاوزوا ذلك لتتوسّع استثماراتهم في المرحلة الإعداديّة. فحسب تقرير وزارة التربية الخاصّ بقانون المالية لعام 2023، تفوّقت المدارس الإعداديّة الخاصّة كذلك في مناظرة ختم التعليم الأساسي بنسبة نجاح فاقت الـ 79 % من إجمالي المتقدّمين منها للمناظرة، فيما سجّلت المدارس الإعدادية العموميّة نسبة نجاح قدّرت بحوالي 59% (أغلبهم بالمدارس الإعدادية النموذجية).

في عام 1984، لم يتجاوز عدد المدارس الإعدادية والمعاهد الخاصّة 91 معهدا، ومع تفاقم ظاهرة الرّسوب والانقطاع المدرسي في مرحلة ما بعد الابتدائي في أعوام التسعينات، كانت هذه المعاهد بمثابة الفرصة الثانية أمام هؤلاء التلاميذ من الرّاسبين والمنقطعين لمواصلة دراستهم وتحصيل مستوى دراسي يفتح لهم آفاقا مهنية، الأمر الذي جعل من أعدادها تتضاعف ليصل إلى 342 مؤسسة في عام 1994.

حسب ما توفره وزارة التربية التونسية من أرقام، يُلاحظ وجود تقلّص في عدد المدارس الإعدادية والمعاهد الخاصة في بداية الألفية الثالثة ( 262 مؤسسة ) وهذا راجع إلى تقلّص عدد الطلبة الملتحقين بها لتعود إلى منحاها التصاعدي من جديد منذ عام 2009 وتبلغ 511 مؤسسة في عام 2023، أغلبها مدارس إعدادية جديدة تمّ إحداثها بعد ثورة جانفي 2011.

وقامت عدد من المؤسسات الخاصّة بعد اكتساب الخبرة في تدريس المرحلة الابتدائية بتدشين مدارس إعدادية بشكل أصبحت فيه امتدادا لمدارسها الابتدائية حيث يواصل جزء لا بأس به من تلاميذ المرحلة الابتدائية تعليمهم في مرحلة الإعدادي بذات المؤسسة، الأمر الذي جعل من عدد التلاميذ الملتحقين بالمدارس الإعدادية الخاصّة يرتفع ليصل إلى نحو 44 ألف تلميذ(ة) خلال العام الدراسي 2022 – 2023 وهو رقم يمثّل ثلاثة أضعاف ما كان عليه في عام 2015.

صور تمّ التقاطها بتاريخ 14 سبتمبر 2023 لمدرسة ساحة مانداس فرانس بالعاصمة تونس

صور تمّ التقاطها بتاريخ 14 سبتمبر 2023 لمدرسة ساحة مانداس فرانس بالعاصمة تونس

المدرسة العمومية تعيش أسوأ أوضاعها

التقدّم الذي أحرزته المؤسسات التربوية الخاصّة جاء نتيجة للفراغ الذي تتركه سنويّا المدارس العمومية على غرار ما يحصل مع تلاميذ المدرسة الابتدائية العمومية “ساحة مانداس فرانس” بمنطقة ميتيال فيل بالعاصمة تونس، والذين قد يتأخر التحاقهم بمدرستهم في الموعد السنوي العادي (15 سبتمبر/ أيلول من كل عام) وذلك بسبب تواصل أشغال تهيئة المدرسة التي انطلقت منذ شهر جانفي/ كانون الثاني من هذا العام 2023.

تقول سوسن، وليّة إحدى التلميذات في حديثها مع موقع الكتيبة، إنّ الإدارة أعلمتهم بأنّها تعمل جاهدة حتى لا يتجاوز موعد العودة المدرسية بالنسبة إلى تلاميذ المدرسة الموعد الرسمي، مشيرة إلى أنّ أولياء التلاميذ يرفضون ذلك قطعيّا خوفا على سلامة أبنائهم.

وتضيف سوسن أنّها وأولياء باقي التلاميذ ومن خلال معاينتهم لحجم الأشغال اقتنعوا باستحالة انتهائها قبل شهرين من الآن كحدّ أدنى، مبدين استغرابهم من غياب سلطة الإشراف والرقابة على المقاول المتعهّد بإتمام الأشغال.

المدرسة في وضعيّة مزرية للغاية، ورغم أنّ أشغال التهيئة انطلقت وسط السنة الدراسية الماضية إلا أنها لم تحرز أيّ تقدّم ملحوظ.

سوسن وليّة تلميذة بمدرسة ساحة مانداس فرانس

ككلّ عام ومع كل عودة مدرسيّة، تطفو على السطح مظاهر ومشاهد مزرية لحالة المدارس العمومية والبالغ عددها 4853 مدرسة موزّعة على كامل ولايات الجمهوريّة فيما يبلغ عدد المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية نحو 1467 مؤسسة.

ومن خلال قراءة أرقام توزيع المؤسسات التربوية على مختلف ولايات الجمهورية، يتّضح أنّه كلّما كانت هناك كثافة للمدارس العموميّة بإحدى المناطق، كلما شيّد القطاع الخاصّ مؤسسات تربوية جديدة بذات المناطق، بشكل يضع فيه نفسه بديلا عن التعليم العمومي ويقرّب خدماته إلى التونسيين.ـات خاصّة في المدن الكبرى.

في وقت سابق، علّق وزير التربية الأسبق فتحي السلاوتي على ظاهرة توسع المدارس الخاصّة في تصريح إلى إذاعة اكسبريس أف أم قائلا: ” نريد تنافسا بين القطاعين العامّ والخاصّ مع توفير الحدّ الأدنى من الإمكانيات للمدارس العموميّة و التي تبقى وضعيّتها دون المأمول”.

يوضّح تصريح الوزير عجز وزارته ومن ورائها الدّولة في توفير الحدّ الأدنى المرجوّ للمدارس العموميّة بما يجعل المدارس الخاصّة تتفوق بشكل لافت للانتباه.

ويتّضح أكثر هذا الطّرح من خلال معاينة إحصائيات الوزارة في خصوص البنية التحتية لـ 4853 مدرسة عموميّة. ففي ولاية القيروان على سبيل المثال، لا ترتبط 176 مدرسة بشبكة مياه إذ يتم تزويدها من فترة إلى أخرى عبر صهاريج، في حين تعرف مدارس أخرى غياب مجموعات صحّية (مراحيض) وتجهيزات إلكترونية وآلات طباعة وقاعات مراجعة ومكتبات. كما يسجّل جزء مهمّ منها غياب أسْيِجة تحميها من محيطها الخارجي خاصة في المناطق الريفية.

تعود أسباب تدهور البنية التحتيّة للمؤسسات التربوية العمومية، إلى الضغوطات المالية التي تعيشها الوزارة منذ عقدين وعدم إيلاء الحكومات المتعاقبة الأهمية الكافية من أجل النّهوض بوضع المدارس العموميّة.

وبلغت ميزانية وزارة التربية في عام 2023 ما يناهز الـ 7570 مليون دينار 85% منها تذهب لسداد أجور موظّفي الوزارة، فيما تتوزّع بقية الميزانيّة بين نفقات التسيير والتدخل والاستثمار، وهو ما لا يفي بالحاجة تماما لإصلاح أوضاع المؤسسات التعليمية أو بناء مؤسسات جديدة وتجهيزها.

استقرار في معدّلات التسرّب وتراجع حادّ في جودة التعليم العمومي

لا يختلف الحال كثيرا في المدارس الإعداديّة والمعاهد الثانوية عن حال المدارس العمومية حيث تعرف اهتراء في بنيتها التحتيّة ونقص واضح في عددها.

يتخرّج سنويّا في ختام المرحلة الإبتدائية حوالي 180 ألف تلميذ من 4853 مدرسة عموميّة ليواصلوا تعليمهم بالمرحلة الإعداديّة التي تتضمّن 817 مدرسة.
يبدأ التلاميذ السنة الأولى من المرحلة الثانية من التّعليم الأساسي حياة مدرسيّة جديدة، ويضطرّون في أغلب الأحيان للتنقّل لمسافة أطول مقارنة بالمرحلة الابتدائية، وفي هذا المستوى انقطع حوالي 24 ألف تلميذ ( 10.1% ) في عام 2022، عن الدّراسة، فيما رسب حوالي 53 ألف منهم ويهدّد أغلبهم التسرّب المدرسي.

وعند الوصول إلى مرحلة الثانوية التي يرتقي إليها سنويّا حوالي 120 ألف تلميذ، يتمّ توزيعهم على 650 معهدا بكامل البلاد، يغادر نحو 41 ألفا مقاعد الدراسة والنّسبة الأكبر منهم يتمّ تسجيلها في السنوات الأولى والرابعة من هذه المرحلة.
تُقدّر أعداد المنقطعين عن الدراسة في المستويات التعليميّة الثلاثة في العقدين الأخيرين بما يفوق الـ 100 ألف تلميذ في كلّ سنة وهو ما يعادل حوالي 300 تلميذ في اليوم.

وفق وثيقة تحليليّة صدرت في أفريل/ نيسان من العام المنقضي 2022، عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمّية، وهو مؤسّسة حكومية تتبع وزارة الاقتصاد والتخطيط، تبلغ نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي في تونس 99%، وتتقلّص هذه النسبة بشكل لا تتجاوز فيه 75% بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة، أي في المدارس الإعدادية والثانوية.

حقّقت تونس تقدّما واضحا في التّعليم الأساسي الشامل لكن هذا التقدّم الكمّي وفق دراسة المعهد، تمّ إحرازه على حساب الجودة، ويفسّر ذلك بأنّ نسبة الرّسوب التي يتمّ تسجيلها في المستويات الثلاثة التعليمية تعتبر عالية، وتزيد من وتيرة التسرّب المدرسي خاصّة لدى المراهقين الذين يقومون بردّ فعل على فشلهم الدراسي.
والأسوأ من هذا حسب ذات الدراسة أنّ أكثر من 10% من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عامًا يمثّلون جزءا من فئة NEET وهو مصطلح إنجليزي يعني أنّ هؤلاء الشباب غير ملتحقين بالمدارس ولم يتلقّوا تدريبا ولا يشغلون أية وظيفة ( Not in Education, Employment or Training ). ويقدّر عددهم بحوالي 93000 نفرا، أغلبهم من الذكور.

لم يعد يخفى على أيّ جهة رسميّة في تونس الأسباب الحقيقيّة التي تقف وراء الانقطاع المبكر للتلاميذ عن الدراسة. وفق المسح الوطني للأسر الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2015، ترجع الأسباب الرئيسية للانقطاع المدرسي إلى ثلاثة عوامل مهمة أوّلها بُعد المسافة التي يقطعها التلميذ بين المنزل والمؤسسة التربوية وثانيها غلاء لوازم الدراسة وثالثها حتميّة البقاء في المنزل إضافة إلى وجود نسبة هامة من المنقطعين الذين لا يجدون أيّة أهمية في التعلّم والشريحة الأكبر منهم انقطعوا عن الدراسة في المرحلة الثانوية.

وتتجلّى هذه العوامل المؤدية إلى الانقطاع المبكر عن الدّراسة أكثر في الولايات التي تسجّل أعلى مستويات الفقر في البلاد على غرار ولايات القصرين والقيروان وسيدي بوزيد وجندوبة وسليانة، وهي ذات الولايات التي تحقّق أقلّ نسبة نجاح في مناظرة البكالوريا في كلّ عام، بما يوضّح انخرام المنظومة التربوية والتعليميّة أكثر بهذه الولايات.

ومن خلال الأرقام المصرّح بها من طرف الوزارة، يتّضح أنّ التلاميذ الذكور يحتلّون النسبة الأكبر في معدّلات الانقطاع المدرسي والرسوب، فيما حققت الإناث قفزة نوعية باستحواذهن على النسب الأكبر من التميّز والارتقاء في مختلف المستويات العلميّة.

ولا يتوقّف تراجع منظومة التعليم العمومي على انهيار البنية التحتية في جزء لا بأس به من مؤسساتها التربوية، إنما يتجاوز ذلك إلى وجود سوء في الحوكمة والتصرّف في موارد الوزارة البشرية.

يقول الوزير الأسبق للتربية ناجي جلول في حوار كان قد أجراه معه موقع الكتيبة، إنّه خلال مروره بالوزارة عاين وجود معهد بيه 300 تلميذ يعمل به 120 موظّفا في حين تجد مؤسّسات أخرى دون إطار إداري ولا عملة، إضافة إلى وجود كمّ هائل من الغيابات الملغومة بشهادات طبّية، على حدّ تعبيره.

في فترة إشرافي على الوزارة، اكتشفنا وجود 15 ألف غائب عن مقاعد التّدريس، من بينهم 5 آلاف في إطار إجازات مرضيّة طويلة المدى، و5 آلاف قصيرة المدى، و5 آلاف مدرّس تمّ إلحاقهم بالإدارة لأسباب صحّية.

ناجي جلول وزير تربية سابق

تجلّت محدوديّة المنظومة التربويّة التونسيّة وتراكُم أزمتها، مع إلغاء مدارس ترشيح المعلّمين التي كانت تزوّد المدارس العمومية بالعنصر البشري المتكوّن والجاهز بيداغوجيّا.
منذ عام 1994، أصبح عدد مدارس ترشيح المعلّمين لا يتجاوز ثلاث مدارس ليتمّ إلغاؤها بالكامل في بداية الألفيّة الثالثة واقتصر تكوين المعلّمين على المدرسة العليا لتكوين المعلّمين بتونس العاصمة وعدد خرّيجيها سنويّا لا يستجيب للطلب المتزايد بالمدارس العموميّة.

وأمام الحاجة لانتداب المعلّمين، اتخذت الدولة منذ عام 1995 مسارا جديدا في طريقة انتداب المعلّمين بشكل أصبحت فيه وزارة التربية، حسب عديد المتابعين، تشتري السّلم الاجتماعي من خلال تشغيل أصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل رغم أن تكوينهم الدراسي لا علاقة له بمناهج التّدريس.

يعلّق ناجي جلول وزير التربية الأسبق قائلا إنّ هذا التمشّي أثّر بشكل كبير على جودة التعليم ومستوى التلاميذ، مضيفا:

تمّ انتداب موظّفين دون الوقوف على مدى استجابتهم للشروط الموضوعيّة الواجب أن تتوفّر في المدرّسين وتواصلت هذه السياسة في سنوات ما بعد الثورة. فعلا وزارة التّربية أصبحت وزارة شراء السّلم الاجتماعي، لكن ذلك كان على حساب جودة التعليم.

ناجي جلول وزير تربية سابق

ويصف جلّول ملفّ المعلّمين والأساتذة المعوّضين أو ما يطلق عليهم بالأعوان الوقتيّين، بالملفّ الكارثي داخل وزارة التّربية، مشيرا إلى أنّ هؤلاء يتلقّون أجرا زهيدا لا يليق بسمعة المدرّس كما أنهم يقبعون في وضعيّة هشاشة اجتماعية مُهينة، ومبرزا أنّ من أوكد مهامّ الإصلاح ترسيم هؤلاء المدرّسين مع العمل على إعادة رسكلتهم بما يستجيب ومتطلّبات التعليم الرّاقي والهادف.

من جانبها، تقرّ وزارة التربية بنقاط الضّعف التي أدّت إلى انهيار المنظومة التربوية، ففضلا عن اهتراء 96% من المؤسسات التربوية حسب تقريرها المتعلّق بمهمة التربية والوارد بقانون مالية 2023، تُشير الوزارة إلى أنّ الاعتماد على سياسة انتداب الأعوان الوقتيين المكلّفين بسدّ الشغور في عدد لا بأس به من المدارس جاء جرّاء خروج عدد كبير من رجال ونساء التعليم للتقاعد، مشيرة إلى أنّ هؤلاء الأعوان المنتدبين غیر متحصّلین على التّكوین البيداغوجي الكافي، إلى جانب غياب سياسة واضحة لانتدابهم ممّا أثّر بشكل كبير على جودة التّعليم ومستوى التّكوين للتلاميذ خاصّة في موادّ اللّغات والعلوم.

تعدّدت الاستشارات و غابت الإصلاحات

في آخر مشاركة لها في البرنامج الدولي لمتابعة المكتسبات “بيزا” 2015 وهو برنامج تنظّمه كل ثلاث سنوات منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، حلّت تونس في المرتبة 65 من أصل 70 دولة شملها البرنامج.

وأوضح تقرير المنظّمة أنّ مؤشر تراجع ترتيب تونس مقارنة بمشاركاتها السابقة في أعوام 2006 و2013 يعكس تقهقرا لمستوى التلاميذ التونسيين في مجالات ثلاث يرصدها البرنامج، وهي القراءة والرياضيّات والعلوم، حيث يُشير ذات التقرير إلى أنّ اثنين من ثلاثة تلاميذ يغادرون المدرسة دون أن يكتسبوا مهارات في القراءة والعلوم وبشكل أقلّ في الرياضيّات.

رغم توفّر كلّ القرائن التي تدلّ على انهيار واضح في المنظومة التعليميّة التونسية، يواصل قادة البلاد مسار الاستشارات الواحدة تلو الأخرى من أجل القيام بإصلاحات جذريّة ترفع من مستوى جودة التّعليم في تونس.
يستعدّ الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى إطلاق استشارة وطنية جديدة لإصلاح منظومة التربية في تونس قائلا إنّها ستكون استشارة حقيقيّة غير التي تمّ تنظيمها في أوقات سابقة.
ويكرّس الدستور التونسي الجديد مجلسا أعلى للتربية عُهدت له وظيفة استشاريّة في كلّ ما يتعلّق بتنزيل مخرجات الاستشارة الوطنيّة المزمع تنظيمها في الأشهر القليلة القادمة والسّياسات العامّة للتّربية والتّعليم.

يصف وزير التّربية السابق ناجي جلّول فكرة إحداث استشارة وطنيّة جديدة للتربية والتّعليم في تونس بـ”مضيعة للوقت”، مشيرا إلى أنّه تولّى في عام 2015 إطلاق أكبر استشارة وطنيّة انتهت بصياغة كتاب أبيض يتضمّن مقترحات الإصلاح وتكلفتها.

ويضيف جلّول أنّ المعضلة الأساسيّة ليست في القيام بالاستشارات إنّما في التفكير مليّا في كيفيّة تمويل تلك الإصلاحات باعتبارها استثمارا ضخما يتطلّب إمكانيّات مادّية كبيرة، مذكّرا باقتراحه في ضرورة القيام باكتتاب وطني للتربية من أجل تعبئة الموارد الكفيلة لإنجاح الإصلاح.

لا يمكن القيام بأي إصلاح في ظل وجود ميزانية مخصصة لوزارة التربية 97% منها موجّهة لخلاص الأجور، هذا الوضع لا يمكن فيه لأي كان القيام بأي إصلاح.

ناجي جلول وزير تربية سابق

رغم اختلافه السّياسي مع الوزير الأسبق ناجي جلّول، يذهب النائب بمجلس نوّاب الشعب عن حركة الشعب عبد الرزاق عويدات إلى فكرة تعبئة موارد ماليّة لضمان نجاح أيّ إصلاح مزمع تنفيذه في مجال التربية، قائلا لدى حضوره في برنامج نقطة نظام براديو السيدة أف أم، إنّه وبمعيّة زملائه بالكتلة النيابيّة تقدّموا بمقترح تشريعي من أجل إحداث صندوق وطني للتربية تتأتّى مداخيله من عدّة مصادر على غرار فرض ضريبة استثنائية على المؤسّسات الاقتصادية المتّصلة بالشأن التربوي.

ويأتي الإعداد للاستشارة الوطنيّة المزمع تنفيذها، وسط أجواء ساخنة وخلافات حادّة بين نقابات التعليم الأساسي ووزارة التربية.
لم تكن نهاية السنة الدراسية الماضية 2022 – 2023، نهاية هادئة. صراع وزير التّربية محمد علي البوغديري مع نقابات التعليم الأساسي أخذ منعرجا خطيرا تمثّل في حجب أجور 17 ألف معلّم و إعفاء 500 مدير مدرسة، كردّ فعل منه على قرار النقابات بمواصلة حجب الأعداد عن الإدارة إلى حين التوصّل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف قبل أن يرمي هؤلاء المنديل أمام العصا الغليظة للوزير.

بالتّوازي مع ذلك، لا يبدو أساتذة التعليم الثانوي راضين تمام الرّضا عن اتفاق نقابتهم مع الوزارة، حيث يعتبر جزء لا بأس به من الأساتذة أنّ الاتّفاق الذي توصّلت إليه نقابتهم خيّب آمالهم ويتّهمونها بخذلانهم.

تخيّم على العودة المدرسية للسنة الدراسية 2023 – 2024 ظروف يمتزج فيها تهديد النقابات بمواصلة نضالاتها بوعيد الوزير للتصدّي لها، أمر كان قد عرّج عليه الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال اجتماعه بالوزراء المكلّفين بالإعداد للاستشارة الوطنية للتربية، بأنها موجهة إلى عموم الشعب وليست حكرا على النقابات.

ولا يُعرف بعدُ كيف سيكون شكل الاستشارة، كما لا يُعرف بأيّة موارد ماليّة سيقع تمويلها في ظلّ صعوبات ماليّة واقتصادية تعاني منها البلاد منذ أكثر من عامين، فهل ينجح الرئيس سعيّد في النهوض بمنظومة التربية والتعليم العمومي؟.

كلمة الكتيبة:

يحاول هذا المقال تفسير البيانات المتعلقة بقطاع التربية في تونس، مقدما جملة من الاستخلاصات التي تعري مواطن الوهن ومعالم الحل. وهو يندرج ضمن سلسلة انتاجات شرع في إنجازها موقع الكتيبة في علاقة بورشة إصلاح التعليم.

كلمة الكتيبة:
يحاول هذا المقال تفسير البيانات المتعلقة بقطاع التربية في تونس، مقدما جملة من الاستخلاصات التي تعري مواطن الوهن ومعالم الحل. وهو يندرج ضمن سلسلة انتاجات شرع في إنجازها موقع الكتيبة في علاقة بورشة إصلاح التعليم.

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

اشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
مونتاج : حمزة فزاني
تصوير: رأفت عبدلي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
مونتاج : رأفت عبدلي
تصوير: حمزة فزاني
تظوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك : منال بن رجب

الكاتب : وائل ونيفي

صحفي مختص في قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي

wael213