الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
نحن لا نذيع سرا .. بداخلنا براكين من المشاعر والحزن والألم لكن نحن مطالبون بأن نحتوي كل هذه البراكين ونحتملها ونواصل العمل وألّا يشعر المشاهد بهذه الآلام التي تغلي في دواخلنا”.
كلمات رتّبها وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة بعد تنهيدة عميقة جدا في إجابة عن سؤال : “هل وائل 25 أكتوبر 2023 هو نفسه بعد ذلك التاريخ إثر فقدان الزوجة والإبن والإبنة والحفيد والأقرباء في قصف إسرائيلي؟”، قبل أن تأتي الفاجعة الثانية يوم 7 جانفي/ يناير 2024 باستشهاد نجله و”خليفته” المنتظر في المهنة حمزة.
ليس أصعب على أي شخص من أن “يصطدم ” بالموت المتلاحق للأقربين إلى قلبه، والأقسى من ذلك أن يتصالح مع هذا الموت.
فالبركان الغامر من الحزن والمشاعر للحالة التي نقلها الدحدوح إن صرفته بالعملة العاطفية لأي شخص هو أسمى آيات الصبر والتشابك العميق بين الموت وإعادة تشكيل الحياة، وإن أطلقته في ثنايا اللغة ستجده حمم غضب مخزونة تنتظر الخروج من ثقب الزمن باعتبار أنّ لعبة الزمن أقوى من الجميع.
الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
نحن لا نذيع سرا .. بداخلنا براكين من المشاعر والحزن والألم لكن نحن مطالبون بأن نحتوي كل هذه البراكين ونحتملها ونواصل العمل وألّا يشعر المشاهد بهذه الآلام التي تغلي في دواخلنا”.
كلمات رتّبها وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة بعد تنهيدة عميقة جدا في إجابة عن سؤال : “هل وائل 25 أكتوبر 2023 هو نفسه بعد ذلك التاريخ إثر فقدان الزوجة والإبن والإبنة والحفيد والأقرباء في قصف إسرائيلي؟”، قبل أن تأتي الفاجعة الثانية يوم 7 جانفي/ يناير 2024 باستشهاد نجله و”خليفته” المنتظر في المهنة حمزة.
ليس أصعب على أي شخص من أن “يصطدم ” بالموت المتلاحق للأقربين إلى قلبه، والأقسى من ذلك أن يتصالح مع هذا الموت
فالبركان الغامر من الحزن والمشاعر للحالة التي نقلها الدحدوح إن صرفته بالعملة العاطفية لأي شخص هو أسمى آيات الصبر والتشابك العميق بين الموت وإعادة تشكيل الحياة، وإن أطلقته في ثنايا اللغة ستجده حمم غضب مخزونة تنتظر الخروج من ثقب الزمن باعتبار أنّ لعبة الزمن أقوى من الجميع.
استنهض الرجل بسرعة عجيبة، وسط دهشة المشاهدين وزملائه، طاقة التغطية الصحفية فوق شحنات الألم والجثث المكدسة سويعات قليلة بعد وداع أهله ومن يحب نحو مثواهم الأخير، إذ أنّ الوطن على “حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة ” وفق شاعر فلسطين محمود درويش، والكلّ هنا في غزة دون استثناء أموات على قيد الحياة لا فرق بين فرد وآخر إلا بالقدرة على اتّقاء النيران الخاطئة.
بعد هذا الظهور المباشر المتحدي لـ”إيديولوجيا المحو” الإسرائيلية عنونت صحيفة لوموند الفرنسية التالي : “وائل الدحدوح أصبح صوت المقهورين في غزة”، فقد تابع ملايين المشاهدين التفاصيل المربكة لتلقّي الرجل، وهو على الهواء مباشرة، لخبر رحيل زوجته آمنة ونجله محمود (16 عاما) وابنته شام (6 أعوام) وحفيده آدم (45 يوما) ثم في وقت لاحق نجله حمزة (27 عاما) قبل عودته على وجه السرعة إلى”الجبهة الإعلامية” حيث يقود معركة الخبر والصورة والحقيقة.
يقول الدحدوح متحدّثا لموقع الكتيبة انّ تلك التجربة كانت وما تزال “مرة ومؤلمة وصادمة جدا ” حيث تحوّلت غزّة إلى بيت عزاء جماعي، في حين يقول محمد حداد وهو شاب غزاوي من الذين عاينوا تحركات الدحدوح الميدانية ووقوفه أمام الكاميرا أثناء عمليات التغطية الصحفية بإعجاب كبير انّه “أصبح يمثّل حالة من الجهاد الصحفي وخدمة القضية الفلسطينية بل ينطبق عليه وصف الأيقونة للشعب الفلسطيني خصوصا بعد أن فقد عددا كبيرا من أهله”.
قبل أن يمشي فوق أشواك الألم مجددا بمغادرة ابنه البكر حمزة أو “روح الرّوح” يضيف الدحدوح بنبرة هادئة:
رغم ما تنوء الجبال بحمله فإنّ ذلك لم يمنعني من أن أحافظ قدر المستطاع على رباطة الجأش والصبر والتحلي بالمصداقية والمهنية والشفافية حتى لا تظهر صفة الانتقام من خلال مضامين الرسائل وهذا ما أعطى الكثير من المصداقية لمراسلاتي.
في تعليقه على “التراجيديتين” المتعاقبتين لم تسعف اللغة الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين أنطوني بيلانجي ليؤكد بحزن عميق أنّ :
الاحترام كلمة ليست قوية للتعبير عمّا يخالجني .. خسر وائل عائلته ورغم ذلك يجد كل القوة لمتابعة عمله والمهمة التي عليه القيام بها وهي إخبار العالم أجمع.
لقد وضعهم بكلمات بسيطة نابعة من القلب في سجن أخلاقي دون أصفاد وحاصرهم بجبل أسطوري من الصبر فلا أحد ظل يمشي كتفا بكتف مع جمهورية القتل مسلحا بذخيرة الصحافة الخيرة وكثير من الصبر غيروائل وهنا ينام سر عظيم في صدره.
السيرة والمسار
في جغرافية النظام الإعلامي العربي المشتت بين “الحرب الباردة للشاشات” ومعارك المفاهيم والدلالات التي تلت عملية طوفان الأقصى، حضر وائل الدحدوح منذ تاريخ السابع من أكتوبر 2023 على مدار الساعة، ليقدّم أدقّ تفاصيل الحرب الدائرة بالقطاع بعد أن عاد الجمهور العربي إلى متابعة المنبر الذي شكّل منذ اللحظة الأولى لتلك العملية إحدى أكبر غرف العمليات الإخبارية في المشهد الإعلامي الدولي.
أصبحت القناة المثيرة للجدل منذ إطلاقها في العام 1996 المنفذ الأول لنقل مجريات العمليات العسكرية في كل أركان غزة، وانفرد مراسلها ومنبرها بحصريات مصوّرة وخطابية ونصية لحركة حماس وذراعها العسكري مع مرونة في حركة الخبر الصحفي زمن السرعة الضوئية للمعلومات حيث تكون الحقيقة أول ضحايا الحرب ومن هنا “عقد صداقة عميقة جدا ” مع المحيط الجماهيري في غزة وخارجها في أنحاء البلدان العربية، ويكفي مشاهدة مداخلة مباشرة له وإن كانت بطبق حربي مؤلم لـ”تتذوق غزة “.
لم يكن الصحفي الفلسطيني قبلها في منطقة “الرفاهة الصحفية” بل كان مراسلا صحفيا وحربيا لقناة الجزيرة منذ العام 2004 في أحداث سياسية وعسكرية سابقة يلاحق الأحداث في الرقعة الحبلى بالمستجدات وينشر قصص آلام وآمال سكان غزة ومخيماتها، إلاّ أنّ مساحة التغطية التي أمّنها هذه المرّة يمكن وصفها بغير المسبوقة.
تختلف هذه الحرب حسب وائل عن سابقاتها من الحروب كمّا وكيفا :
هذه الحرب مختلفة من حيث عدد الشهداء والجرحى وحالة التدمير الشاملة. ومختلفة أيضا عبر طغيان حالة العقاب وحالة الانتقام من قبل جيش الاحتلال لسكان غزة والغارات التي تستهدف المنازل وتقتل المدنيين بالمئات يوميا.
يبيّن السلّم الزمني أنّ الحرب ليست طارئة في حياة وائل المهنية والعائلية. فكلّ حروب غزة 2008 2009، 2012، 2014 ،2021، 2023 و 2024 حملها الرّجل بأمانة وله فيها متاحف للآلام والشهداء إذ يشدّد الغزّاوي محمّد حداد على أنّ الدحدود :
ينحدر من عائلة مجاهدة في غزة قدّمت عديد الشهداء والجرحى على مرّ تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويعتبر وائل الدحدوح من الأجيال السنية التي ولدت بيولوجيا بعد “نكبات العرب” في حروبهم مع إسرائيل بتاريخ 30 أفريل 1970 ونشأ إعلاميا على سماع “الانتصارات الوهمية” الآتية من غرفة التحكّم الرسمية فتصبح النكبة مضاعفة، لكنّ المرحلة التي طبعت جيدا شخصيته هي السنوات السبع التّي قضّاها في سجون الاحتلال بداية من العام 1988 مباشرة بعد إحرازه الثانوية العامة في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
تجربة السجن كانت مهمة وثرية جدّا، و قد تركت بصمات كبيرة على شخصيتي وثقافتي ومخزوني المعرفي ووعيي السياسي.
تشكّل وعي الدحدوح الاجتماعي في حي الزيتون بغزّة وسط عالم مكتظّ وثّق فيه بعلم ودون علم مفردات الحياة، ومن السّجن وخارجه بقي ظلاّ يمشي نحو هدف فحين منعته سلطات الاحتلال من متابعته دراسة الطب في العراق وهو الحاصل على منحة جامعية اختار “قسرا” عالم الصحافة وانتسب إلى قسم الإعلام والصحافة بالجامعة الإسلامية بغزة ليتخرّج في العام 1998 ويحصل لاحقا على ماجستير في العلوم السياسية في العام 2007 من جامعة القدس.
بدأ تجربته المهنية من “أم المدارس” انطلاقا بالصحافة المكتوبة عبر صحيفة القدس الصادرة بالقدس المحتلّة ليطوف بوسائل إعلام محلية ودولية متنوّعة من صحف ومجلاّت قبل أن يحمل ميكروفون لقناة العربية ثم لقناة الجزيرة في العام 2004.
ضمادة على جرح مفتوح
بضمّادة على اليد اليسرى ورباط في اليد اليمنى ولحية غير مشذّبة غزاها البياض ونبرات صوت هادئة وأفكار متسلسلة يحاول وائل أن يقول في مداخلاته الأكثر بالأقل لأنّ الأقلّ هو الأكثر.
وقدّمت تلك المجازر اليومية كلّ أدوات التحفيز الذاتي للدّحدوح لخوض معركة ضدّ الانكسار والوجع على الأهل والوطن ينقل موجاتها الإيجابية مباشرة في مداخلاته إلى أهل غزة والمشاهدين العرب رغم قساوتها إذ بات يحمل بإصرار كبير حسب توصيفه “همّا واحدا وهدفا واحدا هو إنجاح التغطية والارتقاء إلى مستوى هذه اللحظة التاريخية وإن كان قطاع غزة يخلو من أي مكان آمن”.
إن ذلك يقتضي طرح السؤال المفتاح: كيف ينقل المراسل الحربي أكبر كمّية من الحقائق وسط ألغام الأعداء والحال أنّ حياته على المحكّ ولا أحد يقاتل من أجله؟
الإجابة كانت موجعة حين دفع “رفيق السلاح” المصوّر الصحفي سامر أبو دقة عبء الحمل بسقوطه شهيدا في قصف صاروخي في 15 ديسمبر 2023 بغزة مقابل نجاته -أي الدحدوح- من موت محقق، ليمس الضلع الثاني له بعد ضلع عائلته.
كان واضحا أنّ هذا الاستهداف كان مباشرا والهدف منه هو التصفية الجسدية لنا خاصّة أنّه لا يوجد أحد غيرنا في هذا المكان الذي لم تصل إليه أي عدسة قبلنا.
يشتغل الصحفيون.ـات في غزة وحياتهم خلفهم، ففي أحدث الأرقام مع دخول الحرب شهرها الرابع بلغ الرقم الدموي للضحايا من الصحفيين 115 بما يعادل صحفي في كل يوم منذ بدئها وهو رقم لم تبلغه وحشية الحرب العالمية الثانية.
رغم كل ذلك فانّ الحقيقةَ لا تخسر أبدا حين يكون هناك صحفيون وصحفيات في الميدان وزملاء يواصلون عملهم رغم المصاعب والمخاطر.
أنطوني بيلانجي، أمين عام الاتحاد الدولي للصحفيين
بسؤالنا الدحدوح عن كيفية قيادة معركة “وجوده” في ظل اصطياد الصحفيين يقول إنّه كسائر الأقلام المنتشرة في مناطق الحرب يستجيب لـ”لضوابط الحمائية المتعارف عليها عالميا في المهنة وهي ارتداء الخوذة في الرأس والصدرية الواقية من الرصاص والزي المميز للصحافة والتحرك بسيارات تحمل كل علامات الصحافة لكنّ ذلك يظلّ إجراء روتينيا لا معنى له أمام غابة النيران الإسرائيلية المفتوحة”، وفق قول الدحدوح.
لا يأبه الرجل لحال يده اليمنى التي تستدعي تدخلا جراحيا مستعجلا للعودة إلى حركتها الطبيعية فيصرّح بعزم واضح أنّه “تحدّ كبير” مفروض عليه وبالتالي “يتوّجب قبوله والردّ عليه بشكل واضح من خلال مواصلة العمل وأداء الرسالة والواجب المهني إلى النهاية” وفق قوله.
هذا الجرح المفتوح وكل التضحيات التي يقدّمها يقول عنها بفخر واضح :
إنّها وفاء لدماء أسرتي و زميلي المصوّر الصحفي سامر أبو دقة ودماء زملائي الصحفيين الذين سقطوا خلال هذه الحرب ووفاء أيضا لدماء الناس التي سفكت على أرض قطاع غزة.
صوت فلسطين في أنفاق غزة الطويلة
في حركة الميزان الإعلامي العالمي و”صراع المعلومات” مثّل وائل الدحدوح حالة مؤثرة في هذا الميزان أهّلته لحصد جوائز محلية وإقليمية ودولية ولأن يكون محور الأخبار بعد أن كان ناقلا لها.
لا زمن بيولوجي للرجل فبساعات نوم قليلة جدا في اليوم يصل الليل بالنهار، ويعيش على ما تيسّر من الأكل الكافي لاستعادة الأنفاس ومتابعة مهمة السّيطرة على الفضاء البصري والمكاني في قطاع غزة في انتظار قراءته لـ”البيان الأول” الذّي سيعلن نهاية حرب الإبادة الجارية ووقف هذه المجازر المتتالية.
اختارت مجلة “كناك” knack البلجيكية واسعة الانتشار وائل الدحدوح الشخصية الصحفية لعام 2023 وخصّصت ستّ صفحات لاستعراض مسيرته بعد أن شكل خارطة كبيرة للإنسانية تحمل وجعيْن، وجعُ العائلة ووجع الحرب ومآسيها. ومنحته نقابة الصحفيين المصرية جائزة حرية الصحافة للعام 2024 باعتباره “رمزا لصمود الصحفيين الفلسطينيين في وجه العدوان الصهيوني الغاشم وآلة حربه الوحشية”. أمّا في العام 2013 فقد نال جائزة التغطية المتميزة من مهرجان الإعلام بلندن.
لا يعرف الكثير أنّ “عُرفا سائدا” يجمع الدحدوح بسكان غزة باعتبارهما تجرّعا من كأس الحروب والمآسي وتقاسما السلام والقتال، إذ يقول محمد الحداد بإعجاب شديد إنّه:
مع انتهاء الحروب السابقة في القطاع كان سكّان غزة يقومون برفع الدحدوح على الأعناق كداعم حقيقي للحاضنة الشعبية هناك ولما له من قبول كبير عند الناس كباعث أمل وناقل لآلامهم.
وبين الجوائز الشعبية والرسمية من المؤكد أنّ الرجل مثّل “قوّة وطنية كبرى” وسيشكّل حالة دراسية وبحثية عميقة في ضوابط التغطية الصحفية الحربية والإنسانية ودروبها المهنية والأخلاقية الملغمة.
يبعث الدحدوح في نهاية حديثه معنا بآمال معلّقة وسط أصوات القصف على أن يكون العام 2024 “عام خير وبركة وأمان وسلام وعزة وانتصار وأن يعود من تبقّى من الناس إلى ما تبقّى من منازل ومأوى ومقدرات وأن يتمكّنوا بالفعل من تعمير منازلهم والعودة إلى حياتهم رغم كل ما تحدثنا عنه من أهوال ومتاعب” وفي كل هذه العبارات طبقات من الصبر والمكابدة والحب.
لا ينسى المشاهدون بعد العام الذي توارى كلمته “معليش” التي تحوّلت إلى تميمة عبرت من الإعلام التقليدي إلى وجدان “الإنسان الرقمي” ومسّت كل القلوب ولو كانت من حديد.
صار للدحدوح حزب صحفي دون تأشيرة رسمية أو إيديولوجيا معلّبة وجيش من المريدين والمحبين والمتعاطفين فـ”معليش” مرة أخرى لأنّ أمدَ القتل والخراب لن يطول والصحافة كما قال فولتير آلة يستحيل كسرها.
الكاتب : فطين حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية
الكاتب : فطين بن حفصية
رئيس تحرير سابق بقسم الأخبار في مؤسسة التلفزة التونسية