الكاتب: مالك الزغدودي

صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.

ولد أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا مولدي الأحمر سنة 1956، اشتغل أستاذ في قسم علم الاجتماع والانثروبولوجيا بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وهو من قدماء طلبة المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، حيث درس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ونال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع في مجال سوسيولوجيا المجتمعات الريفية.

انتقل بعد ذلك إلى التدريس بجامعة تونس، قسم علم الاجتماع، وحصل من الجامعة التونسية على دكتوراه الدولة في علم الاجتماع في مجال علم الاجتماع السياسي وهي أعلى درجة دكتوراه كلاسيكية تمنحها الجامعة التونسية.

يمتلك الأحمر أيضا تجارب في التدريس بالجامعات الليبية خلال الفترة الفاصلة بين 1993-1996.

نشر مولدي الأحمر العديد من الكتب حول المجتمعين البدوي والفلاحي التونسيين، وأصول الدولة الحديثة والزعامة في ليبيا، والمعرفة الاستعمارية، والثورة في تونس وليبيا. ترجم أيضا كتاب مارسيل موس “الهبة” الشهير من الفرنسية إلى العربية، إضافة إلى نشره للعديد من البحوث في مجلات متخصصة تونسية وعربية ودولية.

الدكتور مولدي الأحمر عضو بالهيئة التنفيذية للجمعية التونسية للدراسات السياسية، وعضو في هيئة تحرير مجلة الكراسات التونسية، وعضو بمخبر دراسات مغاربية، وعمل أيضا مدير تحرير مجلة عمران للعلوم الاجتماعية وهي واحدة من أهم المجلات العلمية في مجالها المعرفي.

الكاتب: مالك الزغدودي

صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.

ولد أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا مولدي الأحمر سنة 1956، اشتغل أستاذ في قسم علم الاجتماع والانثروبولوجيا بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وهو من قدماء طلبة المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، حيث درس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ونال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع في مجال سوسيولوجيا المجتمعات الريفية.

انتقل بعد ذلك إلى التدريس بجامعة تونس، قسم علم الاجتماع، وحصل من الجامعة التونسية على دكتوراه الدولة في علم الاجتماع في مجال علم الاجتماع السياسي وهي أعلى درجة دكتوراه كلاسيكية تمنحها الجامعة التونسية.

يمتلك الأحمر أيضا تجارب في التدريس بالجامعات الليبية خلال الفترة الفاصلة بين 1993-1996.

نشر مولدي الأحمر العديد من الكتب حول المجتمعين البدوي والفلاحي التونسيين، وأصول الدولة الحديثة والزعامة في ليبيا، والمعرفة الاستعمارية، والثورة في تونس وليبيا. ترجم أيضا كتاب مارسيل موس “الهبة” الشهير من الفرنسية إلى العربية، إضافة إلى نشره للعديد من البحوث في مجلات متخصصة تونسية وعربية ودولية.

الدكتور مولدي الأحمر عضو بالهيئة التنفيذية للجمعية التونسية للدراسات السياسية، وعضو في هيئة تحرير مجلة الكراسات التونسية، وعضو بمخبر دراسات مغاربية، وعمل أيضا مدير تحرير مجلة عمران للعلوم الاجتماعية وهي واحدة من أهم المجلات العلمية في مجالها المعرفي.

كيف تعرّف الحركات الاحتجاجية وما هي جذورها السوسيوتاريخية في تونس؟

هناك فرق بين الحركات الاجتماعية وبين الحركات الاحتجاجية والمظاهرات الاحتجاجية السياقية شبه العفوية. وباختصار شديد يمكن القول بأنّ هناك الحركات الاجتماعية الكلاسيكية التي يكون موضوع اهتمامها شامل. هذا النوع من الحركات طويل النفس، وهو يقوم بصفة عامة على جملة من الأفكار الإصلاحية النقدية أو الثورية التي تستهدف قيما ومعايير ومفاهيم ونظما سياسية سائدة، وتجلب إليها مساندين من آفاق إجتماعية متقاربة. وهي حركات لا تموت بسهولة بل تتطور وتتغير إلى أن تبلغ بطريقة أو بأخرى بعض أهدافها. وتنتمي الحركات المناهضة للاستعمار والاستبداد الى هذا النوع. وهناك حركات اجتماعية من نوع أخر، جديد ومعاصر، وقد تولّدت عن توسّع الفردانية الاجتماعية (تحرر الأفراد من التبعية المباشرة للعائلة الموسعة أو للمجموعة الدينية …) التي ساهمت في بروز قيم الاهتمام بالذات الخاصة، كما ساهم في نشأتها تأثير السوق وأشكال العمل الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي المبتكرة على سلوك الأفراد. وهذا النوع من الحركات الاجتماعية يجلب أفرادا من أصول وآفاق مختلفة، يلتقون سياقيا ولفترة قصيرة نسبيا في الدفاع عن قضايا محددة، أو في ترسيخ معايير لايزال المجتمع يرفضها، ثم يتفرّقون عند بلوغ الهدف أو عند انسداد الأفق، ويمكن أن يذوبوا في حركات جديدة تحمل أهدافا مشابهة.

هذا النوع من الحركات طويل النفس، وهو يقوم بصفة عامة على جملة من الأفكار الإصلاحية النقدية أو الثورية التي تستهدف قيما ومعايير ومفاهيم ونظما سياسية سائدة، وتجلب إليها مساندين من آفاق إجتماعية متقاربة.

هناك الحركات الاحتجاجية التي يكون موضوعها عادة من جنس موضوع الحركات الاجتماعية الكلاسيكية لكنّها تأخذ طابعا سياسيا، ويلعب الانتماء الإيديولوجي دورا مهما في حشد أنصارها. ولكن ما يميزها أنّها مشهدية وسياقية، وهي عادة تخفت عند تحقيق بعض المكاسب أو عند عجز قادتها -إن وُجدوا- عن تحديد أهداف عملية واضحة لها، وحالة الحراك الجزائري الأخير، الذي استمرت احتجاجاته أكثر من سنة ثم تلاشت، أفضل مثال على ذلك. أمّا المظاهرات شبه العفوية، فهي عادة ما تكون فجئية مرتبطة بحدث محدد وليس لها مخيال احتجاجي اجتماعي أبعد من الحدث ذاته، وهي تنتهي غالبا بشكل سريع، ويدفع ثمنها عادة أكثر المشاركين فيها انفعالا.

في الثورة التونسية اجتمع النوع الأول والنوع الثالث، فلقد كان البركان الثوري يغلي ومؤشره كان فقدان النظام السائد لشرعيته الأخلاقية، إذ أنّ محاولاته إقناع المتظاهرين بأنّه استمع لمطالبهم لم تلق أيّة أهميّة عندهم. وأظهرت أحداث الحوض المنجمي قبيل الثورة أنّ النظام الاستبدادي فشل أمنيا وسياسيا وتنمويا في تفكيك أسباب الاحتجاجات التي ساندتها الهياكل النقابية، وكان ذلك مؤشرا على تهالكه. وقد ظهرت ثمار التلاحم النقابي والتحريض السياسي الخفي لاحقا في أحداث سيدي بوزيد والقصرين التي لم تكن مطالبها، في المخيال الاجتماعي التونسي، مرتبطة بحالة محلّية مثل أزمة التشغيل في منطقة منجمية قديمة، أو بحالة غضب محلّية ضد اجراءات مفاجئة مخصوصة طالت حرية التجارة الحدودية (حالة بن قردان)، بل بحالة البلاد كلها : البطالة والإهانة والاستبداد.

أظهرت أحداث الحوض المنجمي قبيل الثورة أن النظام الاستبدادي فشل أمنيا وسياسيا وتنمويا في تفكيك أسباب الاحتجاجات التي ساندتها الهياكل النقابية، وكان ذلك مؤشرا على تهالكهِ.

هل تعتبر أنّ الحركات الاجتماعية في تونس، شهدت تطورا من حيث أنشطتها وتفاعلها مع الشأن العام منذ 2011 إلى اليوم أم أنّها بقيت محافظة على نفس الأدوار ذاتها ؟

قبل 2011 يصعب الحديث عن حركات اجتماعية في تونس، رغم أنّ هناك عدة جمعيات نشطت في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة وعن الحقوق النقابية للعمّال…

صحيح أنّه كانت هناك آلاف الجمعيات التي تقوم بأنشطة مختلفة، لكن الغالبية الساحقة منها لا تنخرط في أي مشروع يمكن اعتباره حركة اجتماعية، وهي مراقبة أو مدارة مباشرة من أجهزة النظام السياسي الحاكم. وفي المقابل كانت هناك بعض الأحزاب التي تحاول النشاط في بيئة سياسية استبدادية ضيقت عليها وجعلت منها مجموعات محدودة الأعضاء والمساندين. لكنّ المزية الكبرى لهذه الأحزاب أنّها نجحت في أن تجعل من جذوة مطالب الحرية والديمقراطية لا تنطفئ، وعندما انطلقت المظاهرات وجد الشباب في تراث المعارضة السياسية ما يتسلّح به ويصنع به بعض شعاراته.

صحيح أنّه كانت هناك آلاف الجمعيات التي تقوم بأنشطة مختلفة، لكن الغالبية الساحقة منها لا تنخرط في أي مشروع يمكن اعتباره حركة اجتماعية، وهي مراقبة أو مدارة مباشرة من أجهزة النظام السياسي الحاكم.

بعد 2011 حدث انفجار في المشهد الجمعياتي والحزبي وإلى حد ما النقابي. وبقدر ما سمح السياق الجديد لطاقات شابة جديدة بالدخول إلى مجال النشاط السياسي والجمعياتي الفاعل (الجمعيات المراقبة للعمل البرلماني وجمعيات مراقبة الحوكمة…وغيرها)، فإنّ الظاهرة بدت لي، في بعض سماتها، وليدة استراتيجيات داخلية وخارجية هدفها ضمان الحضور السياسي الخفي في كل ما تولّد عن الثورة من مؤسسات ومن آليات عمل سياسي. وقد صار عندنا اليوم أكثر من 250 حزب وأكثر من 20 ألف جمعية مدنية. من منظور المصالح الكبرى لأصحاب هذه الاستراتيجيات عَوض هذا التشظي الكبير لأطر الفعل الثوري في تونس التشظي الجهوي والقبلي والعرقي والمذهبي المتوفر في مناطق أخرى من بلدان الربيع العربي والمفقود في بلادنا.

لا يعني هذا التقييم العام أنّ التعدّد الجمعياتي ظاهرة سلبية، بل المقصود -عكس الحالة بالنسبة الى الأحزاب- هو أنّ سياق النشأة والتمويل والاستخدام خدم ويخدم أكثر استراتيجية مرافقة مسار ما بعد 2011 لدفع الأحداث في الوجهة المقبولة، ولأنّ الكثير مستفيد من الجمعيات بشكل فردي فالجميع ساكت على طرح هذا الموضوع بحجّة أنّ ذلك يخدم احتمال عودة الاستبداد.

هل أثّر هذا التشظّي في زخم الثورة؟

يمكن أن نلاحظ أنّه تقريبا لا وجود لحركات اجتماعية في تونس ذات تجذّر شعبي، ولها خصائص مميّزة وأهداف واضحة وحد أدنى من التجانس، وقيادات واعية مقبولة وفاعلة. بل لدينا موزاييك من الأحزاب المتناحرة والجمعيات المدنية التي لا تلتقي في مواقفها وأفعالها إلاّ مناسباتِيا وفي تحرير العرائض. وفي الواقع يمكن القول بأنّ نخب الجمعيات التي تطرح قضايا مهمّة من الممكن أن تتشكّل حولها حركات اجتماعية، متماهية واقعيا في مواقفها مع أحزاب سياسية بعينها، ولذلك لا تتولّد عن فعلها حركات اجتماعية موحّدة وفاعلة، سواء مساندة للحكم الحالي أو معارضة له.

إلى أيّ حدّ تصحّ الأطروحة القائلة بأنّ المجتمع المدني في تونس افتكّ الدور السياسي من الأحزاب السياسية ؟

أوّلا يجب أن نتّفق على المقصود بالدور السياسي. في السياق السياسي التونسي الحالي إذا كان المقصود أن المجتمع المدني هو اليوم أكثر تأثيرا في العملية السياسية الصعبة التي تعيشها البلاد، فجوابي هو بالنفي.

حسب رأيي، المجتمع المدني لم يفتك الدور السياسي للأحزاب، لسبب بسيط وهو أنه لا يقوم حاليا بدور سياسي حقيقي، وهذا ليس بسبب ظروف تشكل قسم واسع من مكوناته فحسب، بل لأنّه في الحقيقة غير مصمّم أصلا ليدير عملية سياسية ضخمة. والاتحاد العام التونسي للشغل يمر الآن بأزمة خطيرة كنتُ قد نبّهته من وقوعها منذ سنوات، لكن لا أحد كان يسمعني. وقيادته لا تدرك بوضوح عمق التحديات التي أصبحت المنظمة النقابية تواجهها في سياق التعدد الحزبي والجمعياتي الحر، والانفجار الكبير لسوق العمل وزمنيته والمهارات التي يطلبها والكيفية التي يوزع بها الموارد.

المجتمع المدني لم يفتك الدور السياسي للأحزاب، لسبب بسيط وهو أنه لا يقوم حاليا بدور سياسي حقيقي، وهذا ليس بسبب ظروف تشكل قسم واسع من مكوناته فحسب، بل لأنّه في الحقيقة غير مصمّم أصلا ليدير عملية سياسية ضخمة.

ولأنّ الأطر القاعدية لاتّحاد الشغل أصبحت انتخابيا في متناول الأحزاب والجمعيات المعادية للمبادئ التي تأسّس عليها، وهي وضعية لم يواجهها من قبل أو كانت لديه سبل مراقبتها بموافقة النظام السياسي الحاكم قبل الثورة، فقد تصدّى لها بطريقة غير قانونية زعزعت شرعية قيادته وأضعفت بالتالي من صدقيته المعيارية على المستوى السياسي. وفي المقابل بدا اتحاد الصناعة والتجارة سعيدا بتضعضع قوة المؤسسة النقابية، ومدافعا في الوقت ذاته على المنظومة الاقتصادية السابقة التي خدمت مصالح أعضائه بلا حساب. ومن ثمة بدا كما لو أنّه غير معني بتحقيق أي هدف من أهداف الثورة ومنها كسر احتكار الفرص، وهذا أضعف من مكانته الاعتبارية في مساعدة البلاد سياسيا على الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها. وبالنسبة الي، ورغم مساهمة النقابة العمالية ونقابة الأعراف في إنجاح مشروع ما كان قد اتفق عليه الشيخان (قائد السبسي والغنوشي)، فقد كان حصول المنظمات النقابية والمدنية التونسية على جائزة نوبل للسلام أمرا مفاجئا، ومنظر ممثليهم والرئيس الفرنسي يستقبلهم في الذهاب والإياب في أحد ممرات قصر الإليزي، كان مضحكا بالنظر إلى أهداف الثورة ودور وهدف الإليزي من ذلك.

بدا اتحاد الصناعة والتجارة سعيدا بتضعضع قوة المؤسسة النقابية، ومدافعا في الوقت ذاته على المنظومة الاقتصادية السابقة التي خدمت مصالح أعضائه بلا حساب.

وإذا ما اختصرنا السبب السوسيولوجي العميق الذي يفرّق بين هؤلاء فهو التاريخ الاجتماعي والإيديولوجي لتشكل نخبة القيادات الحزبية والجمعياتية في تونس: رؤساء أغلب الأحزاب أبديين، وبعض الأحزاب تديرها عائلات، وكثير من القيادات الجمعياتية تتبادل الأدوار لتضمن بعض المنافع.

والنتيجة واضحة: لا الأحزاب المعارضة لإجراءات 25 جويلية لها من العمق الشعبي ما يجعلها قادرة على التصدي لما تعتبره انقلابا على الدستور والديمقراطية، ولا الجمعيات والنقابات المدنية لها من التقارب والتقاطع مع الطروحات الحزبية ما يخلق بين الطرفين توافقا سياقيا يمكنهما من الفعل السياسي في الاتجاه المشترك. ومن المثير أن نجيب الشابي الذي لم يعد له تقريبا حزب تحوّل إلى رئيس لجبهة الخلاص التي عمودها الفقري هو حزب النهضة الذي تصطف ضده أغلب الأحزاب التونسية إضافة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل.

ما يحدث الآن في تونس على هذا المستوى هو منعطف تاريخي، ترى فيه أحزابا عريقة تتفتت وقياداتها تترنح، وأطر سياسية شبه جامدة غير مهيئة لاستقطاب الشباب، يقودها جيل عجوز محبط من فرصة الثورة التي لم تأت له بشيء على المستوى الشخصي، وطاقة هائلة من الشباب تتهيأ لدخول الحلبة لكنها لم تجد طريقها إليها بعد.

هل يوجد تناسب ايجابي بين المجتمع المدني كنظرية و كممارسة في تونس خاصة ونحن نعيش في مناخ سياسي رافض للأجسام الوسيطة بالأخص منظمات المجتمع المدني؟

هذا موضوع خطير جدا. فمن ناحية لدينا مجتمع سياسي متهرّم، مفهومه للديمقراطية أداتي أكثر منه سياسي حضاري، وشبكة ضخمة من الجمعيات المدنية جزء مهم منها ينشط في فلك الأحزاب المتشظية أو تحت التأثير الخارجي، ومجمل هذه القوى تستخدم الإعلام بشكل مكثف لتوجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك. ومن جهة أخرى لدينا سلطة سياسية تعمل بمبدإ المرور بالقوة بهدف خلق ظروف جديدة مناسبة لسياستها، وتتّبع أسلوبا إقصائيا حتى تجاه المنظمات المدنية والحزبية التي يمكن أن تتقاطع معها في بعض الأهداف الكبرى المفيدة للبلاد. والنتيجة هي أنّ الذين قضوا أعمارهم يحذّرون من التعامل مع البنك الدولي، ويطالبون بوضع حدّ للفساد المالي والإداري، ويدعون للتحرّر من بقايا الاستعمار يعارضون في نفس النقاط من يقول بأنّ سياسته تهدف إلى تحقيق هذه الأهداف!

ومن جهة أخرى لدينا سلطة سياسية تعمل بمبدإ المرور بالقوة بهدف خلق ظروف جديدة مناسبة لسياستها، وتتّبع أسلوبا إقصائيا حتى تجاه المنظمات المدنية والحزبية التي يمكن أن تتقاطع معها في بعض الأهداف الكبرى المفيدة للبلاد.

وما يزيد هذا الوضع تعفنا هو أن المعارضين لقيس سعيد اليوم لا يعرضون على التونسيين أي بديل اقتصادي-اجتماعي مقنع، خاصة أنّ بعضهم قضّى في السلطة عشرة سنوات كاملة وورثت البلاد عنه الأزمة الاقتصادية الخانقة اليوم. ولهذا السبب تبدو معارضتهم أداتية هدفها فقط استعادة الحكم، رغم أنّ المبادئ التّي يعتمدونها في دعم خطابهم جوهرية في التأسيس للديمقراطية والتصدّي لكلّ انحراف استبدادي….لكنّهم لا يقنعون التونسيين كثيرا ويحافظ قيس سعيد على شعبيته في جميع عمليات سبر الآراء. وهذا الأمر خطير جدا على البلاد لأنّه إذا لم توجد معارضة قادرة على أن تكون بديلا داخليا أصيلا، فإنّ الأهواء التي تريد السلطة بأي ثمن تستفيق وتنتعش.

كيف يمكن فهم الهجمة العنصرية ضد المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء مؤخرا وهل هناك جذور سوسيو تاريخية عميقة لهذه الممارسة، وأين يكمن الدافع السياسي لمثل هذه الأفعال؟

أولا، لا أعتقد أنّ هناك فعلا هجمة عنصرية رسمية ضد الأفارقة من جنوب الصحراء، وفي رأيي ما صرّح به الرئيس يدخل في الضعف الكبير في العملية التواصلية، خاصة عند الارتجال، ويؤسفني أن تفاهة بعض التونسيين قادتهم إلى الترويج عالميا لفكرة تونس العنصرية لمجرد معارضتهم للرئيس، رغم أنه من حقهم معارضته بندية. وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ جميع رؤساء الدول الكبرى في العالم يتفادون الارتجال في المسائل الحساسة والخطيرة، ويعدّون أوراقا خاصة بهذه المواضيع يقرؤونها. أما على المستوى الشعبي فالعنصرية حقيقة، وقد أظهر الشعب التونسي أن العيب الذي يتهم به الشعوب الأوربية متأصل فيه أيضا.

وتاريخيا لا تختزل العنصرية في اللّون، فهذا فقط سطّح الخطاب، أمّا الحقيقة فهي أنّ العنصرية علاقة دونية دائمة تفقد ارتباطها بشروط تشكّلها الأولى، وتتحوّل إلى معيار يدخل في التنشئة الاجتماعية. فالعبيد والرعاة بالأجرة والخمّاسة وإلى حدّ ما النساء احتلّوا في التّاريخ رتبة دونيّة وجرى التعامل معهم بعنصرية، فمثلما لا تُزوّج بنت “الحر” -أي الذي لا يعيش حالة دونية قصوى لفقدانه موارد الحرية- لعبد فهي لا تزوّج أيضا لراع أو خمّاس أو مجرد حارس، والأدب مليء بدراما الحب الممنوع لهذه الأسباب. ولأنّ الأفارقة الذين قدموا إلى بلادنا كانوا مقطوعين من النّسب والمال والحماية، فقد استعاد لونهم بسرعة تاريخ العبودية في بلادنا، لأن العبيد كانوا يجلبون وهم بالضبط في نفس الوضعية.

والغريب الضعيف الذي لا يحدث معه أي تبادل يصبح محل شك وريبة، وعندما يجري التبادل معه (تكليفه بعمل مثلا) تدخل نقاط ضعفه في الحسبان (لا مال ولا نسب ولا حماية) فيجري استغلاله بفحش يأخذ طابع العنصرية. وعندما يدافع عن نفسه أو يشعر بالخوف والتهديد ولا يلقى المساعدة ويرد الفعل، فإنّ هذا السلوك يبدو للعنصري فعلا شنيعا لا حق لصاحبه فيه.

لذلك فأنا لا أعتقد أنه كان هناك دافع سياسي للعنصرية ضد الأفارقة على المستوى الشعبي. أما على المستوى الرسمي فإنّ الخطأ التواصلي للرئيس هو أنّه تبنّى علنا مضامين تقارير استخباراتية معلومة وغير معلومة عن مشاريع أوروبية بشأن الهجرة والحلول الممكنة لها في بلداننا، بينما كان يمكن له أن يكيل ذلك للصحافة الاستقصائية ولا يتورّط إعلاميا في الموضوع. لكن هناك حقيقة يخفيها الكثيرون، ويخافون حتى من الحديث فيها، وهي أنّ أوروبا بدأت -نتيجة أزمتها الحالية بسبب الحرب الأوكرانية وتصدّعات التوازنات العالمية القديمة- تتفقّد ملفاّتها الاستعمارية بشأن مصالحها في بلداننا المغاربية المتاخمة لها والغنية بالطاقة، وهي تعمل استراتيجيا على جعلنا نتأخّر في ثقافتنا السياسية إلى ذهنية ما قبل الدولة الحديثة بمحاولة إنعاش ذاكرات الانتماء القبلي والعرقي والمذهبي بطرق شتى منها شبكات التواصل الاجتماعي، لتكون رصيدا يمكن استعماله إذا اقتضى الأمر ذلك، وليبيا التي أعادوا نشر خرائطها القبلية المزعومة وتاريخ الصراعات التي تشقّها، هي المثال الشاخص أمامنا حاليا.

الكاتب : مالك الزغدودي

صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.

إشراف: وليد الماجري
تطوير تقني: بلال الشارني
تطوير تقني : بلال الشارني
اشراف : وليد الماجري

الكاتب: مالك الزغدودي

صحفي، باحث في العلوم الاجتماعية.

siMalek