الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“كانت ظروفي الاقتصادية جيّدة وكنت أنفق على والديّ المسنّين ولا أحتاج أحدا.. اليوم وجدت نفسي أعمل مقابل أجر هشّ لا يكاد يكفيني حتّى أنّني أكون قد تداينت ضعفه قبل أن يصل يوم الحصول على الأجر الشهري”.. بهذه العبارات، حاولت أسماء السعيدي الحديث عن حياتها التي تغيّرت بشكل جذريّ بسبب التغيّرات المناخية والجفاف الذي تعيش على وقعه البلاد التونسية على مدى السنوات الأخيرة.

أسماء، البالغة من العمر 29 عاما، هي واحدة من مئات النساء في الأوساط الريفية اللواتي وجدن أنفسهن مجبرات على الابتعاد عن قراهنّ وأعمالهنّ الفلاحيّة التي كانت توفّر لهنّ ولعائلاتهن حياة لائقة والانتقال إلى العاصمة تونس أو إلى مدن أخرى بحثا عن موارد رزق جديدة، ليجدن أنفسهن إزاء تحدّيات لم يعهدنها في السابق تبدأ بصعوبة العثور على عمل مرورا بالأجور الهشّة وقد تصل إلى الاعتداءات والمضايقات.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“كانت ظروفي الاقتصادية جيّدة وكنت أنفق على والديّ المسنّين ولا أحتاج أحدا.. اليوم وجدت نفسي أعمل مقابل أجر هشّ لا يكاد يكفيني حتّى أنّني أكون قد تداينت ضعفه قبل أن يصل يوم الحصول على الأجر الشهري”.. بهذه العبارات، حاولت أسماء السعيدي الحديث عن حياتها التي تغيّرت بشكل جذريّ بسبب التغيّرات المناخية والجفاف الذي تعيش على وقعه البلاد التونسية على مدى السنوات الأخيرة.

أسماء، البالغة من العمر 29 عاما، هي واحدة من مئات النساء في الأوساط الريفية اللواتي وجدن أنفسهن مجبرات على الابتعاد عن قراهنّ وأعمالهنّ الفلاحيّة التي كانت توفّر لهنّ ولعائلاتهن حياة لائقة والانتقال إلى العاصمة تونس أو إلى مدن أخرى بحثا عن موارد رزق جديدة، ليجدن أنفسهن إزاء تحدّيات لم يعهدنها في السابق تبدأ بصعوبة العثور على عمل مرورا بالأجور الهشّة وقد تصل إلى الاعتداءات والمضايقات.

تعدّ النساء الفلّاحات والعاملات في القطاع الفلاحي من أكثر الفئات هشاشة أمام التغيّرات المناخيّة وآثارها المتنوّعة، لعلّ أبرزها الهجرة المناخية الداخلية التي باتت في بعض الدول ظاهرة تعمل السلطات على دراستها وفهم أبعادها لإيجاد حلول لها.

إلا أنّ الوضع في تونس يختلف، إذ تغيب الدراسات الرسمية في هذا الإطار، علاوة على أنّ استراتيجية الدولة التونسية المعلن عنها في علاقة بتمكين النساء اقتصاديا لمجابهة تغيّر المناخ لا يبدو أنّها تأخذ بعين الاعتبار مسألة الهجرة الداخلية.

هجرة داخليّة قسريّة

كانت أسماء تعمل في إحدى قرى ولاية باجة (الشمال الغربي) في قطاع الفلاحة بالأجرة اليوميّة. وتختلف أنشطتها باختلاف المواسم الفلاحية، فكانت تجني الزيتون وتجمع الخضر كالفلفل الأحمر وتشارك في تجفيفه وغيرها من الأعمال الفلاحية.

مكّنت هذه الأنشطة أسماء من التمتّع بحياة لائقة تمتّعت فيها باستقلاليتها، إذ كانت مسؤولة عن رعاية والديها والاستعداد لزواجها المقبل حيث قامت بشراء “جهاز العروس” دون مساعدة من أحد. لطالما افتخرت أسماء بكونها مستقلّة مردّدة عبارة “أنا لا أحتاج رجلا”.

إلّا أنّ سنوات الجفاف الأخيرة فرضت واقعا جديدا على أسماء. حيث دفع تغيّر المناخ وتراجع كمّيات الأمطار عددا كبيرا من الفلّاحين إلى هجر أراضيهم، ما أدّى إلى تراجع فرص العمل بشكل كبير. في بادئ الأمر، أصبحت أسماء لا تجد إلّا بضعة أيام عمل معدودات هنا وهناك لا تكاد توفّر لها الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة.

بعد أن ازدادت ظروفها قساوة، لم تجد أسماء بُدّا من مغادرة قريتها لتعمل في مصنع في منطقة جعفر 1 بولاية أريانة (تونس الكبرى) إلّا أن وضعها لم يتحسّن كثيرا. فالأجر الذي تحصل عليه شهريّا لا يكاد يغطّي معاليم كراء المنزل ومصاريفها اليوميّة، لتجد نفسها مضطرّة الى تداين ضعف المبلغ قبل وصول راتبها.

في هذا الإطار، تقول أسماء:

“في ما مضى كنت أتبجّح باستقلاليّتي الاقتصادية بفضل عائدات العمل في الفلاحة. اليوم أصبح صاحب المصنع يستعبدني مقابل أجر لا يسدّ الرمق”.

يمكن تعريف الهجرة المناخية بأنّها حركة شخص أو مجموعة من الأشخاص الذي يضطرّون في الغالب، نتيجة التغيّر المفاجئ أو التدريجي في البيئة بسبب المناخ، إلى مغادرة مكان إقامتهم المعتاد، أو اختيار القيام بذلك، إمّا بشكل مؤقت أو دائم، داخل دولة أو خارج حدود هذه الدولة، وفق ما جاء في الموقع الالكتروني لمنظمة الهجرة الدولية.

يتوقّع البنك الدولي في تقرير أصدره في سبتمبر/ أيلول 2021 أن يصل عدد المهاجرين.ـات داخليّا بسبب تغيّر المناخ إلى 216 مليون شخص حتّى عام 2050 في 6 مناطق من العالم بما فيها شمال إفريقيا التي يُتوقّع أن يبلغ عدد المهاجرين الداخليين فيها 19.3 مليون نسمة، أي ما يعادل 9% من السكّان.

تعدّ التغيّرات المناخية أكبر تحدّ يواجه الإنسانية خلال القرن الحالي. ورغم أن تأثيراتها تطال كلّ سكّان الأرض، إلاّ أنّ درجاتها تختلف من بلد إلى آخر ومن فئة إلى أخرى. على سبيل المثال، تداعيات تغيّر المناخ ستكون أشدّ وقعا على دول الجنوب مقارنة بدول الشمال.

كذلك، فإنّ النساء وبشكل خاصّ العاملات في القطاع الفلاحي، هنّ من أكثر الفئات هشاشة لتداعيات التغيّرات المناخية. تبرز دراسة صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” بعنوان “وضع النساء في النظم الغذائية الزراعية” أنّ النساء عادة أكثر حساسية تجاه الصدمات المناخية والكوارث الطبيعية من الرجال.

تساهم عوامل كثيرة في جعل النساء أكثر حساسية لهذه التغيّرات، من بينها القيود المفروضة على الموارد، إلى جانب المعايير التمييزية بين الجنسين التي تحدّ من حركة المرأة وقدرتها على الوصول إلى المعلومات حول تغيّر المناخ. علاوة على أنّ تمثيل النساء في مراكز القرار المتعلّقة بسياسات المناخ كثيرا ما يكون منقوصا.

تقول الناشطة في المجتمع المدني والمستشارة لدى الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان سوسن الجعدي لموقع الكتيبة:

إنّ تداعيات التغيّرات المناخية تؤثر سلبا على النساء بشكل خاصّ باعتبار أنّ نسب الفقر أكبر لدى النساء، علاوة على أنهنّ يخصّصن وقتا أكبر لأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر ولهنّ قدرة محدودة على التنقّل لاسباب اجتماعية. بالإضافة إلى ذلك يعدّ الوصول إلى التمويلات وفرص العمل أصعب بالنسبة إليهنّ”.

الناشطة سوسن الجعدي

يكشف التقرير العالمي حول النزوح الداخلي لسنة 2022 الصّادر عن مركز رصد النزوح الداخلي أنّ إجمالي عدد النازحين داخليّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلغ 12,8 مليون شخصا حتى نهاية عام 2022. وقد تسّبب الجفاف وحرائق الغابات في 69 ألف حالة نزوح داخلي خلال نفس الفترة في المنطقة المذكورة وهو أعلى رقم مسجّل منذ سنة 2016.

في المقابل، تغيب الأرقام التونسية الرسميّة المتعلّقة بعدد حالات الهجرة الداخلية المناخية. ويكتفي التقرير المذكور بالإشارة إلى أنّ عدد حالات النزوح الداخلي في تونس بسبب الكوارث بلغ 2000 حالة خلال سنة 2022.

تُرجع الناشطة البيئية ومسؤولة قسم التقييم والمتابعة في مشروع “فينا كليمة” في جمعية “شباب تونس يؤثّر”، زينة نصر، غياب أرقام صادرة عن أجهزة الدولة التونسية في علاقة بعدد حالات الهجرة الداخلية الناجمة عن التغيّرات المناخية إلى “الاعتقاد السائد لدى المؤسسات التونسية أنّ غياب التنمية هو الدافع الرئيسي للنزوح الداخلي في حين أنّ تغيّر المناخ يلعب دورا كبيرا في جعل أشخاص كثيرين يغادرون قُراهم” وفق تقديرها.

وترتبط الهجرة الداخلية في تونس، من داخل البلاد نحو الساحل، بالمناخ الذي يتميّز برطوبة عالية في المناطق الساحلية. فضلا عن أنّ فقدان مصادر المياه يجعل النساء والعائلات تغادر منازلها بحثا عن موارد جديدة للمياه، وفق المتحدّثة ذاتها.

شحّ المياه عامل رئيسي في ظاهرة الهجرة الداخلية

بعد أن أصبح الجفاف ظاهرة تعاني منها تونس على مدار السنة تقريبا، خسرت الكثير من الفلّاحات موارد رزقهن رغم امتلاك بعضهنّ لأراض فلاحية ولأنشطة ترتبط بها كانت تدرّ عليهنّ أرباحا معتبرة.

سميرة المساهلي، فلّاحة في العقد السادس من العمر، قضّت حياتها في قرية فلاحيّة بولاية القصرين (وسط غرب الجمهورية التونسية)، حيث باتت مزارعة ناجحة بعد أن شاءت الأقدار في تسعينات القرن الفارط أن يتمّ إحداث بحيرة جبليّة في أعلى جزء من أرضها التي كانت في السابق جرداء.

بعد سنتين من إحداث البحيرة، أصبح هناك وفرة في المياه. وبفضل عمل سميرة وسهرها على زراعة أرضها، باتت المساحات الممتدّة التي كانت في ما مضى جرداء غنيّة بزراعات سقوية شملت خضرا موسميّة كالفلفل والطماطم والفول إلخ، إلى جانب مجموعة متنوّعة من الغلال على غرار البطيخ والشمّام.

ازدهر نشاط سميرة الزراعي وأصبح لها موارد ماليّة حسّنت وضعها الاقتصادي والمعيشي بشكل كبير، خاصّة وأنّها أصبحت تبيع منتجاتها في السوق المحلّية.

خلال السنوات الأخيرة، أدّى ارتفاع درجات الحرارة وانحباس الأمطار إلى جفاف البحيرة تماما. في بداية الأمر، بدأت زراعات سميرة بالذبول تدريجيا قبل أن تموت النباتات المزروعة وتعود الأرض جرداء كما كانت منذ سنوات عديدة.

لم تخسر سميرة فقط الموارد المالية التي كانت توفّرها محاصيل الأرض، بل فقدت مصدرا أساسيّا كانت تسدّ به احتياجات عائلتها من الطعام. وباتت معاناتها مزدوجة، إذ أنّها أصبحت تبحث عن مورد رزق جديد، وتتنقّل مسافات طويلة رغم سنّها حتّى توفّر الطعام لأبنائها.

تصف سميرة ما آل إليها وضعها بسبب الجفاف قائلة:

” بعد أن كنت المزوّد الأوّل لأهالي القرية من الخضر والغلال أصبحت اليوم أتنقّل مسافة قد تصل عشرات الكيلومترات من أجل شراء ما يسدّ رمق عائلتي”.

لا تقف تأثيرات التغيرّات المناخية عند هذا الحدّ. فبالإضافة إلى نضوب المياه، بات الكثير من الموادّ الأوّلية الضرورية في الأنشطة الفلاحية مفقودا، من بينها العلف الذي تحتاجه المواشي. كما أنّ ارتفاع درجات الحرارة من شأنه أن يؤدّي إلى نفوق الماشية.

منذ ما يزيد عن الـ10 سنوات، كانت فتحية سليماني، وهي فلّاحة تبلغ من العمر 42 عاما وتقطن في منطقة العرقوب في مدينة تالة التابعة لولاية القصرين، تمتلك قطيعا من الأغنام والدجاج والأرانب تقتات منها وتبيع ما تنتجه من حليب وبيض.

كان لها أيضا “سانية” (أرض زراعية) صغيرة زرعت فيها أنواعا مختلفة من الخضار والغلال الموسمية لتحقّق بذلك اكتفاء ذاتيّا غذائيا.

نجحت فتحية من خلال هذه الأعمال الفلاحية في إعالة أطفالها الستة حتّى أنّ زوجها قرّر الاستقرار في منزلهم والاكتفاء بالنشاط الفلاحي، ولم يعد مضطرّا، كسالف عهده، للبحث عن عمل في البناء سواء في ولاية قابس أو في العاصمة تونس، خاصّة وأنّ فتحية هي فلّاحة أبا عن جدّ وكانت عائلتها تملك أراضي فلاحية ممتدّة.

استمرّ الزوجان في العمل معا في الأنشطة الفلاحية في قريتهما الصغيرة ووفّرا حياة مريحة لأطفالهم، إلى أن بدأ تغيّر المناخ يؤثّر في حياتهم. تسبّب الجفاف وشحّ المياه في نفوق جلّ ماشية فتحية وزوجها، واضطرّا إلى بيع القليل المتبقّي من القطيع لتوفير الحاجيات الأساسية لعائلتهما.

مع مرور الوقت وتواصل ارتفاع درجات الحرارة وانحباس الأمطار، ازدادت ظروف فتحية صعوبة وأصبحت في حاجّة ماسّة إلى مورد رزق جديد خاصّة وأنّها خضعت إلى عمليّة جراحيّة فاقمت من وضعيتها الاقتصادية السيئة وجعلتها في حالة صحّية تمنعها من القيام بأعمال تتطلّب جهودا كبيرة.

وجد زوج فتحية نفسه مجبرا على الابتعاد عن عائلته ومغادرة قريته بحثا عن فرص عمل في مدن بعيدة، وقد ساءت الأوضاع إلى درجة جعلت الأطفال ينقطعون عن الدراسة.

تتحدّث فتحية بكلّ أسف عمّا عانته خلال السنوات الأخيرة بسبب شحّ الموارد المائية والجفاف قائلة:

“عندما نفقت حيواناتي عطشا وجوعا أحسست أنّ جزءا منّي قد مات وأيقنت أنّ القادم أسوأ”.

يفيد تقرير بعنوان “النوع الاجتماعي والتغيّرات المناخية”، أصدره مشروع “فينا كليمة” في فيفري/شباط 2023، تحصّل موقع الكتيبة على نسخة منه، أنّ النساء يمثّلن 50% من سكّان المناطق الريفية و70% من اليد العاملة في القطاع الفلاحي، ولكن 15% فقط من اليد العاملة الدائمة، الأمر الذي يعكس مدى انتشار عمل النساء في الأوساط الريفية في القطاع غير المنظّم.

يبرز التقرير كذلك أنّ 12% من هؤلاء النساء يتقاضين أجرا يوميّا يتجاوز الـ15 دينار تونسيّا.

العاملات في القطاع الفلاحي يدفعن ضريبة التغيّر المناخي

يجمع عدد من الخبراء والخبيرات الذين/اللواتي تحدّث إليهم/ن موقع الكتيبة أنّ النساء في الأوساط الريفية والعاملات في القطاع الفلاحي هنّ من يدفعن الضريبة الأكبر جرّاء التغيّرات المناخيّة لعدّة عوامل أهمّها أنّ المرأة هي المسؤولة مجتمعيّا عن توفير الماء لأفراد عائلتها وإحضاره لهم حتّى لو كان ذلك يعني أن تتنقّل لكيلومترات طويلة متحمّلة قيظ الصّيف أو صقيع الشتاء.

نضوب المياه يدفع النساء كذلك إلى ترك أعمالهن الفلاحية إذا كنّ صاحبات أراض زراعية أو قطيع من الماشية، وخسارة فرص العمل في الزراعات الموسمية التي كانت تقتات منها بعد أن يهجر الفلّاحون الذين كانوا يشغّلونهم أراضيهم بسبب الجفاف وموت محاصيلهم.

تعدّ حرائق الغابات، كذلك، عاملا مهمّا في دفع النساء اللواتي يخسرن منازلهن إلى خسارة مورد رزقهنّأيضا، إذ توفّر هذه الغابات 30% تقريبا من مواطن الشغل للنساء اللواتي يعشن في القرى المحيطة بالغابات أو في المناطق الغابية. وسواء احترقت مساحات كبيرة أو صغيرة من الغابات، فإنّ النساء اللواتي يجمعن النباتات لتقطيرها وبيعها مثلا سيخسرن جزءا من -أو كامل- عائداتهن، وفق تأكيد الناشطة البيئية زينة نصر. هذه العوامل ستدفع بهؤلاء النساء إلى البحث عن أماكن جديدة يعملن فيها لتأمين قوتهنّ وقوت عائلاتهنّ وأطفالهنّ.

لا يمرّ تنقّل هؤلاء النساء إلى مناطق جديدة وخاصّة المدن الكبرى دون صعوبات. فكثيرات أولئك اللواتي يجدن أنفسهن في بيئة جديدة لا يعرفنها جيّدا دون سند يقدّم لهنّ يد المساعدة، الأمر الذي يجعلهنّ أكثر عرضة للاستغلال الاقتصادي.

في هذا الإطار، تقول عضوة قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منيارة المجبري، إنّ المرأة تفكّر دائما في توفير حياة أفضل لها ولأطفالها وبالتالي تلجأ إلى الهجرة الداخلية أين تعمل في أحد المصانع أو معينة منزليّة، الأمر الذي يمكن أن يعرّضها إلى العنف الاقتصادي وأحيانا العنف الجسدي والجنسي.

من جهتها، تؤكد زينة نصر أن للهجرة المناخية تأثير اجتماعي على المرأة -وكامل عائلتها أيضا- “إذ ستجد نفسها بعيدة عن المكان الذي نشأت فيه وتعرفه وتعوّدت على عاداته وتقاليده، لتجد نفسها في مدينة لا تعرف فيها أحدا ولا تجد من يؤطّرها ويساعدها ولا تستطيع الدفاع عن نفسها خاصّة إذا كانت لا تجيد القراءة والكتابة”.

علاوة على ذلك، فإنّها ستجد صعوبات في التأقلم مع الحياة في المدينة خصوصا في ما يتعلّق بالتنقل ونقص الموارد الماليّة مقابل تضخّم المصاريف الحياتية. وستواجه مشاكل لم تكن تعرفها في الوسط الذي نشأت وعاشت فيه القسم الأكبر من حياتها وفق تأكيد زينة نصر.

يؤكد الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي أنّ أهمّ التهديدات التي يمكن أن تتعرّض إليها النساء في الأوساط الريفية جرّاء تداعيات تغيّر المناخ هي النزوح القسري والابتعاد عن مناطقهنّ إلى أماكن أخرى، الأمر الذي يجعلهنّ يفقدن مجالات الاندماج ومجالاتهنّ الاجتماعية ليتحوّلن إلى مجالات أخرى وقد يجدن صعوبة في الاندماج وتحديدا في الجانب الاقتصادي منه.

ويشير الغربالي إلى أنّ الكثير من النساء من مناطق الشمال الغربي يضطررن إلى الذهاب إلى العاصمة تونس ويكنّ عرضة للاستغلال الاقتصادي والجنسي، مشدّدا على ضرورة وضع خطّة وطنيّة شاملة يقع فيها إدماج جانب النوع الاجتماعي في علاقة بمجابهة التغيّرات المناخيّة.

غياب استراتيجية وطنيّة

أطلقت وزارتا الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ والبيئة في جانفي/ كانون الثاني 2023 الخطّة الوطنيّة للمرأة والتغيّرات المناخيّة التي تهدف إلى مساعدة النساء على تجاوز التأثيرات المناخية وبشكل خاصّ النساء اللواتي يهدّد الجفاف مصادر دخلهنّ.

لم تنشر أيّ من الوزارتين المذكورتين تفاصيل الخطّة المذكورة إلّا أنّ وزيرة المرأة آمال موسى كانت قد أعلنت خلال ندوة صحفيّة بمناسبة الإعلان عن الخطة الوطنية عن رصد 1.5 مليون دينار لإحداث 10 مجامع تنموية نسائية خلال سنة 2023.

وأضافت أنّه سيتمّ تخصيص 1.5 مليون دينار لتمويل برنامج أمّهات التلاميذ المهدّدين بالانقطاع المبكّر عن الدراسة.

ليست هذه الاستراتيجية الوحيدة التي أعلنت عنها الدولة التونسية في إطار جهودها لمواجهات التغيّرات المناخية وما سينجرّ عنها من آثار ستطال كافّة أوجه حياة التونسيين عموما والتونسيات خاصّة. إلّا أنّ الإشكاليّة المتعلّقة بهذه الاستراتيجيّات أنّها مازالت إلى اليوم مجرّد حبر على ورق وفق ما أكّده عدد من الناشطين.ـات في مجال البيئة والمناخ لموقع الكتيبة.

علاوة على ذلك، لا تسعى الدولة التونسية إلى تشريك جميع الفاعلين المعنيّين بالتغيّرات المناخية من خبراء ومجتمع مدني. بالإضافة إلى تغييب المرأة عن مراكز القرار التي تُعنى بسياسات مواجهة تغيّر المناخ، الأمر الذي قد يجعل المعنيّين بإعداد هذه الاستراتيجيات يتغافلون عن الأخذ بعين الاعتبار عامل النوع الاجتماعي في سياساتهم.

تقول عضوة جمعيّة أصوات نساء رحمة عيدودي لموقع الكتيبة إنّ “التغيّر المناخي ليس مشكلة بيئيّة فحسب بل هو مشكلة تتعلّق بالمساواة أساسا” معتبرة أنّه من بين السياسات التي يمكن للدولة التونسية اتخاذها لحماية النساء من تداعيات التغيّرات المناخية تعزيز تمثيل النساء في جهود مكافحة التغيّر المناخي.

يتعيّن على الدولة التونسية أيضا أن تعمل على تشجيع حقوق ملكيّة الأراضي لتمكين النساء، وفق ذات المتحدّثة التي أكّدت أنّ:

وصول النساء إلى الموارد الأساسيّة مثل الأراضي مازال محدودا على الرغم من مشاركتهنّ في القطاع الفلاحي. وهذا القصور يعيق تمكينهن وقدراتهنّ على تطوير الإنتاج الفلاحي بما يتناسب مع التغيّرات المناخية.

في تعليقها على الخطّة الوطنية المذكورة، قالت رحمة عيدودي إنّ وضع خطط أو إرساء ترسانة من القوانين يُعتبران دون جدوى إذا غابت الإرادة السياسيّة.

في المقابل، ترى زينة نصر أنّ تمكين النساء من امتلاك الأراضي فقط حلّ غير كاف مؤكّدة ضرورة بعث مشاريع صغرى وتعزيز قدرات صغار الفلّاحات والفلّاحين حتّى يتمكّنوا من القيام بمشاريع لا تضرّ بالبيئة التي يتواجدون فيها.

يتعيّن كذلك على الدولة التونسية العمل على تكوين الفلّاحات كي يكنّ قادرات على مجابهة التغيّرات المناخيّة والتكيّف مع آثارها كالجفاف وشحّ المياه وغيرها وفق المصدر ذاته.

يكشف تقرير “النوع الاجتماعي والتغيّرات المناخيّة” الذي أشرنا إليه أعلاه أنّ تونس تلقّت تمويلات من صندوق المناخ الأخضر، حيث تمّ حتّى نهاية عام 2022 تمويل 8 مشاريع بمبلغ تبلغ قيمته الإجمالية 205.3 مليون دولار أمريكي، وبعض هذه المشاريع لا تزال في انتظار التنفيذ.

توضّح الناشطة البيئية زينة نصر أنّ هناك العديد من المشاريع التي أنجزت وأخرى مازالت جارية إلّا أنّ هذه المشاريع ليست مرتبطة بالتكيّف مع آثار التغيّر المناخي بل هي مشاريع موجّهة للتخفيف من حدّة تداعياته، مبيّنة أنّ أغلبية التمويلات المرصودة في تونس موجّهة للتخفيف فقط (أي الطاقات المتجدّدة والتشجير إلخ)، وهي مشاريع ليس لها تأثير مباشر على النساء في الأوساط الريفية.

صندوق المناخ الأخضر:
هو صندوق أنشئ بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيّر المناخي ككيان تشغيل للآلية المالية لمساعدة البلدان النامية في ممارسات التكيّف والتخفيف لمواجهة تغيّر المناخ.

ويُقصد بمشاريع التكيّف تلك التي تجعل النساء قادرات على المقاومة والقدرة على إحداث مشاريع صغرى، إلّا أنّه لا توجد الكثير من المشاريع التي رُصدت للنساء في الأوساط الريفية مباشرة، بحسب زينة نصر التي طالبت بضرورة وضع مشاريع متكيّفة مع المناخ والظروف التي تعيش فيها تونس مؤكّدة ضرورة أن تكون هذه الحلول محلّية باعتبار أنّ الحلول المقترحة من دول الشمال لا تتناسب مع المحيط التونسي.

تعتبر الناشطة في المجتمع المدني سوسن الجعدي أنّ التمكين الاقتصادي للنساء يعدّ أهمّ نقطة تمكّن النساء من التعايش مع التغيّرات المناخية مشدّدة على ضرورة وجود برامج لدعم التنمية الاقتصادية باعتبار أنّ تمكين المرأة اقتصاديا لن ينعكس إيجابا عليها فقط بل على عائلتها أيضا.

تشير الجعدي أيضا إلى أهمية تأمين ولوج النساء إلى العالم الرقمي حيث سيمكنّها ذلك من الترويج للمنتجات التي تنتجها، الأمر الذي سيساعدهن على مواجهة التغيّرات التي تعيش على وقعها تونس والعالم.

يمكن للنساء في الأوساط الريفية أن يكنّ عاملا مهمّا في التنمية الاقتصادية نظرا إلى قدرتهن على التأقلم مع تداعيات التغيّر المناخي، إلّا أنّ ذلك يستوجب خطّة وطنية شاملة تأخذ بعين الاعتبار النوع الاجتماعي وتعمل على تعزيز قدرات هؤلاء النساء وتكوينهن وتمكينهنّ اقتصاديّا حتّى لا يكنّ ضحايا للتغيّر المناخي وإنّما عنصرا فاعلا في الحدّ من تداعياته.

كلمة الكتيبة:

تمّ انتاج هذا المحتوى الصحفي في اطار برنامج شراكة مع صحفيون/ات من أجل حقوق الانسان

كلمة الكتيبة:
تمّ انتاج هذا المحتوى الصحفي في اطار برنامج شراكة مع صحفيون/ات من أجل حقوق الانسان

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

اشراف: وليد الماجري
تدقيق: محمد اليوسفي
صوت : رافد الشمروخي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
صوت : رافد الشمروخي
تظوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري
غرافيك : منال بن رجب

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

rahma