الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“لديّ طفل رضيع وهو يحتاج إلى ملابس جديدة كلّ شهر.. أنا غير قادرة على شراء ملابس جديدة له وأسعار الفريب ارتفعت بشكل جنوني”. هكذا عبّرت شيماء، سيّدة في الثلاثينات من عمرها وأمّ لرضيع لا يتجاوز سنّه الـ8 أشهر، عن خيبتها إزاء ارتفاع أسعار الملابس المستعملة وعدم توفّرها بذات الكمّية التي كانت منتشرة في محلاّت الملابس المستعملة في السابق.
ليست شيماء الوحيدة التي باتت تشعر بالارتفاع المشطّ في أسعار الملابس المستعملة التي طالما مثّلت حلاّ للعائلات التونسية المهمّشة والفقيرة وخاصة الوسطى، حيث كانت فئات واسعة من المجتمع التونسي تجد متنفّسها في الأسواق وبين فضاءات عرض شعبيّة في الشارع (عبر آلية البيع المنظّم أو العشوائي) تعرض “ماركات” عالمية بأسعار يستطيعون تحمّلها بسهولة.
إلّا أنّ هذا الواقع تغيّر خلال السنوات الأخيرة، إذ يجمع العديد من روّاد أسواق “الفريب” على أنّ الأسعار ارتفعت بشكل كبير في الوقت الذي تراجعت فيه جودة الملابس المستعملة الموجودة في الأسواق، وذلك بالتزامن مع انتشار محلّات لما يسمّى بـ”الفريب الرفيع” (fripe de luxe) في أحياء راقية تعرض سلعا قد تصل أسعارها في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دينار تونسي (حوالي 2,970 يورو) للقطعة الواحدة.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

“لديّ طفل رضيع وهو يحتاج إلى ملابس جديدة كلّ شهر.. أنا غير قادرة على شراء ملابس جديدة له وأسعار الفريب ارتفعت بشكل جنوني”. هكذا عبّرت شيماء، سيّدة في الثلاثينات من عمرها وأمّ لرضيع لا يتجاوز سنّه الـ8 أشهر، عن خيبتها إزاء ارتفاع أسعار الملابس المستعملة وعدم توفّرها بذات الكمّية التي كانت منتشرة في محلاّت الملابس المستعملة في السابق.
ليست شيماء الوحيدة التي باتت تشعر بالارتفاع المشطّ في أسعار الملابس المستعملة التي طالما مثّلت حلاّ للعائلات التونسية المهمّشة والفقيرة وخاصة الوسطى، حيث كانت فئات واسعة من المجتمع التونسي تجد متنفّسها في الأسواق وبين فضاءات عرض شعبيّة في الشارع (عبر آلية البيع المنظّم أو العشوائي) تعرض “ماركات” عالمية بأسعار يستطيعون تحمّلها بسهولة.
إلّا أنّ هذا الواقع تغيّر خلال السنوات الأخيرة، إذ يجمع العديد من روّاد أسواق “الفريب” على أنّ الأسعار ارتفعت بشكل كبير في الوقت الذي تراجعت فيه جودة الملابس المستعملة الموجودة في الأسواق، وذلك بالتزامن مع انتشار محلّات لما يسمّى بـ”الفريب الرفيع” (fripe de luxe) في أحياء راقية تعرض سلعا قد تصل أسعارها في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دينار تونسي (حوالي 2,970 يورو) للقطعة الواحدة.

 

يسلّط هذا المقال الضوء على قطاع الملابس المستعملة في تونس اليوم، خاصّة مع الشكاوى المتزايدة لكافّة الأطراف المتداخلة في القطاع، سواء كانوا أولئك المواطنين.ـات الذين/اللواتي يتأثّرون بشكل مباشر بأسعار الملابس المستعملة، أو تجّار التفصيل الذين يعانون من عدّة صعوبات، فضلا عن دعوات تجّار الجملة وأصحاب المصانع إلى تغيير المنظومة التشريعية المنظّمة للقطاع.

“الفريب”.. قطاع ريعي بامتياز

صبيحة يوم دافئ من شهر جانفي/كانون الثاني 2024، بدا سوق سيدي البحري -الواقع بالقرب من باب الخضراء، أحد بوابات مدينة تونس العتيقة- خاليا من روّاده باستثناء عدد قليل من النساء والرجال المنتشرين هنا وهناك يبحثون بين ما تبقّى من “نصب” (أكوام) الملابس أو الخضار.

كان الحضور الأمني طاغيا على المكان، فكان حرفاء السوق ينظرون إلينا بأعين مريبة ونحن نتجوّل ونحاول الحديث مع بعضهم.ـن، فيما رفض معظم باعة الملابس المستعملة تصوير لقاءات صحفية معهم تتعلّق بالصعوبات التي تواجه القطاع ومطالبهم.
بعد محاولات عديدة، قبل “سامي” -اسم مستعار لأحد الباعة- الحديث الينا.

بنبرة تنمّ عن حرقة وحنق عميقين، كشف سامي للكتيبة بعض التفاصيل حول أسباب ارتفاع أسعار قطاع الملابس المستعملة قائلا انّ:

“القشّارة” باتوا يتدخّلون في كلّ شيء..لم يعد المعمل هو من يستورد حاويات الملابس..بل بات صاحبه يؤجّر رخصته لـ(الرَبّاط) الذي يبيعها بدوره إلى باعة الجملة وهم يبيعونها للقشّارة (السماسرة) الذين يكونون عادة شخصا قريبا منهم.. أمّا نحن باعة التفصيل (الحلّالة) فلا تصلنا البضاعة إلّا بعد حوالي 5 مراحل”.
يوضّح سامي أنّه في السابق كان صاحب المصنع يورّد البضاعة من الخارج ويدفع أجور العمّال الذين يقومون بفتحها وفرزها ورسكلتها، ومن ثمّ يبيعها إلى تجّار الجملة، أمّا اليوم، فقد أصبح أصحاب المعامل يؤجّرون رخصهم لاستيراد حاويات الملابس المستعملة لما يُعرف بـ”الربّاط”.
ويتولّى هذا الأخير دفع مصاريف متنوّعة تشمل ثمن الرخصة، إلى جانب تقاسم أرباح بيع الملابس المستعملة مع صاحب الرخصة، فضلا عن دفع أجور العمّال الذين يحضرهم للقيام بأعمال الفتح والفرز والرسكلة، الأمر الذي يجعله يبيع بضاعته بسعر مرتفع إلى تجّار الجملة، بحسب ذات المصدر.
ويضيف المتحدّث ذاته أنّ تجّار الجملة لديهم أيضا مصاريف عمّال وكراء محلّات إلخ، ويقومون بالتالي بمزيد الترفيع في أسعار البضاعة التي لا يبيعونها إلى تجّار التفصيل مباشرة بل إلى “قشّارة” يكونون عادة أشخاصا يعرفونهم.
على هذا الأساس، تمرّ بضاعة الملابس المستعملة بكلّ هذه المراحل المختلفة قبل أن تصل إلى باعة التفصيل الذين يشترونها بسعر مرتفع، وفق المتحدّث ذاته.

في السابق كان وزن “بالة” الفريب 40 كلغ وثمنها 200 دينار (حوالي 60 يورو) أمّا اليوم فوزنها تراجع إلى 30 كلغ وأصبح سعرها 700 دينار (حوالي 208 يورو) وحتّى 1700 دينار (حوالي 505 يورو) بالنسبة إلى باعة التفصيل.

سامي بائع “فريب”

يؤكّد سامي في السياق ذاته، أنّ المستفيد الوحيد ممّا يحصل هم من وصفهم بـ”الرؤوس الكبار” (الحيتان الكبيرة) الذين لا يدفعون ضرائبهم للدولة، مشدّدا على أنّ المواطن يتذمّر من ارتفاع الأسعار إلّا أنّ من يتحمّل الضريبة الأكبر هم باعة التفصيل.
يشتكي باعة آخرون من سيطرة “لوبيات” على القطاع جعلت الأسعار ترتفع بهذا الشكل. علي (اسم مستعار)، بائع ملابس مستعملة في سيدي البحري يعمل في القطاع منذ ما يزيد عن الـ20 سنة، يشدّد على أنّ من أسماها بـ”اللوبيات” هي من رفّعت في الأسعار، مبرزا أنّ “البضاعة أصبحت فضلات وأغلى ممّا كانت عليه”.
في الحقيقة، فإنّ الحديث عن احتكار وريع في قطاع “الفريب” ليس بالأمر المجانب للصواب، فقد حرصت الدولة التونسية بعد سنوات بقي فيها قطاع الملابس المستعملة دون إطار تشريعي ينظّمه، على تكريس “الريع” بموجب المرسوم عدد 2396 لسنة 1995 المتعلّق بطرق توريد وتحويل وتوزيع الملابس المستعملة.
كان ذلك أوّل نصّ قانوني عمل على تقنين قطاع الملابس المستعملة رغم أنّ هذا الأخير ظهر في تونس في أربعينات القرن الماضي من قبل سلطة الاستعمار الفرنسية التي أحدثته في البداية كعمل خيري يتمّ بموجبه جمع ملابس من فرنسا ومنحها كمساعدات للتونسيين.ـات من الطبقة الفقيرة.
إلّا أنّه في ذلك الوقت، وقع نوع من “التلاعب” في القطاع ووقعت فضيحة بعد أن قام موظفون فرنسيون ببيع الملابس عوض تقديمها كمساعدات.
بعد الاستقلال، تواصل نشاط قطاع الفريب دون إطار قانوني وتمّ إحداث أول مصنع لفرز ورسكلة وتحويل الملابس المستعملة في الستينات. وكان نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يسمح للمقرّبين منه بالدخول في مجال قطاع الملابس المستعملة.
تمّ تأسيس حوالي 12 مصنعا للفرز والرسكلة والتحويل إلى حدود 1995 تاريخ صدور المرسوم عدد 2396 الذي ينصّ على توريد “كوتا” محدّدة (10 آلاف طن سنويّا) من الملابس المستعملة توزّع على مستوردي الملابس المستعملة وفق عوامل مختلف على غرار حجم المستودع الذي يملكه وأقدميّته في المجال إلخ.

في هذا الإطار، يوضّح عضو منظمة آلرت (Alert) حسام سعد لموقع الكتيبة، أنّ الشخص الذي يريد أن يصبح مورّدا للملابس المستعملة عليه الالتزام بكرّاس شروط يتضمنّ شرطا صعبا وهو توفّر آلة “فاكس”.
وعندما تتوفّر تلك الشروط يصبح للمرء الحقّ في توريد الملابس المستعملة مقابل الالتزام بـ3 شروط وهي توريد أنواع مختلفة من الملابس باستثناء ألعاب الأطفال والأحذية والجلود، وبيع جزء من المواد المورّدة في تونس كملابس مستعملة وتحويل جزء ثان وإعادة تصدير الجزء الثالث، وفق المتحدث ذاته.
ويبيّن سعد أنّ ذلك يحصل وفق “كوتا” (حصّة مضبوطة) تحدّدها الدولة، مفيدا أنّ آخر “كوتا” منحتها الدولة التونسية كانت سنة 2004 ما يعني أنّه منذ تلك السنة لم يدخل أي شخص جديد ميدان توريد الملابس المستعملة. وكان آخر شخص منحته الدولة “كوتا” لكي يصبح مورّد ملابس مستعملة هو حارس المرمى سابقا في المنتخب التونسي لكرة القدم شكري الواعر، بحسب نفس المصدر.
تفترض التشريعات التونسية أن يقوم مورّد الملابس المستعملة بفرز وتحويل ورسكلة المواد التي يورّدها ومن ثمّ يقوم ببيع الحصّة الموجّهة للسوق المحلّية على تجّار الجملة الذين يبيعونها بدورهم إلى باعة التفصيل.
تعتبر الديوانة أنّ الشركات المنتفعة بنظام المستودعات الصناعية (التي يملكها مورّدو الملابس المستعملة) هي شركات مصدّرة كلّيا، وبالتالي لا تدفع هذه الشركات ضرائب ديوانية أو ضريبة على الدخل وغيرها.
إلّا أنّ ما يحصل اليوم على أرض الواقع يختلف وفق ما أكّده لنا حسام سعد، إذ دخل عنصر جديد في منظومة توريد الملابس المستعملة يُسمّى “الرَبّاط”، وهو شخص يتوجّه إلى أحد من المنتفعين بـ”كوتا” توريد الفريب ويطلب كراء جزء من الكمّية التي يُسمح له بتوريدها.
ويقوم الربّاط أيضا باستئجار مربّع في مصنع مورّد الملابس الذي اتفق معه ويقوم بإحضار كمّية معيّنة من الملابس المستعملة ويجلب عمّالا لفرز وتحويل هذه المواد في المربّع المذكور.
ويضيف عضو منظمة آلرت أنّ مورّدي الملابس من أصحاب مصانع فرز وتحويل ورسكلة الفريب وجدوا أنّ هذه الطريقة توفّر لهم أرباحا أكبر دون أن تعرّضهم لمخاطر الربح والخسارة فبات مورّد الفريب المنتفع بالكوتا يؤجّر رخصته لأكثر من شخص.

كلّ “ربّاط” يدفع لمورّد ملابس ما يناهز 15 و20 ألف دينار (حوالي 4,450 و5,940 يورو) شهريّا.

حسام سعد

يدفع كلّ ربّاط ما بين 600 ملّيم (0.17 يورو) و1 دينار (0.29 يورو) مقابل الكلغ الواحد من الملابس المستعملة التي يستوردها باستعمال رخصة مورّد الفريب المتمتّع مسبقا بـ”الكوتا”، أي أنّ هذا الأخير قد يحقّق أرباحا تصل إلى 3 مليون دينار (حوالي 890 ألف يورو) سنويّا، وفق منظّمة آلرت.

لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. إذ أنّ موضوع كراء الرخصة قد أغرى أيضا باعة الجملة الذين باتوا يقومون بتأجير الرخص التي يحصلون عليها من والي الجهة التي يقيمون فيها لـ3 أشخاص على الأقل لتحقيق أرباح أكبر، وفق ما أفاد به حسام سعد لموقع الكتيبة.
.

اللافت في هذا الصدد أنّ الرخصة الممنوحة لبائع الجملة تمكّنه من العمل في الولاية التي يوجد بها وتمنع عليه بيع بضاعته لتاجر تفصيل في ولاية أخرى.
في ردّه على سؤالنا حول تأجير مورّدي الملابس المستعملة حصصهم من الكوتا لـ”الربّاطة”، لم ينف الصحبي المعلاوي، رئيس الغرفة الوطنية لتجّار الملابس المستعملة بالجملة، التابعة للاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، صحّة هذه المعلومات، واكتفى بالقول “الشاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه”.
وأضاف المعلاوي أنّه يعرف أنّ عديد المصانع تستورد بضاعتها، إلّا أنّ هناك أزمة اقتصادية لاحظها حتّى تجّار الجملة وتتمثّل في أنّ البضاعة لم تعد تباع كما في السابق نتيجة تدهور القدرة الشرائية للتونسيين.ـات وعديد العوامل الأخرى.
يؤكّد حسام سعد، عضو منظّمة آلرت:

انّ المستفيدين من نظام “الكوتا” هم مورّدو الملابس المستعملة الذين تمّ منحهم هذه “الكوتا” .. “الربّاطة” يدفعون مقابل توريد ملابس مستعملة نوعا من الضرائب لمالكي “الكوتا” وكأنّهم دولة داخل الدولة.

وحول أسباب عدم تغيير هذه المنظومة، يقول سعد إنّ محاولات وقعت في هذا الإطار لعلّ آخرها ما قام به وزير التجارة الأسبق محسن حسن، وإنّ هناك لجنة جمعت الوزارات المعنيّة دون أن تتوصّل إلى نتيجة بسبب رفض وزارة الداخلية.
وأردف قائلا إنّ الغرفة النقابية الوطنية لمورّدي ومحوّلي الملابس المستعملة لها “نفوذ مالي كبير وتأثير في اتخاذ القرارات المتعلّقة بالقطاع”.

ارتفاع أسعار الفريب يثقل كاهل المواطن والباعة

لمزيد البحث في الموضوع، واصل فريق موقع الكتيبة جولته الميدانية. وكانت الوجهة التالية سوق حيّ الخضراء، وهو أحد أقدم الأحياء الشعبية بشمال العاصمة التونسية.
لم يكن الإقبال على السوق في حيّ الخضراء أفضل بكثير، وهو أمر أشار إليه الكثير من الباعة الذين التقينا خلال جولتنا.
يقول “صلاح”، أحد باعة الفريب، يعمل منذ ما يزيد عن الـ15 سنة في القطاع، إن أسعار كلّ شيء ارتفعت وأنّ أصحاب المصانع لم يعودوا قادرين على توريد البضاعة بسبب الضرائب المرتفعة، مؤكّدا أنّه لم يعد يستطيع شراء بضاعة كما كان يفعل في السابق.
وأردف بالقول:

كان سعر بالة الفريب سابقا يتراوح بين 60 و70 دينارا (حوالي 18 و21 يورو) أما اليوم فبات يصل إلى 300 أو 400 دينار .. في الماضي كان بإمكان المرء التسوّق من الفريب بـ5 أو 10 دنانير واليوم لا يمكن شراء أي شيء.

لا يختلف موقف “سامية”، بائعة فريب دخلت المجال منذ الـ30 عاما تقريبا، عمّا صرّح به صلاح. تفيد محدّثتنا أنّه منذ ما يزيد عن الـ10 سنوات، كان تجّار الجملة يفتحون البضاعة كلّ يوم سبت أمّا اليوم فهذا لا يحدث إلّا مرّة كلّ شهر.
وتشدّد على أنّها لم تعد قادرة على العمل بعد أن ارتفع سعر “البالة” من من 500 دينار (حوالي 149 يورو) إلى 800 دينار (حوالي 238 يورو)، مضيفة في نبرة لا تخلو من استياء واضح :

عندما تضع قميصا على الطاولة سعره 30 دينارا (حوالي 9 يورو) من سيشتريه.. الزوّالي (تقصد الفقير) سينظر إليه ويمرّ لأنّه لا يستطيع شراءه.

سامية بائعة فريب

تعتبر سامية أنّ هناك الكثير من الدخلاء على قطاع الفريب وأنّ الكثير ممّن لديهم أموال قاموا بفتح مستودعات للملابس المستعملة بعد الثورة في تونس، مشيرة إلى معضلة قيام تجّار وسماسرة جزائريين بشراء كمّيات كبيرة من “الفريب” رغم أنّ الجزائر لا تسمح ببيعها.
في هذا الإطار، تقول “ساميّة :

أحيانا تدخل إلى مستودع وتطلب بضاعة ما فيجيبك أنّها غير موجودة رغم أنّ الملابس مكدّسة، والسبب في ذلك هو أنّ جزائريين قد قاموا بشرائها مقابل مبالغ كبيرة باليورو.

لا يؤثّر ارتفاع أسعار الملابس المستعملة سلبا على باعة التفصيل فحسب، بل أصبح يمثّل عبئا بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين.ـات الذين/اللواتي اعتادوا التسوّق من “الفريب”.

تقول شيماء، الأم الثلاثينيّة، إنّ أسعار الفريب ارتفعت بشكل كبير خاصّة بالنسبة إلى الأطفال، فالحصول على نوعيّة جيّدة من الملابس أصبح يحتاج إلى ميزانيّة قد تبلغ 100 دينار (حوالي 30 يورو)، مشيرة إلى أنّ “الفريب” لم يعد موجودا كما في السابق والكثير من المحلّات و”النصُب” في الأسواق قد اندثرت.
من جهتها، تشتكي سميرة، مواطنة تونسية، من ارتفاع أسعار الملابس المستعملة قائلة “منذ عدّة سنوات كان مبلغ 100 دينار كافيا لشراء الكثير من قطع الملابس، أمّا اليوم فلا يمكن إلا شراء 3 أو 4 قطع على أقصى تقدير بهذا المبلغ، هذا دون الحديث عن الأحذية الرياضية وغيرها التي بات أسعارها مشطّة جدّا وليست في المتناول”.
وتضيف محدّثتنا:

دخلت في إحدى المرّات مع صديقة إلى محلّ فريب وسألته عن حقيبة يد فأجابني أنّ سعرها ألفا دينار (حوالي 594 يورو) متعلّلا بأنّها تنتمي إلى “ماركة” عالميّة إلّا أنّ سعرها مرتفع بالنسبة الى بضاعة الفريب في تقديري.

من جهته، عبّر أنيس، عن استيائه من ارتفاع أسعار الملابس المستعملة مقابل تراجع جودتها، مشيرا إلى أنّ سعر سترة لا يقلّ اليوم عن 45 دينارا (حوالي 14 يورو) في حين أنّ هذا المبلغ كان في وقت ما يمكّن من شراء قطع عديدة من الملابس.
واعتبر أن المواطن التونسي العادي لم يعد قادرا على شراء الملابس المستعملة بشكل أسبوعي كما كان يفعل في السابق بل بات يشتري قطعة واحدة مرّة كلّ شهر أو شهرين.

بدوره، أبدى رئيس غرفة تجّار الملابس المستعملة الصحبي المعلاوي قلقه من الأسعار المشطّة التي تصل إلى آلاف الدينارات التونسية أحيانا، مؤكّدا أنّ “الفريب” مهما ارتفعت أسعاره يجب أن يبقى ملاذا لكافة الفئات الاجتماعية ولكن خاصّة الفئة الفقيرة والضعيفة.
يرجع عضو جمعيّة آلرت حسام سعد ارتفاع أسعار الملابس المستعملة إلى عوامل من بينها تراجع قيمة الدينار التونسي، ولكن أيضا المسار الذي يخضع إليه استيراد الملابس المستعملة ومرورها عبر قنوات عديدة تبدأ من الرَبّاط وصاحب الرخصة مرورا بتجّار الجملة الذين باتوا بدورهم يؤجّرون حصصهم قبل الوصول إلى تاجر التفصيل. هذا فضلا عن العادات الاستهلاكية للمواطن.ة التونسي.ة.

“الفريب”.. فاعل رئيسي في كسر الحدود بين الطبقات الاجتماعية

يوجد في تونس 47 مستودعا صناعيّا تابعا للشركات التي تستورد الملابس المستعملة وتقوم بفرزها وتحويلها ورسكلتها، بحسب ما أوردته دراسة صادرة عن المجمع المهني للملابس المستعملة بكنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية “كونكت” بعنوان “دراسة اقتصادية لقطاع الملابس المستعملة بتونس“.

من جهة أخرى، يقول الصحبي المعلاوي، رئيس الغرفة الوطنية لتجّار الملابس المستعملة بالجملة، التابعة للاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، لموقع الكتيبة، إنّ تونس تعُدّ اليوم 54 شركة منتفعة بنظام المستودعات الصناعية، من بينها 5 شركات تصدير كلّي وبين 18 و20 شركة مغلقة بموجب محاضر ديوانية “مشطّة”، حسب تعبيره، موضحّا أنّ هناك بين 25 و28 شركة معتمَدة في كامل تراب الجمهورية تزاول نشاطها وهي تقوم بالفرز والرسكلة والتحويل.
في المقابل، يؤكّد حسام سعد، عضو جمعيّة آلرت، أنّ عدد معامل فرز وتحويل ورسكلة الفريب الناشطة اليوم لا يتجاوز الـ12 مصنعا.

تفرض التشريعات التونسيّة على أصحاب المصانع المنتفعة بنظام المستودعات الصناعية تصدير كمّية من الملابس المستعملة التي يستوردونها، تتراوح بين 20 و30%، ويتمّ تخصيص كمّية أخرى للقصّ، وتُباع كمّية أخرى في السوق المحلّية التونسية.

ويفرض القانون أيضا توجيه 20% من البضاعة المستوردة إلى الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات. وقد عقدت في هذا الإطار غرفة تجّار الملابس المستعملة لقاء مع وزيرة البيئة وأصبحت بقايا “الفريب” توجّه الى مصانع الإسمنت.

بعد القيام بعمليّات الفرز والرسكلة والتحويل، تتولّى الشركات المنتفعة بنظام المستودعات الصناعية بيع بضاعة الفريب إلى تجّار الجملة -البالغ عددهم 450 تاجرا في كامل تراب الجمهورية- بحسب تصريحات الصحبي المعلاوي. ويقوم هؤلاء ببيع بضاعتهم الى تجّار التفصيل الحاملين لبطاقة منتفع.
ورغم غياب أرقام رسميّة حول عدد تجّار التفصيل في تونس، تقدّر الدراسة الاقتصادية لقطاع الملابس المستعملة بتونس، الصادرة عن كونكت، عددهم بحوالي 200,000 تاجر تجزئة، علما وأنّ هناك 3052 تاجر تجزئة مصّرح به لدى وزارة المالية في مارس/آذار 2017 وفق الدراسة ذاتها.
وتستورد تونس الملابس المستعملة بشكل أساسي من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتقوم بتصديرها إلى السوق الأوروبية وغيرها.

يقول حسام سعد إنّ هناك نوعا من “السمسرة” في ما يتعلّق بإعادة تصدير الملابس المستعملة، فالقانون يفرض تخصيص جزء من الملابس المورّدة لتحويلها واستعمالها في مجال النسيج الذي يقع استخدامه في زرابي السيارات وغيرها، بحسب ذات المصدر.
في السابق، كانت توجد معامل عموميّة متخصّصة في هذا المجال إلّا أنّها أغلقت أبوابها ولم تعد تعمل، وما يحصل اليوم هو أنّ مورّدي الملابس المستعملة ربطوا علاقات مع أشخاص في الهند وباكستان وباتوا يصدّرون السلع المستخدمة في التحويل إلى بضائع من النسيج عوض استعمالها في تونس، وهو ما يزيد من الإضرار بالاقتصاد التونسي، وفقا لما جاء على لسان عضو منظّمة آلرت حسام سعد.
يلجأ أكثر من 90% من التونسيين.ـات إلى الفريب للتزوّد بالملابس والأحذية وغيرها على الرغم من أنّ القانون يمنع بيع الأحذية والحقائب والألعاب. وتقدّر حصّة السوق المحلّية بـ10,500 طن سنويّا وهي تمثّل 12% من الملابس الجاهزة أو الجديدة، بحسب رئيس غرفة تجّار الملابس المستعملة الصحبي المعلاوي.
لطالما مثّل الفريب متنفّسا للفئات الضعيفة والهشّة. وقد كان لـ”الفريب” دور أساسي في تمكين أبناء الطبقة المفقّرة من ارتداء ملابس لائقة للدراسة والعمل. واليوم، يتوجّه عدد أكبر من أفراد الطبقة المتوسّطة إلى الملابس المستعملة، ويحدث أن تلتقي عددا الكوادر وكبار الموظفين.ـات يتوجّهن إلى أقرب سوق في أوقات استراحة الغذاء لاقتناص بعض الملابس من كومات الفريب على سبيل المثال.
لم يتوقّف الأمر هنا، بل أصبحت الطبقة الثريّة تشتري قطعا من الملابس والحقائب من “الفريب” ولكن بأسعار خياليّة قد تصل أحيانا إلى 10 آلاف دينار تونسي (حوالي 2,980 يورو) مقابل حقيبة يد من علامة تجاريّة عالميّة.

في هذا الصدد، يقول الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي، لموقع الكتيبة، إنّ “الفريب” قادر على تعديل علاقات اللامتكافئة بين الفئات الاجتماعية، وهو يجعل الناس يشعرون أنهم مندمجون ويستطيعون ارتداء ملابس لائقة في مجتمع يقوم على المظاهر، مع أسعار منخفضة مقارنة بما هو موجود في قطاع الملابس الجاهزة والجديدة.
ويبيّن الجويلي أنّ “الفريب” يجعل الحدود بين الطبقات الاجتماعية تختفي ويكفي أن يكون للمرء نفس طويل وأن يكون صبورا ويعرف من أين تؤكل الكتف حتّى ينتقل بهندامه من طبقة اجتماعية إلى أخرى.
ويضيف أنّ الأثرياء لم يناسبهم هذا الأمر فقاموا بخلق “فريب” خاصّ بهم أسعاره مرتفعة جدّا تصل إلى 10 و15 مليون دينار تونسي (2,980 و4,460 يورو تقريبا) للبروز على المستوى الاجتماعي والحيلولة دون وصول الآخرين إليهم.

في ضرورة إصلاح منظومة “الفريب”

يجمع عديد الفاعلين والمتدخّلين في قطاع الملابس المستعملة على ضرورة إصلاح هذا القطاع الحيوي والاجتماعي خاصّة وأنّ التشريعات المنظّمة له قد تجاوزها الزمن.
يشدّد حسام سعد، عضو منظّمة “آلرت”، على ضرورة تغيير “الكوتا” السنوية لتوريد الملابس المستعملة المحدّدة من قبل الدولة التونسية، خاصّة أنّ الكمّيات الموجودة في الأسواق التونسيّة أكبر بكثير من الكمّية المسموح بتوريدها.
ويفيد سعد أنّ جزءا كبيرا من “الفريب” يقع تهريبه عن طريق الحدود الجزائرية والليبية لذلك من الأفضل أن تقوم الدولة بتعديل “الكوتا” السنويّة حتّى تكون كمّيات الملابس المستعملة المورّدة خاضعة للرقابة والتعريفات الديوانية.

ويؤكّد سعد ضرورة مراجعة كامل منظومة قطاع الفريب باعتبار أنّه يمثّل مسألة اجتماعية، قائلا إنّ سوق الملابس المستعملة سيتجاوز سوق الملابس الجديدة والجاهزة في كامل أنحاء العالم، وإنّ هناك نموذجين يعملان على جذب هذه السوق، الأوّل هو الإمارات العربية المتحدة التي تريد أن تكون مركزا عالميّا لفرز وتحويل ورسكلة الملابس المستعملة، والثاني هو ألمانيا التي تريد أن تكون المركز الأوّل في أوروبا.
ويبيّن محدّثنا أنّ تونس تتمتّع بالخبرة والكفاءة في هذا المجال ويمكن أن تكون السوق الأولى لفرز وتصدير الملابس المستعملة في إفريقيا إلّا أنّ مواصلة إدارة الملف بهذه الطريقة ستحول دون حصول ذلك.

من جانبه، يذكّر رئيس غرفة تجّار الملابس المستعملة بالجملة الصحبي المعلاوي أنّ القوانين المنظمة للقطاع تعود إلى 25 أو 30 سنة مضت، مفيدا أنّ الغرفة أعدّت مشروع قانون ستقدّمه للجنة التشريع بالبرلمان التونسي لتغيير جملة من المسائل المتعلّقة بالنظام التوقيفي الذي يمنع تاجر الجملة من تعاطي نشاطه خارج حدود ولايته.
كما تطالب الغرفة بإيجاد حصّة لتجارة الجلود لا تتجاوز 15% وتكون موجّهة خاصّة للفئات الفقيرة أو الضعيفة، على أن تخضع للرقابة الصحّية ولا تؤثّر على الإنتاج المحلّي من الجلود.
وتقترح غرفة تجّار الملابس المستعملة في مشروع القانون المذكور إلغاء الفصل القانوني المتعلّق بضرورة أن يملك بائع التفصيل بطاقة منتفع حتّى يتمكّن من شراء البضاعة من تجّار الجملة.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ عددا كبيرا من باعة التفصيل اليوم يعملون في القطاع دون امتلاك هذه البطاقة.
خلاصة القول، يشهد قطاع “الفريب” في تونس اليوم تحوّلات كبرى ومخاطر جمّة خاصة مع بروز الفاعلين الجدد مثل “الربّاط” و تجّار التفصيل عبر “الأنستغرام” و” و”الفايسبوك” و المحلاّت الفاخرة، ما يستدعي ضرورة إنقاذه ومزيد تنظيمه بشكل يقطع مع منظومة الريع حتّى يحافظ على دوره الإجتماعي وذلك من خلال وضع تشريعات جديدة والتصدي للخروقات والتجاوزات الحاصلة فيه التي ما انفكت تتفاقم سنة بعد أخرى.
من جانبه، يذكّر رئيس غرفة تجّار الملابس المستعملة بالجملة الصحبي المعلاوي أنّ القوانين المنظمة للقطاع تعود إلى 25 أو 30 سنة مضت، مفيدا أنّ الغرفة أعدّت مشروع قانون ستقدّمه للجنة التشريع بالبرلمان التونسي لتغيير جملة من المسائل المتعلّقة بالنظام التوقيفي الذي يمنع تاجر الجملة من تعاطي نشاطه خارج حدود ولايته.
كما تطالب الغرفة بإيجاد حصّة لتجارة الجلود لا تتجاوز 15% وتكون موجّهة خاصّة للفئات الفقيرة أو الضعيفة، على أن تخضع للرقابة الصحّية ولا تؤثّر على الإنتاج المحلّي من الجلود.
وتقترح غرفة تجّار الملابس المستعملة في مشروع القانون المذكور إلغاء الفصل القانوني المتعلّق بضرورة أن يملك بائع التفصيل بطاقة منتفع حتّى يتمكّن من شراء البضاعة من تجّار الجملة.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ عددا كبيرا من باعة التفصيل اليوم يعملون في القطاع دون امتلاك هذه البطاقة.
خلاصة القول، يشهد قطاع “الفريب” في تونس اليوم تحوّلات كبرى ومخاطر جمّة خاصة مع بروز الفاعلين الجدد مثل “الربّاط” و تجّار التفصيل عبر “الأنستغرام” و” و”الفايسبوك” و المحلاّت الفاخرة، ما يستدعي ضرورة إنقاذه ومزيد تنظيمه بشكل يقطع مع منظومة الريع حتّى يحافظ على دوره الإجتماعي وذلك من خلال وضع تشريعات جديدة والتصدي للخروقات والتجاوزات الحاصلة فيه التي ما انفكت تتفاقم سنة بعد أخرى.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من محاولات الكتيبة التواصل مع عديد الشخصيات الفاعلة والبارزة في القطاع لاسيما من ممثلي هياكل المهنة إلاّ أنّ العديد منهم رفضوا الحديث الينا متعلّلين بما وصفوه بالسياق العام الذي تمرّ به البلاد.

كلمة الكتيبة:

على الرغم من محاولات الكتيبة التواصل مع عديد الشخصيات الفاعلة والبارزة في القطاع لاسيما من ممثلي هياكل المهنة إلاّ أنّ العديد منهم رفضوا الحديث الينا متعلّلين بما وصفوه بالسياق العام الذي تمرّ به البلاد.

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

إشراف: محمد اليوسفي
تدقيق: وليد الماجري
تصوير ومونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني : بلال الشارني
مونتاج: محمد علي منصالي
غرافيك: منال بن رجب
تطوير تقني: بلال الشارني
إشراف : محمد اليوسفي
تدقيق : وليد الماجري

الكاتبة : رحمة الباهي

صحفية وباحثة. مسؤولة قسم التحقيقات الدولية بموقع الكتيبة

rahma